صفحه 121
ممّن يخمّره؟ قال : حلال، ألسنا نبيع تمرنا ممّن يجعله شراباً خبيثاً(1) .
وقسم يدلّ على الجواز الملائم مع الكراهة، مثل :
صحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه سُئل عن بيع العصير ممّن يصنعه خمراً ؟ فقال : بعه (بيعه ظ) ممّن يطبخه أو يصنعه خلاًّ أحبّ إليّ، ولا أرى بالأوّل بأساً(2) .
ثمّ إنّه ذكر في المتن أنّ المسألة من جهة النصوص مشكلة جدّاً، واستظهر أنّها معلّلة .
والتحقيق أن يقال : إنّ صحيحة ابن اُذينة المتقدِّمة في الطائفة الاُولى المفصّلة بين بيع الخشب ممّن يتّخذه برابط، وبين بيعه ممّن يعمله صلباناً، بجواز الأوّل وعدم جواز الثاني، شاهدة على عدم كون الفرع الثاني المذكور فيها في عداد مشابهاته ، فالحكم فيه عدم الجواز من دون معارض.
ولقد أجاد صاحب الوسائل، حيث عقد لهذا الفرع باباً بعنوان «باب تحريم بيع الخشب ليعمل صليباً ونحوه»(3)، ولمشابهاته باباً آخر بعنوان «جواز بيع العصير والعنب والتمر ممّن يعمل خمراً»(4) .
ولهذا يقع الإشكال على الشيخ الأعظم(قدس سره)، حيث إنّه قد خلط بين الروايات في جميع فروض هذا الفرع، وإن ذكر في آخر كلامه في مقام الجمع بين الروايات احتمال
(1) تهذيب الأحكام 7: 136 ح603، الاستبصار 3: 105 ح370، وعنهما وسائل الشيعة 17: 231، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب59 ح8 . (2) تهذيب الأحكام 7: 137 ح605، الاستبصار 3: 106 ح375، وعنهما وسائل الشيعة 17: 231 كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب59 ح9. (3) وسائل الشيعة 17: 176، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب41. (4) وسائل الشيعة 17: 229، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب59.
صفحه 122
التزام الحرمة في بيع الحشب ممّن يعمله صليباً أو صنماً لظاهر أخباره، والعمل في مسألة بيع العنب وشبهها على الأخبار المجوّزة ، ثمّ ذكر أنّ هذا الجمع قول فصل لو لم يكن قولاً بالفصل (1) .
أقول : أمّا التزام الحرمة في الصورة الاُولى، فقد عرفت دلالة الرواية عليه من دون أن يكون له معارض
والظاهر اختلافها مع الموردين الآخرين المذكورين في هذا الفرع، من جهة شمول جميع القواعد الثلاثة المتقدِّمة وعدمه، وذلك لاختلافها في مراتب الفساد، ووقوع بعضها في أعلى تلك المراتب، وبعضها في الرتبة المتوسطة، وبعضها في الرتبة الدنيّة من المرتبتين المتقدّمتين وإن اشترك الجميع في الإثم والعدوان، ولأجله تشمل الجميع الآية الناهية عن التعاون على الإثم والعدوان، لكنّها مختلفة بملاحظة الأخبار المستفيضة الواردة في لعن عشرة أشخاص المتقدّمة; فإنّ دلالتها على ثبوت الحرمة في مثل بيع الخشب ليعمل صلباناً أو صليباً إنّما هي بطريق أولى .
وأمّا دلالتها على الثبوت بالإضافة إلى بيع الخشب ليعمل آلة للّعب أو القمار فممنوعة ، ولأجله قد وقع التفصيل في صحيحة عمر بن اُذينة المتقدِّمة بالجواز في الثاني دون الأوّل ، ومن المعلوم أنّ الإجماع على عدم ثبوت الفصل غير حاصل ، فلا مجال للتمسّك به كما احتمله كلام الشيخ المتقدّم ، فتدبّر .
وأمّا الصورة الثانية: فقد ذكر سيّدنا الاُستاذ الماتن في كتابه في المكاسب المحرّمة أنّ الروايات الدالّة على الجواز في هذه الصورة بما أنّها مخالفة للكتاب والسنّة المستفيضة ، وبما أنّها مخالفة لحكم العقل كما تقدّم، وبما أنّها مخالفة لروايات النهي
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 129 ـ 132.
صفحه 123
عن المنكر ، بل بما أنّها مخالفة لاُصول المذهب، ومخالفة لقداسة ساحة المعصوم(عليه السلام)، حيث إنّ الظاهر منها أنّ الأئمّة(عليهم السلام) كانوا يبيعون تمرهم ممّن يجعله خمراً وشراباً خبيثاً، ولم يبيعوه من غيره، وهو ممّا لا يرضى به الشيعة الإماميّة .
كيف! ولو صدر هذا العمل من أواسط الناس كان يعاب عليه ، فالمسلم بما هو مسلم، والشيعي بما هو كذلك، يرى هذا العمل قبيحاً مخالفاً لرضا الشارع ، فكيف يمكن صدوره من المعصوم(عليه السلام)(1) ؟
أقول : مع أنّك عرفت منه(قدس سره)(2) أنّ المستفاد من الأخبار المستفيضة الدالّة على لعن عشرة أشخاص، أنّ شراء العنب بقصد التخمير حرام، وليس مقامه أقلّ من غرس الشجر لأجله ، ومن المعلوم أنّ البيع إعانة على الشراء المحرّم على تقدير جميع الأقوال المتقدّمة في معنى الإعانة .
والآية الناهية عن التعاون على الإثم والعدوان ومثلها آبية عن التخصيص، فلامجال لدعوى أنّ اعتبار الأخبار إنّما هو بالإضافة إلى الخبر المخالف للقاعدة; نظراً إلى أنّه لا حاجة في الخبر الموافق لها إليه; لاقتضاء القاعدة إيّاه.
ولكن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى القاعدة غير الآبية عن التخصيص، وإلاّ فلا مجال للخبر، أترى أنّه يمكن تجويز معاملة كانت أكلاً للمال بالباطل، ومع ذلك دلَّ الخبر(3) على جوازه؟ ولذا عرفت(4) أنّ الاستثناء المذكور في الآية يكون منقطعاً لا متّصلاً ، فتدبّر .
(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 219. (2) في ص102 ـ 103 . (3) تقدّم في ص120 ـ 121. (4) في ص98 .
صفحه 124
وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده بعض الأعلام(قدس سره) على ما في تقريراته، حيث ذكر أنّ الذي ينبغي أن يقال: إنّه إذا تمّ عدم الفصل بين موارد الروايات المجوّزة والمانعة، كان من قبيل تعارض الدليلين، فيؤخذ بالطائفة المجوّزة; لموافقتها لعمومات الكتاب، كقوله ـ تعالى ـ : {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}(1). و {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}(2). و{تِجَـرَةً عَن تَرَاض}(3) وإن لم يثبت عدم الفصل بين مواردها، كما احتمله المصنّف ـ يعني الشيخ ـ وجب أن يقتصر بكلّ طائفة على موردها، ولا تصل النوبة إلى التعارض بينهما والعمل بقواعده.
وهذا هو الظاهر من الروايات، وتشهد له أيضاً رواية ابن اُذينة المفصّلة بين الأصنام والبرابط . قال : ويقرّبه أنّ شرب الخمر وصنعها، أو صنع البرابط وضربها وإن كانت من المعاصي الكبيرة والجرائم الموبقة، إلاّ أنّها ليست كالشرك بالله العظيم; لأنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك .
وعليه: فيمكن اختلاف مقدّمة الحرام من حيث الجواز وعدمه باختلاف ذي المقدّمة من حيث الشدّة والضعف(4) . انتهى موضع الحاجة .
ثمّ إنّ الشيخ(قدس سره) بعد أن حكى الجمع بين الطائفتين: المجوّزة والمانعة ـ بحمل المانعة على صورة اشتراط جعل الخشب صليباً أو صنماً، أو تواطئهما عليه، والإيراد عليه بأنّ هذا في غاية البُعد; إذ لا داعي للمسلم على اشتراط صناعة الخشب صنماً في متن بيعه أو في خارجه، ثمّ يجيء ويسأل الإمام(عليه السلام) عن جواز فعل هذا في المستقبل
(1) سورة المائدة 5: 1. (2) سورة البقرة 2: 275. (3) سورة النساء 4: 29. (4) مصباح الفقاهة 1: 284 ـ 285.
صفحه 125
وحرمته ـ قال : فالأولى حمل الأخبار المانعة على الكراهة; لشهادة غير واحد من الأخبار على الكراهة، كما أفتى به جماعة(1)، ويشهد له رواية الحلبي المتقدِّمة وغيرها(2)،(3).
أقول : على تقدير تسليم الشهادة المذكورة، فالظاهر أنّه ليس في هذا الباب إلاّ رواية الحلبي، والشهادة ممنوعة ; لأنّ غاية مفادّها أنّ بيعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلاًّ أحبّ إليه ، ومن الظاهر أنّ الأحبّية لا تستلزم كراهة مخالفته، خصوصاً مع التعبير بنفي البأس المطلق عنها، كما لايخفى .
والمحكيّ عن السيّد في الحاشية ما ملخّصه : أنّه يمكن الجمع بحمل الأخبار المجوّزة على صورة العلم; بأنّ ذلك عمل المشتري وإن لم يعلم بصرف هذا المبيع الخاصّ في المحرّم، وحمل الأخبار المانعة على صورة العلم بصرفه في الحرام ، ويمكن الجمع أيضاً بحمل المانعة على العلم بقصد المشتري صرفه في الحرام، وحمل المجوّزة على العلم بالتخمير مع عدم العلم بأنّ قصده ذلك(4) .
واُورد عليه بأنّ الوجهين من الجموع التبرّعيّة، ولا شاهد لها أصلاً (5) .
فالحقّ أن يقال : أمّا بالنسبة إلى بيع الخشب ممّن يعمله صليباً أو صنماً، فلا محيص عن الحكم بالحرمة فيه; لدلالة العقل والنقل عليه من غير معارض;
(1) شرائع الإسلام 2: 10، إرشاد الأذهان 1: 357، اللمعة الدمشقيّة: 61، ونسبه في الجواهر 22: 31 إلى المشهور. (2) في ص120 ـ 121. (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 130 ـ 131. (4) حاشية كتاب المكاسب للسيّد اليزدي 1: 55. (5) مصباح الفقاهة 1: 283.
