صفحه 290 كونه منحصراً بعلم خاصّ وفنّ مخصوص من ناحية اُخرى ; فإنّ التناسب في مثله لو لم يراع لا يتحقّق الغرض أصلاً . فلا محيص عن الالتزام بتحقّق الجمع والتأليف في عصره(صلى الله عليه وآله) ، وكون سوره وآياته متميّزة بعضها عن بعض ، خصوصاً مع أنّه في القرآن جهات عديدة يكفي كلّ واحدة منها لأن تكون موضعاً لعناية المسلمين ، وسبباً لاشتهاره بين الناس ، حتّى عند الكافرين والمنافقين ، وذلك: مثل بلاغته وفصاحته التي هي الغرض المهمّ للعرب في ذلك العصر ، ووضوح كون بلاغته واقعة في الدرجة العليا ، وفصاحته حائزة للمرتبة القصوى ، ومن هذه الجهة كان موضع توجّه لعموم الناس ـ المؤمن وغيره ـ المؤمن يحفظه ويقرؤه لإيمانه ، وللتلذّذ بألفاظه المقدّسة ، ومعانيها العالية ، والكافر والمنافق يمارسه رجاء معارضته ، والإتيان بمثله ، وإبطال حجّته . ومثل الجهات الاُخر ; كالأجر والثواب المترتّب على حفظه وقراءته وتعليمه ، بل وعلى مجرّد النظر إلى آياته وسوره ، وكون النبيّ (صلى الله عليه وآله) مرغّباً في حفظه ومحرّكاً للمؤمنين إلى الرجوع إليه ، وكون الحافظ له شأن عظيم ، ومرتبة خاصّة بين المسلمين ، وغير ذلك من الجهات . ولا بأس هنا بذكر كلام السيِّد المرتضى ـ قدّس سرّه الشريف ـ في هذا الشأن ، وكلام البلخي المفسِّر من علماء العامّة ، والجواب عمّا أورد عليهما المحدِّث المعاصر في كتابه الموضوع في التحريف . قال السيّد المرتضى: إنّ القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن ، واستدلّ على ذلك بأ نّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة ، في حفظهم له ، وأ نّه كان يعرض على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويُتلى عليه ، وأ نّ جماعة من الصحابة; مثل عبدالله بن مسعود ، وأُبيّ بن صفحه 291 كعب ، وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله) عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث(1) . وقال البلخي في تفسيره المسمّى بـ «جامع علم القرآن» ـ على ما نقله عنه السيّد ابن طاووس في محكيّ «سعدالسعود» ـ مالفظه: وإنّي لأعجب من أن يقبل المؤمنون قول من زعم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترك القرآن الذي هو حجّة على اُمّته ، والذي تقوم به دعوته، والفرائض التي جاءبها من عند ربّه، وبه يصحّ دينه الذي بعثه الله داعياً إليه، مفرّقاً في قطع الخرق ، ولم يجمعه ولم يصنه ، ولم يحفظه ، ولم يحكم الأمر في قراءته ، وما يجوز من الاختلاف فيها وما لا يجوز ، وفي إعرابه ومقداره ، وتأليف سوره وآيه; هذا لايتوهّم على رجل من عامّة المسلمين، فكيف برسول ربّ العالمين (صلى الله عليه وآله) ؟!(2) وأورد المحدِّث المعاصر على السيّد المرتضى: أوّلاً : أنّ القرآن نزل نجوماً ، وتمّ بتمام عمره (صلى الله عليه وآله) ، فإن صحّ ما نقله ، فالمراد درس ما كان عنده من السور والآيات . وثانياً: أنّ قعود أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيته بعده (صلى الله عليه وآله) لجمع القرآن وتأليفه خوفاً من ضياعه ، ممّا لا يقبل الإنكار بعد استفاضة الأخبار بذلك ، وكيف يجتمع هذا مع كونه مجموعاً مؤلَّفاً مرتّباً متداولاً بين الصحابة في حياته . وثالثاً: بما ملخّصه: أنّ ما نقله ابن مسعود ، وأُبيّ وغيرهما ، فإنّما هو من خبر ضعيف ، رواه المخالفون ، ثمّ ذكر طائفة من الروايات المتقدّمة الدالّة على أنّ الجمع وقع في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) (3) . (1) حكى عنه في مجمع البيان: 1 / 15 ـ 16 مقدّمة الكتاب ، الفنّ الخامس . وذكره المحدث النوري في فصل الخطاب: 14 مع تغيير لا يضرّ . (2) سعد السعود: 315 . وذكره المحدّث النوري في فصل الخطاب: 14 مع تغيير يسير . (3) فصل الخطاب: 16 ـ 17 . صفحه 292 وأورد على البلخي: أوّلاً: بالنقض على مذهبه ، فإنّه (صلى الله عليه وآله) مع علمه بأنّه يموت في مرضه ، وتختلف اُمّته بعده ثلاثاً وسبعين فرقة(1) ، وأنّه ترجع بعده كفّاراً يضرب بعضهم رقاب بعض(2) ، كيف لم يعيّن لهم من يقوم مقامه ، ولا قال لهم: اختاروا أنتم حتّى تركهم في ضلال مبين إلى يوم الدين . . .؟! فإذا جاز توكيل هذا الأمر العظيم إليهم مع اختلاف الآراء وتشتّت الأهواء ، جاز توكيل أمر جمع القرآن وتأليفه إليهم . وبالحلّ ثانياً: وهو; أ نّا نسلّم أنّ القرآن