صفحه 273
مصاحفنا هذه إلاّ غلمان قريش ، أو غلمان ثقيف(1) .
12 ـ عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن وابن سيرين وابن شهاب الزهري ـ وكان الزهري أشبعهم حديثاً ـ قالوا : لمّا أسرع القتل في قرّاء القرآن يوم اليمامة ، قتل منهم يومئذ أربعمائة رجل ، لقى زيد بن ثابت عمر بن الخطّاب فقال له : إنّ هذا القرآن هو الجامع لديننا ، فإن ذهب القرآن ذهب ديننا ، وقد عزمت أن أجمع القرآن في كتاب ، فقال له : انتظر حتّى أسأل أبا بكر ، فمضيا إلى أبي بكر ، فأخبراه بذلك .
فقال : لا تعجلا حتّى أُشاور المسلمين ، ثمّ قام خطيباً في الناس فأخبرهم بذلك فقالوا : أصبتَ ، فجمعوا القرآن ، وأمر أبو بكر منادياً فنادى في الناس : من كان عنده شيء من القرآن فليجىء به ، فقالت حفصة : إذا انتهيتم إلى هذه الآية فأخبروني : (حَـفِظُوا عَلَى الصَّلَوَ تِ وَالصَّلَوةِ الْوُسْطَى) (2) فلمّا بلغوها قالت : اكتبوا «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر» . فقال لها عمر : ألك بهذا بيّنة؟ قالت : لا ، قال : فوالله لا يدخل في القرآن ما تشهد به امرأة بلا إقامة بيّنة .
وقال عبدالله بن مسعود : اكتبوا : ( وَ الْعَصْرِ إِنَّ الاِْنسَـنَ لَفِى خُسْر) (3) وإنّه فيه إلى آخر الدهر ، فقال عمر : نحّوا عنّا هذه الأعرابيّة(4) .
13 ـ عن خزيمة بن ثابت قال : جئت بهذه الآية : ( لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) إلى عمر بن الخطّاب وإلى زيد بن ثابت ، فقال زيد : من يشهد معك؟
(1) فضائل القرآن لأبي عبيد: 340ـ 341 ، تاريخ المدينة المنوّرة لابن شبّة 3: 1014 ، المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 63 ح35 وص65 ح37 . وفي تاريخ بغداد 2: 538 رقم الترجمة 527 ، وج8: 493ـ 494 رقم الترجمة 3971 ، وكنز العمّال 2: 56 ، الرقم 3106 باختلاف . (2) سورة البقرة 2 : 238 . (3) سورة العصر 103 : 1 ، 2 . (4) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 1: 688 ـ 689 .
صفحه 274
قلت : لا والله ما أدري ، فقال عمر : أنا أشهد معه على ذلك .
14 ـ عن يحيى بن جعدة ، قال: كان عمر لا يقبل آية من كتاب الله حتّى يشهد عليها شاهدان ، فجاء رجل من الأنصار بآيتين ، فقال عمر : لا أسألك عليها شاهداً غيرك ( لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) إلى آخر السّورة .
15 ـ عن أبي إسحاق ، عن بعض أصحابه قال : لمّا جمع عمر بن الخطّاب المصحف سأل عُمَر مَن أعربُ الناس؟ قيل : سعيد بن العاص ، فقال : من أكتبُ الناس؟ فقيل : زيد بن ثابت ، قال : فليُملِ سعيد وليكتب زيد ، فكتبوا مصاحف أربعة ، فأنفذ مصحفاً منها إلى الكوفة ، ومصحفاً إلى البصرة ، ومصحفاً إلى الشام ، ومصحفاً إلى الحجاز .
16 ـ إسماعيل بن عيّاش ، عن عمر بن محمّد بن زيد ، عن أبيه ، أ نّ الأنصار جاؤوا إلى عمر بن الخطّاب ، فقالوا : يا أمير المؤمنين نجمع القرآن في مصحف واحد ؟ فقال : إنّكم أقوام في ألسنتكم لحن ، وأنا أكره أن تحدثوا في القرآن لحناً ، واُبيّ عليهم .
17 ـ عن الزهري ، عن أنس بن مالك ، أنّ حذيفة بن اليمان ، قدم على عثمان ، وكان يُغازي أهل الشام في فتح (فرج خ ل) أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فرأى حذيفة اختلافهم في القرآن ، فقال لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الاُمّة قبل أن يختلفوا في الكتاب ، كما اختلفت اليهود والنصارى .
فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ثمّ نردّها إليك ، فأرسلت حفصة إلى عثمان بالصحف ، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعبدالله بن الزبير أن انسخوا الصحف في المصاحف . وقال للرهط القرشيّين الثلاثة :
ما اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش ، فإنّما نزل بلسانهم ، حتّى
صفحه 275
إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كلّ أُفق بمصحف من تلك المصاحف التي نَسخوا ، وأمر بسوى ذلك في صحيفة أو مصحف أن يحرق(1) .
قال الزهري : وحدّثني خارجة بن زيد أنّ زيد بن ثابت قال : فقدتُ آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرأها : (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوامَاعَـهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ) (2) فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت ، أو ابن خزيمة ، فألحقتها في سورتها(3) .
