صفحه 62
فانقدح من جميع ذلك: أنّ العناية بخصوص البلاغة لا تحتاج في الاستدلال عليها إلى وقوع التحدّي بها في نفس الكتاب العزيز ، كسائر المزايا التي وقع التحدّي بها فيه ، بل تظهر بالتأمّل في تخصيص النبيّ (صلى الله عليه وآله) بهذه المعجزة ، مع ملاحظة معجزات سائر الأنبياء المتقدّمين .
نعم ، لا ينحصر وجه التخصيص فيما ذكر ; لأنّ له وجهاً آخر يعرف ممّا تقدّم ; وهو: أنّ معجزة الخاتم لابدّ وأن تكون باقية إلى يوم القيامة ; لأنّه كما أنّ الحدوث يحتاج إلى الإثبات من طريق الإعجاز كذلك البقاء يفتقر إليه أيضاً ، لا بمعنى أنّ الحدوث والبقاء أمران يحتاجان إلى المعجزة ، ولابدّ من الإتيان بها لكلّ منهما ، بل بمعنى أنّ النبوّة الباقية لابدّ وأن تكون في بقائها غير خالية عن الإعجاز ; ليصدّقها من لم يدرك النبيّ ولم يشاهده .
ومن الواضح: أنّ ما يمكن أن يكون باقياً إنّما هو من سنخ الكتاب ; ضرورة أ نّ مثل انشقاق القمر ، وتسبيح الحصى ، وما يشابههما من المعجزات(1) ـ ممّا لا يتّصف بالبقاء ، بل يوجد وينعدم ـ لا يمكن أن يكون معجزة بالإضافة إلى البقاء ، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ التواتر القطعي بالنسبة إلى كلّ طبقة وكلّ فرد ، ومع ذلك لا يكاد يترتّب عليه الغرض المهمّ ، فالكتاب المستظهر بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّـا لَهُو لَـحَـفِظُونَ ) (2) معجـزة وحيـدة بالإضافـة إلى البقـاء والخلود ، كما
(1) اُنظر حول معجزاته (صلى الله عليه وآله) كتاب إعلام الورى بأعلام الهدى: 1 / 55 ـ 59 ب 2 في ذكر آياته ومعجزاته ، والسيرة النبويّة لابن هشام 1: 250 ، وج2 / 16 ـ 17 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17 :126 ، وبحار الأنوار: 17 / 225ـ 421 ، الميزان فى تفسير القران 19 : 55 . في تفسير سورة القمر ، ويراجع ص89 ـ 91 . (2) سورة الحجر 15 : 9 .
صفحه 63
مرّ(1) البحث في ذلك في توصيف القرآن بخلود الإعجاز .
ثمّ إنّ ها هنا إشكالاً ; وهو: أنّ البلاغة لا يمكن أن تكون من وجوه الإعجاز ، ولا ينطبق عليها المعجز بما اعتبر في معناه الاصطلاحي المتقدّم في أوائل البحث; لأنّه كما عرفت يتقوّم بكونه خارقاً للعادة ، فائقاً على ناموس الطبيعة ، والبلاغة ليس فيها هذه الخصوصيّة التي بها قوام الإعجاز .
وتوضيح ذلك يتوقّف على أمرين:
أحدهما : أ نّ دلالة الألفاظ على المعاني وأماريّتها لها وكشفها عنها ليس لأمر يرجع إلى الذات ، بحيث يكون الاختصاص والدلالة ناشئاً عن ذات الألفاظ بلا مدخليّة جاعل وواضع ، بل هذه الخاصّة اعتباريّة جعليّة ، منشؤها جعل الواضع واعتبار المعتبر ، والغرض منه سهولة تفهيم الإنسان ما في ضميره ، والاستفادة منه في مقام الإفادة ، فالاختصاص إنّما ينشأ من قبل وضع الواضع ، و بدونه لامسانخة بين الألفاظ والمعاني ولادلالة لهاعليها ،وتحقيق هذاالأمر في محلّه .
ثانيهما : أ نّ الواضع ـ على ما هو التحقيق ـ هو الإنسان لا خالقه وبارؤه ; فإنّه هو الذي جعل اللفظ علامة دالّة على المعنى ; لضرورة الحاجة الاجتماعيّة ، وسهولة الإفادة والاستفادة ، والتفهيم والتفهّم .
إذا ظهر لك هذان الأمران ، ينقدح الإشكال في كون البلاغة من وجوه الإعجاز ; فإنّه إذا كان الوضع راجعاً إلى الإنسان ، مجعولاً له ، مترشّحاً من قريحته ، فكيف يمكن أن يكون التأليف الكلامي بالغاً إلى مرتبة معجزة للإنسان ، مع أنّ الدلالة وضعيّة اعتباريّة جعليّة ، ولا يمكن أن يتحقّق في اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة ؟!
مضافاً إلى أنّه على تقدير ثبوته وتحقّقه ، كيف يمكن تعقّل التعدّد والتنوّع للنوع
(1) ص 38 ـ 40 .
صفحه 64
البالغ مرتبة الإعجاز ، والرتبة الفائقة على قدرة البشر ، مع أنّ القرآن كثيراً ما يورد في المعنى الواحد والمقصود الفارد عبارات مختلفة ، وبيانات متعدّدة ، وتراكيب متفرّقة ، سيّما في باب القصص والحكايات الماضية ؟
والجواب عن هذا الإشكال: أ نّ حديث الوضع ، ودلالة الألفاظ على معانيها وإن كان كما ذكر ، إلاّ أنّ استلزام ذلك لعدم كون البلاغة من وجوه الإعجاز ممنوع ; فإنّ الموضوع في باب الألفاظ ووضعها للمعاني إنّما هو المفردات . وأ مّا البلاغة ، فهي لا تتحقّق بمجرّد ذلك ; فإنّه من أوصاف الجملة والكلام ، والاتّصاف بها إنّما هو فيما إذا كانت الجملة التي يركبها المتكلّم ، والكلمات التي يوردها ، حاكية عن الصورة الذهنيّة المتشكِّلة في الذهن ، المطابقة للواقع .
ومن الواضح: أنّ تنظيم تلك الصورة ، وإيراد الألفاظ الحاكية لها من الاُمور التي لا ترجع إلى باب الوضع ودلالة مفردات الجمل وألفاظ الكلمات ، بل يحتاج إلى مهارة في صناعة البيان ، وفنّ البلاغة ، ونوع لطف في الذهن يقتدر به على تصوير الواقع وخصوصيّاته ، وإيجاد الصورة المطابقة له في الذهن .
فانقدح أ نّ اتّصاف الكلام بالبلاغة يتوقّف على جهات ثلاث يمكن الانفكاك بينها ، ومسألة الوضع والدلالة إحدى تلك الجهات ، ولا ملازمة بينها وبين الجهتين الاُخريين .
نعم ، لو قلنا بثبوت وضع للمركّبات زائداً على وضع المفردات التي منها الهيئة التركيبيّة ـ بأن كان في مثل «زيد قائم» وضع آخر زائداً على وضع «زيد»، ووضع «قائم» بمادّته وهيئته ، ووضع هيئة الجملة الإسميّة ، وكان الموضوع في الوضع الزائد مجموع هذه الجملة بما هو مجموعها ، ولا محالة يصير الوضع حينئذ شخصيّاً لا نوعيّاً ، كما هو ظاهر ـ لكان لهذا الإشكال مجال ; إذ كلّ جملة مؤلّفة لابدّ وأن تنتهي إلى وضع الواضع .
صفحه 65
إلاّ أن يقال بثبوت الإعجاز على هذا القول أيضاً ، إمّا بالإضافة إلى تركيب الجملات وتأليفها ; لأنّ انتهاء كلّ جملة إلى وضع الواضع لا يستلزم الاستناد إلى الوضع في مجموع الجملات المؤلّفة ، خصوصاً بعد ملاحظة ما ذكرنا سابقاً(1) من عدم كون الإعجاز وصفاً لكلّ آية من الآيات ، بل غاية ما تحدّى به في الكتاب هو السورة المؤلَّفة من الجملات المتعدّدة ، فالالتزام بالوضع في كلّ جملة لا ينافي الاتّصاف بالإعجاز في المجموع المركّب من الجملات ، كما هو ظاهر ، وإمّا بالإضافة إلى الاستعمالات المجازية التي لا يلزم الانتهاء فيها إلى الوضع بشخصها ، كما لا يخفى .
لكنّ الذي يسهّل الخطب: أ نّه لا مجال لأصل هذا القول ; لعدم كون المركّب أمراً زائداً على مفرداته التي منها الهيئة التركيبيّة ، حتّى يتعقّل فيه الوضع ، وليس هنا من سنخ المعاني معنى أيضاً ، حتّى يفتقر إلى وضع لفظ بإزائه ، وإن نسب هذا القول ابن مالك في بعض كتبه إلى بعض ، ولكنّه أجاب عنه بنفسه وأجاد في مقام الجواب (2) . والتحقيق الزائد في محلّه(3) .
ثمّ إنّه قد ظهر من جميع ما ذكرنا: أنّه قد وقع التحدّي في الكتاب العزيز ببعض وجوه الإعجاز ، وقد مرّ تفصيله(4) ، وهاهنا وجوه اُخر كثيرة صالحة لأن تكون من وجوه الإعجاز وإن لم يقع التحدّي بها فيه ، ولكنّه لا مجال للنقاش في اتّصافها بذلك ، ولا بأس بالتعرّض لبعضها:
(1) في ص 36 ـ 38 . (2) نهاية الدراية: 1 / 76 ، محاضرات في اُصول الفقه : 1 / 125 ، وضع المركّبات ، تهذيب الاُصول: 1 / 74 . حاكياً عن «شرح المفضّل» . (3) سيرى كامل در اصول فقه: 1 / 582 ـ 592 . (4) في ص43 وما بعدها .
صفحه 66
القرآن ومعارفه الاعتقاديّة
من جملة وجوه الإعجاز اشتمال القرآن على الاُصول الاعتقاديّة ، والمعارف القلبيّة الراجعة إلى وجود البارئ وصفاته الجماليّة والجلاليّة ، وإلى ما يرجع إلى الأنبياء وأوصافهم الكماليّة ، وفضائلهم الاختصاصيّة ، بنحو ينطبق على ما هو مقتضى حكم العقل السليم ، والذوق المستقيم ، مع أنّ المحيط الذي نزل فيه الكتاب لم يكن له سنخيّة مع هذه المعارف والاُصول ، ووجه شباهة مع هذه الحقائق والمطالب ; فإنّ هؤلاء الذين نشأ النبيُّ بينهم وفيهم على طائفتين:
طائفة كثيرة كانت وثنيّة معتقدة بالخرافات والأوهام .
وطائفة من أهل الكتاب كانت معتقدة بما في كتب العهدين المحرّفة المنسوبة إلى الوحي .