بتمامه كان عنده (صلى الله عليه وآله) متفرّقاً ، وإنّما فوّض أمر الجمع والتأليف الذي هو سبب لبقائه وحفظه إلى من فوّض إليه جميع اُموره واُمور اُمّته بعده ، واحتياج الناس إليه; بحيث يختلّ عليهم أمرهم لولاه إنّما هو بعده ، وليس في ذلك تنقيص في نبوّته أصلاً ، بل في ذلك إعلاء لشأن من فوّض إليه الأمر ، وتثبيت لإمامته ، وإعلام برفعته ، وقد امتثل ما أمره به فجمعه بعده ، وحينئذ ، فإن أراد أنّ ما كان بأيديهم إنّما نسخوه من هذا المجموع المعيّن ، لا من الأماكن المتفرّقة من الصدور والألواح ، ففيه: أوّلاً: أنّه لم يكن مرتّباً ، وإنّما ألّفه ورتّبه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد هجروا مصحفه. وثانياً: أنّ ما تقدّم بطرقهم المستفيضة صريح في أنّهم جمعوه من الأفواه والألواح المتفرّقة (3) . والجواب: أمّا عن إيراده على السيّد المرتضى(قدس سره) : أ نّ نزول القرآن نجوماً وتماميّته بتمام عمره الشريف ، لا ينافي ما أفاده السيّد المرتضى بوجه ، خصوصاً بعد (1) بحار الأنوار 28: 2 ـ 36 ب1 . (2) بحار الأنوار 9: 150 ، وج18: 122 ، وج22: 465 ، 487 ـ 488 ، وج32: 193 ، 290 ، 291 ، 293 و294 ، وج36: 23 و 33 ، و ج37: 183 و . . . (3) فصل الخطاب 14 ـ 15 . صفحه 293 ملاحظة ما قدّمناه(1) من أنّ القرآن كان من حين نزوله متّصفاً بأنّه هي المعجزة الوحيدة الخالدة ، التي يتوقّف أساس الدين وأصل الشريعة على بقائها ووجودها بين الناس كما نزلت إلى يوم القيامة . وسيأتي البحث(2) عن مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) وامتيازه عن المصحف المعروف ، وأ نّه لا يتفاوت معه في شيء يرجع إلى أصل القرآن وآياته أصلاً . ومانقله من أنّ ابن مسعود وأُبيّاً وغيرهما لا يكون الاعتماد فيه على ضعاف الأخبار العامّية ، بل على الأمر المعروف بين المسلمين من وجود مصحف لكلّ واحد منهم ، وظهور كون جمعهم في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعصره . وأ مّا عن إيراده على البلخي: فإنّ النقض بمسألة الخلافة على طبق عقيدته فاسد ، خصوصاً لو كان مستنده ما ينسبونه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) : لا تجتمع اُمّتي على خطإ(3) ، كما هو واضح ، واختلاف المسألتين وتفاوتهما ، وانحصار الإعجاز في الكتاب ممّا لا ريب فيه ، وأ نّ المراد من الجمع والتأليف ـ الذي فوّض النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمره إلى من فوّض إليه جميع اُموره ـ إن كان الجمع بنحو يرجع إلى ترتيب الآيات والسور بحيث لم يكن في عهده (صلى الله عليه وآله) مواقع الآيات مبيّنة ، ولا مواضعها مشخّصة ، فنحن نمنع ذلك حتّى يحتاج النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى التفويض إلى عليّ (عليه السلام) ، وإن كان المراد الجمع في محلّ واحد كقرطاس ومصحف ، فهذا لا ينافي ما ذكره البلخي بوجه ، ولا يرجع إلى عدم كون القرآن مرتّباً في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) . (1) في ص 289. (2) في ص 301 ـ 309. (3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8 : 123 . وجاء بألفاظ متعدّدة: سألتُ الله ألاّ تجتمع أُمّتي على خطإ ، لم يكن الله ليجمع أُمّتي على ضلال ولا خطإ ، لا تجتمع اُمّتي على ضلالة . وقد جاء في بحار الأنوار 2: 225 ، وج5: 20 و 68 ، وج28: 104 ، وج34: 366 هكذا: لاتجتمع اُمّتي على ضلالة، أو الضلال ، أو الضلالة . صفحه 294 الجهة الرابعة: مخالفتها لضرورة تواتر القرآن إنّ هذه الروايات الدالّة على أنّ القرآن قد جمع بيد الخلفاء وفي زمنهم ، وأ نّ الاستناد في ذلك كان منحصراً بشهادة شاهدين ، أو شاهد واحد إذا كان معادلاً لشخصين ، مخالفة لما قدّمناه سابقاً(1) من ثبوت الإجماع بل الضرورة على أنّ طريق ثبوت القرآن منحصر بالتواتر ، وأ نّه فرق بينه ، وبين الخبر الحاكي لقول المعصوم (عليه السلام) ، المشتمل على حكم من الأحكام الشرعيّة . ومع هذه المخالفة ، كيف يمكن الأخذ بها والالتزام بمضمونها ، وتفسير الشهادتين بالحفظ والكتابة كما عن بعضهم ، مع أ نّه مخالف للظاهر ، ولنفس تلك الروايات لا يجدي في رفع الإشكال ، وأ نّ القرآن لا يثبت بغير طريق التواتر . الجهة الخامسة: استلزامها للقول بالتحريف إنّ الاستناد إلى هذه الروايات لعدم تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبيد