صفحه 181
فيه دائراً بين المعنى الحقيقي، وبين المعنى المجازي مثلاً، يحمل بمعونة القرينة على خلاف الظاهر مع قطع النظر عن القرينة .
وبعبارة اُخرى: تنقلب أصالة الظهور في المعنى الحقيقي بمقتضى الوضع إلى أصالة الظهور في المعنى المجازي بمعونة القرينة، وقد قرّر في محلّه(1) أنّ أصالة الظهور أعمّ من أصالة الحقيقة ، فتدبّر .
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ العناوين القرآنيّة المفسّرة في الروايات بالغناء ـ وفيها صحاح وموثّقات معتبرات ـ عناوين أربعة: وهي عبارة عن قول الزور، ولهو الحديث، والزور، واللّغو كما مرّ(2)، هذا من ناحية .
ومن ناحية اُخرى: قد فسّر الغناء كما في المتن بمدّ الصوت وترجيعه بكيفيّة خاصّة مطربة تناسب مجالس اللهو، ومحافل الطرب، وآلات اللهو والملاهي، ولاارتياب في أنّ الغناءبناءً على ذلك كيفيّة للصوت مشتملة على خصوصيّة مذكورة.
وعليه: يقع السؤال عن أنّه إذا كان الغناء عبارة عن الكيفيّة، ولم يكن له أيّ ارتباط بالكلام الذي يقع فيه الغناء ـ ولذا عرفت(3) جريان الحرمة في الغناء في القرآن والأدعية والمراثي ـ كيف يقع تفسيراً لعنواني قول الزور، ولهو الحديث، بناءً على كونه من إضافة الصفة إلى الموصوف، كما هو الظاهر وإن كان وقوعه تفسيراً لعنواني الزور واللغو ممّا لا مانع منه; ضرورة أنّ العنوانين الأوّلين من مقولة الكلام، والغناء من خصوصيّات كيفيّة الصوت، فكيف يقع تفسيراً لهما.
وقد عرفت أنّ قول الإمام(عليه السلام) وإن كان حجّة علينا بالإضافة إلى خلاف الظاهر،
(1) نهاية الأفكار 3: 86. (2) في ص164 ـ 167. (3) في ص175 ـ 178.
صفحه 182
إلاّ أنّ القرينة لا تجدي في تصحيح الاستعمال ، فاستعمال ما ظاهره أنّه من مقولة الكلام، وإرادة ما لا تكون من هذه المقولة، كأنّه غير مناسب عندنا .
وأمّا ما أفاده المحقّق الايرواني في حاشية المكاسب في ذيل آية قول الزور ممّا يرجع إلى أنّ تفسير قول الزور بالغناء لا يقتضي أن يكون الغناء من مقولة الكلام; لصحّة هذا التفسير وإن كان الغناء من كيفيّة الكلام; لاتّحاد الكيفيّة في الخارج مع المكيّف بالكيفيّة، فإذا كانت الكيفيّة زوراً باطلاً صدق أنّ الكلام زور باطل(1).
فيدفعه: أنّ مجرّد الاتّحاد في الخارج لا يصحّح الاستعمال ، أترى أنّ اتّحاد الصلاة مع التصرّف في مال الغير بغير إذنه في مسألة اجتماع الأمر والنهي المعروفة يصحّح استعمال كلّ من العنوانين مكان الآخر، وإن أراد أنّ علاقة الكيفيّة بالإضافة إلى ذي الكيفيّة من علاقة الحالّ والمحلّ ، فمن الواضح خلافه ، اللّهم إلاّ أن يريد عدم لزوم انحصار العلاقة بالعلائق المعهودة المذكورة في محلّها .
ويرد عليه أيضاً: أنّك عرفت أنّ الغناء في القرآن أيضاً حرام بل أشدّ حرمة، ولازم كلامه(قدس سره) ـ نعوذ بالله ـ أن يكون الغناء إذا تحقّق في ضمن القرآن أن يتّصف القرآن بالعنوان المذكور في الآية، كلاّ من تصوّر ذلك .
كما أنّ ما أفاده في ذيل آية لهو الحديث ممّا يرجع إلى أنّ الإضافة لو كانت من إضافة الصفة إلى الموصوف لا بيانيّة، لا تدلّ الآية أيضاً على أنّ الغناء من مقولة الكلام ، فلعلّ صفة لهويّته هي صفة غنائيّة وكيفيّة أداء ألفاظه(2).
يدفعه أنّ البحث ليس في حرمة الغناء من جهة اللهويّة ، بل إنّما هو في استعمال
(1) حاشية كتاب المكاسب للايرواني 1: 180. (2) حاشية كتاب المكاسب للايرواني 1: 181.
صفحه 183
اللهو المضاف إلى الحديث بما لا يكون مرتبطاً إلاّ بالكيفيّة، لا بالكلام أصلاً ، ولذا عرفت جريانه في القرآن أيضاً .