ولو فرضنا أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكن اُمّياً ـ مع أنّه من الوضوح بمكان ، وقد ادّعاه لنفسه مكرّراً ولم يقع في قباله إنكار ، وإلاّ لنقل كما هو ظاهر ـ وقد أخذ تعاليمه ومعارفه من تلك الكتب ، وكانت هي المصدر لكتابه والمأخذ لقرآنه ; لكان اللاّزم أن ينعكس على أقواله ومعارفه ظلال هذه العقائد الموجودة في المصادر المذكورة ، مع أ نّا نرى مخالفة القرآن لتلك الكتب في جميع النواحي ، واشتماله على المعارف والاُصول الحقيقيّة المغايرة لما في تلك الكتب ; من الخرافات التي لا ينبغي أن يشتمل عليها كتاب البشر ، فضلاً عن الكتاب المنسوب إلى الوحي والنبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وهذا الذي ذكرناه له مجال واسع ، وعليه شواهد كثيرة وأمارات متعدّدة ، ولكنّا نقتصر على البعض خوفاً من التطويل .
فنقول: غير خفيّ على من لاحظ القرآن ، أ نّه وصف الله ـ تبارك وتعالى ـ بما ينطبق على العقل السليم ويتمشّى مع البرهان الصريح ، فأثبت له ـ تعالى ـ ما يليق بشأنه من الصفات الجماليّة ، ونزّهه عمّا لا يليق به من لوازم النقص والحدوث ،
صفحه 67
فوصفه بأنّه تعالى خالق كلّ شيء (1) ، وأ نّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (2) ، وأ نّه الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء (3) ، وأ نّه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (4) ، وأ نّه الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها (5) ، وأ نّه سخّر الشمس والقمر(6) ، وأ نّه عالم الغيب والشهادة وهو العزيز الحكيم (7) ، وأ نّه هو الذي ينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام(8) ، وغير ذلك من الصفات الكماليّة اللاّئقة بشأنه تبارك وتعالى ، وكذا نزّهه عن أن يكون له ولد (9) ، وعن أخذ السِّنة والنوم له (10) ، وغير ذلك ممّا يلازم النقص والإمكان .
وكذلك وصف الأنبياء بما ينبغي أن يوصفوا به ـ وما يناسب ويلائم مقام النبوّة وقدس السفارة ـ في آيات كثيرة (11) ، وإن وقع من بعض المعاندين جمع ما يشعر بصدور ما لا يلائم مقام النبوّة وقدس السفارة من الآيات الظاهرة بدواً في ذلك ، ولكنّه قد اُجيب عنه بأجوبة شافية ، ونزّه الأنبياء من طريق نفس الكتاب ، وبيّن أنّ التأويل في تلك الآيات وضمّ البعض يرشد إلى خلافه . (1) سورة الأنعام 6 : 101 ، سورة الفرقان 25 : 2 . (2 ، 3) سورة آل عمران 3 : 5 ـ 6 . (4) سورة الأنعام 6 : 103 (5 ، 6) سورة الرعد 13 : 2 . (7) سورة التغابن 64 : 18 . (8) سورة لقمان 31: 34 . (9) سورة الإسراء 17 : 111 . (10) سورة البقرة 2 : 255 . (11) سورة القلم 68 : 3 ـ 4 ، سورة الأحزاب 33 : 39 ـ 40 ، سورة الفتح 48 : 28 ـ 29 ، سورة التوبة 9 : 33 . سورة النساء 4 : 163 ـ 166 ، سورة النمل 27 : 15 ، سورة الأعراف 7 : 157 ، سورة الجمعة 62:2 ، سورة آل عمران 3 : 33 ، سورة الزخرف 43: 26 ـ 27 ، سورة الأنعام 6 : 75 ، 84 ، 85 ، 86 ، 87 ، وهناك كثير من الآيات التي تشيد بالأنبياء والرسل وصفاتهم ودورهم ووظيفتهم في تبليغ رسائل السماء وهداية مجتمعاتهم .
صفحه 68
وبالجملة: لا مجال للارتياب في أنّ الكتاب قد وصف الأنبياء بكلّ جميل ، ونزّههم عن كلّ ما لا يليق مع قداسة النبوّة .
وأ مّا كتب العهدين: فتراها في مقام توصيف الله ـ تبارك وتعالى ـ وتوصيف الأنبياء السفراء ، مشتملة على ما لا يرضى به العقل أصلاً ، وما لا ينطبق على البرهان قطعاً ، وقد تعرّض لكثير من هذه الموارد الشيخ العلاّمة البلاغي(قدس سره) (1) في كتابيه «الهدى إلى دين المصطفى» ، و«الرحلة المدرسيّة» .