صفحه 126
ولا مجال لتوهّم ثبوت عدم الخلاف فضلاً عن الإجماع على عدم الفصل، خصوصاً مع ما عرفت من الوسائل (1) .
وأمّا بالنسبة إلى بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً، خصوصاً بالإرادة المحقّقة حال المعاملة والبيع، فالأخبار فيه وإن كانت متعارضة، إلاّ أنّه لا وجه للحكم باعتبار الأخبار المجوّزة وإن كانت موافقة للعمومات الدالّة على الجواز في الكتاب; لمخالفتها للكتاب من جهة اُخرى غير قابلة للتخصيص، ولحكم العقل، وللأخبار المستفيضة الواردة في الخمر(2)، فهل ترى من نفسك ثبوت اللعن بالإضافة إلى غارس الخمر، والجواز لبيع العنب مع العلم بصرفه في الخمر وثبوت هذا القصد في حال البيع ؟!
وأمّا بالنسبة إلى بيع الخشب ممّن يعمله آلة للّهو أو القمار، فرواية ابن اُذينة(3)وإن كانت دالّة على الجواز بالإضافة إلى البرابط، إلاّ أنّه لا مجال للأخذ بها; للمخالفة مع الكتاب الناهي عن التعاون على الإثم والعدوان بعد وضوح الإباء عن التخصيص، كما لايخفى . وحكم العقل على ما عرفت(4) .
فالحكم في الجميع المنع وإن كانت المراتب مختلفة بالشدّة والضعف ، ولذا ذكر في المتن أنّ المسألة من جهة النصوص مشكلة، واستظهر أنّها معلّلة .
هذا ، ولكن يبقى في النفس شيء; وهو أنّه كيف يمكن الحكم بعدم التفصيل
(1) في ص: 121. (2) وسائل الشيعة 17: 223، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب55، وج25: 375، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب34. (3) تقدّمت في ص120. (4) في ص118 ـ 119.
صفحه 127
بالإضافة إلى الرواية الصحيحة الصريحة(1) في التفصيل والحكم بأنّه لا فرق بين البرابط والأصنام والصلبان ، كما لو فرض إمكان حمل مطلق الأخبار المجوّزة على التقيّة ، فالتعليل في جملة منها(2) بأنّا نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً، لا يلائم التقيّة بوجه، ولا مجال لذكر هذه العلّة، فتدبّر جيّداً .
(1) وهي صحيحة ابن اُذينة المتقدِّمة في ص: 120. (2) مثل روايتي أبي كهمس و ابن موسى المتقدّمتين في ص120.
صفحه 128
بيع السلاح من أعداءالدين
مسألة 11 : يحرم بيع السلاح من أعداء الدِّين حال مقاتلتهم مع المسلمين ، بل حال مباينتهم معهم بحيث يخاف منهم عليهم . وأمّا في حال الهدنة معهم أوزمان وقوع الحرب بين أنفسهم ومقاتلة بعضهم مع بعض، فلابدّ في بيعه من مراعاة مصالح الإسلام والمسلمين ومقتضيات اليوم ، والأمر فيه موكول إلى نظر والي المسلمين، وليس لغيره الاستبداد بذلك . ويلحق بالكفّار من يعادي الفرقة الحقّة من سائر الفرق المسلمة، ولا يبعد التعدّي إلى قطّاع الطريق وأشباههم ، بل لايبعد التعدّي من بيع السلاح إلى بيع غيره لهم ممّا يكون سبباً لتقويتهم على أهل الحقّ; كالزاد والراحلة والحمولة ونحوها1.
1 ـ في بيع السلاح من أعداء الدِّين ومخالفي الإسلام والمسلمين فروض :
الأوّل : حال مقاتلتهم مع المسلمين وتحقّق الحرب الفعليّة بين الطرفين ، والأقوال في أصل المسألة كثيرة، كالروايات الواردة فيها، التي منها :
رواية أبي بكر الحضرمي قال : دخلنا على أبي عبدالله(عليه السلام) فقال له حكم السرّاج : ما تقول فيمن يحمل إلى الشام السروج وأداتها؟ فقال : لابأس، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)، إنّكم في هدنة، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السروج والسلاح (1).
ورواية هند السرّاج قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : أصلحك الله إنّي كنت أحمل
(1) الكافي 5: 112 ح1، تهذيب الأحكام 6: 354 ح1005، الاستبصار 3: 57 ح187، وعنها وسائل الشيعة 17: 101، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب8 ح1.
صفحه 129
السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم (فيهم خ ل)، فلمّا عرّفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت: لا أحمل إلى أعداء الله ، فقال لي : إحمل إليهم وبعهم; فإنّ الله يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم ـ يعني الروم ـ وبعه ، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا، فمن حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك(1) .
ورواية السرّاج، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : إنّي أبيع السلاح ، قال: لا تبعه في فتنة(2) .
والسؤال وإن كان مطلقاً، إلاّ أنّ الجواب قرينة على أنّ المراد بيع السلاح من أعداء الدِّين، ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ : {وَقَـتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}(3) ، ولكن في غير نسخة الوسائل السرّاد ، واستشكل عليه بأنّ المراد منه إن كان هو ابن محبوب المعروف، فهو لا يروي عن الصادق(عليه السلام) بلا واسطة ، وإن كان المراد منه غيره فلابدّ وأن يبحث في حاله، مع أنّه في محكي الاستبصار عن السرّاد عن رجل . وعليه: فالرواية مرسلة، والظاهر أنّ نسخة الوسائل غير صحيحة(4) .
وصحيحة عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى(عليه السلام) قال : سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة ؟ قال : إذا لم يحملوا سلاحاً فلا بأس(5) .
(1) الكافي 5: 112 ح2، الفقيه 2: 107 ح448، تهذيب الأحكام 6: 353 ح1004، الاستبصار 3: 58 ح189، وعنها وسائل الشيعة 17: 101، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب8 ح2. (2) الكافي 5: 113 ح4، تهذيب الأحكام 6: 354 ح1007، الاستبصار 3: 57 ح186، وعنها وسائل الشيعة 17: 102، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب8 ح4. (3) سورة البقرة 2: 193. (4) مصباح الفقاهة 1 ذ ص 303. (5) مسائل علي بن جعفر: 176 ح320، قرب الإسناد: 264 ح1047، وعنهما وسائل الشيعة 17: 103، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب8 ح6، وفي بحار الأنوار 103: 61 ب8 ح1 عن قرب الإسناد.
صفحه 130
ورواية الصدوق عن جعفر بن محمّد، عن آبائه(عليهم السلام) في وصيّة النبيّ(صلى الله عليه وآله)لعليّ(عليه السلام)قال : يا عليّ كفر بالله العظيم من هذه الاُمّة عشرة : القتّات ـ إلى أن قال : ـ وبائع السلاح من أهل الحرب(1) ; أي الحرب مع المسلمين والمقاتلين معهم ، والقتّات بالتشديد كما في مجمع البحرين(2) النـمّام المزوّر ، كما أنّه ربما يستعمل ويُراد به بائع القتّ; وهي الرطب من علف الدوابّ ويابسه ، والظاهر أنّ المناسب للحكم بالكفر ولو مجازاً الأوّل دون الثاني .
ورواية أبي القاسم الصيقل قال : كتبت إليه: إنّي رجل صيقل أشتري السيوف وأبيعها من السلطان ، أجائز لي بيعها ؟ فكتب(عليه السلام): لا بأس به(3) . والظاهر أنّ المراد من السلطان سلطان المسلمين وإن كان جائراً غير محقّ .
ورواية محمّد بن قيس قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما (أنبيعهما خ ل) السلاح؟ فقال : بعهما ما يكنّهما الدرع والخفّين ونحو هذا(4) .
ثمّ إنّ الشيخ(قدس سره) بعد أن ذكر أنّ الروايات الواردة في المقام على طوائف قال ما ملخّصه : أنّه يمكن الجمع بينها بحمل الطائفة المانعة على صورة قيام الحرب بينهم وبين المسلمين، وحمل الطائفة المجوّزة على صورة الهدنة وعدم المنازعة ، والشاهد
(1) الفقيه 4: 257 ح821 ، وعنه وسائل الشيعة 17: 103، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب8 ح7. (2) مجمع البحرين 3: 1437. (3) تهذيب الأحكام 6: 382 ح1128، وعنه وسائل الشيعة 17: 103، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب8 ح5. (4) الكافي 5: 113 ح3، تهذيب الأحكام 6: 354 ح1006، الاستبصار 3: 57 ح188، وعنها وسائل الشيعة 17: 102، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب8 ح3.
صفحه 131
للجمع هي ما يدلّ على التفصيل بين الحالتين(1) .
وكيف كان، فالقدر المسلّم المتحصّل من مجموع الروايات الحرمة في هذا الفرض; وهو بيع السلاح من أعداء الدِّين في حال المقاتلة والمنازعة مع المسلمين، وقد ترقّى في المتن إلى صورة المباينة مع المسلمين بحيث يخاف منهم عليهم وإن لم يكن بالفعل حرب في البين; لإطلاق بعض الروايات المانعة والشمول لهذه الصورة أيضاً، كصحيحة علي بن جعفر المتقدّمة الظاهرة في عدم جواز حمل السلاح إلى المشركين وإن لم نقل بثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة أصلاً، على أنّ في رواية أبي بكر الحضرمي المتقدّمة قد جعلت المباينة في مقابل الهدنة ، فيظهر منها أنّ تحقّق المباينة كاف في المنع، والتقييد في المتن بصورة الخوف لعلّه لأجل أنّه لا وجه لعدم الجواز، مع عدم تحقّق الخوف بوجه، كما لايخفى .
الفرض الثاني : في بيع السلاح من أعداء الدِّين في حال الهدنة وعدم المباينة، أو تحقّق الحرب بينهم بعضهم مع بعض ، والمحكي عن الشهيد(قدس سره) في حواشيه عدم الجواز; لأنّ فيه تقوية الكافر على المسلم، فلا يجوز على كلّ حال(2) .