المعصوم (عليه السلام) ، واستكشاف وجود النقص في القرآن من هذا الطريق ، لا ينطبق على المدّعى ، بل اللازم على المستدلّ أن يقول بالتحريف من جهة الزيادة أيضاً ; وذلك لقضاء العادة بأنّ المستند ـ وهي شهادة الشاهدين ـ لا يكون مطابقاً للواقع دائماً ; ضرورة أنّ الالتزام بكونها كذلك ، ودعوى حصول القطع بأنّ كلّ ما شهد به شاهدان أو من بحكمهما على أ نّه من القرآن ، مطابق للواقع ، في غاية البُعد ، بل الظاهر هو العلم الإجمالي بتحقّق الكذب في البعض ، خصوصاً مع ثبوت الدواعي من الكفّار والمنافقين على تخريب الدين ، والسعي في اضمحلاله وانهدام بنائه ، وحينئذ فيعلم إجمالاً بوجود الزيادة في القرآن كالنقيصة . ودعوى أنّ الآية بمرتبتها الواقعة فوق مراتب الكلام البشري ، فيها قرينة على (1) في ص 144 ـ 149. صفحه 295 كونها من القرآن وعدم كونها كلام البشر . مدفوعة بأ نّه على ذلك لا تكون شهادة الشاهدين مصدّقة للآية ، وكونها من كلام الله ، بل كانت الآية مصدّقة لها ، ولكونها شهادة مطابقة للواقع . وعليه: فلاحاجة إلى الشهادة أصلاً ، وهو خلاف مفاد الروايات المتقدّمة (1). وقد انقدح من جميع ما ذكرنا ـ بطوله وتفصيله ـ بطلان هذه الروايات ، وعدم إمكان الأخذ بمضمونها ، وأ نّه لا محيص عن الالتزام بكون الجمع والتأليف الراجع إلى تميّز الآيات بعضها عن بعض ، وتبيّن كون الآية الفلانية جزءاً من السورة الفلانية ، بل وموقعها من تلك السورة ، وأ نّها هي الآية الثانية منها مثلاً أو الثالثة أو الرابعة وهكذا ، وكذا تميّز السور بعضها عن بعض ، واقعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعصره بأمره وإخباره . غاية الأمر تفرّقها وتشتّتها من جهة الأشياء المكتوبة عليها والمنقوشة فيها ، كالعسيب واللخاف ومثلهما . نعم ، لا ينبغي إنكار ارتباط جهة من القرآن بأبي بكر وكذا بعثمان: أمّا ارتباطه بأبي بكر : فهو أ نّه قد جمع تلك المتفرّقات التي كان شأنها مبيّناً من جميع الجهات ، وكانت خالية من نقاط الإبهام والإجمال بتمام المعنى في قرطاس أو مصحف الذي هو بمعنى القرطاس ، أو قطع الجلد المدبوغ ، وقد وقع التصريح في بعض الروايات المتقدّمة(2) بأنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن بين اللّوحين ، وقد عرفت تصريح الحارث المحاسبي بذلك (3) ، وأ نّ جمع أبي بكر بمنزلة خيط ربط الأوراق المتفرّقة الموجودة في بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولا يبعد الالتزام بما في بعض تلك الروايات(4) من كون المصحف الذي جمع أبو بكر فيه القرآن ، هو الذي كان عنده (1) في ص 269 ـ 278. (2) في ص270 . (3) في ص 287 . (4) في ص269 ـ 271 ح 1 و 5. صفحه 296 زمن حياته ، وكان بعده باختيار عمر ، وانتقل منه إلى حفصة بنته زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله) . وممّا ذكرنا ظهر أنّ الإشكال والاشتباه إنّما نشأ من الخلط ، وعدم تبيّن مفهوم كلمة «الجمع» الواقعة في الروايات المتقدّمة(1) ، وتخيّل كون المراد من هذه الكلمة هو الذي يكون محلّ البحث في المقام ، ومورداً للنقض والإبرام ، ولابدّ من التوضيح وإن كان المتأمِّل قد ظهر له الفرق ممّا ذكرنا، فنقول : أمّا الجمع الذي هو محلّ البحث في المقام; هو الجمع بمعنى التأليف والتركيب ، وجعل كلّ آية في السورة التي هي جزء لها ، وفي موضعها من تلك السورة ، والجمع بهذا المعنى لا يكون إلاّ وظيفة النبيّ(صلى الله عليه وآله) بما هو نبيّ ، ولم يتحقّق إلاّ منه ، ولا معنى لصدوره من غيره ، حتّى في عصره وزمن حياته ، ومنه يظهر أنّ الروايات الدالّة على تحقّق الجمع من أشخاص معيّنين في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، لا يكون المراد بها هذا المعنى ; فإنّ مثل اُبيّ بن كعب لا يقدر على ذلك ، وإن كان في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; ضرورة أ نّه من شؤون القرآن وما به تقوم حقيقته ، ولا طريق له إلاّ الوحي . وأ مّا الجمع الوارد في الروايات المتقدّمة(2) ، أعمّ من الروايات الدالّة على عدم تحقّقه في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والروايات الدالّة على تحقّقه في زمنه من ناحية الأشخاص ، فالمراد به هو جمع المتفرّقات والمتشتّتات من جهة الأشياء المكتوبة عليها ، والمنقوشة فيها . غاية الأمر أنّ الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان بمعنى القدرة على تحصيل القرآن بأجمعه ، وحصوله له كذلك . وبعبارة اُخرى: كان عنده جميع القرآن في الأشياء المتفرّقة ، والجمع بعد حياته بمعنى جمعه في اللوحين والقرطاس والمصحف . فقد ظهر أنّ الجمع ـ بمعناه الذي هو محلّ الكلام ـ بعيد عن مفاد جميع الروايات (1 ، 2) في ص269 ـ 278 و 283 ـ 287 . صفحه 297 بمراحل، وأ نّ المتّصف به لا يكون غير النبيّ (صلى الله عليه وآله) بوجه ، فالروايات وكذا التواريخ الدالّة على تحقّق الجمع من أشخاص في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أجنبيّ عن المقام بالمقدار الذي تكون الروايات التي هي مورد لاستدلال القائل بالتحريف كذلك، وعدم الالتفات إلى ذلك صارموجباً للخلط والاشتباه والانحراف عن مسير الحقيقة ، كما عرفت. وأ مّا ارتباطه بعثمان الذي اشتهر إضافة القرآن وانتسابه إليه ، واشتهر عنه حرق مصاحف غيره ، حتّى سمّي بحرّاق المصاحف (1) ، وانتقد عليه من هذه الجهة ، فليس لأمر يرجع إلى الجمع والتأليف بالمعنى الذي ذكرنا من تميّز الآيات والسور ، وتبيّن بعض كلّ واحدة منهما عن البعض الآخر ، بل الظاهر ـ كما دلّ عليه بعض الروايات المتقدّمة(2) ـ أ نّ ارتباطه بعثمان إنّما هو من جهة أنّه جمع المسلمين على قراءة واحدة ، بعد تحقّق اختلاف القراءة بينهم ، من جهة اختلاف القبائل والأمكنة في اللحن والتعبير . قال الحارث المحاسبي: المشهور عند الناس أ نّ جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك ، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد ، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار ، لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات ، فأمّا قبل ذلك ، فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي نزل بها القرآن . . .»(3) . نعم ، يقع الكلام في أنّ القراءة الواحدة التي جمع عثمان المسلمين عليها ماذا؟ وأ نّه اعتمد في ذلك على أيّ شيء؟ (1) البيان في تفسير القرآن: 257 . (2) في ص274 ـ 277 . (3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 211 .النوع الثامن عشر . صفحه 298 يمكن أن يقال : إنّ تلك القراءة هي القراءة الواحدة المتعارفة بين المسلمين ، التي أخذوها بالتواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لما عرفت(1) في مبحث تواتر القراءات من أنّ استناد جميع القراءات إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمر موهوم فاسد ، وأ نّ أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف ـ على فرض صحّتها وجواز الالتزام بها ـ لا ارتباط لها بباب القراءات السبع بوجه . وقد ذكر عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد الطاووس العلوي الفاطمي في محكيّ كتاب «سعد السعود» نقلاً من كتاب أبي جعفر محمّد بن منصور في اختلاف المصاحف ، رواية محمد بن زيد بن مروان: أ نّ القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيد ابن ثابت ، وخالفه في ذلك اُبيّ ، وعبدالله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ثمّ عاد عثمان جمع المصحف برأي مولانا علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأخذ عثمان مصاحف اُبيّ ، وعبدالله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، فغسلها ، وكتب عثمان مصحفاً لنفسه ، ومصحفاً لأهل المدينة ، ومصحفاً لأهل مكّة ، ومصحفاً لأهل الكوفة ، ومصحفاً لأهل البصرة ، ومصحفاً لأهل الشام (2) . وقال الشيخ أبو عبدالله الزنجاني بعد نقل هذه العبارة : إنّ مصحف الشام رآه ابن فضل الله العمري في أواسط القرن الثامن الهجري ، يقول في وصف مسجد دمشق: وإلى جانبه الأيسر المصحف العثماني بخطّ أمير المؤمنين عثمان بن عفّان ، ويظنّ قويّاً أ نّ هذا المصحف هو الذي كان موجوداً في دار الكتب في لنين غراد ، وانتقل الآن إلى انكلترا . ورأيت في شهر ذي الحجّة سنة 1353 هـ في دار الكتب العلويّة في النجف (1) في ص 153 ـ 156. (2) سعد السعود : 435 . صفحه 299 مصحفاً بالخطّ الكوفي كتب على آخره: كتبه عليّ بن أبي طالب في سنة أربعين من الهجرة ، ولتشابه «أبي» و «أبو» في رسم الخط الكوفي ، قد يظنّ من لا خبرة له أ نّه : كتب عليّ بن أبو طالب بالواو (1) . هذا ، ولكنّ الاستناد إلى رأي مولانا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بعيد ، خصوصاً مع ملاحظة وجود مصحف له (عليه السلام) لا يحتاج معه إلى شخص آخر أو شيء آخر ، إلاّ أن يكون الاستناد إلى الرأي دون المصحف ، لأجل كون مصحفه زائداً على القرآن وآياته كما سيظهر (2)، فلعلّه (عليه السلام) لم يرضَ أن يجعله باختيارهم ; لعدم صلاحيّتهم لملاحظته والنظر فيه ، كما يساعده الاعتبار . وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أ نّ لفظ «الجمع» الذي يستعمل في مسألة جمع القرآن يكون له أربعة معان ، وقد وقع بينها الخلط ، ولأجله تحقّق الانحراف الذي أدّى إلى الالتزام بالتحريف ، الذي يوجب تزلزل الدين ، وضعف المسلمين ، كما عرفت في أوّل المبحث . وهذه المعاني الأربعة عبارة عن: 1 ـ الجمع بمعنى التأليف والتركيب وجعل كلّ آية في السورة التي هي جزء لها وفي موضعها من تلك السورة ، وكونها آية ثانية له مثلاً أو ثالثة أو رابعة وهكذا ، والجمع بهذا المعنى هو محلّ البحث والكلام ، وقد عرفت(3) أنّ الجامع بهذا المعنى لايكون إلاّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بما أنّه نبيّ . وبعبارة اُخرى: لا طريق له إلاّ الوحي ، ولا يصلح إسناده إلى غير النبيّ (صلى الله عليه وآله) (1) تاريخ القرآن : 74 ـ 75 ، الفصل الثاني ، القرآن في عهد عثمان . (2) في ص 301 ـ 309. (3) في ص 283 ـ 290 و 295 ـ 296. صفحه 300 بوجه . وسيأتي(1) له مزيد توضيح في الجواب عن الشبهة الثالثة للقائل بالتحريف ، فانتظر . 2 ـ الجمع بمعنى تحصيل القرآن بأجمعه من الأشياء المتفرّقة المكتوب عليها ، ومرجعه إلى كون الجامع واجداً لجميع القرآن من أوّله إلى آخره ، وهذا هو الجمع المتحقّق في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والمنسوب إلى غيره من الأشخاص المعدودين ، وربما يراد من الجمع بهذا المعنى جمع القرآن بجميع شؤونه من التأويل والتفسير وشأن النزول وغيره ، وهو المراد من الجمع الذي تدلّ الروايات الكثيرة الآتية على اختصاصه بمولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلِّين . 3 ـ الجمع بمعنى جمع المتفرّقات وكتابتها في شيء واحد كالقرطاس والمصحف بناءً على مغايرته للقرطاس ، وهذا هو الجمع المنسوب إلى أبي بكر ، ويدلّ بعض الروايات المتقدّمة(2) على نسبته إلى عمر بن الخطّاب . 4 ـ الجمع بمعنى جمع المسلمين على قراءة واحدة من القراءات المختلفة ، التي نشأت من اختلاف ألسِنة القبائل والأماكن ، وهذا هو المراد من الجمع المنسوب إلى عثمان ، كما عرفت آنفاً(3) . وعدم الخلط بين هذه المعاني يرشد الباحث ويهديه إلى الحقّ ، ويبعده عن الانحراف المؤدّي إلى التحريف ، وما رأيت أحداً يسبقني إلى البحث في مسألة جمع القرآن بهذه الكيفيّة ، فافهم واغتنم . (1) في ص 304 ـ 308. (2) في ص 271 ـ 272 ح 8 و ص274 ح 15. (3) في ص297. صفحه 301 الشبهة الثالثة إنّ للقائل بالتحريف أن يورد هذه الشبهة أيضاً ، وهي: أنّ عليّاً (عليه السلام) كان له مصحف غير المصحف الموجود ، وقد أتى به القومَ فلم يقبلوا منه ، وقد صحّ اشتمال قرآنه على زيادات ليست في القرآن الموجود ; ولأجله لم يقع مورداً لقبول القوم ، ويترتّب على ذلك نقص القرآن الموجود عن مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهذا هو التحريف الذي يدّعيه القائل به ، والروايات الواردة في هذا الباب كثيرة : 1 ـ ما في رواية احتجاج عليّ (عليه السلام) على جماعة من المهاجرين والأنصار ; من أنّه قال: يا طلحة إنّ كلّ آية أنزلها الله ـ تعالى ـ على محمّد (صلى الله عليه وآله) عندي بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ يدي ، وتأويل كلّ آية أنزلها الله ـ تعالى ـ على محمّد (صلى الله عليه وآله) ، وكلّ حلال أو حرام ، أو حدّ أو حكم ، أو شيء تحتاج إليه الاُمّة إلى يوم القيامة مكتوب بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ يدي ، حتّى أرش الخدش (1) . 2 ـ ما في احتجاجه (عليه السلام) على الزنديق من أنّه قال: ولقد أحضروا الكتاب كملاً مشتملاً على التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام ، فلم يقبلوا ذلك (2) . 