ومن جملة ذلك ما وقع في محكيّ الإصحاح الثاني والثالث من سفر التكوين من «كتاب التوراة» في قصّة آدم وحوّاء ، وخروجهما من الجنّة ، حيث ذكرت:
«أنّ الله أجاز لآدم أن يأكل من جميع الأثمار إلاّ ثمرة شجرة معرفة الخير والشرّ ، وقال له : «لأنّك يوم تأكل منها موتاً تموت »، ثمّ خلق الله من آدم زوجته حوّاء ، وكانا عاريين في الجنّة ; لأنّهما لا يدركان الخير والشرّ ، وجاءت الحيّة ودلّتهما على الشجرة ، وحرّضتهما على الأكل من ثمرها ، وقالت: إنّكما لا تموتان ، بل إنّ الله عالم أ نّكما يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما ، وتعرفان الخير والشرّ ، فلمّا أكلا منها انفتحت أعينهما وعرفا أ نّهما عاريان ، فصنعا لأنفسهما مئزراً(2) ، فرآهما الربّ وهو يتمشّى في الجنّة ، فاختبأ آدم وحوّاء منه ، فنادى الله آدم أين أنت؟
(1) الإمام المجاهد الشيخ محمد جواد البلاغي ، ولد سنة 1282 هـ في اُسرة هي من أرقى الاُسر العراقيّة ، عرفت بالدين والعلم والأدب ، درس على كبار علماء حوزة النجف الأشرف يومذاك ، منهم: الشيخ محمد كاظم الخراساني ، والميرزا محمد تقي الشيرازي والشيخ محمد طه نجف ، ترك مؤلّفات كثيرة قاربت الخميسن مؤلّفاً في الفقه والاُصول والتفسير ومقارنة الأديان وغيرها ، توفّي سنة 1352 هـ عن سبعين عاماً قضاها عالماً مجاهداً واعياً . الكنى والألقاب: 2 / 94 ـ 95 ، ريحانة الأدب: 1 / 278 ـ 279 ، طبقات أعلام الشيعة ، نقباء البشر في القرن الرابع عشر: 1 / 323 ـ 326 ، معجم المؤلّفين: 3 / 201 ، الرقم 12661 . (2) مدرسة سيّار ، ترجمة الرحلة المدرسيّة أو المدرسة السيّارة: 9 ـ 10 . الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي: 2 / 136 .
صفحه 69
فقال آدم: سمعت صوتك فاختبأت ; لأنّي عريان ، فقال الله: من أعلمك بأنّك عريان؟ هل أكلتَ من الشجرة؟
ثمّ إنّ الله بعدما ظهر له أكل آدم من الشجرة قال: هو ذا آدم صار كواحد منّا ، عارف بالخير والشرّ ، والآن يمدّ يده فيأكل من شجرة الحياة ، ويعيش إلى الأبد ، فأخرجه الله من الجنّة ، وجعل على شرقيها ما يحرس طريق الشجرة»(1) .
وذكر في العدد التاسع من الإصحاح الثاني عشر: أنّ الحيّة القديمة هو المدعوّ بإبليس ، والشيطان الذي يضلّ العالم كلّه .
وفي محكيّ الإصحاح الثاني عشر من التكوين:
«إنّ إبراهيم ادّعى أمام فرعون: أنّ سارة اُخته ، وكتم أنّها زوجته ، فأخذها فرعون لجمالها ، وصنع إلى إبراهيم خيراً بسببها ، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتن وجِمال ، وحين علم فرعون أنّ سارة كانت زوجة إبراهيم (عليه السلام) وليست اُخته قال له: لماذا لم تخبرني أ نّها امرأتك؟! لماذا قلت: هي اُختي حتّى أخذتُها لي لتكون زوجتي؟! ثمّ ردّ فرعون سارة إلى إبراهيم (عليه السلام) »(2) .
اُنظر إلى القصّة الاُولى المشتملة على نسبة الكذب إلى الله جلّ وعلا ، ومخادعته لآدم في أمر الشجرة التي كانت ثمرة الأكل منها حصول المعرفة بالخير والشرّ وإدراكهما ، وفي مقابله نصح الحيّة والشيطان لآدم ، وهدايته إلى طريق المعرفة والإدراك والخروج من الظلمة إلى النور ، مضافاً إلى نسبة الخوف إليه ـ تعالى ـ من أكل آدم شجرة الحياة ، ومعارضته إيّاه في سلطانه ومملكته ، وإلى نسبة الجهل
(1) ترجمة الكتاب المقدس ، أي كتب العهد القديم والعهد الجديد ، ترجم من اللغات الأصليّة وهي اللغة العبرانية واللغة الكلدانية واللغة اليونانية ، الهدى الى دين المصطفى ، للشيخ محمد جواد البلاغي: 3 ـ 5 ب2 و3 . (2) ترجمة الكتاب المقدس: 15 ـ 16 ب12 .
صفحه 70
بمكانهما إليه تعالى حين اختبآ ، وإلى إثبات الجسميّة له تعالى بحيث يمكن له أن يتمشّى في الجنّة ، ويرى على نحوها ما يرى الجسم ، وبعد ذلك فهو صريح في عدم ثبوت الوحدانيّة له تعالى ; فإنّ قوله: «صار كواحد منّا» صريح في عدم انحصار الإلوهيّة في فرد ، وعدم اختصاص مفهوم الواجب بوجود واحد ، مع أنّ نفس هذه القصّة ـ مع قطع النظر عن هذه الإشكالات ـ لا يقبل العقل والذوق مطابقتها للواقع ، فهي بالوضع أشبه .
