صفحه 81
وجوب كسرها وتغيير هيئتها بحيث زالت المنفعة المقصودة منها للزوم إفناء مادّة الفساد وإتلاف ما لا منفعة فيه محلّلة عند الشارع .
نعم ، لو فرض بيع المادّة من الخشب والصفر ففيه صورتان :
إحداهما : ما إذا كان البيع بعد الكسر والتغيير، ولا مجال للإشكال في هذه الصورة; لعدم كون أجزاء المادّة بعد الكسر وتغيير الهيئة معدودة من آلات اللهو والقمار، والخشب والصفر يجوز بيعهما ولو مع المسبوقيّة بالهيئة المحرّمة; لأنّ المعيار هي الحالة الفعليّة لا ما كانت عليها من الحالة القبليّة، كما لايخفى .
ثانيتهما : ما إذا كان البيع قبل الكسر ولكن مورد المعاملة هي المادّة، وقد استشكل في الجواز في هذه الصورة إلاّ مع وجود أحد أمرين :
أحدهما : اشتراط الكسر على المشتري والبيع مع هذا الشرط .
ثانيهما : كون البائع له وثوق بأنّ المشتري يكسرها ويخرجها عن هذه الحالة .
قال في محكي التذكرة : ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له، فيحرم بيعه كآلات الملاهي مثل العود والزمر، وهياكل العبادة المبتدعة كالصليب والصنم، وآلات القمار كالنرد والشطرنج إن كان رضاضها لا يعدّ مالاً، وبه قال الشافعي(1). وإن عدّ مالاً فالأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة المحرّمة (2)، انتهى .
وفي محكي المسالك أنّه لو كان لمكسورها قيمة، وباعها صحيحة لتكسر وكان المشتري ممّن يوثق بديانته، ففي جواز بيعها حينئذ وجهان. وقوّى في التذكرة
(1) العزيز شرح الوجيز، المعروف بالشرح الكبير 4: 30، المجموع شرح المهذّب 9: 243، روضة الطالبين: 3:70. (2) تذكرة الفقهاء: 10: 36 مسألة 16.
صفحه 82
الجواز مع زوال الصفة، وهو حسن، والأكثر أطلقوا المنع (1)، انتهى .
وظاهر هذه العبارة اعتبار كلا الأمرين من الاشتراط والوثوق بالكسر لا أحدهما على سبيل المنفصلة مانعة الخلوّ، ولعلّه الظاهر لا ما أفاده الماتن من كفاية أحدهما .
وقال الشيخ الأعظم : إن أراد بزوال الصفة زوال الهيئة; فلاينبغي الإشكال في الجواز، ولا ينبغي جعله محلاًّ للخلاف بين العلاّمة والأكثر(2) .
وعن السيّد في الحاشية: لعلّه أراد بزوال الصفة عدم مقامرة الناس به وتركهم له; بحيث خرج عن كونه آلة القمار وإن كانت الهيئة باقية(3) .
وبعض الأعلام بعد أن أورد على التوجيهين ببعدهما عن مساق كلام العلاّمة ـ لأنّ ظاهر عبارته أنّ الحرمة الفعليّة تدور مدار عدم صدق الماليّة على إكسارهاـ احتمل وقوع التحريف في كلامه بالتقديم والتأخير، بأن تكون العبارة: وإن عدّ مالاً مع زوال الصفة المحرّمة، فالأقوى عندي الجواز(4) .
أقول : من المستبعد جدّاً جواز المعاملة على الآلات المحرّمة ـ وإن فرض صدق الماليّة على اكسارها ـ بدون أحد الأمرين المذكورين في المتن: من الاشتراط، أوالثقة بالكسر في بيع المادّة فضلاً عن بيعها صحيحة، كما هو المفروض في عبارة المسالك المتقدّمة وإن كانت الهيئة لا ماليّة لها ، مضافاً إلى أنّ لازم ما أفاده بعض الأعلام أن يكون القيد توضيحيّاً، وهو خلاف الظاهر من كلام العلاّمة، وإلى أنّ
(1) مسالك الأفهام 3: 122. (2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 117. (3) حاشية كتاب المكاسب للسيّد اليزدي 1: 48. (4) مصباح الفقاهة 1: 252.
صفحه 83
إيراد الشيخ باق على هذا الاحتمال أيضاً، كما لا يخفى .
واحتمل بعض الأعلام(قدس سره) أيضاً(1) حذف كلمة «الاشتراط» بعد كلمة «مع»; أي بشرط تغيير الهيئة من قبل البائع، ثمّ اعترف بعدم الوصول إلى مراده، ووجه استحسان صاحب المسالك تفصيل العلاّمة في مقابل المشهور القائلين بالمنع مطلقاً.
أقول : ولايبعد أن يقال بقرينة كلمة الإطلاق المقابلة للاشتراط بهذا الاحتمال. وعليه: فمراد العلاّمة في صورة بيع الآلات صحيحة الجواز بشرط تغيير الهيئة ، ومراد الأكثر المنع ولو مع الشرط . وأمّا صورة البيع بعد الكسر فلا إشكال ولا خلاف في الصحّة، فتدبّر .
وأمّا أواني الذهب والفضّة، فحيث إنّ منفعتها لا تنحصر بالأكل والشرب فيها، بل يجوز الاستفادة منها للتزيين والاقتناء، وهما لايعدّان من المنفعة العقلائيّة المحلّلة غير المقصودة ، بل كما نشاهد بالوجدان وجود تلك الاستفادة منها للمتموّلين، فلامانع من جواز البيع والشراء بالإضافة إليها لهذا الغرض والمقصد غير النادر وإن كان الوضع الأوّل في باب الأواني هي الاستعمال في الأكل والشرب، وقد فصّلنا في باب المطهّرات(2) بين التزيين والاقتناء بحرمة الأوّل كالاستعمال، دون الثاني، فراجع .