وأورد عليه الشيخ(قدس سره) أوّلاً : بأنّه لا يمكن المساعدة على دليله ; لأنّ بيع السلاح من أعداء الدِّين قد لا يوجب تقويتهم على المسلمين; لإمكان كونه في حال الصلح، أو عند حربهم مع الكفّار الآخرين، أو كان مشروطاً بأن لا يسلّمه إيّاهم إلاّ بعد الحرب .
وثانياً : بأنّ رأيه هذا شبه اجتهاد في مقابل النصّ ; لأنّه أخذ بظهور المطلقات
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 148 ـ 149. (2) حكاه صاحب مفتاح الكرامة فى ج 12: 116 عن حواشي الشهيد على القواعد.
صفحه 132
الدالّة على المنع، وترك العمل بالمقيّد الذي هو نصّ في مفهومه; وهو وإن لم يكن اجتهاداً في مقابل النصّ ولكنّه شبيه بذلك .(1)
هذا ، وأجاب عن الإيراد على الشهيد بعض الأعلام(قدس سره) بوجوه :
الأوّل : أنّ ما جعله وجهاً للجمع بين المطلقات لا يصلح لذلك; فإنّ مورده هم الجائرون من سلاطين الإسلام، فتكون الطائفة الاُولى المفصّلة بين الهدنة وقيام الحرب مختصّة بغير الكفّار من المخالفين . وأمّا المطلقات فأجنبيّة عن الطائفة المفصّلة; لاختصاصها بأعداء الدِّين من الكفّار والمشركين .
الثاني : أنّه لا وجه لردّ كلام الشهيد تارةً برميه إلى شبه الاجتهاد في مقابل النصّ ، واُخرى بتضعيف دليله .
أمّا الأوّل: فلأنّه لا مناص هنا من العمل بالمطلقات; لعدم صلاحيّة الطائفة المفصّلة للتقييد .
وأمّا الثاني: فلأنّ تقوية شخص الكافر بالسقي ونحوه وإن كان جائزاً، إلاّ أنّ تقويته لجهة كفره غير جائزة قطعاً ، ومن الواضح أنّ تمكين المشركين من السلاح يوجب تقويتهم على المسلمين ، بل ربما يستقلّ العقل بقبح ذلك .
الثالث : أنّه قد أمر في الآية الشريفة {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة}(2) الآية بجمع الأسلحة وغيرها للاستعداد والتهيئة إلى إرهاب الكفّار ، فبيعها لهم ولو في حال الهدنة نقض للغرض فلايجوز . وأمّا ما دلّ على الجواز فلضعف سنده لا يصلح لتقييد الروايات المانعة(3) ، انتهى.
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 149. (2) سورة الأنفال 8 : 60. (3) مصباح الفقاهة 1: 304 ـ 305.
صفحه 133
أقول : العمدة في هذا الباب هي الآية الشريفة التي اُشير إليها، ومفادّها وجوب التهيّؤ والاستعداد في مقابل أعداء الدِّين بقصد الإرهاب والإخافة لهم، بحيث لم يروا أنفسهم محفوظين في مقابل المسلمين الذين أعدّوا عليهم ما استطاعوا من قوّة ومن رباط الخيل ، ولو كنّا نحن والآية الشريفة فقط لقلنا بأنّ الثابت في المقام حكم وجوبيّ إلزاميّ; إذ لا وجه للحكم بأنّ ترك الواجب محرّم وترك الحرام واجب شرعاً، وإلاّ يكون اللاّزم اجتماع حكمين في مورد ثبوت كلّ واحد منهما، وتحقّق استحقاق عقوبتين في صورة المخالفة ، ومن الواضح خلافه.
وهذا لا ينافي مثل صحيحة علي بن جعفر المتقدِّمة، خصوصاً مع القول بعدم ثبوت المفهوم للقضايا حتّى القضيّة الشرطيّة ، والتعبير بأهل الحرب في رواية الصدوق(1)، والنهي عن البيع في الفتنة في بعض الروايات الاُخر(2)، يحتمل قويّاً أن يكون المراد في معرض الحرب ولو شأناً، وإيقاع الفتنة كذلك; لأنّه مقتضى العداوة لهم بالإضافة إلى الله وإلى المسلمين، لا ثبوت المحاربة الفعليّة وتحقّق الفتنة كذلك .
وبعد ذلك يتحصّل لنا أنّ الحقّ مع الشهيد في هذا الفرض .
الفرض الثالث : ما ألحقه بالكفّار ممّن يعادي الفرقة المحقّة الإماميّة من سائر فرق المسلمين، كالحرب الواقع بين دولتنا بعد الثورة الإسلاميّة ـ التي قطعت عروق الطاغوت، وقابلت من يعاضده من القوى العالميّة ، ـ وبين دولة العراق ، وامتدّت هذه الحرب لثمان سنوات تقريباً ، و لقداستشهد فيها جمعٌ غفير من الشباب المؤمن وطائفة من النساء .
(1) المتقدّمة في ص130. (2) أي رواية السرّاج المتقدّمة في ص129.
صفحه 134
والظاهر أنّ الدليل على اللحوق ما يستفاد من الأدلّة المانعة التي في رأسها الآية المتقدِّمة الدالّة على لزوم حفظ أهل الحقّ ووقوع غيرهم في رهبة واضطراب.
ونفى البُعد في المتن التعدّي إلى قطّاع الطرق وأشباههم; وذلك لما ذكرنا من تزلزل المسلمين ووقوعهم في الخطر ـ مع تمكينهم من السلاح ـ الموجب لضعفهم وتزلزلهم .
ويمكن استفادة ذلك من الآية الواردة في جزاء المحاربين مع الله والرسول; وهو قوله ـ تعالى ـ : {إِنَّمَا جَزَ ؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُو وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَـف أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاَْرْضِ}(1) الآية ، نظراً إلى أنّ قطّاع الطريق مقصود من الآية ، إمّا بالخصوص أو بالعموم بالإضافة إلى كلّ مفسد في الأرض وإن لم يكن بقاطع للطريق.
وجه الاستفادة، أنّ الحكم المترتّب على الموضوع مرجعه إلى قطع السلطة عن المسلمين، وحصول الأمن لهم من جهة إجراء الحكم المذكور، وهو لا يكاد يجتمع مع جواز بيع السلاح لهم وجعله تحت اختيارهم، وإلاّ فمن الواضح أنّ مجرّد الارتكاب للحرام لا يستلزم ذلك، فلا ينتقض بمثل المرتدّ، ومن يجوز قصاصه، وأمثال ذلك، فتأمّل جيّداً .
كما أنّه نفى البُعد فيه عن بيع السلاح إلى بيع غيره منهم ممّا يكون سبباً لتقويتهم على أهل الحقّ، كالزاد والراحلة والحمولة وأشباهها ، ويستفاد التعميم من بعض الروايات المتقدِّمة، خصوصاً ما عطف فيها السلاح على السروج(2)، فتدبّر .
(1) سورة المائدة 5: 33. (2) في ص128.
صفحه 135
ويمكن دعوى إلغاء الخصوصيّة وإن لم يكن هناك ما يدلّ على التعميم .
ثمّ إنّه أفاد سيّدنا العلاّمة الماتن(قدس سره) في كلّ المسألة كلاماً مفصّلاً في كتابه في المكاسب المحرّمة ينبغي إيراده مع رعاية كمال التلخيص; لكثرة فوائده، سيّما مع ملاحظة شدّة ذوقه السياسي وحدّة بصره في الاُمور الاجتماعيّة ، قال بعد ذكر أنّ المراد بالسلاح ليس مطلق ما ينطبق عليه عنوانه كائناً ما كان ، بل ما كان سلاح الحرب فعلاً، وهو يختلف بحسب الأزمنة ، وبعد ذكر أنّ المراد من أعداء الدِّين هي الدولة المخالفة لا الأشخاص .
ثمّ اعلم أنّ هذا الأمر ـ أي بيع السلاح من أعداء الدِّين ـ من الاُمور السياسية التابعة لمصالح اليوم، فربما تقتضي مصالح المسلمين بيع السلاح، بل إعطاءه مجّاناً لطائفة من الكفّار.
وذلك مثل ما إذا هجم على حوزة الإسلام عدوّ قويّ لا يمكن دفعه إلاّ بتسليح هذه الطائفة التي يكون المسلمون في أمن منهم، وربما تقتضي المصالح ترك بيع السلاح وغيره ممّا يتقوّى به الكفّار مطلقاً; سواء كان موقع قيام الحرب أو التهيّؤ له، أم زمان الهدنة والصلح والمعاقدة.
والوجه في الأخير احتمال أنّ تقويتهم موجب للهجمة على بلاد المسلمين ولو بعد حين; فإنّ هذا الاحتمال منجّز بالإضافة إلى هذا الأمر الخطير، ولا فرق في ذلك بين الخوف على حوزة الإسلام من غير المسلمين، أو على حوزة حكومة الشيعة من غيرها ولو كان هو المخالفين .
وبالجملة: إنّ هذا الأمر من شؤون الحكومة، وليس أمراً مضبوطاً، بل تابع لمصلحة اليوم، فلا الهدنة موضوع مطلقاً لدى العقل، ولا المشرك والكافر كذلك .
فالتمسّك بالاُصول والقواعد الظاهريّة في مثل المقام في غير محلّه.
صفحه 136
والظاهر عدم استفادة شيء زائد من الأخبار الواردة في هذا المجال، ولو فرض خلاف ذلك فلا مناص عن تقييده أو طرحه .
ثمّ شرع في بيان أنّ الأخبار التي استدلّ بها على التفصيل ـ تارةً: بين زمان الهدنة وغيره مطلقاً، واُخرى: على التفصيل كذلك بين المخالفين والكفّار ـ قاصرة عن إثبات هذا التفصيل في المقامين، واستنتج أنّه لا يمكن القول بالجواز بمجرّد عدم الحرب والهدنة ، بل لابدّ من النظر إلى مقتضيات اليوم وصلاح المسلمين والملّة ، فلايستفاد أمر زائد عمّا هو مقتضى حكم العقل ، كما أنّ رواية عليّ بن جعفر(عليه السلام)(1)ورواية الصدوق(2) المشتملة على وصية النبيّ(صلى الله عليه وآله) لعليّ(عليه السلام) لا دلالة لهما على عدم الجواز منهم مطلقاً; لأنّ التحقيق عدم إطلاقهما .