قال الزهري : فاختلفوا يومئذ في «التابوت» و«التابوه» ، فقال النفر القرشيّون : التابوت ، وقال زيد بن ثابت : التابوه ، فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال : اكتبوه «التابوت»; فإنّه بلسان قريش نزل(4) .
18ـ عن أيّوب ، عن أبي قلابة قال : لمّا كان في خلافة عثمان جعل المعلّم يعلِّم قراءة الرجل ، والمعلِّم يعلِّم قراءة الرجل ، فجعل الغلمان يتلقّون (يلتقون خ ل) فيختلفون حتّى ارتفع ذلك إلى المعلّمين ، قال أيّوب: لا أعلمه إلاّ قال: حتّى كفر بعضهم بقراءة بعض ، فبلغ ذلك عثمان ، فقام خطيباً فقال : أنتم عندي تختلفون وتلحنون ، فمن نأى عنّي من الأمصار أشدُّ اختلافاً وأشدّ لحناً ، فاجتمعوا يا أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله) فاكتبوا للناس إماماً(5) .
قال أبو قلابة : فحدّثني أنس بن مالك ـ قال أبو بكر بن أبي داود : هذا أنس
(1) إلى هنا رواه ابن شبّة في تاريخ المدينة المنوّرة 3: 991ـ 992 والنسائي في السنن الكبرى 5: 6 ح7988 والبغوي في شرح السنّة 4: 519 ح1232 باختلاف . (2) سورة الأحزاب 33 : 23 . (3) إلى هنا رواه أبو عبيد في فضائل القرآن: 282 والبخاري في صحيحه 6: 120ـ 121 ح4987 و4988 . (4) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 88 ـ 90 ح67ـ 69 ، سنن الترمذي 5: 284 ح3113 ، جامع الاُصول 2: 503 ـ 506 ح975 . (5) إماماً: مصحفاً قدوةً لمصاحف الأمصار والبلاد .
صفحه 276
ابن مالك جدّ مالك بن أنس ـ قال : كنت فيمن اُملي عليهم ، فربما اختلفوا في الآية ، فيذكرون الرجل قد تلقّاها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولعلّه أن يكون غائباً ، أو في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ، ويدعون موضعها حتّى يجيء أو يُرسِل إليه ، فلمّا فرغ من المصحف كتب إلى أهل الأمصار : إنّي قد صنعت كذا ، وصنعت كذا ، ومحوتُ ما عندي ، فامحوا ما عندكم (1) .
19 ـ عن ابن شهاب قال : بلغنا أ نّه كان أُنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب ، فلمّا جمع أبو بكر وعمر وعثمان القرآن ولم يوجد مع أحد بعدهم ; وذلك فيما بلغنا حملهم على أن تتبّعوا القرآن ، فجمعوه في الصحف في خلافة أبي بكر خشية أن يقتل رجال من المسلمين في المواطن معهم كثير من القرآن ، فيذهبوا بما معهم من القرآن ، فلايوجد عند أحد بعدهم ، فوفّق الله عثمان ، فنسخ ذلك المصحف في المصاحف ، فبعث بها إلى الأمصار ، وبثّها في المسلمين(2) .
20ـ عن مصعب بن سعد قال : سمع عثمان قراءة أُبيّ، وعبدالله، ومعاذ ، فخطب الناس ثمّ قال : إنّما قبض نبيّكم (صلى الله عليه وآله) منذ خمس عشرة سنة وقد اختلفتم في القرآن ، عزمتُ على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، لما أتاني به ، فجعل الرجل يأتيه باللوح والكتف والعسيب فيه الكتاب ، فمن أتاه بشيء قال : أنت سمعتَه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ ثمّ قال : أيّ الناس أفصحُ؟ قالوا : سعيد بن العاص ، ثمّ قال : أيّ الناس أكتب؟ قالوا : زيد بن ثابت ، قال : فليكتب زيد وليمل سعيد . فكتب مصاحف فقسّمها في الأمصار ، فما رأيت أحداً عاب ذلك عليه(3) .
(1) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 95 ـ 96 ح74 و 75 . (2) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 100 ح81 ، وتقدّم صدره في ص 210. (3) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 101 ح83 .
صفحه 277
21ـ عن أبي المليح ، قال : قال عثمان بن عفّان حين أراد أن يكتب المصحف : يملي هذيل ، ويكتب ثقيف(1) .
22ـ عن عبد الأعلى بن عبدالله بن عامر القرشي ، قال : لمّا فرغ من المصحف أتى به عثمان ، فنظر فيه فقال : قد أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئاً من لحن ستُقِيمُه العرب بألسنتها(2) .
23ـ عن عكرمة قال : لمّا أُتيَ عثمان بالمصحف رأى فيه شيئاً من لحن ، فقال : لو كان المُملي من هُذيل ، والكاتب من ثقيف ، لم يوجد فيه هذا(3) .
24ـ عن عطاء: أ نّ عثمان بن عفّان لمّا نسخ القرآن في المصاحف أرسل إلى أُبيّ بن كعب ، فكان يُملي على زيد بن ثابت وزيدٌ يكتب ومعه سعيد بن العاص يُعربه ، فهذا المصحف على قراءة أُبيّ وزيد .
25ـ عن مجاهد: أنّ عثمان أمر أُبيّ بن كعب يملي ، ويكتب زيد بن ثابت ، ويُعربه سعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث .
26ـ عن زيد بن ثابت : لمّا كتبنا المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فوجدتها عند خزيمة بن ثابت : (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ـ إلى قوله : ـ تَبديلاً) (4) ، قال: وكان خزيمة يدعى ذا الشهادتين ، أجاز رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهادته بشهادة رجلين(5) . (6)
(1) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 105 ـ 106 ح91 . (2) تاريخ المدينة المنوّرة لابن شبّة 3: 1013 ، المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 120 ح 102. (3) فضائل القرآن لأبي عبيد: 340 ـ 341 ، المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 127 ح108 . (4) سورة الأحزاب 33: 23 . (5) المصنّف لعبد الرزّاق 8 : 367 ح15568 وج11: 235 ح20416 ، صحيح البخاري 6: 26 ب3 ح4784 ، المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 109 ح92 ، شرح السنّة 4: 515 ح1231 . (6) كنز العمّال: 2 / 571 ـ 588 جمع القرآن ح 4751 ـ 4762، 4764 ، 4766 ـ 4768 ، 4775 ، 4776 ، 4778 ، 4780 ، 4783 ، 4784 ، 4787 ، 4789 ، 4790 ، 4793 .
صفحه 278
وهنا بعض الروايات الاُخر ، مثل:
ما في المحكي عن الإتقان ، قال : أخرج ابن أشتة في المصاحف ، عن الليث بن سعد ، قال : أوّل من جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد ابن ثابت ، فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدي عدل ، وأ نّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت ، فقال : اكتبوها; فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب ، وإنّ عمر أُتِىَ بآية الرجم فلم يكتبها ; لأ نّه كان وحده (1) .
وأصرح من الجميع ما حكاه في الإتقان عن «فوائد الديرعاقولي»(2) قال : حدّثنا إبراهيم بن بشّار ، حدّثنا سفيان بن عُيينة ، عن الزهري ، عن عبيد ، عن زيد ابن ثابت ، قال : قبض النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولم يكن القرآن جمع في شيء (3) .
هذه هي أهمّ الروايات الواردة في باب جمع القرآن ، والظاهرة في أنّه لم يتحقّق في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) المتوافقة على هذه الجهة .
نقد روايات جمع القرآن
وهذه الروايات مخدوشة من جهات مختلفة :
الجهة الاُولى: تناقضها في نفسها
إنّها متناقضة في أنفسها ، فلا تصلح للاعتماد عليها والركون إليها ، والتناقض فيها في اُمور متعدّدة متكثِّرة ، عمدتها ترجع إلى الاُمور التالية :
الأوّل : ظاهر جملة من الروايات المتقدّمة ـ كالرواية الاُولى والثانية والثالثة
(1) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 206 ، النوع الثاني عشر . (2) الدير عاقولي: منسوب إلى منطقة دير العاقول القريبة من بغداد . (3) الإتقان في علوم القرآن 1 / 202 ، النوع الثامن عشر .
صفحه 279
والرابعة والخامسة والسادسة ـ : أ نّ الجمع كان في زمن أبي بكر ، وأ نّه فَرِقَ على القرآن يضيع . وظاهر البعض الآخر ـ كالرواية الثامنة المصرّحة بأنّ عمر أمر بالقرآن فجمع ، وأ نّه أوّل من جمعه في المصحف ، وكذا الرواية الخامسة عشرة ـ أنّ الجامع للقرآن هو عمر . وصريح البعض الآخر الجمع كان في زمن عثمان ، وفي الرواية السابعة : تصريح بأنّه قتل عمر ولم يجمع القرآن .
وهنا رواية اُخرى تدلّ على أنّ الجامع سالم مولى أبي حذيفة :
أخرج ابن أشتة في محكي كتاب «المصاحف» من طريق كهْمس ، عن ابن بُريدة ، قال : أوّل من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة ، أقسم لا يرتدي برداء حتّى يجمعه ، فجمعه ، ثمّ ائتمروا ما يسمّونه ؟ فقال بعضهم سمّوه «السفر» ، قال : ذلك اسم تسمّيه اليهود ، فكرهوه ، فقال : رأيت مثله بالحبشة يسمّى «المصحف» ، فاجتمع رأيهم على أن يسمّوه «المصحف »(1) . ولكنّ الرواية غريبة ، وفيها جهات من الإشكال .
الثاني : ظاهر الرواية الخامسة : أنّ أبا بكر بنفسه كان قد جمع القرآن في قراطيس ، وسأل زيد بن ثابت النظر في ذلك ، فأبى حتّى استعان عليه بعمر . وظاهر الرواية الاُولى وبعض الروايات الاُخر : أنّ الجمع قد وقع بيد زيد بن ثابت ، وأ نّه لم يصدر من أبي بكر في هذه الجهة إلاّ الأمر والمطالبة والاستدعاء ، ويظهر من بعضها : أ نّ المتصدّي لذلك هو زيد بن ثابت وعمر بن الخطّاب .