وكلام المتن يدلّ على عدم التفصيل وجواز كلا العنوانين، بل ربما يشعر بعدم الفرق بينهما بلحاظ العطف بالواو لا بـ «أو»، كما لايخفى ، ومن الواضح اختلافهما كما أفاده في بحث الأواني من كتاب الطهارة(3) .
(1) مصباح الفقاهة 1: 252. (2) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة، المطهّرات: 686 ـ 688. (3) كتاب الطهارة للإمام الخميني(رحمه الله) 4: 208.
صفحه 84
بيع الدراهم الخارجة عن الاعتبار، أو المغشوشة
مسألة 9 : الدراهم الخارجة عن الاعتبار، أو المغشوشة المعمولة لأجل غشّ الناس تحرم المعاملة بها وجعلها عوضاً أو معوّضاً في المعاملات مع جهل مَنْ تدفع إليه ، بل مع علمه واطّلاعه أيضاً على الأحوط لو لم يكن الأقوى، إلاّ إذا وقعت المعاملة على مادّتها واشترط على المتعامل كسرها، أو كان موثوقاً به في الكسر; إذ لايبعد وجوب إتلافها ولو بكسرها دفعاً لمادّة الفساد1.
1 ـ الدراهم التي أصلها من فضّة، إذا خرجت عن الاعتبار الحكومي، أو كانت مغشوشة معمولة لأجل غشّ الناس، فيها مقامان :
وينبغي قبل البحث عن المقامين ملاحظة أنّ الماليّة الموجبة لصحّة جعلها عوضاً أو معوّضاً بالنسبة إلى الدراهم ومثلها ـ ولاسيّما بالإضافة إلى مثل الورق المتداول في كثير من الممالك في زماننا هذا، مكان الدرهم والدينار المتداولين في السابق ـ بماذا يتقوّم وبِمَ تتحقّق، خصوصاً مع ملاحظة بعض التشكيلات التقنينيّة اليوم، من ملاحظة المهريّة المجعولة في الزمان السابق بقيمة اليوم، المعادلة لأضعاف ذلك الزمان، وسمعت هذه الملاحظة بالنسبة إلى سائر الديون أيضاً.
والتحقيق أنّ ماليّة مثل الورق متقوّمة بالاعتبار من ناحية الحاكم المستولي على المملكة وبيده زمام اُمورها، ولايلزم أن يكون له ما يسمّى بـ «پشتوانه»، كالذهب والنفط والاُمور الاُخر; لعدم العلم بوجودها، فضلاً عن العلم بالمقدار المساوي للورق الخاصّ، بل ماليّة مثله أمر اعتباري تدوم ما دام بقاء ذلك الاعتبار.
وممّا اشتهر من بعض من يدّعي التنوّر الفكريّ من الروحانيّين، ومن بعض المتجدّدين غير المطّلعين على المباني; من أنّ مقدار ماليّته إنّما هو بملاحظة القدرة على الشراء ، ومن المعلوم أنّ ما كان يشترى بألف تومان (درهم) مثلاً، لعلّه كان
صفحه 85
أزيد ممّا يشترى بمائة ألف في هذا الزمان .
يرد عليه: منع ذلك، وأنّ الماليّة ومقدارها ليست دائرة مدار ذلك، بل هي أمر اعتباريّ لا يختلف بحسب الأزمنة والأعصار، وإلاّ فيمكن أن يقال: إنّ الأشياء التي يمكن أن يشترى بالاسكناس(بالورق) مختلفة بحسب الأزمنة، بل يختلف بحسب اليوم فضلاً عن الأيّام، ولا معنى لأن يقال بأنّ الدين يختلف بحسب اختلاف القيم في الأيّام، فدين واحد في يوم أضعافه بحسب اليوم الآخر، وأقلّ من الدين الواقعي كذلك .
وهذا الاعتبار إنّما هو كسائر الاُمور الاعتباريّة المتداولة بيننا، كالبيع والزوجيّة والحريّة والرقيّة وأشباهها، ولا يكون معناه هو الأمر التخيّلي والوهمي، كما لايخفى .
بل التحقيق الدقيق يحكم بأنّ ماليّة الذهب والفضّة الخالصين إنّما هي بحسب الاعتبار; لأنّهما ليسا إلاّ من الفلزات ، غاية الأمر أنّ الاعتبار فيهما عمومي سار في جميع أقطار العالم، بخلاف الورق الذي له اعتبار من ناحية الحكومة التي يكون رائجاً في مملكته ، فالفرق إنّما هو من هذه الجهة لا في الاعتبار والذاتيّة، كما ربما يتخيّل في بادئ النظر، فافهم .
المقام الأوّل: في اتّصافها بالفساد المحض، كآلات القمار وغيرها المذكورة في المسألة السابقة، فيجب إتلافها ولو بكسرها دفعاً لمادّة الفساد، كما نفى عنه البُعد في المتن، أو يجوز اقتناؤها والتزيين بها ودفعها إلى العشّار ومثله، كالظالم؟ فيه وجهان ربما يمكن أن يقال باستفادة الوجه الأوّل من بعض الروايات، مثل :
رواية المفضل بن عمر الجعفي قال : كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) فألقى بين يديه دراهم، فألقى إليَّ درهماً منها، فقال : ايش هذا؟ فقلت : ستوق ، فقال : وما الستوق؟ فقلت : طبقتين فضّة وطبقة من نحاس، وطبقة من فضّة ، فقال : اكسرها; فإنّه
صفحه 86
لايحلّ بيع هذا ولا إنفاقه(1) .