ولم يظهر لي إلى الآن ما يحقّ جواباً عن السؤال وحلاًّ للإشكال، فالأولى البحث في تعريف الغناء، فنقول :
قال الشيخ الأعظم(قدس سره) بعد قوله : وإن اختلفت فيه عبارات الفقهاء واللغويين ما لفظه : فعن المصباح: أنّ الغناء الصوت(1)، وعن آخر: أنّه مدّ الصوت(2) ، وعن النهاية، عن الشافعي: أنّه تحسين الصوت وترقيقه . وعنها أيضاً: أنّ كلّ من رفع صوتاً و والاه فصوته عند العرب غناء (3).
ثمّ قال : وكلّ هذه المفاهيم ممّا يعلم عدم حرمتها، وعدم صدق الغناء عليها، فكلّها إشارة إلى المفهوم المعيّن عرفاً(4) .
والظاهر أنّ المراد من الذيل أنّ هذه التعاريف لفظيّة وفي مقام شرح اللفظ، وليست بصدد بيان الحقيقة والتعريف المنطقي بجميع أبعاده، فهو نظير ما ذكره المحقّق الخراساني(قدس سره)(5) في أغلب التعاريف من أنّها تعريفات لفظيّة لا حقيقيّة، مثل قول اللغوي: سعدان نبت(6) ، فتدبّر .
(1) المصباح المنير: 455. (2) لم نظفر به عاجلاً. نعم، جعله المحقّق النراقي في المستند 14: 124 ثامن الأقوال من دون إسناد إلى قائل معيّن. (3) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3: 391، وفيه: تحسين القراءة، وفي معجم تهذيب اللغة 3: 2703 «تحزين القراءة وترقيقها». (4) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 291. (5) كفاية الاُصول: 95. (6) الصحاح 1: 417، القاموس المحيط 1: 418، المعجم الوسيط: 430.
صفحه 184
وأمّا الفقهاء، فالمحكيّ عن المشهور(1) أنّ الغناء عبارة عن مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب .
والطرب خفّة تصيب الإنسان لشدّة حزن أو سرور، كما عن الصحاح(2)، أو خفّة من سرور أو همّ، كما عن أساس الزمخشري(3) .
ثمّ إنّ الظاهر أنّ حسن الصوت مأخوذ في الغناء، ويظهر ذلك من المتن، حيث نفى كونه مجرّد التحسين وإن لم يؤخذ فيه في التعريف ، فما يظهر من الشيخ الأعظم(4)من دخول قبيح الصوت في الغناء، كأنّه في غير محلّه .
نعم ، الظاهر أنّ المراد شأنيّة الإطراب وإيجاد الطرب ، فلو لم يحصل الطرب بالفعل لكثرة الاعتياد بالغناء وسماعه لا يكون قادحاً في الصدق، بل سبيله سبيل حرمة الخمر للإسكار; فإنّ الحرمة ثابتة ولو بالنسبة إلى من يتحقّق له الإسكار لكثرة الشرب وتعدّده .
وعليه: فقوله في المتن: «تناسب مجالس اللهو، ومحافل الطرب» كأنّه للإشارة إلى هذا الأمر; وهو عدم مدخليّة الإطراب الفعلي، فلا يكون أمراً زائداً على أصل التعريف، ولا حاجة إلى إضافة «أو ما يسمّى في العرف غناء» كما في بعض الكتب(5) ، كما أنّه لا وجه لدعوى كون الطرب المأخوذ في التعريف غير الطرب
(1) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 57، مفاتيح الشرائع 2: 20، رياض المسائل 8 : 62، مستند الشيعة 14: 125، جواهر الكلام 22: 45، المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 291. (2) الصحاح 1: 184. (3) أساس البلاغة: 385. (4) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 293. (5) التنقيح الرائع 2: 11، الروضة البهيّة 3: 212، مسالك الأفهام 3: 126، مجمع الفائدة والبرهان 8 : 57، شرح اُصول الكافي والروضة للمولى محمّد صالح المازندراني 1: 39، الحدائق الناضرة 18: 101.
صفحه 185
المفسّر بما تقدّم بعد عدم وجود الاشتراك اللفظي في مادّة الطرب، كما هو ظاهر .
والظاهر أنّ الغناء بالمعنى المذكور المعروف من مصاديق عنوان «الموسيقى» بالألف المقصورة الذي هو كلمة يونانيّة أو سريانيّة أو فرنجيّة، ومركّب من كلمتين «موسى» بمعنى النغمة «وقى» بمعنى الموزون المنتظم .
قال ابن خلدون في مقدّمته في تعريف الغناء ما محكيّ لفظه: «هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقّع على كلّ صوت منها توقيعاً (إيقاعاً خ ل) عند قطعه فتكون نغمة. ثمّ تؤلّف تلك النَّغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة، فيلذُّ سَماعُها لأجل ذلك التناسب، وما يحدث عنه من الكيفيّة في تلك الأصوات. وذلك أنّه تبيّن في علم الموسيقى أنّ الأصوات تتناسب، فيكون صوت نصف صوت، وربع آخر، وخمس آخر، وجزء من أحد عشر من آخر، واختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع يخرجها من البساطة إلى التركيب، وليس كلّ تركيب منها ملذوذاً عند السَّماع، بل تراكيب خاصّة; وهي التي حصرها أهل علم الموسيقى وتكلّموا عليها، كما هو مذكور في موضعه، وقد يساوق ذلك التَّلحين في النغمات الغنائيّة بتقطيع أصوات اُخرى من الجمادات ; إمّا بالقرع، أو بالنّفخ في الآلات تتّخذ لذلك فيزيدها لذّة عند السماع ،(1) انتهى .