الثالث : ظاهر الرواية الاُولى : أنّ الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن ، وأخبره بأنّ القتل قد استحرّ بقرّاء القرآن في يوم اليمامة ، هو عمر بن الخطّاب ، وأنّ زيداً امتنع من ذلك أوّلاً . وظاهر الرواية الثانية عشرة : أنّ زيد بن ثابت لقي عمر
(1) الإتقان في علوم القرآن 1: 205 ، النوع الثامن عشر .
صفحه 280
ابن الخطّاب وأخبره بعزمه على جمع القرآن ، فقال له : انتظر حتّى أسأل أبا بكر ، فمضيا إليه فأخبراه بذلك ، فنهاهما عن العجلة حتّى يشاور المسلمين ، وظاهر الرواية الرابعة : أنّ أبا بكر فَرِقَ على القرآن أن يضيع ، فأمر عمر بن الخطّاب وزيد بن ثابت أن يقعدا على باب المسجد لجمع القرآن .
الرابع : ظاهر الرواية الاُولى : أ نّ الذي جمع القرآن ـ بعدما أمر به ـ هو زيد بن ثابت فقط ، وأ نّه الذي فوّض إليه ذلك وتتبّع القرآن بأجمعه من الرقاع واللخاف والأكتاف والعسب وصدور الرجال . وظاهر مثل الرواية السادسة : أ نّه أمر أبو بكر عمر بن الخطّاب وزيد بن ثابت ، فقال : اجلسا على باب المسجد واكتبا ماشهد به شاهدان .
الخامس : ظاهر الرواية الخامسة والسابعة عشرة : أنّ الذي استند إليه عثمان في جمعه واعتمد عليه هي الصحف التي كانت عند حفصة زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وهي التي كتبت في زمن أبي بكر ، وكانت عنده في حياته ، ثمّ عند عمر زمن حياته ، ثمّ انتقلت إلى حفصة . وظاهر مثل الرواية التاسعة : أ نّه قام عثمان بعد عمر فقال : من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به ، وكان لا يقبل من ذلك شيئاً حتّى يشهد عليه شاهدان ، وقد وقع التصريح في بعض الروايات ـ وهي الرواية العشرون ـ بأنّه اعتمد في ذلك على ما أتاه به الرجل من اللّوح والكتف والعسيب ، وعلى إخباره بأنّه سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
السادس : صريح الرواية السابعة عشرة ، والسادسة والعشرين : أنّ الآية التي فقدها زيد بن ثابت ، ووجدها عند خزيمة بن ثابت ، هي آية واحدة من سورة الأحزاب ; وهي قوله ـ تعالى ـ : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـهَدُوااللَّهَ عَلَيْهِ . . .) (1) . وصريح مثل الرواية الاُولى : أ نّ ما وجِد عند خزيمة آيتان من
(1) سورة الأحزاب 33: 23 .
صفحه 281
البراءة ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الرواية الاُولى : أ نّ إلحاق ما جاء به خزيمة كان في زمن أبي بكر ، وظاهر الرواية التاسعة : أ نّ الإلحاق كان في زمن عثمان ، وظاهر البعض الآخر كالرواية الثالثة : أ نّ الإلحاق كان في زمن عمر .
مضافاً إلى أنّ ظاهر بعض الروايات : أ نّه قَبِلَ ما جاء به خزيمة من دون أن يقترن بشهادة شاهدين ; نظراً إلى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجاز شهادته بشهادة رجلين ، وفي بعضها : أ نّه قَبِلَ لاقترانه بشهادة عمر ، وتصديقه إيّاه في كون ما جاء به من القرآن ، مع أنّ كلاًّ منهما يتناقض مع ما يدلّ على أنّه لا يقبل إلاّ ما شهد به شاهدان ; لأنّ الظاهر أنّ الشاهدين غير المدّعي ، فهما بضميمة المدّعي ثلاث نفرات ، فإجازة رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهادته بشهادة رجلين لا تدلّ إلاّ على كونه قائماً مقام اثنين في مقام الشهادة ، لا قبول دعواه من دون بيّنة ، أو كونه معدوداً من الشاهدين ، فيكفي الشاهد الواحد كما لا يخفى .
ومضافاً إلى عدم احتياج الأمر إلى الشهادة أصلاً ; وذلك; لأنّ المفروض بحسب تعبير الرواية كون الموجود عند خزيمة هو الذي فقده زيد ، ومع وضوح كون المفقود هو الموجود عنده لا حاجة إلى الشهادة ، كما لا يخفى على اُولي الدراية .
السابع : ظاهر الرواية الخامسة عشرة : أ نّ الذي أرسل المصاحف إلى البلاد هو عمر بن الخطّاب ، وظاهر البعض الآخر ، كالرواية السابعة عشرة : أ نّ الذي بعث مصحفاً إلى كلّ اُفق هو عثمان .