وفي محكي الوافي «الستّوق» بالضمّ والفتح معاً وتشديد التاء، وتُستوق بضمّ التاء، الزيف البهرج الملبّس بالفضّة، طبقتين فضّة(2). والظاهر أنّ الصواب طبقة من فضّة، وإلاّ كان اللازم ذكر الألف والنون، لا الياء والنون كما لايخفى .
والظاهر أنّ المفضّل بن عمر الجعفي ثقة، والراوي عنه هو علي الصيرفي; وهو ممّن روى عنه ابن أبي عمير، وقد تقدّم البحث عن الحكم بوثاقته وعدمها(3) .
وربما يقال : إنّ الأمر فيها ليس تكليفيّاً ليجب كسره ويحرم تركه، بل هو إرشاد إلى عدم صحّة المعاوضة عليها، وعدم جواز أداء الحقوق الواجبة منها، بقرينة قوله(عليه السلام) : «لايحلّ بيع هذا ولا إنفاقه»; لأنّ الصدّ عنهما لا ينحصر في الكسر ، بل يحصل بغيره أيضاً (4).
ويمكن الجواب عنه بأنّ عطف الإنفاق على البيع دليل على أنّ المراد من عدم الحلّية هو عدم الحلّية التكليفيّة، لا الوضعيّة كما في قوله ـ تعالى ـ : {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(5) إلخ ، حيث إنّ ظاهره هو الحلّية الوضعيّة الشرعيّة بالإضافة إلى البيع العرفي العقلائي، وذلك لأنّه لا معنى لبطلان الإنفاق، خصوصاً مع ثبوت الماليّة للمادّة قطعاً، كما هو المفروض .
وعليه: فظاهر الرواية هو بيان الحكم التكليفي كما هو ظاهرها، ولعلّه لأجل
(1) تهذيب الأحكام 7: 109 ح466، الاستبصار 3: 97 ح333، وعنهما وسائل الشيعة 18: 186، كتاب التجارة، أبواب الصرف ب10 ح5. (2) الوافي 18: 647 ب101 ح18037. (3) في ص76 ـ 77. (4) القائل هو السيّد الخوئي في مصباح الفقاهة 1: 257. (5) سورة البقرة 2: 275.
صفحه 87
ذلك ذكر صاحب الوسائل بعد نقل الرواية فيها، أنّ هذا محمول على كونه غير معلوم التصرّف ولا جائزاً بين الناس، فلا يجوز إنفاقه إلاّ أن يبيّن حاله، ذكره الشيخ وغيره، ثمّ قال : ويحتمل الحمل على الكراهة(1) .
ويؤيّده أنّ كلمة «الإنفاق» لا تكون ظاهرة في أداء النفقة الواجبة، بل يعمّها والإنفاقات المستحبّة لو لم نقل بظهورها في خصوص الثانية .
ورواية موسى بن بكر قال : كنّا عند أبي الحسن(عليه السلام) وإذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطّعه بنصفين ثمّ قال لي : ألقه في البالوعة حتّى لايباع شيء فيه غشّ(2) . ولكنّها رواية مرسلة .
واُورد على دلالتها أيضاً بأنّ فعل الإمام(عليه السلام) وإن كان حجّة، إلاّ أنّ ذلك فيما تكون وجهة الفعل معلومة ، وعليه: فلايستفاد من الرواية أكثر من الجواز الشرعي، ويكون مؤدّاها الإرشاد إلى عدم نفوذ المعاملة عليه; لوجود الغشّ فيه بشهادة قوله(عليه السلام) : «حتّى لايباع شيء فيه غشّ»، وإلاّ لما أمر الإمام(عليه السلام) بإلقائه في البالوعة; لكون هذا الفعل من أعلى مراتب الإسراف والتبذير(3) .
ويظهر من الجواب عن الإيراد على الرواية السابقة الجواب عن الإيراد على هذه الرواية، خصوصاً مع أنّ الظاهر أنّ بيع شيء فيه غشّ لا يكون باطلاً، بل ثابت فيه خيار الغشّ، كما في مزج الماء باللبن المبيع ، فتدبّر; فإنّه سيجيء اختلاف كلامي الشيخ(قدس سره) من هذه الجهة .
(1) وسائل الشيعة 18: 186 ـ 187، كتاب التجارة، أبواب الصرف ذ ح5. (2) الكافي 5: 160 ح3، تهذيب الأحكام 7: 12 ح50، وعنهما وسائل الشيعة 17: 280، كتاب التجارة، أبواب مايكتسب به ب86 ح5. (3) المورد هو السيّد الخوئي في مصباح الفقاهة 1: 258.
صفحه 88
والتحقيق الكامل موكول إلى باب الصرف من كتاب البيع إن شاء الله تعالى .
المقام الثاني : في حرمة المعاملة على الدراهم المفروضة، فنقول :
بعد فرض وجوب الكسر والإتلاف بأيّ نحو كان ـ ولو بغير الكسر; لأنّ المتفاهم العرفي من الكسر هو الإمحاء والإتلاف لا خصوص عنوان الكسر ـ يكون الحكم في صورة جهل من ينتقل إليه، وعدم علمه واطّلاعه، هي الحرمة وعدم الجواز; لأنّه سيجيء منه الفساد محضاً، مضافاً إلى الحكم بعدم الجواز على ما مرّ .
وأمّا في صورة علمه، فاحتاط في المتن لو لم يكن الأقوى بالعدم; أي عدم الجواز مع استثناء صورة وقوع المعاملة على المادّة التي لها ماليّة بالشرطين المذكورين في المسألة السابقة، أو أحدهما على ما مرّ. والوجه في الاقوائيّة إطلاق بعض الروايات المتقدّمة الدالّة على وجوب الكسر وإن كان القدر المتيقّن صورة الجهل بالحال .