وقال الشيخ الرئيس فيما حكي عنه في كتاب الشفاء في رسم الموسيقى ما لفظه : الموسيقى علم رياضي يبحث فيه عن أحوال النغم; من حيث تأتلف وتتنافر وأحوال الأزمنة المتخلّلة بينها; ليعلم كيف يؤلّف اللحن ، وقد دلّ حدّ الموسيقى على أنّه يشتمل على بحثين :
(1) مقدّمة ابن خلدون: 423.
صفحه 186
أحدهما:البحث عن أحوال النغم أنفسها، وهذا القسم يختصّ باسم التأليف .
والثاني:البحث عن أحوال الأزمنة المتخلّلة بينها، وهذا البحث يختصّ باسم علم الإيقاع(1) .
أقول : هذا التعريف ينطبق على الغناء أيضاً وإن لم يكن مذكوراً في كلامه ، كما أنّ تعريف ابن خلدون ظاهر أو كالصريح في كون الغناء من الموسيقى، وأنّ الغناء إذا ساوق الموسيقى الاصطلاحي ـ أي الأصوات الموزونة الخارجة عن الآلة الجماديّة ـ يكون أثره زيادة الالتذاذ، ولا محالة لابدّ من الالتزام بتحقّق حرمتين ومخالفة حكمين موجبة لاستحقاق عقوبتين .
وأمّا إشعار صدر التعريف الأوّل بأنّ الغناء هو تلحين الأشعار، فالظاهر أنّه لا مدخليّة للشعريّة في ذلك، بل قوام الغنائيّة بانتظام الأصوات بالنحو المذكور، وذكر الأشعار لعلّه للغلبة، وحيث جرى في الكلام ذكر الشعر فلا بأس بالإشارة إلى حكم فروضه، فإن كان متضمّناً للعقائد الحقّة فيما يتعلّق بالخالق، أو مشتملاً على مراثي أو مدائح الرسول وأهل بيته(عليهم السلام)، فالظاهر أنّه مضافاً إلى عدم حرمته، يكون لشاعره عند الله ثواب وأجر .
وإن كان مدلوله التعشّق بزوجته وبيان خصوصيّاتها، فالظاهر أيضاً أنّه لامانع منه ، وإن كان مفاده التعشّق بموجود معلوم غير زوجته الحليلة، فالحكم فيه عدم الجواز ووجهه واضح .
كما أنّه لو كان مفاده التعشّق بموجود و همّي خياليّ، أو كان في مدح بعض من له سلطان، فالظاهر أنّه مكروه، ولعلّه المراد من قوله ـ تعالى ـ : {وَ الشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ
(1) الشفاء، الفنّ الثالث من الرياضيات; وهو في علم الموسيقى: 9.
صفحه 187
{الْغَاوُونَ}(1) وإن كان التحقيق في مفاده يحتاج إلى مراجعة التفاسير .
المقام الثالث : فيما استثناه في المتن من حرمة الغناء بقوله : «نعم، قد يستثنى غناء المغنّيات في الأعراس، وهو غير بعيد، ولا يترك الاحتياط بالاختصار على زفّ العرائسوالمجلس المعدّ له مقدّماً ومؤخّراً، لا مطلق المجالس ، بل الأحوط الاجتناب مطلقاً». وقدتبع في ذلك الأكثر(2)، وقدأطلق جماعة حرمة الغناء من دون استثناء(3).
نعم ، صريح فخر المحقّقين فيما حكي عنه المنع(4); لتقديم أدلّة الحرمة المتواترة على مستند الجواز مع كونه نصّاً فيه .
والمستند رواية أبي بصير ـ التي رواها المشايخ الثلاثة عنه ـ عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال : قال أبو عبدالله(عليه السلام) أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال(5) .
وصاحب الوسائل قد روى فيها في باب واحد ثلاث روايات عن أبي بصير، وظاهرها كصريح الشيخ الأعظم الأنصاري(6) التعدّد، مع أنّه من الواضح ـ كما نبّهنا
(1) سورة الشعراء 26: 224. (2) النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى: 367، الاستبصار 3: 62، المختصر النافع: 196، مختلف الشيعة 5: 49ـ50 مسألة 14، تحرير الأحكام 2: 259، الرقم 3012، الدروس الشرعيّة 3: 162، الروضة البهيّة 3: 213، كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 1: 434، رياض المسائل 8 : 62، مستند الشيعة 14: 141، المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 313 ـ 314.مصباح الفقاهة 1: 491 ـ 492. (3) المقنعة: 588، الكافي في الفقه: 281، المراسم العلويّة: 172، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 2: 224، إرشاد الأذهان 1: 357. (4) إيضاح الفوائد 1: 405. (5) الكافي5: 120ح3، الفقيه3: 98 ح376، تهذيب الأحكام 6: 357 ح1022، الاستبصار 3: 62 ح205، وعنها وسائل الشيعة 17: 121، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب15 ح3، وقد تقدّمت قطعة منه في ص169. (6) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 305.