وانظر إلى القصّة الثانية الدالّة على أنّ إبراهيم ـ وهو من أكرم الأنبياء وأعظمهم ـ صار سبباً لأخذ فرعون زوجته ، ولعلّ الوجه فيه هو الخوف ، مع أنّه لا يتصوّر فيه خوف ; لأنّ اتّصافها بزوجة إبراهيم لا يكاد يترتّب عليه أثر سوء حتّى يخاف منه ، ويسوغ لأجله الكذب في دعوى الاُختيّة ، مع أنّه على تقديره كيف يرضى الفرد العادي في هذه الحال; وهي شدّة الخوف بذلك ، فضلاً عن مثل إبراهيم الذي هو الأساس ، والركن العظيم في باب التوحيد والشريعة ، وقصّته في المعارضة مع عبدة الأصنام مشهورة ؟
فانقدح من ذلك: أنّ ملاحظة القرآن من جهة المعارف الاعتقاديّة ، والاُصول الراجعة إلى المبدإ وأوصافه ، والأنبياء وخصائصهم ، ممّا يرشد إلى اتّصافه بالإعجاز ، مع قطع النظر عن الجهات الكثيرة الاُخر ، الهادية إلى هذا الغرض المهمّ والمقصد العظيم .
القرآن وقوانينه التشريعيّة
من جملة وجوه الإعجاز الكثيرة رعاية القرآن في نظامه وتشريعه ، ولا سيّما في المقايسة مع المقرّرات الرائجة في عصر نزول القرآن ، وورود قوانينه وشرائعه ، وتلك المقرّرات أعمّ من القوانين الشائعة بين الطائفة الوثنيّة التي تكون العمدة فيها
صفحه 71
عبادة الآلهة المصنوعة ، واتّخاذها شفعاءً إلى الله تعالى (1) ، وبعد ذلك شيوع النهب والغارة بينهم ، وابتهاجهم بإقامة الحروب والمعارك ، وقتل الأنفس واغتنام الأموال(2) ، وشيوع الاستقسام بالأنصاب والأزلام ، واعتيادهم شرب الخمر ، واللعب بالميسر ، وافتخارهم بذلك (3) ، والتزويج بنساء الآباء(4) ، ودسّ البنات في التراب (5) ، كما حكاه القرآن بقوله ـ تعالى ـ :
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالاُْنثَى ظَـلَّ وَجْهُهُو مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَ رَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِأَيُمْسِكُهُو عَلَى هُون أَمْ يَدُسُّهُو فِى التُّرَابِ) (6) .
ولكنّ البناء العملي غالباً إنّما كان على الدسّ والدفن في حال الحياة .
ومن القوانين الشائعة بين أهل الكتاب التابعين لكتب العهدين المحرّفة: أ نّ التوراة ـ مع كبر حجمها ـ لا يكون فيها مورد تعرّضت فيه لوجود القيامة ، وعالم الجزاء على الأعمال أصلاً ، مع أنّه من الواضح أنّ الغرض الأقصى والمطلوب الأوّلي في باب الأديان هو تأمين عالم الآخرة ، والدعوة إلى الأعمال الحسنة التي يترتّب عليها الثواب والراحة ، ودخول الجنّة .
وعليه: فكيف يمكن أن يكون كتاب الوحي خالياً عن التعرّض لمثل ذلك العالم ، الذي لا تدركه الحواسّ ، ويحتاج إلى التعرّض والهداية ، وإراءة الطريق إليه ، فضلاً عن الدعوة إلى الأعمال النافعة في ذلك العالم ، الرابحة في سوقه؟!
نعم ، حرّضت التوراة الناس إلى الطاعة والتجنّب عن المعصية من جهة تأثير
(1) انظر بُلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: 2 / 197 ـ 221 . (2) المصدر نفسه: 2 / 562 . (3) المصدر نفسه: 3 / 42 ـ 70 . (4) المصدر نفسه: 2 / 52 ـ 54 . (5) المصدر نفسه: 3 / 42 ـ 44 . (6) سورة النحل 16 : 58 ـ 59 .
صفحه 72
الطاعة في حصول الغنى في الدنيا ، والتسلّط على الناس باستعبادهم ، وتأثير المعصية في تحقّق السقوط من عين الربّ ، وسلب الأموال والشؤون المادّية ، ولأجل عدم دلالة التوراة على وجود عالم الآخرة والدعوة إلى ما يؤثّر فيه; نرى التابعين لها في مثل هذه الأزمنة غير متوجّهين إلاّ إلى الجهات الراجعة إلى عالم المادّة والغنى والمكنة ، ولا نظر لهم أصلاً إلى عالم الآخرة ، ولهم في هذا المجال قصص مضحكة مشهورة .
وفي مقابلها: شريعة الإنجيل ناظرة إلى الآخرة فقط ، ولا تعرّض فيها لصلاح حال الدنيا وشؤونها بوجه من الوجوه .
أ مّا القرآن الكريم: فقد نزل في عصر كان الحاكم عليه القوانين الرائجة بين الوثنيّة من ناحية ، وقوانين التوراة والإنجيل المحرّفة من ناحية اُخرى ، وملاحظة نظامه وتشريعه من حيث هو ـ ولا سيّما مع المقايسة لتلك القوانين الحاكمة في ذلك العصر ـ ترشد الباحث إرشاداً قطعيّاً إلى كونه نازلاً من عند الله تبارك وتعالى .
أ مّا من جهة اشتماله على نظام الدنيا ونظام الآخرة ، وتضمّنه لما يصلح في كلا العالمين ، وتكفّله لما يؤثّر في السعادتين; فلا موقع للارتياب في البين ، ويكفي في الدعوة إلى عالم الآخرة ، الذي قد عرفت أ نّه الغرض الأقصى والمطلوب الأهمّ في الأديان والشرائع الإلهيّة ، مثل :
قوله ـ تعالى ـ : (وَ ابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَـئـكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَْخِرَةَ وَ لاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) (1) .
بل أنّ هذه الآية تدلّ على كلا النظامين ، وعلى أهمّية النظام الاُخروي ورجحانه على النظام الدنيوي .