ويمكن المناقشة في الجواز في صورة وجود أحد الشرطين أو كليهما نظراً إلى إطلاق قوله(عليه السلام): «فإنّه لايحلّ بيع هذا ولا إنفاقه»; فإنّ ظاهره الشمول لتلك الصورة، إلاّ أن يقال بالانصراف عنها ، كما أنّه يمكن أن يقال بعدم شمول الإطلاق لصورة العلم أصلاً، ولعلّه لذا استشكل في المتن في هذه الصورة مع عدم الشرط، واحتاط لو لم يكن الأقوى .
هذا، وحيث إنّ الإطلاق المزبور واقع في مقام التعليل، والرواية مسوقة لإفادة وجوب الكسر أو مثله، فلايبعد أن يقال بعدم ثبوت الإطلاق للعلّة المذكورة فيها، وقد تحقّق في محلّه أنّ إيجاب شيء لايلازم تحريم الترك و بالعكس، وإلاّ لكان اللازم وجود حكمين في موارد الوجوب أو الحرمة، مع أنّه من الواضح خلافه، وحرمة البيع في المقام قد استفيدت من العلّة لا من إيجاب الكسر ومثله، فاللازم في
صفحه 89
مثله ثبوت إطلاق قويّ للعلّة وهو محلّ تأمّل ، والذي يسهّل الخطب ما عرفت(1)من أنّ رواية ابن أبي عمير عن شخص لا دلالة لها على وثاقته، فلا تكون معتبرة فضلاً عن مرسلاته كما اشتهر .
وينبغي التنبيه على أمرين ذكرهما الشيخ الأعظم(قدس سره) :
أحدهما : أنّه لو كانت المعاوضة واقعة على شخص الدرهم المذكور، وكان المنتقل إليه جاهلاً بالحال فله الخيار ، غاية الأمر أنّه لو كانت المادّة مغشوشة يكون الثابت هو خيار العيب; لتحقّق النقصان عن الدرهم الرائج بمقدار من الفضّة، فيتحقّق العيب، ولو كانت السكّة مغشوشة يكون الثابت هو خيار الغشّ والتدليس الذي هو أحد الخيارات .(2)
هذا ، ولكنّه أفاد في بحث خيار الشرط من كتاب الخيارات أنّ القيود المأخوذة في المبيع إمّا صور نوعيّة عرفيّة، وإمّا جهات كماليّة ; ففي الأوّل: يكون البيع باطلاً مع التخلّف، كما إذا اشترى رقيقاً بعنوان أنّه أمة فتبيّن كونه عبداً; لأنّ ما جرى عليه العقد غير واقع، وما هو واقع لم يجر عليه العقد، ولا وجه للحكم بالصحّة مع خيار تخلّف الشرط ، وفي الثاني: لا مجال لبطلان البيع بل الثابت خيار تخلّف الشرط(3).
والظاهرأنّ المقام وهوالاختلاف في السكّة من قبيل القسم الأوّل; لأنّ الاختلاف بين المسكوكين بسكّتين مختلفتين إنّما هو كالاختلاف بين الصور النوعيّة، ولعلّه لذا أمر بالتأمّل في المقام. وهذا الذي ذكره في خيار تخلّف الشرط هو الموافق للتحقيق .
ثانيهما : أنّه ربما يمكن أن يتوهّم أنّه ما الفرق بين ما إذا باع الخلّ والخمر بمعاملة
(1) فى ص 76 ـ 77. (2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1:119 ـ 120. (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 6:95.
صفحه 90
واحدة وثمن واحد، حيث إنّ المعاملة صحيحة بالإضافة إلى الخلّ بنسبته من الثمن، وباطلة بالإضافة إلى الخمر . غاية الأمر أنّ للمشتري خيار تبعّض الصفقة، وبين هذه العناوين المذكورة في المسألتين، حيث اخترتم حرمة المعاملة وبطلانها مطلقاً، فلِمَ لا تكون المعاملة صحيحة بالإضافة إلى الموادّ فيما لو كانت لها ماليّة، ولو كانت المعاملة متعلّقة بمجموع المادّة والهيئة ففي الحقيقة أيّ فرق بين الخلّ والخمر مثلاً، وبين المادّة والهيئة في تلك العناوين .
نعم ، لا ننكر الصحّة بالإضافة إلى الموادّ فيما لو تعلّقت المعاملة بخصوصها، وكانت لها ماليّة بعد الكسر مطلقاً، وقبله بالشرط، أو الشرطين المذكورين .
ولقدأفادالشيخ في مقام الفرق ماهذه عبارته: إنّ كلّ جزءمن الخلّوالخمرمال لابدّ أن يقابل في المعاوضة بجزء من المال ، ففساد المعاملة باعتباره يوجب فساد مقابله من المال لاغير، بخلاف المادّة والهيئة; فإنّ الهيئة من قبيل القيد للمادّة جزء عقليّ لا خارجيّ تقابل بمال على حدة،ففسادالمعاملة باعتباره فسادلمعاملة المادّة حقيقة(1).
ويدلّ على ما أفاده أنّه لو اشترى رقبة مقيّدة بالإيمان بثمن لايقال عرفاً:أنّه وقعت المعاملة على أمرين ويقسّط الثمن عليهما; بحيث كان جزء من الثمن واقعاً في مقابل نفس الرقبة، وجزؤه الآخر في مقابل الإيمان; فإنّ التقيّد بالإيمان وإن كان جزءاً، إلاّ أنّه جزء عقليّ لا خارجيّ. وقد اشتهر أنّ التقيّد جزء والقيد خارج ، فالفرق بين مثال الخمر والخلّ، وبين مورد المسألتين واضح لا يمكن أن يقاسا به، كما هو ظاهر .