الثامن : ظاهر بعض الروايات ـ كالرواية السابعة عشرة ـ أ نّ عثمان عيّن للكتابة والنسخ زيد بن ثابت ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وعبدالله بن الزبير . وظاهر الرواية العشرين : أ نّه عيّن زيداً للكتابة ; لأنّه أكتبُ الناس ، وسعيداً للإملاء ; لأ نّه أفصحُ الناس ، وظاهر الرواية الواحدة والعشرين : أ نّه أمر بأن يملي هذيل ، ويكتب ثقيف . وظاهر الرواية الثالثة
صفحه 282
والعشرين : أ نّه لم يتحقّق إملاء هذيل ، وكتابة ثقيف ، وظاهر الرواية الرابعة والعشرين والخامسة والعشرين: أنّ الإملاء كان من اُبيّ بن كعب ، والكتابة من زيد بن ثابت ، والإعراب من سعيد بن العاص ، كما في الاُولى منهما ، وزيادة عبدالرحمن بن الحارث ، كما في الثانية منهما .
هذه هي عمدة الاُمور التي تكون الروايات المتقدّمة متناقضة فيها ، وهنا بعض الاُمور الاُخر يظهر بالتأمّل ودقّة النظر ، ومع هذه المتناقضات ، كيف تصلح هذه الروايات للركون والاعتماد عليها في هذا الأمر الخطير ، الذي لا يساعده شيء من العقل والنقل ، كما سيظهر عن قريب إن شاء الله تعالى ؟!
إن قلت : هذه الروايات مع كونها متكثّرة جدّاً ـ وإن لم تكن متّصفة بوصف التواتر; لما ذكر من ثبوت المناقضة والمعاندة بينها ـ إلاّ أنّ اتّصافها بوصف التواتر المعنوي ـ الذي مرجعه في المقام إلى اتّفاقها على عدم تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ووقوعه بعده إجمالاً وإن لم تعلم كيفيّته وخصوصيّاته ، وأ نّه وقع بيد الأوّل أو الثاني ، أو الثالث ، أو غيرهم ـ ممّا لا يكاد ينبغي أن يُنكر ، ولو نوقش في هذا الاتّصاف ، فلا أقلّ من اتّصافه بالتواتر الإجمالي الذي يرجع إلى العلم الإجمالي بمطابقة إحداها للواقع ونفس الأمر ، وهو يكفي للقائل بالتحريف بعد اتّفاقها على عدم تحقّق الجمع في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
قلت : الاتّصاف بالتواتر الإجمالي ـ كما اعترف به ـ فرع تحقّق العلم الإجمالي بمطابقة إحداها للواقع ، أو بصدورها عن المعصوم (عليه السلام) ، وبدون تحقّق هذا العلم لامجال لهذا الاتّصاف أصلاً ، ونحن نمنع تحقّقه ; لعدم ثبوت العلم واليقين وجداناً ، لابصدورها عن المعصوم (عليه السلام) ; لعدم كون شيء من تلك الروايات منسوبة إليه وحاكية لقوله (عليه السلام) ونحوه ، ولا بالمطابقة للواقع ; لأنّ الوجدان يقضي بعدمه ، فدعوى التواتر ولو إجمالاً ممّا لا يدّعيها المنصف .
صفحه 283
الجهة الثانية: تعارضها مع روايات اُخرى
إنّ هذه الروايات معارضة بما يدلّ على أنّ القرآن كان قد جمع وكتب في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وهذه الروايات أيضاً كثيرة:
1 ـ روى البخاري في إحدى رواياته ، عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: مَنْ جمع القرآن على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ؟ قال: أربعة كلّهم من الأنصار: اُبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (1) . وروى في موضع آخر مكان اُبيّ بن كعب، أبا الدرداء (2) .
2 ـ روى الخوارزمي في محكيّ مناقبه عن عليّ بن رباح قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) واُبيّ بن كعب (3) .
3 ـ روى الحاكم في «المستدرك» بسند صحيح على شرط الشيخين ، عن زيد ابن ثابت قال: كنّا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) نؤلِّف القرآن من الرقاع . . . (4) .
4 ـ وفي «الإتقان»: أخرج أحمد(5) وأبو داود(6) ، والترمذي(7) ، والنسائي(8) ، وابن حبّان(9) ، والحاكم(10) عن ابن عبّاس ، قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم بينهما ،
(1 ، 2) صحيح البخاري: 6 / 125 ، كتاب فضائل القرآن ب 8 ح 5003 و 5004 ، جامع الاُصول 2: 507 ح976 ، الإتقان في علوم القرآن 1: 244 ـ 245 . (3) المناقب للخوارزمي: 93 ح 91 ، ورواه أيضاً في شواهد التنزيل 1: 35 ح22 . (4) المستدرك على الصحيحين : 2 / 249 ح 2901 . (5) المسند لابن حنبل 1: 126 ح399 . (6) سنن أبي داود: 128 ح786 و 787 . (7) سنن الترمذي 5: 272 ح3095 . (8) السنن الكبرى للنسائي 5: 10 ح8007 . (9) صحيح ابن حبّان 1: 230 ح43 ، موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبّان: 125 ح452 . (10) المستدرك على الصحيحين 2: 241 ح2875 وص360 ح3272 .