ثمّ بيّن الوجه في ذلك ، ثمّ قال : فالمتحصّل من الروايات عدم الفرق بين المخالفين وغيرهم في الحكم، وعدم التفصيل بين الهدنة والمحاربة، كما نسب إلى المشهور(3) ، انتهى ملخّصاً .
ولعلّ كلامه في المتن ناظر إلى هذا الأمر الذي أفاده ، والوجه في عدم التعليق على رعاية المصالح في صورة المباينة واضح .
هذا ، ويستفاد من كلامه المتين أنّ المسائل الفقهيّة لا تكون على نسق واحد وفي سياق واحد ، بل مع ملاحظة الموضوعات واختلافها يختلف الحكم، فليست مسائل الجهاد مثلاً في رديف مسائل الطهارة والنجاسة في إجراء مثل قاعدة الإطلاق والتقييد بمجرّد ظهور أدلّتها بدواً في ذلك ، بل لابدّ من ملاحظة
(1، 2) تقدّمتا في ص129 ـ 130. (3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 226 ـ 232.
صفحه 137
الخصوصيّات ، ولا يرجع هذا إلى القياس والاستحسان .
ثمّ إنّه مع هذه الرؤية التي لاحظتها في بيع السلاح من أعداء الدِّين تعلم أنّ مقتضى حكم العقل ـ الذي يؤيّده بعض الأخبار المتقدّمة ـ أنّ كلّ ما يوجب تقوية أعداء الله وأعداء الشيعة محكوم بالحرمة وعدم الجواز وإن لم يكن مرتبطاً ببيع السلاح بالمعنى الذي ذكره ، فنقل أسرار المسلمين في أبعاده المختلفة إليهم، وصيرورة المسلم جاسوساً لهم ناقلاً الأخبار إليهم كذلك .
كما أنّ جعل الإمكانات الماليّة والإعانة لهم من هذه الحيثيّة كذلك، وأولى من ذلك بيع النفط لهم وتمكينهم منه الموجب لإمكان استفادتهم من كثير من تجهيزاتهم ، ومن الأسف عدم توجّه كثير من رؤساء البلدان الإسلاميّة إلى هذه الجهة في زماننا بالإضافة إلى إسرائيل الغاصب الجاني غايته، بحيث يكون عديم النظر في التاريخ .
كما أنّ ترويجهم وإيجاد الرعب لهم في قلوب المسلمين، الموجب لخوفهم وتقوّي الأعداء، كذلك إذا كان الغرض متعلّقاً بذلك .
وكذلك تضعيف عقائد المسلمين، وإيجاد التزلزل والاضطراب بينهم، والتشكيك فيما يعتقدونه، والطعن في قداسة الروحانيّين وشخصيّاتهم، والاتّهام بالإضافة إلى المسؤولين الموجب لضعف عقيدتهم تجاه الثورة الإسلاميّة .
ومن هذا الباب الإعانة لهم في نشر التوطئة والتمهيد للمقدّمات التي تقرّبهم إلى الوصول إلى مقاصدهم المنحرفة .
ويدخل في هذا القسم بعض المطبوعات حيث ينشرون الأكاذيب، والنسل الحديث لأجل صغر سنّه وعدم دركه الصحيح ربما يتأثّر من هذه الاُمور ويتخيّل ثبوت الحقيقة والواقعيّة له، خصوصاً مع أنّ جملة من متنوّري الفكر بحسب
صفحه 138
الاصطلاح قد مضى كثير من عمرهم في الجامعات الأمريكيّة والأوروبيّة المضادّة بطبعها للإسلام والمسلمين ، فاللاّزم على المسلم في هذا اليوم الالتفات إلى عمق هذه الاُمور ورعاية أنظارهم ومقاصدهم.
وممّا يؤسّف عليه عدم الالتفات إلى ذلك من كثير ممّن لاقيناه ورأيناه في العديد من البلدان الإسلاميّة ، المفتقرة إلى الوحدة و الاتّحاد صوناً لبلادهم من تجاوز الأجانب ودسائس المشركين ، ومع ذلك نرى أنّ خطيب صلاة الجمعة في مسجد النبيّ(صلى الله عليه وآله) وفي محضره يواجه الشيعة الإماميّة ويتّهمهم بالشرك والخروج عن دائرة الإسلام، مع أنّهم شاركوا الناس في الصلاة ولم يكن غرضهم إلاّ الإتيان بالحجّ أو العمرة المفردة اللّتين هما من العبادات الاجتماعيّة الإسلاميّة سيّما الحجّ ، عجباً من هذا الجهل والعناد وعدم التوجّه إلى ما يقولون، وإلى أنّ مثل هذا الأمر غاية مراد المشركين المريدين للاختلاف الموجب لتحقّق السيادة لأعدائهم ، وقد شاعت هذه الجملة من الأعداء، فرّق تسد ، نستعين بالله عليهم وعلى مقاصدهم السيّئة، ونعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
صفحه 139
تصوير ذوات الأرواح و غيرها و بيع الصور المحرّمة واقتناؤها
مسألة 12 : يحرم تصوير ذوات الأرواح من الإنسان والحيوان إذا كانت الصورة مجسّمة، كالمعمولة من الأحجار والفلزات والأخشاب ونحوها ، والأقوى جوازه مع عدم التجسيم وإن كان الأحوط تركه . ويجوز تصوير غير ذوات الأرواح، كالأشجار والأوراد ونحوها ولو مع التجسيم، ولا فرق بين أنحاء التصوير من النقش والتخطيط والتطريز والحك وغير ذلك .
ويجوز التصوير المتداول في زماننا بالآلات المتداولة ، بل الظاهر أنّه ليس من التصوير . وكما يحرم عمل التصوير من ذوات الأرواح مجسّمة، يحرم التكسّب به وأخذ الاُجرة عليه .
هذا كلّه في عمل الصور ، وأمّا بيعها واقتناؤها واستعمالها والنظر إليها، فالأقوى جوازذلك كلّه حتّى المجسّمات. نعم، يكره اقتناؤهاوإمساكهافي البيت1.
1 ـ في هذه المسألة أيضاً فروع :
الأوّل :تصوير ذوات الأرواح من الإنسان والحيوان مع كون الصورة مجسّمة، كالأمثلة المذكورة في المتن، وقد حكم فيه في المتن بالحرمة، والظاهر أنّه لا خلاف في حرمته بين الأصحاب(1) ، بل ربما ادّعي عليه الإجماع(2) ، وهذا الفرع هو القدر المتيقّن من الروايات الدالّة على الحرمة، كقول علي(عليه السلام) : إيّاكم وعمل الصور; فتسألوا(3) عنها يوم القيامة .(4)
(1) كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 1: 427، جواهر الكلام 22: 41. (2) جامع المقاصد 4: 23، مجمع الفائدة والبرهان 8 : 56 ـ 57، رياض المسائل 8 : 58، جواهر الكلام 22: 41. (3) فى المستدرك: فانّكم تسألون، بدل «فتسألون». (4) الخصال: 635 قطعة من ح 10، و عنه بحارالأنوار 10: 113 قطعة من ح 1 ومستدرك الوسائل 13: 210، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب75 ح1
صفحه 140
والنبويّ المحكي عن سنن البيهقي ; إنّ أشدّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصوّرون(1) . ومثله ما عن الصحيحين: البخاري ومسلم(2) .
هذا ، ولكنّه أفاد الماتن(قدس سره) أنّ هذه التوعيدات والتشديدات لاتناسب مطلق عمل المجسّمة، أو تنقيش الصور; ضرورة أنّ عملها لايكون أعظم من قتل النفس المحترمة، أو الزنا، أو اللواط، أو شرب الخمر ومثلها من الكبائر .
واستظهر أنّ المراد منها تصوير التماثيل التي هم لها عاكفون (3)، كما أنّه يحتمل أن يكون المراد من قوله(صلى الله عليه وآله) : «المصوّرون» القائلين بالصورة والتخطيط في الله تعالى، كما هو مذهب معروف في ذلك العصر .
ثمّ قال: والمظنون الموافق للاعتبار وطباع الناس، أنّ جمعاً من الأعراب بعد هدم أساس كفرهم وكسر أصنامهم بيد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأمره كانت علقتهم بتلك الصور والتماثيل باقية في سرّ قلوبهم، فصنعوا أمثالها حفظاً لآثار أسلافهم وحبّاً لبقائها، كما نرى حتّى يومنا هذا علاقة جمع بحفظ الآثار المجوسيّة وعبدة النيران في هذه البلاد حفظاً لآثار أجدادهم ، فنهى النبيّ(صلى الله عليه وآله) عنه بتلك التشديدات والتوعيدات قمعاً لأساس الكفر ومادّة الزندقة، ودفعاً عن حوزة التوحيد(4) ، انتهى .
(1) السنن الكبرى للبيهقي 11: 78 ـ 79، أبواب الوليمة، باب التشديد في المنع من التصوير ح14932. (2) صحيح البخاري 7: 85 ب89 ح5950، وصحيح مسلم 3: 1330 ح2109. وقد رواه الحميدي في المسند 1: 65 ح117، وابن أبي شيبة في المصنّف 6: 73 ب71 ح2، وابن حنبل في المسند 2: 8 ح3558 وص114 ح4050، والنسائي في السنن 8 : 216، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4: 286. (3) سورة الأنبياء 21: 52. (4) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 257 ـ 258.
صفحه 141
أقول : الظاهر أنّ المصوّرين كما يستفاد من اللغة هم جماعة قائلون بثبوت الصورة لله ـ تعالى ـ وتجسيمه، ولايبعد أن يُقال: إنّ حرمة التصوير في هذا الفرع الذي نحن فيه كان لنكتة عدم تشابه الخلق مع الخالق، وإيجاد الانصراف للناس عن صنع المجسّمة; لئلاّ ينتهون إلى صنع الأصنام ويرجعون إلى ما كانوا عليه ، وهذه النكتة موجودة بالإضافة إلى زماننا الذي لم يكن مسبوقاً بالجاهليّة وعبادة الأصنام وإن كان يوجد قليلاً في بعض الممالك كالهند ونحوه .