وعليه: فلابدّ أن يقال فيهما: إمّا بالصحّة مطلقاً، أو بالبطلان كذلك، وحيث إنّه لاسبيل للأوّل لما عرفت فيتعيّن الثاني ، فتدبّر جيّداً .
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 120.
صفحه 91
بيع العنب و التمر و الخشب و نحوها لفعل الحرام
مسألة 10 : يحرم بيع العنب والتمر ليعمل خمراً، والخشب مثلاً ليعمل صنماً، أو آلة للّهو أو القمار ونحو ذلك ; وذلك إمّا بذكر صرفه في المحرّم والالتزام به في العقد، أو تواطئهما على ذلك; ولو بأن يقول المشتري لصاحب العنب مثلاً: بعني منّاً من العنب لأعمله خمراً، فباعه . وكذا تحرم إجارة المساكن ليُباع ويحرز فيها الخمر، أو ليعمل فيها بعض المحرّمات،وإجارة السفن أوالحمولة لحمل الخمروشبههابأحدالوجهين المتقدّمين. وكما يحرم البيع والإجارة فيما ذكر يفسدان أيضاً، فلايحلّ له الثمن والاُجرة، وكذا بيع الخشب لمن يعلم أنّه يجعله صليباً أو صنماً ، بل وكذا بيع العنب والتمر والخشب ممّن يعلم أنّه يجعلها خمراً وآلة للقمار والبرابط، وإجارة المساكن لمن يعلم أنّه يعمل فيها ما ذكر، أو يبيعها وأمثال ذلك في وجه قويّ ، والمسألة من جهة النصوص مشكلة جدّاً، والظاهر أنّها معلّلة1.
1 ـ في هذه المسألة فروع :
الأوّل : بيع العنب أو التمر ليعمل خمراً، والخشب مثلاً ليعمل صنماً، أو آلة للّهو أوالقمار ونحو ذلك، والبيع لهذه الجهة تارةً: يتحقّق بذكر صرفه في المحرّم والالتزام اللفظي به في متن العقد ، واُخرى: بالتواطئ والتباني على ذلك; ولو بأن يقول المشتري للبائع صاحب العنب مثلاً: بعني منّاً من العنب لأعمله خمراً، فباعه .
ودعوى عدم إمكان وقوع مثل هذا الاشتراط والإلزام والالتزام من ناحية البائع المسلم(1)، يدفعها ما نشاهده من الوقوع من المسلم الذي لا يبالي بأحكام
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 125.
صفحه 92
الدين والشريعة، مع أنّ الحكم لا يختصّ بالبائع المسلم; لما حقّق في محلّه(1) من اشتراك الكفّار مع المسلمين في الفروع كالاُصول .
وقد صرّح في المتن بثبوت الحرمة التكليفيّة لهذا البيع والتكسّب بالمعنى الذي تقدّم للحرمة التكليفيّة المتعلّقة بمثل البيع والتجارة، وليعلم أنّ البحث في هذا الفرع إنّما يرتبط بهذا العنوان الذي يكون المبيع ذا منفعة محلّلة مقصودة، وذا منفعة محرّمة كذلك مع الاشتراط، أو التواطئ على صرفه في المنفعة المحرّمة، وهذا الاشتراط ومثله وإن كان فاسداً ومستثنى من عموم «المؤمنون عند شروطهم»(2) إلاّ أنّه لادليل على كون الشرط الفاسد مفسداً ، وعلى تقديره فالكلام فعلاً ليس في الفساد وعدمه، بل في الحرمة وعدمها بالإضافة إلى المشروط ، فاللاّزم إقامة الدليل على هذا الحكم، وأنّه هل يكون في البين ما يدلّ على الحرمة التكليفيّة أم لا؟ فنقول :
قد استدلّ للحرمة بوجوه كثيرة لا يصلح شيء منها لإثبات الحرمة التي هي مورد للنظر والبحث; كالاستدلال بالآية الآمرة بالتعاون على البرّ والتقوى، والناهية عن التعاون على الإثم والعدوان ، قال الله ـ تعالى ـ : {تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ
(1) القواعد الفقهيّة للشارح المعظم: 323 ـ 341. (2) تهذيب الأحكام 7: 371 ذ ح1503، الاستبصار 3: 232 ذ ح 835 ، وعنهما وسائل الشيعة 21: 276، كتاب النكاح، أبواب المهور ب20 ذ ح4. وفي بحار الأنوار 49: 162، أواخر ح1 عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 159، أواخر ح23، وفي ج75: 96 ح18 عن قضاء الحقوق المؤمنين للصوري: 18 ح5، وفي ج77: 167 قطعة من ح2 عن عوالي اللئالي 1:293 ح173. وفي مستدرك الوسائل 13: 301، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب5 ح7 عن عوالي اللئالي 1: 218 ح84 و ج2: 257 ح7 وج3: 217 ح77. ورواه في تلخيص الحبير 3: 63 ح1195 وكشف الخفاء 2: 291 ح2672.
صفحه 93
{وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَ نِ}(1) .
وأورد على الاستدلال بها المحقّق الايرواني(قدس سره) في محكيّ حاشيته على المكاسب ; تارةً بأنّ النهي في الآية لا دلالة له على الحرمة، بل هو حكم تنزيهيّ، وذلك بقرينة مقابلته بالأمر بالإعانة على البرّ والتقوى الذي ليس للإلزام قطعاً ، واُخرى بأنّ قضيّة باب التفاعل هو الاجتماع على إتيان الإثم والعدوان، كأن يجتمعوا على قتل النفوس ونهب الأموال، لا إعانة الغير على إتيان المنكر على أن يكون الغير مستقلاًّ، وهذا معيناً له بالإتيان ببعض مقدّماته(2) .