(1) سورة القصص 28 : 77 .
صفحه 73
وقوله ـ تعالى ـ : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ * وَ مَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ) (1) .
خصوصاً مع ملاحظة ما حكي في شأن هذه الآية عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) من أنّها أحكم آية في القرآن (2) ، ومع ظهورها في أنّ المرئي في عالم الآخرة نفس عمل الخير والشرّ ، الظاهر في تصوّرهما بأنفسهما بالصور الخاصّة المرئيّة في ذلك العالم ، كما يدلّ عليه بعض الآيات الاُخر(3) ، وكثير من الروايات(4) ، وذلك لرجوع الضمير إلى نفس العمل كما هو ظاهر ، فتدبّر!
وأمّا من جهة انطباق قوانينه وشرائعه مع البراهين الواضحة ، والفطرة السليمة ، والأخلاق الفاضلة ، بحيث لا تبقى مع رعايتها بأجمعها وتطبيق العمل عليها ، والالتزام بعدم التخطّي عنها في الأعمال القلبيّة والخارجيّة ، والأفعال الجانحيّة والجارحيّة ، مجالٌ لشائبة النقص والقصور ، وموقعٌ لاحتمال عروض الضعف والفتور ، وبها يمكن التوسّل إلى السعادة المطلوبة ، والوصول إلى الراحة المقصودة في النشأة المادّية والمعنويّة .
فتراه في مواضع متعدّدة يأمر الناس بسلوك العدل ، الذي هي الجادّة الوسطى التي لا انحراف عنها يميناً وشمالاً ; كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
(1) سورة الزلزلة 99 : 7 ـ 8 . (2) ذكر في مجمع البيان 10: 375 في تفسير الآية، أنّ عبدالله بن مسعود قال: أحكم آية في القرآن: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ . . .) إلى آخر السورة . ولم أجد فيما تيسّر أنّ هذا القول للإمام زين العابدين(عليه السلام) . (3) مثل الآية 30 من سورة آل عمران: 3 ، والآية 160 من سورة الأنعام: 6 ، والآية 17 من سورة غافر: 4 . (4) توحيد المفضّل بن عمر: 92 ، أوّل المجلس الثاني ، الكافي 8: 72 ح29 ، تفسير القمّي 2: 433 ـ 434 ، وعنها تفسير كنز الدقائق 11: 479ـ 480 . وفي بحار الأنوار: 3 / 90 عن توحيد المفضّل ، وفي ج6 / 223 ح24 عن أمالي الصدوق: 593 ح822 ، وفي ج78 / 143 ـ 146 ح6 عن أمالي الصدوق وتحف العقول: 249 ـ 259 .
صفحه 74
وَ الاِْحْسَـنِ وَ إِيتَآىِ ذِى الْقُرْبَى) (1) .
وكذا يأمرهم بأن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم ; كما في قوله ـ تعالى ـ : (اهْدِنَا الصِّرَ طَ الْمُسْتَقِيمَ ) (2) .
وكذا ملاحظة سائر قوانينه المؤثّرة في تحصيل السعادة الدنيويّة أو الاُخرويّة ، والخالية عن وصفي الكلفة والحرج ، بحيث أخبر الله ـ تعالى ـ بأنّ ما يكون حرجيّاً لم يكن مجعولاً في الدين والشريعة ، وأ نّه تعلّقت إرادته باليسر ولم تتعلّق بالعسر .
وبالجملة: ملاحظة نظام القرآن وتشريعه ترشد الباحث غير المتعصّب إلى عدم كونه مصنوعاً للبشر ، وأ نّه كيف يمكن له الإحاطة بجميع الخصوصيّات الدخيلة في سعادة الدارين ، حتّى يضع قانوناً منطبقاً عليها ، فضلاً عن القوانين الكثيرة الثابتة في جميع الوقائع والحوادث المبتلى بها ؟
ومن باب المثال: اُنظر إلى قانوني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اللذين هما من الواجبات المسلّمة في الشريعة ، الدالّ عليها الكتاب العزيز والسنّة الشريفة ، وقايس هذا القانون مع التشكيلات العصريّة الكاملة تدريجاً ، التي يكون الغرض من تأسيسها ، والغاية الباعثة على جعلها حفظ القوانين البشريّة ولزوم تطبيق العمل عليها ; فإنّها ـ مع سعتها المحيّرة ، وعظمتها المعجبة ، واستلزامها لصرف مؤنة كثيرة ـ لا تقدر على تحصيل هذا الغرض كما نراه بالوجدان ، فلا تكاد تقدر على الردع عن مخالفتها ، وسدّ باب نقضها مع جعل عقوبات عجيبة ، وتعذيبات شديدة ، لفرض صورة المخالفة ، والفرار عن الموافقة .
وأ مّا قانون القرآن ، فمضافاً إلى عدم افتقاره إلى تشكيلات مخصوصة ومؤنة زائدة ، وما يتضمّن لحفظ القوانين من طريق لزوم مراقبة كلّ فرد بالإضافة إلى
(1) سورة النحل 16: 90 . (2) سورة الفاتحة 1: 6 .
صفحه 75
آخر ، وكونه عيناً عليه، ناظراً له ، فهو ـ أي كلّ واحد من المسلمين ـ يتّصف بأنّه مراقب ـ بالكسر ـ ومراقب ـ بالفتح ـ ولا يتصوّر فوق هذا المعنى شيء ; ضرورة أنّ أعضاء تلك التشكيلات محدودة لا محالة ، وهي لا تتّصف إلاّ بعنوان المراقبة ـ بالكسر ـ بخلاف قانون القرآن .