صفحه 188
عليه مراراًـ وحدة الرواية وعدم التعدّد وإن كان الرواة عن أبي بصير مختلفين .
وكيف كان، فالبحث في الرواية تارةً: من حيث السند ، واُخرى: من جهة الدلالة.
أمّا من الجهة الاُولى، فقد صرّح الشيخ الأعظم(1) بأنّ رواية أبي بصير غير صحيحة، والشهرة الجابرة غير محقّقة، ولكن الرواية الثانية لأبي بصير وصفت بالصحّة على ما في تقريرات بعض الأعلام(قدس سره) في المكاسب المحرّمة(2) .
وأمّا من الجهة الثانية، فقوله(عليه السلام) : «ليست بالتي يدخل عليها الرجال» لا دلالة له على الحلّية في مطلق ما إذا لم يكن كذلك ، بل لابدّ من حفظ الموصوف والتقييد بأنّها ليست كذلك ، فالمغنّية التي تزفّ العرائس إذا لم تكن كذلك لا مانع من أخذها الاُجرة، ولا محالة لا يكون عملها محرّماً ; لعدم اجتماع جواز الأخذ مع حرمة العمل ، كما أنّه لابدّ من التوسعة إلى الغناء الذي لم يكتف بمحرّم آخر; كالتكلّم بالأباطيل، والاستفادة من آلات الملاهي ; لعدم خصوصيّة لدخول الرجال .
نعم ، لابدّ كما في المتن من الاقتصار على زفّ العرائس والمجالس المعدّة له مقدّماً أو مؤخّراً; لذكر هذا العنوان في الرواية على ما عرفت، وإن كان الأحوط بلحاظ ما عرفت من تصريح بعض بالمنع، وظهور كلمات جماعة فيه الترك مطلقاً، كما في المتن .
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 306. (2) مصباح الفقاهة 1: 482.
صفحه 189
معونة الظالمين
مسألة 14 : معونة الظالمين في ظلمهم ـ بل في كلّ محرّم ـ حرام بلا إشكال ، بل ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم، فقد خرج من الإسلام(1) . وعنه (صلى الله عليه وآله) : إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة(2) حتّى من برى لهم قلماً، ولاق لهم دواة ، قال : فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يُرمى بهم في جهنّم(3) . وأمّا معونتهم في غير المحرّمات، فالظاهر جوازها ما لم يعدّ من أعوانهم وحواشيهم والمنسوبين إليهم، ولم يكن اسمه مقيّداً في دفترهم وديوانهم، ولم يكن ذلك موجباً لازدياد شوكتهم وقوّتهم1.
1 ـ يقع البحث في المسألة في مقامين :
(1) تنبيه الخواطر 1: 54 و ج2: 232، وعنه وسائل الشيعة 17، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح15. وفي بحار الأنوار 75: 377 ح31 وص381 ضمن ح 45، ومستدرك الوسائل 13: 125، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35 ح14966 عن كنز الفوائد للكراجكي 1: 351، وجامع الأخبار: 436 ح1223 باختلاف. ورواه البخاري في التاريخ الكبير 4: 250 رقم الترجمة 2693، والطبراني في المعجم الكبير 1: 227 ح619، و شعب الإيمان 10: 127 ح7269، والفردوس بمأثور الخطاب 3: 547 ح5709، ومشكاة الأنوار 2: 293 ح1822، وإرشاد القلوب للديلمي: 351، والترغيب والترهيب للمنذري 3: 199 ح6، ومشكاة المصابيح 2: 300 ح5135، ومجمع الزوائد 4: 205. (2) في تنبيه الخواطر والوسائل: وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة، إلخ. (3) تنبيه الخواطر 1: 54، وعنه وسائل الشيعة 17: 182، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح16. وفي معالم الزلفى 2: 608 ح29 عن إرشاد القلوب للديلمي 1: 351، وفي مستدرك الوسائل 13: 124، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35 ذ ح 14962 عن عوالي اللئالي 4: 69 ذ ح 31 نحوه.
صفحه 190
المقام الأوّل : معونة الظالمين في ظلمهم، بل في كلّ محرّم; فإنّها حرام بلا ريب ولا إشكال ، ويدلّ عليه الأدلة الأربعة ; فمن الكتاب: قوله ـ تعالى ـ : {تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَ نِ}(1) بناءً على ما تقدّم(2) في مسألة بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً; من أنّ المراد بالتعاون في الآية هي الإعانة، كما في كثير من الاستعمالات العرفيّة، كالتيامن والتياسر في الصلاة، والتكامل في العلوم والصنائع، والتضامن في بعض المؤسّسات . وقد ورد تفسيره بها في اللغة وفي كتب التفاسير.