وأجاب سيّدنا الماتن(قدس سره) في كتابه في المكاسب المحرّمة عن الإيراد الأوّل بما يرجع إلى أنّه لو سلّمت قرينيّة المقابلة في سائر الموارد، فلا يسلّم في المقام; لأنّ تناسب الحكم و الموضوع وحكم العقل شاهدان على أنّ النهي للتحريم. مضافاً إلى أنّ عطف العدوان الذي هو الظلم على الإثم لا يبقي مجالاً لحمل النهي على التنزيه; ضرورة حرمة الإعانة على الظلم .
وعن الإيراد الثاني، بأنّ ظاهر مادّة العون عرفاً وبنصّ اللغويّين، المساعدة على أمر، والمُعين هو الظهير والمساعد، وإنّما يصدق ذلك فيما إذا كان أحد أصيلاً في أمر وأعانه غيره عليه ، وحكى عن القاموس والمنجد ـ فيما يرتبط إلى باب التفاعل في المقام ـ قولهما : تعاونوا واعتونوا: أعان بعضهم بعضاً (3)، وعن مجمع البيان في ذيل الآية قوله : أمر الله عباده بأن يعين بعضهم بعضاً على البرّ والتقوى ـ إلى أن قال : ـ
(1) سورة المائدة 5: 2. (2) حاشية كتاب المكاسب للايرواني 1: 97. (3) القاموس المحيط 4: 249، المنجد: 539.
صفحه 94
ونهاهم أن يُعين بعضهم بعضاً على الإثم(1)، إلى أن قال الماتن(قدس سره) :
إنّ كون التفاعل بين الاثنين لا يلازم كونهما شريكاً في إيجاد فعل شخصي... ولو كان المراد ذلك يكون مقتضى الجمود على ظاهر الآية هي حرمة شركة جميع المكلّفين في إتيان محرّم واحد، وهو كماترى ، فالظاهر من الآية عدم جواز إعانة بعضهم بعضاً في إثمه وعدوانه(2) ، انتهى .
ويؤيّد عدم كون المراد من التفاعل ما ذكره المورد، كثير من الاستعمالات; كالتيامن والتياسر في الصلاة مثلاً، والترقّي والتكامل في العلوم كذلك، والتضامن في بعض التجارات والمراكز التعاونيّة من البنك وغيره وشبه ذلك . وقد ذكرنا في شرح كتاب المضاربة أنّ بعض المحقّقين من محشّي كفاية الاُصول أورد في ذيل حديث لاضرر ولا ضرار(3) موارد كثيرة قد استعملت فيها الصيغ من باب المفاعلة، الذي يكون كالتفاعل في الشهرة أن يكون بين اثنين مع عدم كونها بينهما ، فليراجع(4) .
وبعد ذلك يصير محصّل الآية حرمة الإعانة على الإثم والعدوان، والظاهر عدم تحقّقها في هذا الفرع الذي يكون في البين مجرّد البيع مع الاشتراط أو ما بحكمه; فإنّه من الممكن أن لا يسلّم البائع المبيع الذي هو العنب أو التمر إلى المشتري، ولو فرض التسليم فمن الممكن عدم رعاية المشتري لهذا الشرط، خصوصاً مع علمه بأنّ
(1) مجمع البيان 3: 257 ـ 258. (2) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 197 ـ 198. (3) الكافى 5:280 ح 4 و 293ـ294ح 2، 6 و 8، الفقيه 3:45ح 154و ص 147 ح 648، تهذيب الاحكام 7:146ح 648 و ص 164 ح 727. (4) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب المضاربة: 10، نقلاً من نهاية الدراية في شرح الكفايــة للأصبهاني 4: 437 ـ 439.
صفحه 95
الشرط المخالف للكتاب والمحلّل للحرام لا يعبأ به، ومع إمكان عدوله عمّا التزم به في المعاملة من الصرف في الحرام.
وما ذكره المحقّق الايرواني في ذيل رواية تحف العقول المتقدّمة(1) من أنّ توصيف نفس إنشاء البيع الساذج بعنوان الإعانة إنّما هو لأجل ملازمته العرفيّة للإقباض، فكان ثانياً وبالعرض هو الإعانة على الإثم، وكلّ بيع كان كذلك ـ ولو ثانياً وبالعرض ـ حرام(2).
مدفوع; بأنّ صدق عنوان الإعانة على البيع كذلك لايوجب سراية تحريمها إليه ، وقد بيّن في الاُصول عدم السراية ولو في الملازمات العقليّة، فضلاً عن العرفيّة التي يمكن التخلّف بين الأمرين، وعدم تحقّق الثاني مع تحقّق الأوّل، فتأمّل .
ولعلّه لذلك ذكر بعض الأعلام(قدس سره) أنّ بين عنوان البيع، وعنوان الإعانة على الإثم عموماً من وجه; لتقوّم مفهوم الإعانة بالاقباض والتسليط الخارجي على العين ولو بغير عنوان البيع مع العلم بالصرف في الحرام وإن كان ينطبق عنوان الإعانة على البيع في بعض الأحيان. وعليه: فلاتستلزم حرمة الإعانة على الإثم حرمة البيع في جميع الموارد(3)، كما هو المدّعى .