ثمّ إنّه مع ذلك لابدّ من ملاحظة سائر الروايات الواردة في المقام ، فنقول :
منها : رواية ابن القدّاح، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : بعثني رسول الله(صلى الله عليه وآله) في هدم القبور وكسر الصور(1) . هذا، وفي طريقها سهل .
ومنها : رواية السكوني، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : بعثني رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة فقال : لا تدع صورة إلاّ محوتها، ولا قبراً إلاّ سوّيته، ولا كلباً إلاّ قتلته(2) .
والظاهر أنّ بعث الرسول عليّاً ـ عليهما الصلاة والسلام ـ كان قبل ورود شخصه(صلى الله عليه وآله) إليها، وأنّ الصور التي أمر بمحوها هي الأصنام وهياكل العبادة المبتدعة; لأجل عدم خروج المدينة عن الجاهليّة بعد وجود تلك الصور فيها
(1) الكافي 6: 528 ح11، المحاسن 2: 453 ح2562، وعنهما وسائل الشيعة 3: 211، كتاب الطهارة، أبواب الدفن ب44 ح6، وج5: 305، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن ب3 ح7، و في بحارالأنوار 79: 286 ح3 عن المحاسن. (2) الكافي 6: 528 ح14، المحاسن 2: 453 ح2561، وعنهما وسائل الشيعة 3: 209، كتاب الطهارة، أبواب الدفن ب43 ح2، وج5: 306، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن ب3 ح8 ، وفي بحارالأنوار 64: 267 ح26 وج79: 286 ح2 عن المحاسن.
صفحه 142
على القاعدة .
ويؤيّده أنّه لو كانت الصورة عبارة عمّا ذكرنا لما كان إفناؤها وإعدامها واجباً، كما قد صرّح به في ذيل المسألة من أنّ المحرّم هو عمل الصور لا الاقتناء والنظر، بل البيع والشراء ، فالنهي عن الإبقاء دليل على أنّ المراد غير ما ذكرنا ، فتدبّر جيّداً .
وقد نفى البُعد عن أن يكون المراد بالكلب في الرواية الثانية بكسر اللاّم وهو الذي عرضه داء الكلب; وهو داء شبه الجنون يعرضه، فإذا عضّ إنساناً عرضه ذلك الداء(1) .
كما أنّه ربما يقال : إنّ الأمر بهدم القبور إنّما هو لأجل تعظيم الناس إيّاها بنحو العبادة للأصنام وكانوا يسجدون عليها، كما يشعر به بعض الروايات الناهية عن اتّخاذ قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله) قبلة ومسجداً. كما فعله اليهود، حيث اتّخذوا قبور أنبياءهم مساجد(2)،(3).
ومنها: طائفة من الروايات الواردة في تفسير قوله ـ تعالى ـ : (يَعْمَلُونَ لَهُو مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـرِيبَ وَ تَمَـثِيلَ وَ جِفَان كَالْجَوَابِ)(4) مثل ما رواه الفضل أبوالعبّاس قال: قلت لأبي جعفر(عليه السلام): قول الله ـ عزّوجلّ ـ : (يَعْمَلون لَه مَا يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثيلَ وَ جفان كَالجَواب)، قال : ما هي تماثيل الرجال والنساء، ولكنّها تماثيل
(1) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(قدس سره) 1: 259. (2) الفقيه 1: 114 ح532، علل الشرائع: 358 ب75 ح1، وعنهما وسائل الشيعة 3: 235، كتاب الطهارة، أبواب الدفن ب65 ح2، وج5: 161، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب26 ح3 و 5، وفي بحار الأنوار 82 : 20 عن الفقيه ، وفي ج83 : 313 ح4 وج100 : 128 ح7 عن العلل. (3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 259. (4) سورة سبأ 34: 13.
صفحه 143
الشجر وشبهه(1) . وفي بعضها التصدير بالقسم(2) الموجب لحصول التأكّد الشديد بالإضافة إلى ذلك .
ومنها : مرسل ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : من مثّل تمثالاً كلّف يوم القيامة أن ينفخ فيه الروح(3) .
فإنّ ظاهره البدوي وإن كان هو الشمول لمطلق التمثال، ولا مانع من ذلك في نفسه، كما حكي لنا من صيرورة نقش الأسد على الستر أسداً بأمر الإمام(عليه السلام)، وأكله المستهزئ له بأمره ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ المراد صورة وجود النقص من هذه الجهة وإن كان فيه الكمال من جهات اُخر، كالجسميّة ونحوها .
والحكاية على ما روي عن البحار، عن علي بن يقطين قال : استدعى الرشيد رجلاً يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) ويقطعه ويخجله في المجلس، فانتدب له رجل معزّم(4) ، فلمّا اُحضرت المائدة عمل ناموساً(5) على الخبز، فكان كلّما رام خادم أبي الحسن(عليه السلام) تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه، واستفزّ(6)
(1) الكافي 6: 476 ح3، وعنه وسائل الشيعة 5: 305، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن ب3 ح6 ومرآة العقول 22: 367 ح3. (2) الكافي 6: 527 ح7، المحاسن 2: 458 ح2580، وعنهما وسائل الشيعة 5: 304، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن ب3 ح4، وج17: 296، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب94 ح1، وبحار الأنوار 14: 74 ح15 وج79: 288 ح10. (3) الكافي 6: 527 ح4، المحاسن 2: 455 ح2569، وعنهما وسائل الشيعة 5: 304، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن ب3 ح2، وفي بحارالأنوار 79: 287 ح5 عن المحاسن، وفي مرآة العقول 22: 438 ح4 عن الكافي. (4) المعزَّم: الراقي الذي يعمل بالعزيمة، والرّقى لنفع أو ضرر. (5) الناموس: ما يتنمَّس به من الاحتيال. (6) استفزّه الضحك: استخفّه وغلب عليه حتّى جعله يضطرب لشدّة ضحكه.
صفحه 144
هارون الفرح والضحك لذلك، فلم يلبث أبو الحسن(عليه السلام) أن رفع رأسه إلى أسد مصوّر على بعض الستور، فقال له : يا أسد الله خذ عدوّ الله . قال: فوثبت تلك الصورة كأعظم ما يكون من السباع، فافترست ذلك المعزّم، فخرَّ هارون وندماؤه على وجوههم مغشيّاً عليهم، وطارت عقولهم خوفاً من هول ما رأوه ، الخبر (1).
فمفاد الرواية إلزامه بنفخ الروح فيمن مثّل التمثال لأجل أن يصير كاملاً، والمفروض أنّه غير قادر على ذلك; لأنّ إفاضة الروح إنّما هي له تعالى ، فالأمر وإن كان للتعجيز، إلاّ أنّ العجز بلحاظ ما ذكر لا من جهة عدم قابليّة المحلّ .
ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر ؟ فقال : لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان(2) .
والظاهر أنّ ذكر الشمس والقمر قرينة على أنّ المراد بالتماثيل هي التماثيل غير المجسّمة، فتدبّر .
وعلى تقدير الإطلاق فمقتضى القدر المتيقّن من الإطلاق ما ذكرنا وإن قلنا بعدم ثبوت المفهوم أصلاً .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه في هذا الفرع حرمة التصوير، وأنّه لا إشكال فيها في هذه الصورة وإن لم نقل بالاختصاص .
ثمّ الظاهر أنّ المراد بالمجسّمة المحرّمة من ذوات الأرواح هي ما كانت حاكية ظاهراً عن موجود متّصف بما ذكر، لا ما كانت مشتملة على جميع أجزائه سوى
(1) بحار الأنوار 48: 41 ـ 42 ح17 و 18 عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 96 ب8 ح1 وأمالي الصدوق: 212 ح236 ومناقب آل أبي طالب(عليهم السلام) 4: 299. (2) المحاسن 2: 458 ح2581، وعنه وسائل الشيعة 17: 296، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب94 ح3 وبحار الأنوار 79: 288 ح11، وفي ج76: 160 ح11 عن مكارم الأخلاق 1: 287 ح891 .
صفحه 145
الروح، حتّى ما في بطنه من الأمعاء والأحشاء والقلب والرية وغيرها ، وما في مخّه من المغز وشبهه; فإنّه من الضروري عدم إمكان ذلك، خصوصاً بالإضافة إلى العروق الدّمية الكبيرة والصغيرة التي لعلّها لا تحصى .
كما أنّ الظاهر أنّه ليس المراد بالمجسّمة هي الكاملة من حيث الظاهر، فإذا كانت حاكية عن جملة كبيرة من البدن ـ مثل الرأس والوجه واليدين والبطن فقط ـ تكون محرّمة، كما نراها في هذه الأزمنة في الداخل والخارج ، وما ورد من الروايات بالإضافة إلى قطع الرأس أو التغيير من جهة اُخرى(1); فإنّما هو بالنسبة إلى البيت الذي يصلّى فيه ، والكلام في المقام في الصنع والتصوير، فلا ارتباط له بذلك المقام أصلاً، كما لايخفى .
ثمّ الظاهر أنّ الوجه في حرمة المجسّمة في الفرع المذكور غير معلوم لنا ، فالتشابه
(1) المحاسن 2: 459 ح2584، وعنه بحار الأنوار 83 : 288 ملحق ح1. وفي ج76: 288 ح15 وج83 : 245 عن مكارم الأخلاق 1: 286 ح890. وفي وسائل الشيعة 4: 440، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب45 ح13 وملاذ الأخيار 4: 587 ب17 ح35 عن تهذيب الأحكام 2: 363 ح1503، وفي ص441 ـ 442 ح18، 20 و 21 وبحارالأنوار 83 : 288 ملحق ح1 وص290 ملحق ح3 عن قرب الإسناد: 185 ـ 186 ح690، 692 و 693. وفي ج5: 171، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب32 ح5 ومنتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان 1: 492 عن الكافي 6: 527 ح9. وفي ص173 ح10 و 12 وبحارالأنوار 83 : 290 ملحق ح3 وج79: 288 ح14 عن قرب الإسناد 205: ح793 والمحاسن 2: 459 ح2587. وفي وسائل الشيعة 5: 308، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن ب4 ح3 عن الكافي 6: 527 ح8 والمحاسن 2: 458 ح2583، وفي بحار الأنوار 76: 160 ح9 عن المحاسن. وفي ص309 ح7 عن مكارم الأخلاق 1: 286 ح887. ورواه عليّ بن جعفر في مسائله : 226 ح516.