وعرفت(3) عبارة المحقّق الأردبيلي في تفسير الآية ، كما أنّا ذكرنا(4) أنّ حمل النهي في الآية على التنزيه ـ كما عن بعض محشّي المكاسب ـ في غير محلّه .
نعم ، قدّمنا(5) الاحتمالات الستّة في معنى الإعانة، ومحلّ الكلام في المقام يصدق عليه الإعانة قطعاً، فالآية الشريفة أعظم دليل على الحرمة في المقام .
ومنه أيضاً قوله ـ تعالى ـ : {وَ لاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَـلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}(6) ; بناءً على كون المحرّم هو الميل إليهم لأجل هذه الجهة، فتدلّ على حرمة المعاونة لهم بطريق أولى . وأمّا بناءً على كون المراد هو الاعتماد إليهم في فعل الظلم وصدوره من الشخص، فهي أجنبيّة عن المقام .
(1) سورة المائدة 5: 2. (2) في ص: 93 ـ 95 و 108 ـ 115. (3) في ص: 109 ـ 110. (4) في ص: 93 ـ 94. (5) في ص: 109 ـ 111. (6) سورة هود 11: 113.
صفحه 191
ومن السنّة: روايات كثيرة أورد منها روايتين في المتن، حكاهما صاحب الوسائل عن كتاب ورّام بن أبي فراس، وفي الثانية عطف «وأشباه الظلمة» على «أعوان الظلمة» .
ومن الإجماع: أنّه لا خلاف في ذلك بين جميع المسلمين فضلاً عن علماء الشيعة (1). نعم ، الظاهر أنّه لا أصالة لهذا الإجماع بعد وضوح مستند المجمعين، وثبوت الأدلّة الاُخرى الواضحة الظاهرة .
ومن العقل: وضوح حكم العقل بقبح إعانة الظالم في ظلمه، كحكمه بقبح أصل الظلم . نعم ، القدر المسلّم منه هي المعاونة لهم في الظلم . وأمّا المعاونة لهم في محرّم آخر فالعقل لا يحكم بذلك، لا بالنسبة إلى الظالم ولا بالنسبة إلى غيره ، فقوله في المتن في ظلمهم، بل في كلّ محرّم لابدّ للاستناد إليه بغير حكم العقل; كالنهي عن التعاون على الإثم، وفي هذه الصورة لا يختصّ بالظالم، بل يعمّ كلّ مرتكب للإثم ، فتدبّر .
المقام الثاني : معونة الظالمين في الأعمال المباحة غير المحرّمة، كالخياطة لهم، والبناية، والجنازة، وأمثال ذلك ، ومقتضى القاعدة في هذا المقام الجواز ; لعدم جريان شيء من الأدلّة الأربعة المتقدّمة في المقام الأوّل هنا، خصوصاً آية النهي عن التعاون على الإثم والعدوان ; لأنّ المفروض كون المعان عليه غير محرّم، وسياق الكلام في الرواية الاُولى المذكورة في المتن يشهد بكون المراد هو إعانة الظالم في جهة ظلمه وإن كان الإطلاق ربما يتوهّم منه الخلاف .
(1) رياض المسائل 8 : 79، مفتاح الكرامة 12: 201، المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 2: 52، مصباح الفقاهة 1: 654 ـ 655.
صفحه 192
وبالجملة: لا ريب في أنّ مقتضى القاعدة هنا الجواز ، إلاّ أنّ هنا روايات يستدلّ بها على المنع في هذا المقام أيضاً، مثل :
موثّقة السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه(عليهم السلام) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة، ومن لاق لهم دواةً، أو ربط كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم(1) .
وفيه: أنّ أعوان الظلمة مستثنى من الجواز في هذا المقام كما سيأتي أدلّته ، وظاهر أنّ قوله(صلى الله عليه وآله) : «ومن لاق لهم دواةً » إلخ ; راجع إلى جهة ظلمه والإعانة عليه في هذا الأمر ، فلا دلالة لها على حرمة الإعانة للظالم مطلقاً .
وحسنة يونس بن يعقوب قال : قال لي أبو عبدالله(عليه السلام): لا تعنهم على بناء مسجد(2) .
والظاهر أنّ المراد هو النهي عن إعانتهم على بناء المسجد لأجل كونه ازدياداً في شوكتهم وعظمتهم، وهذا الأمر أيضاً من المستثنى في هذا المقام كما سيأتي .
ورواية محمّد بن عذافر، عن أبيه قال : قال لي أبو عبدالله(عليه السلام) : يا عذافر نبّئت أنّك تعامل أبا أيّوب والربيع فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟ قال : فوجم أبي، فقال له أبو عبدالله(عليه السلام) لمّا رأى ما أصابه : أي عذافر إنّي إنّما خوّفتك بما
(1) عقاب الأعمال: 309 ح1، وعنه وسائل الشيعة 17: 181، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح11، و بحار الأنوار 75: 372 ح17. وفي ص380 ضمن ح41 ومستدرك الوسائل 13: 123، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35 ح14960 عن النوادر للراوندي: 158 ح234. (2) تهذيب الأحكام 6: 338 ح941، وعنه وسائل الشيعة 17: 180، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح8 .