صفحه 284
ولم تكتبوا بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموها في السبع الطُّوَل؟ .
فقال عثمان: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء ، دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا . وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً ، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها ، فظننت أنّها منها ، فقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يبيّن لنا أ نّها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم » ووضعتها في السبع الطُّوَل(1) . (2) (1) فضائل القرآن لأبي عبيد: 285 ـ 284 ، تاريخ المدينة المنوّرة لابن شبّة 3: 1015ـ 1016 ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، 1: 56 ح131 ، المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 114ـ 119 ح97 ـ100 مشكل الآثار 2: 151ـ 152 ، الكشف والبيان 5: 5 ، السنن الكبرى للبيهقي 2: 336 ح2427 ، دلائل النبوّة له 7: 152ـ 153 ، كنز العمّال 2: 579 ح4770 . (2) الإتقان في علوم القرآن 1: 212 ، وقال السيوطي أيضاً فيه في خاتمة النوع السابع عشر ج 1/ 201 : «أخرج أحمد [ 6 : 44 ح16979] وغيره [ مسند أبي داود الطيالسي: 136 ح1012 ، مشكل الآثار 2: 154 المعجم الكبير للطبراني 22: 75 ـ 76 ح186 و 187 ، شعب الإيمان 4: 71 ح2192 وص108 ح2255 و 2256 ، مجمع الزوائد 7: 46 و 158] من حديث واثلة بن الأسقع ، أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: اُعطيت مكان التوراة السبع الطّول ، واُعطيت مكان الزبور المِئين ، واُعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفُضِّلت بالمفصَّل . وهذه الرواية تدلّ على انقسام السور القرآنية في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبلسانه بالأقسام الأربعة ، واختصاص كلّ قسم منها بعنوان خاصّ . وقال السيوطي فيه أيضاً في خاتمة النوع الثامن عشر : 1/ 220 ، الذي تعرّض فيه لجمع القرآن وترتيبه: «السبع الطّول : أوّلها البقرة وآخرها براءة ، كذا قال جماعة ، لكن أخرج الحاكم والنسائي وغيرهما [ المستدرك على الصحيحين 2: 386 ح3353 ، السنن الكبرى للنسائي 6: 375 ح11276 ، وفي التمهيد ج 8 / 295: ثمانية بإضافة الأنفال والبراءة] عن ابن عبّاس قال : السبع الطول : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف . قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها . وفي رواية صحيحة عن ابن أبي حاتم وغيره [ تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم 7: 2272 ح12444 ، شعب الإيمان 4 / 73 ح2195] ، عن مجاهد ، عن سعيد بن جبير أنّها ـ يعني السابعة ـ يونس ، وتقدّم عن ابن عبّاس مثله في النوع الأوّل ، وفي رواية عند الحاكم أ نّها الكهف . والمئون : ماولِيَها ، سمّيت بذلك ; لأنّ كلّ سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها . والمثاني: ما وَلِيَ المئين ; لأ نّها ثنتها ـ أي كانت بعدها ـ فهي لها ثوان ، والمئون لها أوائل . وقال الفرّاء: هي السورة التي آيها أقلّ من مائة آية ; لأ نّها تثنّى أكثر ممّا يثنّى الطُّوَل والمئون ، وقيل: لتثنية الأمثال فيها بالعبر ، والخبر ، حكاه النكزاوي . وقال في جمال القرّاء: هي السور التي ثنيت فيها القصص ، وقد تُطلق على القرآن كلّه ، وعلى الفاتحة كما تقدّم . والمفصَّل ما ولي المثاني من قصار السور ; سمّي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة . وقيل: لقلّة المنسوخ منه ; ولهذا يسمّى بالمحكَم أيضاً ، كما روى البخاري في صحيحه [ 6: 134 ح 5035 وابن الأثير في جامع الاُصول 2: 508 ح977] عن سعيد بن جبير قال: إنّ الذي تدعونه المفصَّل هو المحكَم . وآخره سورة «الناس» بلا نزاع . وسيأتي في المتن رواية ابن عبّاس التي عبّر فيها بالمحكم ، ويحتمل أن يكون مراده خصوص السورة المفصّلة .
صفحه 285
5 ـ خرّج البيهقي وأبو داود(1) عن الشعبي قال: جمع القرآن على عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ستّة: أُبيّ ، وزيد ، ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبادة(عبيد خ ل) ، وأبو زيد ، ومجمَّع بن جارية قد قرأه إلاّ سورة أو سورتين (2) .
6 ـ خرّج ابن سعد في محكي «الطبقات» : أخبرنا الفضل بن دُكين ، حدّثنا الوليد بن عبدالله بن جميع ، قال: حدّثتني جدّتي عن اُمّ ورقة بنت عبدالله بن الحارث ـ وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يزورها ويسمّيها الشهيدة ، وكانت قد جمعت القرآن ، وكان رسول الله حين غزا بدراً ـ قالت له: تأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم واُمرّض مرضاكم ، لعلّ الله يهدي لي شهادة؟! قال: إنّ الله مهد لكِ شهادة (3) .