صفحه 146
لعمل الخالق، أو الانجرار إلى تصوير الأصنام ومثل ذلك، لا يصلح لأن يكون علّة بعد عدم قيام الدليل على حرمة مطلق التشابه، خصوصاً مع ما نراه بالوجدان من وجود الحيوانات المصنوعيّة كثيراً ، ومع العلم بعدم الانجرار إلى صنع الأصنام نوعاً .
الفرع الثاني : تصوير ذوات الأرواح من دون تجسّم، وقد قوّى المتن فيه الجواز مع جعل الاحتياط الاستحبابي في الترك ، وقد استدلّ على المنع في كلام الشيخ الأنصاري(قدس سره)(1) بوجوه :
منها : ما يدلّ على النهي عن تزويق البيوت; وهي رواية أبي بصير ـ غير المعتبرة على أحد الطريقين ـ عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : أتاني جبرئيل وقال : يا محمّد إنّ ربّك يقرئك السلام وينهى عن تزويق البيوت .
قال أبو بصير : فقلت : وما تزويق البيوت؟ فقال : تصاوير التماثيل(2) .
ورواه صاحب الوسائل في باب واحد متعدّداً(3) مع اختلاف يسير ، ومن الواضح وحدة الرواية لا تعدّدها كما نبّهنا على مثل ذلك مراراً ، والتزويق بمعنى النقش والتزيين .
هذا ، ولكنّ الظاهر عدم انطباق الرواية على المقام; لأنّ الكلام فيه إنّما هو في
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 183 ـ 184. (2) الكافي 6: 526 ح1، المحاسن 2: 453 ح2564، وعنهما وسائل الشيعة 5: 303، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن ب3 ح1، وفي بحار الأنوار 76: 159 ح2 عن المحاسن، وفي مرآة العقول 22: 437 ح1 عن الكافي. (3) المحاسن 2: 453 ح2563، وعنه وسائل الشيعة 5: 307، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن ب3 ح11 وبحار الأنوار 79: 286 ح4.
صفحه 147
صدور الصورة من المصوّر مباشرة ; بمعنى أنّ البحث إنّما هو في حرمة التصوير وإيجاده بعد انعدامه في أيّ محلّ وموضع ولو كان قرطاساً ، والنهي في الرواية إنّما هو عن خصوص النقش على البيوت ، ولعلّ الاختصاص كان لأجل كونه مركزاً للصلاة ، والنقش يقدح في كمال التوجّه الذي هو الغرض من الصلاة وعباديّتها ، مع أنّه لا يلزم أن يكون التزويق المنهي عنه بالمباشرة، بل هو مثل قوله(عليه السلام) من بنى مسجداً فله كذا(1) ، حيث لا يعتبر في صدقه اشتغاله بالبناء وسائر الأعمال بالمباشرة ، كلّ ذلك على فرض دلالة كلمة النهي على الحرمة ، مع أنّه يحتمل فيه الكراهة، كما قد وقع التعبير بها في بعض الروايات الاُخر(2) .
وبالجملة: الظاهر عدم صلاحيّة الرواية لإثبات الحرمة في مفروض المقام، كما عرفت .
ومنها : الفقرة التي تشتمل عليها رواية تحف العقول الطويلة ـ التي أثبتنا اعتبارها من طريق خفيّ(3) ـ وهي قوله(عليه السلام) : وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن
(1) وسائل الشيعة 5: 203 ـ 205 ح1، 2، 4 و 6 عن الكافي والتهذيب والمحاسن والفقيه وعقاب الأعمال. وفي بحار الأنوار 8 : 192 ح173 وج76: 369 قطعة من ح30 وج83 : 368 ح25 عن ثواب الأعمال. وفي ج69: 382 ح44 وج77: 123 ح20 وج84 : 4 ملحق ح76 عن أمالي الطوسي. وفي ج84 أيضاً: 11 ح86 عن المحاسن. وفي مستدرك الوسائل 3: 366 ـ 367 ح1، 2 و 5 عن دعائم الإسلام وأمالي الطوسي ولبّ اللباب. (2) وسائل الشيعة 3: 211، كتاب الطهارة، أبواب الدفن ب44 ح3، وج4: 440، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب45 ح14، وج5: 170، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب32 ح3 وص304ـ 307، أبواب المساكن ب3 ح3، 9، 13 و 14 وغيرها ، من أراد فليراجع الوسائل والبحار وغيرهما. (3) في ص13 ـ 15.
صفحه 148
مِثال(1) الروحاني(2) ; نظراً إلى أنّ المراد بالروحاني مطلق ما فيه روح من الإنسان أو الحيوان ، وكلمة «مثال» أعمّ من المجسّمة وغيرها ، مع أنّ كلاهما في محلّ النظر ، بل المنع; فإنّ إرادة الروحاني بنحو ما ذكر ممّا لايكون معهوداً في الأخبار، كما أفاده السيّد المحقّق الماتن(قدس سره) في مكاسبه المحرّمة(3) .
بل المحتمل، بل الظاهر أنّ المراد به هو الموجود الذي غلب فيه الجهات الروحانيّة مقابل الجسمانية ، ولذا يطلق الروحاني على العالم الديني العامل بأحكامه من جهة شدّة اعتنائه بالاُمور الاُخرويّة وإن كان هذا الإطلاق مخالفاً للأدبيّة العربيّة ظاهراً ، مع أنّ الظاهر عدم ثبوت المفهوم للقضايا ولو الشرطيّة، كما ذكرنا مراراً .
مضافاً إلى أنّ شمول كلمة المثال للصورة الخالية عن الجسميّة غير معلوم ، ولذا عرفت في الرواية المتقدِّمة تفسير التزويق بتصاوير التماثيل، الظاهر في كون التماثيل مجسّمة، كما لايخفى .
وكما لعلّه يظهر من قوله ـ تعالى ـ حكاية : { مَا هَـذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَـكِفُونَ}(4) .
ومنها : ما رواه الصدوق عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي قال :
(1) كذا في مفتاح الكرامة 12:162 و رياض المسائل 8 :58 و مستند الشيعة 14: 107 و جواهر الكلام 22: 42 و المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 184 و فى بعض كتب اُخر، لكن لم أعثر عليه فى نسخ تحف العقول التى لاحظتها، بل فيها و فى أكثر الكتب: «مثل الروحانى». (2) تحف العقول : 335، وعنه وسائل الشيعة 17: 85 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب2 قطعة من ح1 وبحار الأنوار 103: 48 قطعة من ح11. (3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 273 ـ 274. (4) سورة الأنبياء 21: 52.
صفحه 149
نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن التصاوير، وقال : نهى أن يحرق شيء من الحيوان بالنار ، ونهى عن التختّم بخاتم صفر أو حديد ، ونهى أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ضعف السند كما اعترف به بعض الأعلام(قدس سره)(2)ـ : ماذكرناه سابقاً(3) من أنّ الظاهر أن يكون المورد صورة قابليّة المحلّ لنفخ الروح لأجل كونه جسماً خالياً عن الروح فقط .
والتوجيهان المذكوران في كلام الشيخ الأنصاري(قدس سره)في قضيّة أمر الإمام(عليه السلام)بنقش الأسد المنقوش على الستار، بافتراس الساحر الموجب للاستهزاء، بقوله(عليه السلام)على ما هو المحكيّ: «يا أسد الله خذ عدوّ الله»، وصيرورة النقش أسداً مفترساً من كون ذلك بملاحظة المحلّ وهو الستار، أو بملاحظة اللون الذي هو في الحقيقة ذرّات وأجسام لطيفة، خارجان عمّا هو المتفاهم عرفاً من هذه الرواية، كما اعترف نفسه(قدس سره)بأنّ إرادة التجسيم مقدّمة للنفخ ، ثمّ النفخ خلاف الظاهر(4) .
وأمّا ما في ذيل الرواية من النهي عن «أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم» فلعلّه لأجل كون الخاتم ملازماً للإنسان غالباً في الصلاة وغيرها ، ويمكن أن يكون الوجه هو منعه عن التوجّه المطلوب في الصلاة، كما في الصلاة في بيت فيه نقش ، فتدبّر .
(1) الفقيه 4: 3 و 5 ح1، وعنه وسائل الشيعة 17: 297، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب94 ح6، وروضة المتّقين 9: 339، 340 و 350، وفي بحارالأنوار 76: 329 و 331 عن أمالي الصدوق: 510 و 512. (2) مصباح الفقاهة 1: 358 هامش الصفحة. (3) في ص142 ـ 144. (4) كتاب المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 184.
صفحه 150
ثمّ إنّه سيأتي البحث عن المراد بالحيوان المذكور في هذه الرواية، وفي بعض الروايات الاُخر إن شاء الله تعالى .
الفرع الثالث : تصوير غير ذوات الأرواح شجراً كان أو ورداً أو غيرهما ، والظاهر أنّه لا مجال للإشكال في جوازه ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى أنّ الجواز مقتضى القاعدة، بعد عدم ثبوت ما يدلّ على حرمة التصوير بنحو الإطلاق ـ الروايات الخاصّة الصريحة في الجواز، مقيّدة للإطلاق على فرض ثبوته سنداً ودلالةً ، مثل :
صحيحة زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : لا بأس بتماثيل الشجر(1) .
والظاهر أنّه لا خصوصيّة للشجر ، بل المراد مطلق غير ذوات الأرواح، مثل الإنسان والحيوان .
وصحيحة أبي العبّاس البقباق، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في قول الله ـ عزّوجلّ ـ : { يَعْمَلُونَ لَهُو مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـرِيبَ وَ تَمَـثِيلَ}(2) قال : والله ما هي تماثيل الرجال والنساء، ولكنّها الشجر وشبهه(3) ; فإنّ مقتضى المقابلة أن يكون المراد بالرجال والنساء مطلق الحيوان وما له روح، أعمّ من الإنسان وغيره .
وصحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ فقال : لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان(4) .