3 ـ ما رواه في الكافي بإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: ما يستطيع أحدٌ أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء (3) . (1) كتاب سليم بن قيس 2: 657 ـ 658، الاحتجاج: 1 / 356 ـ 357 ، احتجاجه(عليه السلام) على المهاجرين والأنصار ، وعنه تفسير الصافي: 1 / 38 ، المقدّمة السادسة ، وبحار الأنوار : 31 / 424 . (2) الاحتجاج: 1 / 607، وعنه بحار الأنوار: 93 / 125 ـ 126 كتاب القرآن ب 129 . (3) الكافي: 1 / 228 ، كتاب الحجّة ب 35 ح 2 ، وعنه الوافي: 3 / 560 ، كتاب الحجّة ب 76 ح 1109 ، ومرآة العقول 3: 33 ح2 . صفحه 302 4 ـ ما رواه فيه أيضاً بإسناده عن جابر قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما ادّعى أحد من الناس أ نّه جمع القرآن كلّه كما اُنزل إلاّ كذّاب ، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله ـ تعالى ـ إلاّ عليّ بن أبي طالب والأ ئـمّة من بعده (عليهم السلام) (1) . 5 ـ قوله ـ أي قول عليّ (عليه السلام) ـ في خبر عبد خير قال: لمّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقسمت ـ أو حلفت ـ أن لا أضع ردائي عن ظهري حتّى أجمع ما بين اللّوحين ، فما وضعت ردائي عن ظهري حتّى جمعت القرآن (2) . 6 ـ قوله (عليه السلام) في خبر ابن الضُّرَيس في «فضائله» : رأيت كتاب الله يُزاد فيه ، فحدّثت نفسي ألاّ ألبس ردائي إلاّ لصلاة جمعة حتّى أجمعه (3) . 7 ـ قوله (عليه السلام) في رواية ابن شهرآشوب بعدما جمع القرآن وجاء إليهم ، ووضع الكتاب بينهم : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنّي مخلف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب الله، وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب وأنا العترة (4) . 8 ـ غير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب ، الدالّة على اختصاصه (عليه السلام) بمصحف مخصوص كان مغايراً للمصاحف الاُخرى ، وحيث إنّ (1) الكافي: 1 / 228 ، كتاب الحجّة ب 35 ح 1 ، وعنه الوافي: 3 / 560 ، كتاب الحجّة ب 76 ح 1108 ، ومرآة العقول 3: 30 ح1 . (2) حلية الأولياء: 1 / 67 ، وعنه مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 2: 41 . وأخرجه في كشف الغمّة 1: 118 عن المناقب للخوارزمي: 94 ح93 . وفي بحار الأنوار: 40 / 155 و 180 ب 93 و ج 92 / 52 كتاب القرآن ب 7 ، عن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) وكشف الغمّة . (3) فضائل القرآن لابن الضريس: 36 ح22 ، وعنه الإتقان في علوم القرآن: 1 / 204 ، النوع الثامن عشر ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنّفه 7: 197 ب53 ح2 وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 6: 40 باختلاف . (4) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) ، لابن شهر آشوب: 2 / 51 ، في المسابقة بالعلم ، وعنه بحار الأنوار: 40 / 155 ـ 156 وج92 / 52 . صفحه 303 عليّاً (عليه السلام) مع الحقّ والحقّ معه (1) ، فاللاّزم الالتزام بوقوع التحريف في القرآن الموجود لا محالة ، وهو المدّعى (2) . والجواب: أنّ مغايرة مصحفه (عليه السلام) لتلك المصاحف من حيث ترتيب السور ، فالظاهر أ نّها مورد للاطمئنان ، لو لم تكن مقطوعاً بها . وقد ذكر السيوطي في «الإتقان» : أ نّ ترتيبه على نحو النزول كان أوّله إقرأ ، ثمّ المدّثر ، ثمّ ن ، ثمّ المزّمل ، ثمّ تبّت ، ثمّ التكوير ، وهكذا إلى آخر المكّي والمدنيّ (3) . وحكي عن ابن سيرين في جمعه (عليه السلام) أ نّه قال : بلغني أ نّه كتبه على تنزيله ، ولو اُصيب ذلك الكتاب لكان فيه العلم ، أو كان فيه علم (4) . والمحكيّ عن فهرست ابن النديم ترتيب آخر غير ترتيب النزول (5) . وبالجملة: فالمغايرة من حيث ترتيب السور ممّا لا يقدح أصلاً ; لعدم ثبوت كون ترتيب السور توقيفيّاً أوّلاً ، وعدم كون المخالفة في الترتيب ـ على فرض التوقيفيّة ـ بقادحة ثانياً . أمّا عدم ثبوت كون ترتيب السور توقيفيّاً ، فهو الذي ذهب إليه جمهورهم ، وزعموا أنّ الموجود إنّما هو باجتهاد من الصحابة ، وإن خالف فيه بعضهم; كالزركشي والكرماني وبعض آخر (6) . (1) تاريخ بغداد 16: 470 رقم الترجمة 7595 ، تاريخ مدينة دمشق 49: 449 ، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 3: 60ـ 62 ، كشف الغمّة 1: 143ـ 147 ، مجمع الزوائد 7: 235 ، بحار الأنوار: 38 / 26 ـ 40 ب 57 . (2) اُنظر فصل الخطاب: 97 ـ 112، الدليل الرابع . (3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 216 . النوع الثامن عشر في جمعه