والإنصاف أ نّ التدبّر في كلّ واحد من القوانين الثابتة في القرآن ـ فضلاً عن جميعها ـ لا يبقي للمرتاب شكّ ولا للمريب وهم ، ويقضي إلى الحكم الجازم ، والتصديق القطعي ، الذي لا ريب فيه بأنّه كتاب نازل من عند الله العالم الخبير ، والحكيم البصير ; كما قال الله ـ تعالى ـ : (ذَ لِكَ الْـكِتَـبُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (1) .
ولكنّ الاهتداء بهدايته والاستضاءة بنوره يحتاج إلى تقوى القلب ، وسلامته عن مرض العناد والتعصّب واللجاج ، وبقائه على الفطرة الأصليّة السليمة القابلة لنور الهداية ، غير المنحرفة عن الجادّة المستقيمة ، التي يكون السالك فيها مطيعاً للفعل ، ومجتنباً عن الضلالة والجهل .
القرآن وأسرار الخلقة
من جملة وجوه الإعجاز الهادية إلى أنّ القرآن قد نزل من عند الله تبارك وتعالى; اشتماله على التعرّض لبعض أسرار الخلقة ، ورموز عالم الكون ، ممّا لا يكاد يهتدي إليه عقل البشر في ذلك العصر ، ولا سيّما من كان في جزيرة العرب ، البعيدة عن التمدّن العصري بمراحل كثيرة ، وهذه الأنباء في القرآن كثيرة ، ولعلّ مجموعها يتجاوز عن كتاب واحد ، وكما أنّ جملة ممّا أخبر به القرآن لم تتّضح إلاّ بعد توفّر
(1) سورة البقرة 2: 2 .
صفحه 76
العلوم والاكتشافات ، وتكثّر الفنون والاختراعات ، كذلك يمكن أن يكون وضوح البعض الآخر متوقّفاً على ارتقاء العلم ، وتكامل البشر في هذا المجال الحاصل بالتدريج ومرور الأزمنة .
ومن المناسب إيراد بعض الآيات الواردة في هذا الشأن ، فنقول:
1 ـ ما ورد في شأن النبات ، وثبوت سنّة الزواج بينها كما في الحيوانات ، وأ نّ اللقاح الذي يفتقر إليه في انتاج الزوجين إنّما يحصل بسبب الرياح ; وهو قوله ـ تعالى ـ : (سُبْحَـنَ الَّذِى خَلَقَ الاَْزْوَ جَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الاَْرْضُ وَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَ مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ) (1) .
وقوله ـ تعالى ـ : (وَ أَرْسَلْنَا الرِّيَـحَ لَوَ قِحَ) (2) .
فإنّ الكريمة الاُولى دلّت على عدم اختصاص سنّة الزواج بالحيوانات ، بل تعمّ النباتات وما لا يعلمه الإنسان من غيرها أيضاً ، بل قدّم ذكر النبات على الإنسان في هذه السنّة ، ولعلّه إشعار بكون هذه السنّة في النباتات قهريّة بخلاف الإنسان الذي يكون الأمر فيه على طبق الاختيار والإرادة .
والآية الثانية تدلّ على أنّ اللقاح الذي يتوقّف عليه إنتاج الشجر والنبات إنّما يتحقّق بسبب الرياح ، وهذا هو الذي اكتشفه علماء معرفة النبات ، ولم يكن يدرك هذا الأمر غير المحسوس من قبل أفكار السابقين ، ولذا التجأوا إلى حمل اللقاح في الآية عل معنى الحمل الذي هو أحد معانيه ، وفسّروا الآية الشريفة بأنّ الرياح تحمل السحاب الممطرة إلى المواضع التي تعلّقت المشيئة بالإمطار فيها(3) .
(1) سورة يس 36 : 36 . (2) سورة الحجر 15: 22 . (3) التفسير الكبير للفخر الرازي: 7 / 134 ـ 135، مجمع البيان : 6 / 101ـ 102 و104 ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 : 15 ـ 16 . حيث ذكروا أقوالاً في معنى (لواقح)، منها: قول ابن عباس: «الرياح لواقح للشجر وللحساب» .
صفحه 77
وأنت خبير; بأنّه لا وجه للحمل على ذلك ، مضافاً إلى عدم صحّته ; لعدم كون الرياح حاملة للسحاب ، بل دافعة لها من مكان إلى آخر ، مع أنّ هذا المعنى ليس فيه اهتمام كبير وعناية خاصّة ، وهذا بخلاف الحمل على ما هو الظاهر فيه .
وحكي أ نّه لمّا اهتدي علماء أُوربا إلى هذا ، وزعموا أ نّه ممّا لم يسبقوا إليه من العلم; صرّح بعض المطّلعين على القرآن منهم بسبق العرب إليه ، فقد قال بعض المستشرقين(1): «إنّ أصحاب الإبل قد عرفوا أنّ الريح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يعلمها أهل أُوربا بثلاثة عشر قرناً» .
نعم ، إنّ أهل النخيل من العرب كانوا يعرفون التلقيح; إذ كانوا ينقلون بأيديهم اللقاح من طلع ذكور النخل إلى إناثها ، ولكنّهم لم يعلموا أنّ الرياح تفعل ذلك ، وأ نّه لا تختصّ الحاجة إلى اللقاح بخصوص النخيل فقط .