والمراد هو الحيوان المنطقي أعمّ من الإنسان، فيشمل كلّ حسّاس متحرّك بالإرادة ، ولا غرو في المنع عن ثبوت المفهوم بعد دلالة ظهور المنطوق على الجواز
(1) المحاسن 2: 458 ح2582، وعنه وسائل الشيعة 17: 296، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب94 ح2 وبحار الأنوار 79: 288 ح12. (2) سورة سبأ 34: 13. (3 ، 4) تقدّمتا في ص142 ـ 144.
صفحه 151
في صورة العدم، وهو المطلوب .
ومع ذلك استظهر الشيخ الأعظم الأنصاري عن جماعة تعميم الحكم لغير ذي الروح ولو لم يكن مجسّماً(1); لبعض الإطلاقات التي يجب تقييدها بمثل الروايات المتقدّمة، ولو لم يناقش في سندها أو دلالتها ، كما أنّه استظهر من بعض حرمة التصوير بنحو التجسيم ولو لم يكن من ذوات الأرواح; لتعبيره بالتماثيل المجسّمة(2) . ودعوى كون التمثال أعمّ من الحيوان .
وأورد عليه بأنّ هذا الظهور لو اعتبر لسقط الإطلاقات عن نهوضها لإثبات حرمة المجسّم ، فاللازم تعيّن الحمل على الكراهة، دون التخصيص بالمجسّمة(3) .
أقول : مضافاً إلى ضعف الإطلاقات من حيث السند، كما عرفت .
بقي الكلام بعد الفروع الثلاثة في أمر وقع التعرّض له في جملة من كتب أساطين الفقه، وهو حرمة تصوير الملك، والجنّ، والشيطان الذي كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه، كما في الكتاب العزيز(4) نفياً وإثباتاً ; فإنّ الظاهر وجود قولين فيها :
أحدهما: الحرمة، وهي المحكيّة عن بعض شروح القواعد(5)، واستظهرها صاحب الجواهر (6).
(1) الكافي في الفقه: 281، المهذّب لابن البرّاج: 1:344، السرائر 2: 215، الروضة البهيّة 3: 212، رياض المسائل 8 : 61. (2) المقنعة: 587، النهاية: 363، المراسم العلويّة في الأحكام النبويّة: 172، إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: 246. (3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 187 ـ 188. (4) سورة الكهف 18: 50. (5) مفتاح الكرامة 12: 166، شرح القواعد، كتاب المتاجر لكاشف الغطاء 1: 191. (6) جواهر الكلام 22: 43.
صفحه 152
ثانيهما: العدم .
قال السيّد في حاشية المكاسب ما ملخّصه : إنّ مبنى المسألة بعد وجود العمومات فيها اختلاف ما يدلّ على الترخيص ; ففي صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة(1) قوله(عليه السلام) في الجواب عن السؤال عن تماثيل الشجر والشمس والقمر «لابأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان» .
وفي رواية تحف العقول(2) ـ غير المعتبرة عندهم وإن ذكرنا طريقاً لاعتبارها(3): وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل (مثال خ ل) الروحاني ، فمقتضى الاُولى الجواز بناءً على عدم كونهما من الحيوان ، ومقتضى الثاني المنع لصدق الروحاني عليهما .
وحيث إنّ كلا الدليلين مشتملان على عقد تحريميّ وعقد ترخيصيّ، يقع بينهما التنافي والتعارض، وإن كان العموم والخصوص خارجين عن موضوع المتعارضين في عالم جعل القانون، وإن كان بينهما التعارض بحسب المنطق; لأنّ نقيض الموجبة الكلّية هي السالبة الجزئيّة، ونقيض السالبة الكلّية هي الموجبة الجزئيّة، إلاّ أنّه لا تعارض بينهما عند العقلاء في مقام التقنين.
والتعارض في المقام إنّما هو بين منطوق الصحيحة ومفهوم الرواية بالعموم من وجه بعد ثبوت المفهوم في المقام، وإن كان مفهوم اللقب لوقوعهما في مقام التحديد ، فالنتيجة حينئذ هو القول بالجواز، لا لتقديم الصحيحة من جهة دلالتها بالمنطوق; لعدم قصور مفهوم الحدّ عنه في الظهور ، بل لكونها أقوى من حيث السند ، وعلى
(1) في ص: 144. (2) تقدّمت في ص147 - 148. (3) في ص13 ـ 15.
صفحه 153
فرض التكافؤ فالحكم التخيير ولازمه الجواز .
ولكن يمكن تقوية المنع بوجهين :
أحدهما : أنّ المتعارف من تصوير الجنّ والملك ما هو بشكل واحد من الحيوانات، فيحرم من هذه الجهة بناءً على عدم اعتبار قصد كونه حيواناً، مع فرض العلم بكونه صورة له .
ثانيهما : دعوى أنّ المراد من الحيوان المعنى اللغوي; وهو مطلق الحيّ لا العرفي، أو دعوى أنّه مثال لمطلق ذي الروح، ولايبعد الحكم بظهور إحدى الدعويين ، فالأقوى الحكم بالحرمة، خصوصاً إذا كان على الوجه المتعارف في زماننا(1) ، انتهى .
وأورد عليه بعض الأعلام(قدس سره) بعد دعوى أنّ المراد بالحيوان في المقام ما هو المصطلح عليه في المنطق من كونه جسماً حسّاساً متحرِّكاً بالإرادة; وهو يصدق على كلّ مادّة ذات روح; سواء كانت المادّة من عالم العناصر ـ المعروفة ـ أو من عالم آخر فوقه، كالملك والجنّ .
ودعوى كونهما من المجرّدات وليس لها مادّة، يدفعها أنّها جزافية; للخدشة في أدلّة القول بالمجرّدات ما سوى الله، ومخالفتها لظاهر الشرع، كما حكي عن المجلسي(قدس سره)في اعتقاداته(2) من الحكم بكفر من أنكر جسميّة الملك .
قال : وإن أبيت إلاّ عن إرادة المفهوم العرفي من الحيوان، فاللازم هو القول بانصرافه عن الإنسان أيضاً، كانصرافه عن الجنّ والملك ، ولذا قلنا : إنّ العمومات
(1) حاشية كتاب المكاسب للسيّد اليزدي 1: 108 ـ 109. (2) اُنظر بحار الأنوار 59: 203 و 209.
صفحه 154
الدالّة على حرمة الصلاة في أجزاء ما لايؤكل لحمه(1) منصرفة عن الإنسان قطعاً ، مع أنّه لم يقل أحد بالانصراف بوجهين :
أحدهما : أنّ خبر تحف العقول ضعيف السند ومضطرب الدلالة، فلايجوز العمل به في نفسه، فضلاً عمّا إذا كان معارضاً لخبر صحيح .
وثانيهما : أنّ أقوائيّة السند لاتكون مرجّحة في التعارض بالعموم من وجه ، بل لابدّ من الرجوع إلى المرجّحات الاُخر ، وحيث لا ترجيح فيحكم بالتساقط ويرجع إلى المطلقات الدالّة على حرمة التصوير مطلقاً، لكنّها بأجمعها ضعيفة السند ، فاللازم الرجوع إلى البراءة (2).
أقول : لعلّ الوجه في عدم كون أقوائيّة السند مرجّحة في التعارض بالعموم من وجه: أنّ لازمه طرح السند بالإضافة إلى مادّة الافتراق من ناحية الرواية المرجّح عليها، والتبعيض في رواية واحدة وإن كان ممكناً، إلاّ أنّه فيما إذا كانت الرواية ذات أحكام متعدّدة مستقلّة، لا بنحو العموم والإطلاق كما في المقام ، والتحقيق الأزيد موكول إلى محلّه .
نعم ، ذكرنا نحن(3) إمكان جعل رواية تحف العقول معتبرة وإن كانت مرسلة، كما في بعض مرسلات الصدوق(قدس سره) .
والحقّ أن يقال : إنّ المراد من الحيوان المذكور في الصحيحة هو ما كانت له حياة; سواء كان ناطقاً أم غير ناطق ، وقد عرفت ثبوت المفهوم لها للوقوع في مقام التحديد .
(1) وسائل الشيعة 4: 345 ـ 347، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب2. (2) مصباح الفقاهة 1: 364 ـ 366. (3) في ص 13 ـ 15.
صفحه 155
وأمّا قوله(عليه السلام) : «ما لم يكن مثل الروحاني» أو مثاله(1)، فالظاهر أنّ المراد به مطلق ما كان له حياة وإن لم يكن بأبعاده محسوساً ومبصراً، كسائر المحسوسات والمبصرات.
وهذا من دون فرق بين القول باختصاص التجرّد به تعالى، وبين القول بالعدم ، غاية الأمر أنّ المجرّدات لا تكون في رتبة واحدة .
ودعوى عدم معهوديّة إطلاق الروحاني على الحيوان ذات الروح في الروايات، يدفعها على فرض التسليم عدم معهوديّة تصوير الملك والجنّ نوعاً مع عدم تعلّق الرؤية بهما .
وعليه: فلايبعد أن يكون المراد بالروحاني في الرواية هو الحيوان ; ويؤيّده رواية البقباق المتقدّمة التي وقع فيها التقابل بين الرجال والنساء، وبين الشجر وشبهه ، فتدبّر .
كما أنّه يؤيّده ما أفاده سيّدنا المحقّق الاُستاذ في مكاسبه; من أنّ العمدة في الأدلّة أخبار النفخ(2)، والظاهر منها أنّ المحرّم هو تمثال موجود يكون نحو إيجاده بالتصوير والنفخ، وأمّا غيره ممّا يكون بدعيّاً دفعيّاً فخارج عن مساق تلك الأخبار(3) .
ويؤيّده أيضاً إطلاق كلمة الروح على خصوص بعض الملائكة المتنزّلين في ليلة القدر في بعض آيات سورة القدر(4)، واحتمال كون الروح علماً وإسماً له من دون جهة، بعيد في الغاية .
(1) تقدّم في ص147 - 148. (2) وسائل الشيعة 5: 304 ـ 307، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس ب3 ح2، 5 و 12. (3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(رحمه الله) 1: 271 ـ 272. (4) سورة القدر 97: 4.