وبالجملة: فالآية لا تدلّ على أزيد من حرمة الإعانة على الإثم والعدوان، وفي تحقيق معنى الإعانة وحقيقتها كلام يأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ في فرع بيع العنب ممّن يعلم أنّه يصرفه في الخمر، من دون إلزام والتزام في المعاملة بذلك، ومن دون تواطئ عليه، فانتظر .
(1) في ص11 . (2) حاشية كتاب المكاسب للايرواني 1:19 ـ 20. (3) مصباح الفقاهة 1: 265.
صفحه 96
ثمّ إنّ الشيخ الأعظم(قدس سره)(1) استدلّ بهذه الآية للحكم الوضعي مضافاً إلى الحكم التكليفي أي الحرمة، مع أنّه من الواضح أنّ هذه الآية لا دلالة لها على تقديرها على الحكم الوضعي بوجه، بل مفادها مجرّد حرمة الإعانة على الإثم، كما عرفت .
وممّا استدلّ به الشيخ الأعظم(قدس سره) على بطلان المعاملة في هذا الفرع ـ مضافاً إلى حرمتها ـ قوله ـ تعالى ـ : {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَ لَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـطِـلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـرَةً عَن تَرَاض مِّنكُمْ}(2)، حيث قال : إنّ الإلزام والالتزام بصرف المبيع في المنفعة المحرّمة الساقطة في نظر الشارع أكل وإيكال للمال بالباطل(3). وحيث إنّ الآية الشريفة قد استدلّ بها في كثير من أبواب المعاملات، سيّما البيع في موارد متعدّدة، فلا بأس ببسط الكلام فيها إجمالاً، فنقول :
قال المحقّق الأردبيلي(قدس سره) في محكيّ زبدة البيان في ذيل الآية: أي لا يتصرّف بعضكم في أموال الناس بغير وجه شرعيّ، مثل الربا والغصب والقمار، ولكن تصرّفوا فيها بطريق شرعيّ; وهو التجارة عن تراض من الطرفين ونحو ذلك(4) ، انتهى .
ويؤيّده الروايات الكثيرة الواردة في تفسير الآية الدالّة على أنّ المراد بها القمار أو مع بعض المحرّمات الاُخر(5) .
ويرد على ظاهر عبارته من تفسير الطريق الشرعي بالتجارة عن تراض، أنّ
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 123. (2) سورة النساء 4: 29. (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 123. (4) زبدة البيان: 542. (5) وسائل الشيعة 17: 164 ـ 168، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35.
صفحه 97
مطلق التجارة عن تراض لايكون طريقاً شرعيّاً; فإنّ البيع الغرريّ المنهيّ عنه فيما نقل عن الرسول(صلى الله عليه وآله) تجارة عن تراض، ولكنّه باطل غير صحيح ، اللّهم إلاّ أن يكون مراده التجارة الشرعيّة الناشئة عن تراض. ويؤيّده قوله: «ونحو ذلك» فتدبّر ، إلاّ أن يكون مراده من «نحو ذلك» ما لا يكون تجارةً أصلاً، كالهبة غير المعوّضة ونحوها .
ويظهر ذلك من المحقّق الايرواني، حيث ذكر أنّ الباء للسببيّة دون المقابلة ، وتدلّ الآية على حرمة الأكل بالأسباب الباطلة ، فالآية لا تكون إلاّ للإرشاد(1) . وعلى ما أفاده يظهر بطلان ما أفاده الشيخ من التمسّك بالآية لكلا الحكمين: الوضعي والتكليفي ، فتدبّر .
مع أنّ الظاهر أنّ العناوين المترتّبة عليها الأحكام الشرعيّة لابدّ من الرجوع في مفادّها إلى العرف والعقلاء، إلاّ في العناوين المستحدثة للشارع كالصلاة والصوم والحجّ ومثلها، ولازم ذلك أنّه لابدّ من الرجوع في معنى الباطل إلى العرف والعقلاء .
ومن المعلوم أنّ النسبة بين ما يقول به العقلاء ويحكم بصحّته، وبين ما عند الشارع عموم وخصوص من وجه; فإنّ بعض المعاملات وأنواع التجارات ـ ممّا يكون رائجاً عندهم ـ يكون محرّماً عند الشارع، كبيع الخمر والعين المغصوبة والربا والقمار، وبعض ما هو جائز عند الشارع يكون مجتنباً عنه عند العقلاء ، كبيع الحاكم مال المديون الممتنع عن أداء دينه، أو الزوج القادر الممتنع عن إنفاق زوجته مع عدم رضاهما وعدم إمكان إجبارهما ، وهكذا، ومادّة الاجتماع موارد كثيرة
(1) حاشية كتاب المكاسب للايرواني 1: 18.
صفحه 98
كما لايخفى .
ثمّ إنّ الإيراد على الاحتمال الأوّل; بأنّ لازمه كون الآية ناظرة إلى الأدلّة الاُخرى الدالّة على الأسباب غير المملّكة وغير الصحيحة، والأسباب المسوّغة، غير وارد; لأنّه لا دليل على كونها واردة لبيان حكم مستقلّ غير تلك الأدلّة، بل هي للإرشاد كما ذكر. كما أنّ تصحيح الإشكال بأنّ الباطل عند الشرع قد لا يكون باطلاً عند العقلاء، كالبيع الغرري من طريق الحكومة واضح المنع; مثل دعوى أنّ العقلاء إذا رجعوا إلى فطرتهم الأصليّة يحكمون بمنع مثل القمار، فتدبّر .