صفحه 193
خوّفني الله ـ عزّوجلّ ـ به.
قال محمّد: فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتّى مات(1) .
وفيه ـ مضافاً إلى ضعف السند ـ : أنّ معاملة عذافر معهما كانت بنحو يعدّ من أعوان الظلمة عرفاً، وإلاّ فدعوى تطبيق هذا العنوان تعبّداً من دون تحقّقه عند العرف في غاية البُعد، بل غير تامّة وغير صحيحة .
ورواية ابن أبي يعفور قال: كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) إذ دخل (فدخل خ ل) عليه رجل من أصحابنا، فقال له : جعلت فداك (أصلحك الله خ ل) إنّه ربما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدّة فيدعى إلى البناء يبنيه، أو النهر يكريه، أو المسنّاة يصلحها، فما تقول في ذلك؟
فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : ما اُحبّ أنّي عقدت لهم عقدة، أو وكيت لهم وكاءً، وإنّ لي ما بين لابتيها، لا ولا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم الله بين العباد(2) .
والوكاء بالكسر والمدّ خيط يشدّ به السرّة، والكيس والقربة ونحوها .
وفيه ـ مضافاً إلى ضعف السند أيضاً ـ : ما مرّ من الجواب عن الاستدلال بالرواية السابقة، خصوصاً مع ملاحظة التعليل الواقع فيها، ومع التعبير بقوله(عليه السلام) :
(1) الكافي 5: 105 ح1، وعنه وسائل الشيعة 17: 178، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح3 والوافي 17: 151 ح17028 ومرآة العقول 19: 61 ح1. (2) الكافي 5: 107 ح7، تهذيب الأحكام 6: 331 ح919، وعنهما وسائل الشيعة 17: 179، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح6 و الوافي 17: 155 ح17034. وفي مرآة العقول 19: 63 ح7 عن الكافي. وفي ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار 10: 274 ح40 عن التهذيب.
صفحه 194
«ما اُحبّ» إلى آخره ، الظاهر في الكراهة وإن كان ذلك بالإضافة إلى شخص الإمام(عليه السلام) .
ورواية صفوان بن مهران الجمّال المعروفة قال : دخلت على أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) فقال لي : يا صفوان كلّ شيء منك حسنٌ جميل ما خلا شيئاً واحداً ، قلت : جعلت فداك أيّ شيء؟ قال : إكراؤك جمالك من هذا الرجل; يعني هارون ، قلت : والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للّهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولاّه بنفسي، ولكنّي أبعث معه غلماني .
فقال لي : يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت : نعم جعلت فداك ، قال : فقال لي : أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراؤك؟ قلت : نعم ، قال : مَنْ أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار .
قال صفوان : فذهبت فبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون، فدعاني فقال لي : يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك؟ قلت : نعم ، قال : ولِمَ؟ قلت : أنا شيخ كبير وأنّ الغلمان لا يفون بالأعمال ، فقال : هيهات هيهات، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا ، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر(عليه السلام)، قلت : ما لي ولموسى بن جعفر؟ فقال : دع هذا عنك، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك(1) .
وفيه ـ مضافاً إلى ضعف السند أيضاًـ : أنّ غاية مدلولها أنّ من أحبّ بقاءهم فهو منهم، وظاهره تحقّق ذلك في مورد لم يصل إلى المكري الجمّال جميع الكراء قبلاً، وإلاّ ففي صورة الوصول لا يتحقّق عنوان المحبّة أيضاً، فهي على الجواز أدلّ من
(1) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشّي»: 441 ح828 ، وعنه وسائل الشيعة 17: 182، أبواب ما يكتسب به ب42 ح17 وبحار الأنوار 75: 376 ح36.
صفحه 195
المنع ، ولو كانت الرواية معتبرة لقلنا بأنّ محبّة بقاء الظالمين محرّمة ولو كان الحبّ في غير جهة ظلمه، كأداء بقيّة الكراية كما في مفروض الرواية، أو أداء قرضه فيما لو اقترض من مقرض، كما لايخفى .
وغير ذلك من الروايات(1) القاصرة من حيث السند، أو من جهة الدلالة، أو من كلتا الحيثيتين .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّه لم ينهض في مقابل القاعدة الدالّة على الجواز ما يصلح لأن يكون دليلاً على العدم . نعم ، هنا بعض المستثنيات، مثل :
كون الشخص منطبقاً عليه عنوان أعوان الظلمة، وهو محرّم لإحدى الروايتين المذكورتين في المتن، وبعض الروايات المتقدّمة، مثل موثّقة السكوني.
وموثّقته الاُخرى بالسند المتقدّم :
قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : ما اقترب عبد من سلطان جائر إلاّ تباعد من الله، ولا كثر ماله إلاّ اشتدّ حسابه، ولا كثر تبعه إلاّ كثرت شياطينه(2) .