صفحه 156
ثمّ إنّك عرفت(1) أنّ التصوير ببعض الآلات المعدّة له، المسمّى في عرفنا الفارسي بـ «عكس» خارج عن محلّ البحث، خلافاً لما عن السيّد في الحاشية ، فحكم بعدم الفرق بين أنحاء التصوير، وأنّه يشمل العكس المتداول في زماننا (2).
ولكنّه أورد عليه بعض الأعلام(قدس سره) بما يرجع إلى أنّ الظاهر من الأدلّة هو النهي عن إيجاد الصورة، والعكس المتعارف في زماننا لا يكون إيجاداً للصورة المحرّمة ، بل إنّما هو أخذ للظلّ مع إبقائه بسبب الدواء، نظراً إلى أنّ الإنسان إذا وقف في مقابل الكامرة، كان حائلاً بينها وبين النور، فيقع ظلّه على الكامرة ويثبت فيها لأجل الدواء، فيكون صورة لذي ظلّ، وأين هذا من التصوير المحرّم ، وإلاّ يلزم القول بحرمة النظر إلى المرآة، نظراً إلى كونه إيجاداً للصورة فيهما كما لايخفى(3).
مع أنّك عرفت(4) أنّ التصوير خالياً عن التجسيم لايكون محرّماً وإن كان مخالفاً للاحتياط الاستحبابي .
أقول : مقتضى السيرة المستمرّة عند المتشرّعة عدم تحريم تصوير العكس; لشيوع تداولها ، كما أنّ المستفاد من تحريم النظر إلى المرآة في خصوص حال الإحرام للحجّ أو العمرة، عدم حرمة النظر في غير تلك الحال ، فخروج الصورتين غير قابل للمناقشة تخصيصاً أو تخصّصاً، ولاينبغي البحث فيه .
ثمّ إنّه بعد خروج الصورتين المذكورتين آنفاً، لا فرق بين أنحاء التصوير المذكورة في المتن; لعدم الدليل على الفرق .
(1) أي من عبارة المتن. (2) حاشية كتاب المكاسب للسيّد اليزدي 1: 109. (3) مصباح الفقاهة 1: 370 ـ 371. (4) في ص146 ـ 149.
صفحه 157
الفرع الرابع : حرمة التكسّب بالتصوير المحرّم; أي التكسّب بإيجاد الصورة المحرّمة كالفرع الأوّل على ما عرفت ، وذلك لما قد حقّق في كتاب الإجارة(1) من اعتبار أن يكون العمل في الإجارة على الأعمال غير محرّم في نفسه، ومثّلوا له بإجارة الحائض لكنس المسجد، أو إجارة الدكان لخصوص صنع الخمر فيه، أو جعله محرساً لها ، فلو كان إيجاد الصورة محرّماً يكون التكسّب به كذلك، كما لايخفى .
الفرع الخامس : في بيع الصور المحرّمة واقتنائها والنظر إليها ، فالذي قوّاه في المتن هو الجواز تبعاً للمحقّقين في جامع المقاصد(2) ومجمع الفائدة(3) ، لكن حكى الشيخ الأنصاري(قدس سره) عن جماعة من القدماء ما يظهر منه المنع، كالمقنعة(4) والنهاية(5)والسرائر(6) ، واستدلّ له(7) أوّلاً بوجوه كثيرة ، ثمّ تنظّر في الجميع .
منها : أنّ الظاهر من تحريم الشارع إيجاد الصورة، هي ممنوعيّة وجودها وإبقاؤها أيضاً ; لأنّ التحريم يدلّ على مبغوضيّته له، ولا فرق من هذه الجهة بين الأمرين .
وأورد عليه بمنع الملازمة إلاّ مع الاستلزام العرفي، أو قيام الدليل الخارجي،
(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الإجارة: 41 ـ 50، الأمر الأوّل من المقام الثاني. (2) جامع المقاصد 4: 16، وقال في حاشية الإرشاد، المطبوع مع حياته وآثاره ج9 ص319: ولا دليل على تحريم النظر إلى الصور المجسّمة. (3) مجمع الفائدة والبرهان 2: 93، وكذا قال بالجواز العاملي في مفتاح الكرامة 12: 163ـ 165. (4) المقنعة: 587. (5) النهاية: 363. (6) السرائر 2: 215. (7) أي الشيخ في المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 191 ـ 197.
صفحه 158
كحرمة تنجيس المسجد، ووجوب إزالة النجاسة عنه ، وفي المقام مقتضى الدليل هي حرمة الإيجاد، ولا دليل على وجوب الرفع والمحو .
ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة(1)، بناءً على أنّ الظاهر من سؤال الراوي عن التماثيل، سؤاله عن حكم الفعل المتعارف، المتعلّق بها العامّ البلوى; وهو «الاقتناء».
وأمّا نفس الإيجاد، فهو عمل مختصّ بالنقّاش ، ألاترى أنّه لو سئل عن الخمر فأجاب بالحرمة، ينصرف الذهن إلى شربها دون صنعتها ؟ بل ما نحن فيه أولى بالانصراف ; لأنّ صنعة الخمر يقع من كلّ أحد، بخلاف صنعة التماثيل .
وأورد عليه بما حاصله، منع الظهور المزبور ; لأنّ عمل الصور ممّا هو مركوز في الأذهان، حتّى أنّ السؤال عن حكم اقتنائها إنّما هو بعد معرفة حرمة عملها; إذ لايحتمل حرمة اقتناء ما لا يحرم عمله .
ومنها : الحصر في رواية تحف العقول المتقدّمة(2) في قوله(عليه السلام) : إنّما حرّم الله الصناعة التي هي حرام كلّها، التي يجيء منها الفساد محضاً... ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه وتعلّمه ـ إلى قوله(عليه السلام) : ـ وجميع التقلّب فيه(3); فإنّ ظاهره أنّ كلّ ما تحرم صنعته ـ ومنها التصاوير على الفرض ـ يجيء منها الفساد محضاً، فيحرم جميع التقلّب فيه .
والحقّ في الجواب أن يقال ـ مضافاً إلى إمكان منع شمول التقلّب للاقتناء; فضلاً
(1) في ص: 144. (2) في ص: 11 . (3) تحف العقول: 335 ـ 336، وعنه وسائل الشيعة 17: 85، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب2 قطعة من ح1 والحدائق الناضرة 18: 70.
صفحه 159
عن مثل النظر ـ : إنّ غاية مفاد الرواية ثبوت الملازمة الشرعيّة بين حرمة الصناعة، وبين ما يجيء منه الفساد محضاً، ولا صلاح فيه أصلاً . وأمّا العكس، فلا دلالة في الرواية على ثبوته، وأنّ كلّ ما تحرم صناعته يجيء منه الفساد محضاً ، بل هو محلّ البحث وأوّل الكلام . فاللاّزم أن يقال بأنّ الحصر في الرواية إضافيّ بالنسبة إلى القسمين المذكورين فيها، وإن كان يبعّده أنّ اللازم الالتزام بعدم تعرّض الرواية لحكم مثل المقام، وهو لايخلو عن بُعد، فتدبّر جيّداً .
ومنها : ما ورد ـ ممّا تقدّم(1)ـ في إنكار أنّ المعمول لسليمان على نبيّنا وآله وعليه السلام هي تماثيل الرجال والنساء; فإنّ الإنكار إنّما يرجع إلى مشيئة سليمان للمعمول ـ كما هو ظاهر الآية ـ دون أصل العمل ، فدلّ على كون مشيئة وجود التمثال من المنكرات التي لا يليق بمنصب النبوّة .
وأورد عليه بأنّ الظاهر رجوع الإنكار إلى مشيئة سليمان(عليه السلام) لعملهم; بمعنى إذنه فيه، أو إلى تقريره لهم في العمل .
ومنها: غير ذلك من الاُمور المذكورة في كلام الشيخ(قدس سره) مع تنظّره فيه أو ظهور بطلانه من الاُمور المتقدّمة هنا .
وعلى فرض صحّة الاُمور المذكورة كلاًّ أو بعضاً، فهنا ما يكون أظهر في الجواز وعدم الحرمة وإن كان الجواز لايحتاج إلى الدليل بعد عدم تماميّة دليل الحرمة ، مثل :
صحيحة الحلبي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : ربما قمت فاُصلّي وبين يدي الوسادة
(1) في ص150.
صفحه 160
فيها تماثيل طير، فجعلت عليها ثوباً(1) .
وصحيحة زرارة بن أعين، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : لا بأس بأن تكون التماثيل في البيوت إذا غيّرت رؤوسها منها، وترك ما سوى ذلك(2) .
ويؤيّد الكراهة وعدم الحرمة الجمع بين اقتناء الصور والتماثيل في البيت، والكلب، والإناء الذي يجتمع فيه البول في الروايات الكثيرة، مثل :
رواية أبي بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : إنّ جبرئيل(عليه السلام) قال : إنّا لا ندخل بيتاً فيه صورة، ولا كلب ـ يعني صورة إنسان ـ ولا بيتاً فيه تماثيل(3) .
وفي بعض الروايات هذا التعبير: «ولا بيتاً فيه بول مجموع في آنية»، مثل:
مرسلة الصدوق المعتبرة قال : قال الصادق(عليه السلام) : لا يصلّى في دار فيها كلب، إلاّ أن يكون كلب الصيد و اُغلقت دونه باباً، فلا بأس; فإنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، ولا بيتاً فيه تماثيل، ولا بيتاً فيه بول مجموع في آنية(4) .
ورواية علي بن جعفر، عن أخيه(عليه السلام) قال: سألته عن الخاتم يكون فيه نقش
(1) تهذيب الأحكام 2: 226 ح892، وعنه وسائل الشيعة 5: 170، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب32 ح2. (2) الكافي 6: 527 ح8 ، المحاسن 2: 458 ح2583، وعنهما وسائل الشيعة 5: 308، كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن ب4 ح3، وفي بحارالأنوار 76: 160 ح9 عن المحاسن، وفي مرآة العقول 22: 439 ح8 عن الكافي. (3) الكافي 6: 527 ح3، المحاسن 2: 454 ح2565، وعنهما وسائل الشيعة 5: 175 ـ 176، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب33 ح2 و 5. وفي بحارالأنوار 76: 159 ح3 وج83 : 291 ح6 عن المحاسن. (4) الفقيه 1: 159 ح744، وعنه وسائل الشيعة 5: 175 ، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي ب33 ح4.
|