وترتيبه . (4) الطبقات الكبرى لابن سعد: 2 / 338 ، التمهيد 3: 644 ، تاريخ مدينة دمشق 42: 399 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 185 ، كنز العمال: 2 / 588 ح 4792 . (5) الفهرست: 29 ـ 30 . (6) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 216ـ 217 ، النوع الثامن عشر . صفحه 304 قال البغوي في شرح السنّة ـ على ما حكى عنه في الإتقان ـ : إنّ الصحابة جمعوا بين الدّفتين القرآن الذي أنزله الله ـ سبحانه وتعالى ـ على رسوله (صلى الله عليه وآله) من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئاً . . . فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته . . . فكتبوه كما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) من غير أن قدّموا شيئاً أو أخّروا ، أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يلقّن أصحابه ويعلّمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل صلوات الله عليه إيّاه على ذلك ، وإعلامه عند نزول كلّ آية أ نّ هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السور التي يذكر فيها كذا . فثبت أ نّ سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد ، لا في ترتيبه ; فإنّ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على الترتيب الذي هو في مصاحفنا أنزله الله ـ تعالى ـ جملةً واحدةً في شهر رمضان ليلة القدر إلى السماء الدُّنيا . . . ثمّ كان ينزّله مفرّقاً على رسوله (صلى الله عليه وآله) مدّة حياته عند الحاجة . . . فترتيب النزول غير ترتيب التلاوة (1) . وعن ابن الحصّار أ نّه قال: ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنّما كان بالوحي ، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «ضعوا آية كذا في موضع كذا»(2) ، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وممّا أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف (3) . وبالجملة فهذه مسألة خلافيّة وإن كان التعبير بـ «الكتاب» الظاهر في النظم والترتيب من جميع الجهات ، في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعهده ، وانقسام السور بالأقسام (1) شرح السنّة للبغوي 4 : 521 ـ 523 ، الإتقان في علوم القرآن: 1 / 215 ـ 216 ، النوع الثامن عشر في جمعه وترتيبه . (2) البرهان في علوم القرآن 1: 256 عن جبريل (عليه السلام) . (3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 216 ، النوع الثامن عشر في جمعه وترتيبه . صفحه 305 الأربعة: الطوال ، والمئون ، والمثاني ، والمفصّل في عصره أيضاً، كما عرفت(1) سابقاً ، وبعض الاُمور الاُخر، كالتعبير عن السورة الاُولى بـ «فاتحة الكتاب» ربما يؤيّد كون الترتيب أيضاً بتوقيف من الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وبأمر من جبرئيل (عليه السلام) ، ولعلّه لذلك لم يكتب ابن مسعود ـ على ما نسب إليه ـ في مصحفه المعوّذتين ، وكان يقول: «إنّهما ليستا من القرآن، وإنّما نزل بهما جبريل تعويذاً للحسنين (عليهما السلام) (2). وذلك لما رآه من وقوعهما في آخر القرآن، فزعم أنّهما لاتكونان منه، وإن كان بطلان هذاالزعم لايحتاج إلى إقامة الدليل بعد افتقار ثبوت القرآن إلى التواتر ، ووجوده في السورتين أيضاً ، كما مرّ سابقاً(3). وأمّا عدم كون المخالفة في الترتيب بقادحة فواضح ; ضرورة أنّ النزاع ليس في الاختلاف في ترتيب السور بوجه ، بل في كون القرآن الموجود ناقصاً عن مصحف عليّ (عليه السلام) في مقدار ممّا نزل بعنوان القرآن . وأ مّا ترتيب الآيات، فقد عرفت أ نّه كان بتوقيف من الرسول (صلى الله عليه وآله) وبأمر من جبريل (عليه السلام) ، ويؤيّده التعبير بـ «السورة» ، التي معناها مجموعة آيات متعدّدة مترتّبة مشتملة على غرض واحد أو أغراض متعدّدة مرتبطة ، في نفس الكتاب العزيز في مواضع متكثّرة ، سيّما الآيات الواقعة في مقام التحدّي ، وكذا في لسان النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، والأحكام المترتّبة على السورة ; كوجوب قراءتها في الصلاة الفريضة (1) في ص 283 ـ 290. (2) كذا في الميزان في تفسير القران 12: 132، ولكن لم نعثر عليه، وإنّما الموجود في المسند لابن حنبل 8 : 36 ح21244ـ 21247 ، والمعجم الكبير للطبراني 9: 234ـ 235 ح9148ـ 9152 ، والإتقان في علوم القرآن: 1 / 271ـ 