وموثّقته الثالثة بالسند المتقدّم أيضاً :
قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : إيّاكم وأبواب السلطان وحواشيها، فإنّ أقربكم من أبواب السلطان وحواشيها أبعدكم من الله عزّوجلّ، ومن آثر السلطان على الله
(1) وسائل الشيعة 17: 177 ـ 186، أبواب ما يكتسب به ب42 ـ 44. (2) عقاب الأعمال: 310 ح1، وعنه وسائل الشيعة 17: 181، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح12 وبحار الأنوار 75: 372 ح18. وفي بحار الأنوار 72: 67 ح27 وج75: 379 ح41، ومستدرك الوسائل 13: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35 ح14955 عن النوادر للراوندي: 89 ح20.
صفحه 196
أذهب الله عنه الورع وجعله حيراناً(1) .
ورواية ابن بنت الوليد بن صبيح الكاهلي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع حشره الله يوم القيامة خنزيراً(2) .
والظاهر أنّ السابع مقلوب عبّاس، والمقصود خلفاء بني العبّاس ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد من تسويد الاسم هو كونه من أعوانهم وحواشيهم ولو بالإضافة إلى الأعمال غير المحرّمة; كالخياطة وبناء المسجد وغيرهما .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ قوله في المتن: «ولم يكن اسمه مقيّداً في دفترهم» إلخ ، ليس أمراً آخر وراء كونه من الأعوان والحواشي; ضرورة أنّ الفقير مثلاً إذا كان اسمه مقيّداً في دفترهم لأجل الإعانة إليه من دون توقّع أمر، لا يكون مجرّد تسويد اسمه في الدفتر محرّماً ولو كان بتسبيبه .
نعم، الأمر الأخير ـ وهو كون عمله موجباً لازدياد شوكة الظالم وقوّته ـ يكون محرّماً وإن لم يكن من نيّته الإعانة بالإضافة إلى الظالم ، ويدلّ عليه بعض الروايات المتقدّمة(3) الدالّة على النهي عن إعانتهم على بناء المسجد; فإنّ الظاهر أنّ تأسيس
(1) عقاب الأعمال: 310 ح2، وعنه وسائل الشيعة 17: 181، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح13 وبحار الأنوار 75: 372 ح19. وفي نفس البحار: 380 ضمن ح41، ومستدرك الوسائل 13: 123، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35 ح14958 عن النوادر للراوندي باختلاف. ورواه في الغايات: 202 مثله، وفي كنز العمّال 6: 70 ح14887 باختلاف. (2) تهذيب الأحكام 6: 329 ح913، وعنه وسائل الشيعة 17: 180، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح9 وملاذ الأخيار 10: 270 ح34. وفي بحار الأنوار 75: 372 ح20 عن عقاب الأعمال: 310 ح1. (3) في ص: 192.
صفحه 197
المسجد يكون موجباً لشهرتهم واهتمامهم بالاُمور المستحسنة، فيزيد شوكتهم وقوّتهم . والرواية حسنة كما مرّ .
بقي الكلام في المسألة في أنّ المراد بالظالم لايكون هو المتلبّس بالظلم ولو مرّة أو مرّات ولو قلنا بأنّ المشتقّ حقيقة فيما انقضى ، بل الذي يعدّ في العرف كذلك لأجل اشتغاله بالظلم نوعاً ، ومن أظهر مصاديقه خلفاء الجور الغاصبين للولاية الحقّة والحكومة الإلهيّة .
وأمّا العاصي، فلايكون مقصوداً في هذه المسألة وإن اُطلق عليه الظالم في بعض التعبيرات القرآنية ، ويؤيّد ما ذكرنا مقابلة العاصين مع الظالمين في بعض الروايات(1) ، فتدبّر .
(1) الكافي 8 : 14 ح2، وعنه وسائل الشيعة 17: 177، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب42 ح1. وفي بحارالأنوار78: 157 قطعة منح11 و12 عن تحف العقول: 254وأمالي المفيد:203قطعة من ح33.
صفحه 198
حفظ كتب الضّلال
مسألة 15 : يحرم حفظ كتب الضلال ونسخها وقراءتها ودرسها وتدريسها إن لم يكن غرض صحيح في ذلك; كأن يكون قاصداً لنقضها وإبطالها، وكان أهلاً لذلك ومأموناً من الضلال . وأمّا مجرّد الاطّلاع على مطالبها، فليس من الأغراض الصحيحة المجوّزة لحفظها لغالب الناس; من العوام الذين يخشى عليهم الضلال والزلل ، فاللاّزم على أمثالهم التجنّب عن الكتب المشتملة على ما يخالف عقائد المسلمين، خصوصاً ما اشتمل منها على شبهات ومغالطات عجزوا عن حلّها ورفعها، ولايجوز لهم شراؤها وإمساكها وحفظها، بل يجب عليهم إتلافها1.