2 ـ وما ورد في شأن النبات من جهة أنّ لها وزناً خاصّاً ; وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْء مَّوْزُون ) (2) .
فإنّ علماء معرفة النبات قد أثبتوا أنّ العناصر التي يتكوّن منها النبات مؤلّفة من مقادير معيّنة في كلّ نوع من أنواعه بدقّة غريبة لا يمكن ضبطها إلاّ بأدقّ الموازين المقدّرة ، ولو زيد في بعض أجزائها أو نقص لا يمكن حصول ذلك النبات ، بل يتحقّق مركّب آخر غير هذا النبات .
3 ـ وما ورد في شأن الأرض ، وأ نّها متّصفة بوصف الحركة ، غاية الأمر أ نّه حيث كان سكون الأرض من الاُمور المسلّمة في ذلك العصر ، بل وبعده إلى حدود
(1) وهو المستشرق المستر «أجنيري» الأستاذ في مدرسة أكسفورد في القرن الماضي . ذكر هذا الشيخ محمد علي الصابوني الأستاذ بجامعة اُمِّ القرى بمكّة المكرّمة ، ونسب له القول المذكور في هامش كتابه «التبيان في علوم القرآن» : 188 . (2) سورة الحجر 15 : 19 .
صفحه 78
القرن العاشر من الهجرة; ولذا صار الحكيم المعروف بـ «غاليله» الكاشف لحركة الأرض والمثبت لها ، مورداً للإهانة والتعذيب والتحقير ، مع جلالته العلميّة ، ومقامه الشامخ (1) .
لم يصرّح القرآن بذلك حذراً من ترتّب النتيجة المعكوسة عليه ، وحصول نقض الغرض بسببه ، بل أشار إلى ذلك بإشارات لطيفة ، وإيماءات بليغة ليهتدي إليها البشر في عصر توفّر العلم والاكتشاف ، فيعتقد بأنّ هذا الكتاب نازل من عند الله المحيط بحقائق الأشياء ، والعالم بأسرار الكون ورموز الخليقة ، وقد تحقّقت هذه الإشارة في ضمن آيات كثيرة:
كقوله ـ تعالى ـ : (الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ مَهْدًا) (2) .
فإنّه ـ تعالى ـ قد استعار لفظ «المهد» للأرض ، ومن البيّن أنّ الخصوصيّة المترقّبة من المهد ، المعدّ للرضيع ، والمصنوع لأجله ، والجهة الملحوظة التي بها يتقوّم عنوان المهديّة ليست هي الوضع الخاصّ ، والشكل المخصوص الحاصل من تركيب مواد مختلفة ، وضمّ بعضها إلى بعض ، بل الخصوصيّة هي حركة المهد وانتقاله من حال إلى حال .
ففي الآية الشريفة إشارة لطيفة إلى حركة الأرض ، من جهة استعارة لفظ المهد لها ، وأ نّه كما أنّ حركة المهد لغاية تربية الطفل واستراحته ، كذلك حركة الأرض تكون الغاية لها تربية الموجودات من الإنسان وغيره .
وقوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا) (3) .
(1) الهيئة والإسلام : 79 . (2) سورة طه 20 : 53 ، سورة الزخرف 43: 10 . (3) سورة الملك 67 : 15 .
صفحه 79
فإنّه تعالى قد استعار لفظ «الذلول» للأرض ، مع أنّه عبارة عن نوع خاصّ من الإبل ، ويكون امتيازه بسهولة انقياده ، ففيه إشارة إلى أنّ الخصوصيّة الموجودة ، والذلول التي ليست لغيره ، ثابتة في الأرض ، فهي أيضاً متحرّكة بحركة ملائمة للراكب عليها ، الماشي في مناكبها . ومن البيّن أنّه مع قطع النظر عن هذه الخصوصيّة ـ وهي خصوصيّة الحركة ـ يكون إطلاق لفظ الذلول على الأرض واستعارته لها ليس له وجه ظاهر حسن ، خصوصاً مع تفريع الأمر بالمشي عليه ، وإطلاق لفظ المنكب كما هو غير خفيّ .
وقوله ـ تعالى ـ : (وَ تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء) (1) .
فإنّه بقرينة وقوعها في سياق الآيات الواردة في القيامة وأهوالها ، ربما يقال كما قيل بأنّ هذه الآية أيضاً ناظرة إلى أحوال القيامة وأهوالها ، مع أنّه لا وجه للحمل على ذلك المقام ، خصوصاً مع قوله ـ تعالى ـ في الذيل: (صُنْعَ اللهِ . . .) الظاهر في ارتباط الآية بشؤون الخلقة وابتدائها ، وحسنها وجمالها ، مع أنّها في نفسها أيضاً ظاهرة في أنّ المرور والحركة ثابت للجبال فعلاً ، كما أنّ حسبان كونها جامدة أيضاً كذلك ، فالآية تدلّ على ثبوت المرور والحركة للأرض من بدو خلقتها ومصنوعيّتها ، وأ نّ الحركة دليل بارز على إتقانها .
وفيها إشارات لطيفة ودقائق ظريفة :
من جهة أ نّه تعالى جعل الدليل والأمارة على حركة الأرض حركة الجبال التي هي أوتاد لها ، ولم يثبت الحركة في هذه الآية لنفس الأرض من دون واسطة ، ولعلّه للإشارة إلى أنّ حركة الجسم الكروي بالحركة الوضعيّة دون الانتقاليّة ،
(1) سورة النمل 27 : 88 .
|