(1) السنن الكبرى للبيهقي 9: 245 ح12437 ، مسند أبي داود الطيالسي: 270 ح2018 ، وفيهما: أربعة، بدل ستّة ، وكذا في السنن الكبرى للنسائي 5: 9 ح8000 . (2) المعجم الكبير للطبراني 2: 261 ، تاريخ مدينة دمشق 19: 309 ، اُسد الغابة 1: 359 رقم الترجمة 665 ، تهذب الكمال 27: 245 ، مجمع الزوائد 9: 312 ، الإتقان في علوم القرآن: 1 / 248 ، النوع العشرون ، وفي بعضها: جارية بن مجمّع بن جارية. (3) الطبقات الكبرى لابن سعد: 8 / 457 . الإتقان في علوم القرآن: 1 / 250 ، النوع العشرون .
صفحه 286
7 ـ عن محمّد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) خمسة من الأنصار : معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وأُبيّ بن كعب ، وأبوالدرداء ، وأبو أيّوب الأنصاري(1) .
8 ـ ابن عبّاس: جمعت المحكَم في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2) ، بناءً على أن يكون المراد بالمحكم هو مجموع القرآن ، وأ مّا بناءً على أن يكون المراد به هو خصوص السور المفصّلة ـ كما تقدّم في عبارة السيوطي ـ فالرواية لا تدلّ على تعلّق الجمع بمجموع القرآن ، لكنّ الظاهر أنّ هذا الاحتمال بعيد .
9 ـ الرواية السادسة من الروايات المتقدّمة(3) ، المشتملة على التعليل بأنّه قُتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد جمعوا القرآن .
10 ـ عن مسروق قال: ذُكر عبدالله بن مسعود عند عبدالله بن عمرو ، فقال: ذاك رجل لا أزال اُحبّه ، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود ـ فبدأ به ـ وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وأُبيّ بن كعب»(4) .
هذه هي الروايات الواردة الظاهرة في أنّ الجمع للقرآن قد تحقّق في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
أضف إلى ذلك ما ذكره محمّد بن إسحاق في الفهرست : من أنّ الجمّاع للقرآن في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) هم : عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، سعد بن عبيد بن النعمان بن عمرو بن زيد ،
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 356 ـ 357 ، سير أعلام النبلاء 3: 354 ترجمة عبادة بن الصامت ، الإتقان في علوم القرآن: 1 / 248 ، النوع العشرون: 248 . (2) صحيح البخاري: 6 / 134 ، كتاب فضائل القرآن ب 25 ح 5036 . (3) في ص271 . (4) صحيح البخاري: 4 / 276 ، كتاب مناقب الأنصار ب 16 ح 3808 ، الإتقان 1: 244 .
صفحه 287
أبو الدرداء عويمر بن زيد ، معاذ بن جبل بن أوس ، أبو زيد ثابت بن زيدبن النعمان ، أُبيّ بن كعب بن قيس بن ملك بن امرئ القيس ، عبيد بن معاوية بن زيد ابن ثابت بن الضحاك(1) .
وما قاله الحارث المحاسبي(2) في محكيّ كتاب «فهم السنن» ممّا هذا لفظه: كتابة القرآن ليست بمحدثة ; فإنّه (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بكتابته ، ولكنّه كان مفرَّقاً في الرقاع والأكتاف والعُسُب ، فإنّما أمر الصدِّيق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعاً ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وُجدت في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فيها القرآن منتشر ، فجمعها جامع وربطها بخيط حتّى لا يضيع منها شيء(3) .
الجهة الثالثة: تعارضها مع الكتاب والعقل
إنّ هذه الروايات التي استند إليها القائل بالتحريف مخالفةٌ للكتاب والعقل:
أمّا مخالفتها للكتاب; فلأنّه قد وقع في الكتاب العزيز تعبيرات لا تتلاءم إلاّ مع تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتميّز السور بعضها عن بعض ، وحصول التأليف والتركيب بين الآيات ، بل وبين السّور ، وذلك مثل التعبير بـ «السورة» في آيات متعدّدة; كآيات التحدّي بالسورة(4) ، أو بعشر سور(5) ; فإنّ هذا التعبير لا يتلاءم
(1) كتاب الفهرست للنديم: 30 . (2) هو الحارث بن أسد المحاسبي ، ويكنّى أبا عبدالله ، من أكابر الصوفيّة ، كان عالماً بالاُصول والمعاملات ، له كتاب الرعاية لحقوق الله عزّوجلّ ، وهو اُستاذ أكثر البغداديّين في عصره ، توفّي ببغداد سنة 243هـ . اُنظر (وفيات الأعيان لابن خلّكان) 2: 57 ـ 58 ، وتهذيب التهذيب 2: 134 ، الرقم 226 . (3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 206 ـ 207 ، النوع الثامن عشر . (4) سورة البقرة 2: 23 ، سورة التوبة 9: 64 ، 86 ، 124 و 127 ، سورة يونس 10: 38 ، سورة النور 24: 1 ، سورة محمّد (صلى الله عليه وآله) 47: 20 . (5) سورة هود 11: 13 .