1 ـ قال الشيخ(قدس سره) في محكي الغنائم من المبسوط : إذا وجد في المغنم كتب نظر فيها ـ إلى أن قال ـ وإن كانت كتباً لاتحلّ إمساكها كالكفر والزندقة وما أشبه ذلك، كلّ ذلك لايجوز بيعه ، ثمّ حكم بوجوب تمزيقها وإتلافها، وحكم بكون التوراة والإنجيل من هذا القبيل; لوقوع التحريف فيهما(1) ، ومثله العلاّمة في محكيّ غنائم التذكرة(2) والمنتهى(3) .
ثمّ إنّه يستفاد من حكم الشيخ بكون التوراة والإنجيل من هذا القبيل ـ أي كتب الكفر والزندقة وما أشبه ذلك، نظراً إلى وقوع التحريف فيهما ـ أنّه لا ينحصر عنوان كتب الضلال بخصوص ما كان موضوعاً لإضلال الناس وإغوائهم وانحرافهم عن العقائد الحقّة ، بل يشمل العنوان المذكور ما كان مشتملاً على المطالب الضالّة وإن لم يكن للغرض المذكور .
(1) المبسوط 2: 30. (2) تذكرة الفقهاء 9: 127. (3) منتهى المطلب 2: 1013، الطبعة الحجريّة.
صفحه 199
كما أنّه يستفاد عدم الاختصاص بالكتب التي يكون جميع مطالبه من الأوّل إلى الآخر كذلك ، بل يشمل ما كان فيه مطالب غير صحيحة ولو كانت تلك المطالب جملة من مطالب الكتاب وقسماً من مباحثه ، فالكتب التي صنّفها أرباب المسالك الباطلة كلّها من هذا القبيل ، كما أنّ بعض المجلاّت سيّما المجلاّت المنتشرة في زمن الطاغوت ـ كالمجلّة المنتشرة فيما يرتبط بالنساء ـ من هذا القبيل .
وكيف كان، فقد استدلّ للحرمة وعدم الجواز باُمور :
منها : ما ابتدأ به الشيخ الأعظم وجعله أوّل الأدلّة; وهو حكم العقل بوجوب قلع مادّة الفساد(1).
وأورد عليه بعض الأعلام(قدس سره) بما يرجع إلى أنّ مدرك حكمه إن كان هو حسن العدل وقبح الظلم، فيرد عليه: أنّه لا دليل على وجوب دفع الظلم في جميع الموارد، وإلاّ لوجب على الله الممانعة من الظلم تكويناً ، مع أنّه أقدر الإنسان على فعل الخير والشرّ .
وإن كان مدرك حكمه وجوب الإطاعة وحرمة المعصية; نظراً إلى أمره تعالى بقلع مادّة الفساد ، فيرد عليه: أنّه لا دليل على ذلك إلاّ في موارد خاصّة، كما في كسر الأصنام والصلبان .
نعم ، لو كان الفساد موجباً لسدّ باب الحقّ وإحياء الباطل وتشييد كلمته، وجب دفعه; لأهميّة حفظ الشريعة المقدّسة ، ولكنّه أيضاً وجوب شرعيّ في مورد خاصّ، فلا يرتبط بحكم العقل بقلع مادّة الفساد(2) .
(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1: 233. (2) مصباح الفقاهة 1: 402.
صفحه 200
ومنها : قوله ـ تعالى ـ : {وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}(1) ، وقد قيل في شأن النزول: إنّ الآية نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة; لأنّه كان يشتري كتباً فيها أ حاديث الفرس من حديث رستم واسفنديار; وكان يلهي الناس بذلك ليصدّهم عن سماع القرآن وتدبّر ما فيه(2) .
ويرد عليه :
أوّلاً : أنّه قد ورد في روايات كثيرة متقدّمة(3) ـ وفيها الصحيحة ـ تفسير الآية المزبورة بالغناء، وإن ناقشنا(4) في ذلك بأنّ قول الإمام(عليه السلام) وإن كان بمنزلة القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي للظواهر القرآنيّة، إلاّ أنّ ذلك فيما إذا لم يكن الاستعمال غير صحيح، بل مجازياً مثلاً، وتفسير ما هو من مقولة الكلام بما لا يكون إلاّ مرتبطاً مع الكيفيّة; لما عرفت(5) في حقيقة الغناء ومعناها ممّا لا يكون مناسباً بنظرنا ، فتدبّر .
وثانياً : إنّ المستفاد من الآية ومن شأن النزول هو ثبوت التحريم فيما إذا كان الغرض من الاشتراء هو الإضلال عن سبيل الله، فلا دلالة لها على حرمة الحفظ ومثله فيما إذا لم يكن الغرض ذلك .
وثالثاً : ما عن المحقّق الايرواني في الحاشية من أنّ المراد من الاشتراء هو التعاطئ; وهو كناية عن التحدّث به ، وهذا داخل في الإضلال عن سبيل الله،
(1) سورة لقمان 31: 6. (2) التبيان 8 : 244 ، مجمع البيان 8 : 69، تفسير كنز الدقائق 8 : 7، وفي الكشّاف 3: 490 نحوه. (3) في ص: 166. (4، 5) في ص: 179 ـ 182.
|