272 النوع 22 ـ 27 ، تنبيهات ، الأوّل ، وفتح الباري لابن حجر 9: 5828 ، والدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 8 : 624 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 20 : 251 تفسير سورة الفلق ، هكذا: إنّهما ليستا من كتاب الله، إنّما أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يتعوّذ بهما. (3) في ص 146. صفحه 306 بعد حكاية الفاتحة أو استحبابها ، ومثل ذلك لا يتلاءم مع تفرّق الآيات ، وعدم وضوح كون كلّ واحدة منها جزءاً من أجزاء السورة التي هي جزء لها ، كما لا يخفى . نعم ، ذكر بعض الأعلام في تفسيره المعروف بـ «الميزان» أ نّ وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرّقة موقعها الذي هي فيه الآن ، لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد ، وأنّ رواية عثمان بن أبي العاص ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : أتاني جبريل (عليه السلام) فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الاِْحْسَـنِ . . .) (1) لا تدلّ على أزيد من فعله (صلى الله عليه وآله) في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة . واستدلّ على ذلك بالروايات المستفيضة الواردة من طرق الشيعة وأهل السنّة: أ نّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين إنّما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة ، كما رواه أبو داود(2) والحاكم(3) والبيهقي(4) والبزّار(5) من طريق سعيد بن جبير ـ على ما في «الإتقان» ـ عن ابن عبّاس قال: كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يعرف فصل السورة حتّى تنزل عليه ( بسم الله الرحمن الرحيم) . وزاد البزّار : فإذا نزلت عرف أنّ السورة قد خُتمت واستقبلت ، أو ابتُدئت سورة اُخرى (6) . وغير ذلك من الروايات الواردة من طرقهم وطرقنا عن الباقر (عليه السلام) ، وهي (1) المسند لابن حنبل 6: 272 ح17940 ، الإتقان في علوم القرآن 1 : 212 ، النوع الثامن عشر في جمعه وترتيبه ، والآية في سورة النحل 16: 90 . (2) سنن أبي داود: 128 ح788 . (3) المستدرك على الصحيحين 1: 355 ـ 356 ح845 و 846 . (4) السنن الكبرى للبيهقي 2: 337 ح2428 و 2429 . (5) كشف الأستار عن زوائد البزّار 3: 40 ح2187 . (6) انظر الإتقان في علوم القرآن: 1 / 268 ، النوع 22 ـ 27 ، تنبيهات، الأوّل . صفحه 307 صريحة في دلالتها على أنّ الآيات كانت مرتّبة عند النبيّ بحسب ترتيب النزول ، فكانت المكّيات في السور المكّية والمدنيّات في سور مدنيّة ، إلاّ أن تفرض سورة نزل بعضها بمكّة وبعضها بالمدينة ، ولا يتحقّق هذا الفرض إلاّ في سورة واحدة . ولازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستنداً إلى اجتهاد من الصحابة»(1) انتهى ملخّص موضع الحاجة من كلامه أدام الله أيّامه. ويرد عليه: أ نّ رواية عثمان بن أبي العاص وإن كانت بظاهرها لا تدلّ على العموم والشمول ، إلاّ أنّه يستفاد منها ذلك بعد ملاحظة أ نّه لا خصوصيّة لموردها ، خصوصاً بعدما ذكرنا من الجهات التي ترجع إلى كون الآيات مرتّبة في عهده وبيده (صلى الله عليه وآله) ، والروايات الدالّة على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين إنّما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة ، لا تنافي صدور الأمر أحياناً بوضع آية كذا في السورة الفلانية ; فإنّ كون العلم بتمام السورة متوقّفاً على نزول البسملة لا دلالة فيه على عدم إمكان وضع آية فيها بأمر من جبرئيل أصلاً . ويؤيّده أنّه لو كان ترتيب النزول معلوماً عند الصحابة ـ كما هو المفروض ـ لكان الاعتبار يساعد على كون الترتيب بهذه الكيفيّة ، ولا مجال ـ على هذا التقدير ـ لإدخال الآية المدنيّة في السور المكّية أو بالعكس بمجرّد الظنّ بالتلائم والتناسب بين المطالب ; فإنّ مجرّد ذلك لا يقاوم الترتيب من حيث النزول الذي هو الأساس في هذا الباب ، وحينئذ يستكشف من عدم رعاية هذه الجهة ، كون الترتيب وتشكيل السور من الآيات التي هي جزء لها ، لم يكن مستنداً إلى اجتهاد واستنباط ونظر وتفكّر أصلاً . وبالجملة: ما تقدّم(2) من الأدلّة المثبتة لكون القرآن مجموعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) (1) الميزان في تفسير القرآن: 12 / 127 ـ 128 ، تفسير سورة الحجر ، الآية 1 ـ 9 . (2) في ص 283 ـ 290. |