صفحه 288
مع تفرّق الآيات وتشتّتها ، وعدم تحقّق التأليف والتركيب بينها ; ضرورة أنّ السورة عبارة عن مجموعة آيات متعدّدة مركّبة منضمّة متناسبة من حيث الغرض المقصود منها ، فالتعبير بها لا يتناسب إلاّ مع التميّز والاختصاص .
ومثل التعبير عن القرآن بـ «الكتاب» ، كما في آيات كثيرة التي منها: قوله ـ تعالى ـ : (ذَ لِكَ الْـكِتَـبُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (1) . وقوله ـ تعالى ـ : (كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّـلُمَـتِ إِلَى النُّورِ) (2) .
وقد وقع هذا الإطلاق في لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله) في مثل حديث الثقلين المعروف بين الفريقين (3); فإنّ لفظ «الكتاب» ظاهر في المكتوب الذي كان مجموعاً مؤلّفاً ، ولو نوقش في هذا الظهور بملاحظة أصل اللغة ، فلا مجال للمناقشة بالنظر إلى العرف العامّ الذي اُلقي عليهم مثل هذه التعبيرات ; ضرورة أنّ ظهوره في المجموع المؤلّف ممّا لا ينبغي الارتياب فيه بهذا النظر ، فتدبّر .
وأ مّا مخالفتها للعقل ; فلأنّ الدعوة الإسلاميّة كانت من أوّل شروعها مبتنية على أمرين ، ومشتملة على جهتين:
إحداهما: أصل النبوّة والسفارة والوساطة .
ثانيتهما: كونه خاتمة للنبوّات والسفارات .
ومرجع الأخير إلى بقاء الدين القويم إلى يوم القيامة ، واستمرار الشريعة المقدّسة ودوامها ، بحيث لا نبيّ بعده ، ولا ناسخ له أصلاً ، «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(4) .
(1) سورة البقرة 2 : 2 . (2) سورة إبراهيم 14 : 1 . (3) تقدّم في ص 172 ، 228 ـ 229 و 248. (4) بصائر الدرجات: 148 ، الجزء الثالث ب 13 ح 7 ، الكافي: 1 / 57 ، كتاب فضل العلم ب 19 ح 19 ، وقد تقدّم في ص247 .
صفحه 289
ومن الواضح: أ نّ الإتيان بالمعجزة المثبتة لهذه الدعوى لابدّ وأن يكون صالحاً لإثبات كلا الأمرين ، وقابلاً للاستناد إليه في كلتا الدعويين ، فالمعجزة في هذا الدين تمتاز عن معجزات الأنبياء السالفين ، وتختصّ بخصوصيّة لا توجد في معجزات السفراء الماضين ، ولأجله تختلف ـ سنخاً ونوعاً ـ مع تلك المعجزات غير الباقية ، والاُمور الخارقة للعادة التي كان الغرض منها إثبات أصل النبوّة .
ومن المعلوم أيضاً: أنّ هذا الوصف إنّما يختصّ به القرآن المجيد ، ولا يوجد في معجزات النبيّ (صلى الله عليه وآله) الأُخرى ; فإنّه هي المعجزة الوحيدة الخالدة، والدليل الفذّ الباقي إلى يوم القيامة ، فالقرآن من حين نزوله كان ملحوظاً بهذا الوصف ، ومنظوراً من هذه الجهة ، التي ليس فوقها جهة ولا يرى شأن أعظم منها ، كما لا يخفى .
ومع وجود هذه الخصوصيّة ، وثبوت هذه العظمة ، كيف يمكن توهّم أ نّه لم يجمع في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولم يعتنِ بشأنه ـ من جهة الجمع ـ الرسولُ الأعظم ، ولا أحد من المسلمين ، مع شدّة اهتمامهم به وبحفظه وقراءته وتعلّمه وتعليمه ، وتدريسه وتدرّسه ، وأخذ فنون المعارف والأحكام والقصص والحِكم وسائر الحقائق منه؟!
وهل يتوهّم من له عقل سليم وطبع مستقيم أن يوكِلَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله) أمرَ جمع القرآن إلى من بعده ، ولا سيّما مع علمه بأنّ الذي يتصدّى للجمع بعده هو الذي لايكون متّصفاً بوصف العصمة ، بل وأعظم من ذلك من لاحظَّ له من العلم والمعرفة بوجه ; إذ لا محالة يكون جمعه ناقصاً من جهة التحريف، ومن جهة عدم تحقّق التناسب الكامل بين الآيات .
ومن الواضح: مدخليّته في ترتّب الغرض المقصود منه ; ضرورة أنّ ارتباط أجزاء الكتاب ووقوع كلّ جزء في موضعه ، له كمال المدخليّة في ترتّب غرض الكتاب ، خصوصاً في القرآن الذي كان غرضه أهمّ الأغراض من ناحية ، وعدم
|