وبعد ذلك كلّه فالظاهر أنّه لا محيص عن جعل الاستثناء في الآية منقطعاً، وقد صرّح بذلك القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن(1)، وهذا من دون فرق بين أن تكون «تجارة» منصوبة أو مرفوعة، بناءً على أنّ كان تامّة أو ناقصة ; وذلك لوضوح أنّ المستثنى لايكون من مصاديق أكل المال بالباطل، بل تناسب الحكم والموضوع لايلائم الاستثناء المتّصل بوجه.
نظير الاستثناء من دليل حرمة الشرك; فإنّه لامجال لكون شيء شركاً ، ومع ذلك صار بعض أقسامه مستثنى من الحرمة، بخلاف السجود لغير الله; فإنّه يجوز أن لايكون منهيّاً عنه ، بل مأمور به بالأمر الإلهي، كما في سجود الملائكة لآدم ، فتدبّر; فإنّه كان في الحقيقة سجود له، ومع ذلك أمر الله ـ تعالى ـ به وتخلّف عنه الشيطان لما توهّمه من علوّه على آدم(عليه السلام); لأنّه خلق من طين وخلق الشيطان من النار(2) .
ثمّ إنّه لأجل ذلك ـ أي كون الاستثناء منقطعاً، ولازمه كون المستثنى والمستثنى
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5: 151. (2) سورة الأعراف 7: 12 ،و سورة ص38: 76.
صفحه 99
منه دليلين مستقلّين لا ارتباط لأحدهما بالآخر ـ ذكر سيّدنا الاُستاذ الماتن(قدس سره) في ذيل البحث عن الآية، أنّه لو فرض في مورد صدق الأكل بالباطل، وصدق التجارة عن تراض، يقع التعارض بين صدر الآية وذيلها بناءً على دلالتهما على الحكم الوضعي; أي بطلان المعاملة وصحّتها، ولا ترجيح لأحدهما(1) ، انتهى .
ضرورة أنّ التعارض بين الصدر والذيل إنّما يقع بناءً على ذلك المبنى; لأنّه لوكان الاستثناء متّصلاً لا مجال لدعوى التعارض بعد كون المستثنى والمستثنى منه كلاماً واحداً ودليلاً فارداً .
ومن الواضح أنّ الاستثناء من السلب إيجاب ومن الإيجاب سلب، كما لايخفى ، كما أنّه يستفاد من فرض التعارض أنّه(قدس سره) حمل الباطل في الآية على الباطل الشرعي; ضرورة أنّه لا وجه لتوهّم التعارض في غير هذه الصورة، كما هو ظاهر .
والإنصاف أنّ الوصول إلى حقيقة معنى الآية ومفادّها مشكل جدّاً ; لأجل أنّ حمل الباطل المذكور فيها على الباطل الشرعي ـ بحيث لم تكن الآية إلاّ للإرشاد، والأدلّة الاُخرى كانت متصدّية لبيان الأسباب الصحيحة والباطلة ، مع أنّ الظاهر كونها في مقام بيان الضابطة وإفادة القاعدة ـ بعيد جدّاً، وحمل الباطل على الباطل العرفي الذي لا يقول به العقلاء ـ المستلزم لعدم كون مثل البيع الغرري باطلاً، كما هو المتداول في العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام ـ أيضاً بعيد .
كما أنّ حمل الاستثناء على الانقطاع الذي لا محيص عنه ـ كما عرفت ـ أيضاً بعيد، خصوصاً فيما يتعلّق بالدليل الذي هو مسوق لبيان الضابطة الكلّية، خصوصاً في الكتاب والقرآن العزيز .
(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 243 ـ 244.
صفحه 100
وبعد ذلك كلّه فلا إشكال في أنّه لايستفاد من الآية إلاّ الحكم الوضعيّ الراجع إلى الصحّة والبطلان، دون الحكم التكليفيّ الذي هو محطّ البحث في هذا الفرع على ما عرفت، فهي غير مرتبطة بالمقام .
وربما يستدلّ للحكم بالحرمة في هذا الفرع بالحرمة لأجل المقدّميّة(1)، مع أنّه قدثبت في بحث مقدّمة الواجب من الاُصول أنّ مقدّمات الحرام لاتكون محرّمة إلاّ المقدّمة التي يترتّب عليها ذو المقدّمة قهراً، ولا مدخل لإرادة المكلّف واختياره بعدها(2) .
ومن المعلوم عدم كون المقام كذلك كما هو واضح ، مع أنّ المقدّميّة ممنوعة في هذا الفرع ; لأنّ محلّ الكلام فيه ما لو لم يكن في البين إلاّ بيع العنب مثلاً مع اشتراط صرفه في عمل الخمر أو التواطئ عليه، ومن الممكن أن لا يكون عازماً على ذلك من أوّل الأمر، أو انصرف عن عزمه، وإنّما تكون المقدّميّة ثابتة بالإضافة إلى الفرع الآتي الذي يعلم بصرف المبيع في الحرام، كما لايخفى ، مع أنّه على تقدير ثبوت الحرمة من باب المقدّمة نقول : إنّ الحرمة المدّعاة حرمة نفسيّة، مع أنّ حرمة المقدّمة تبعيّة .
كما أنّه ربما يستدلّ لما ذكرنا بأدلّة وجوب النهي عن المنكر; نظراً إلى أنّ رفع المنكر لو كان واجباً لكان دفعه أيضاً كذلك، بل بطريق أولى(3) .
وفيه ـ مضافاً إلى اختصاص ذلك على تقدير صحّته بصورة العلم بالصرف في الحرام، مع أنّ موضوع الفرع أعمّ من ذلك ـ : أنّ أولويّة الدفع عن الرفع لا مجال
(1) مستند الشيعة 14: 96. (2) سيرى كامل در اصول فقه 6: 12 ـ 13. (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 47، رياض المسائل 8 : 54، مستند الشيعة 14: 99.
|