(الصفحة 11)
عدم التعرّض فيها للسماء وكذا آية الخزائن إلاّ أنّ أصله تام غير قابل للمناقشة ويدلّ عليه التأمّل في الآيات الكثيرة المشتملة على نزول الماء من السماء الظاهرة في الاختصاص وعددها يتجاوز عن عشرين ويؤيّده بيان الآثار المترتّبة عليه من حياة الأرض بعد موتها وخروج الثمرات والنبات وسيلان الأودية وانّ منه شراب وسائر الآثار والفوائد والخواص، فالمناقشة من هذه الجهة غير تامّة، كما أنّ المناقشة من الجهة التي ذكرناها في الآية الاُولى من كون الطهارة فيها بمعناها اللغوي إنّما تختص بها ولا تجري في الآية الثانية بعد ملاحظة مورد النزول من حصول النجاسة الظاهرية والحدث من البول والاحتلام فتأمّل.
هذا كلّه مقتضى الآيات.
ومنها: ـ أي من الوجوه التي استدلّ بها على أصل الكلّية المذكورة ـ الروايات التي ادّعيت كثرتها والظاهر عدم استفادة العموم منها لأنّ أظهرها في الدلالة ما روي عن أبي عبدالله(عليه السلام) انّه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : الماء يطهر ولا يطهر. وغير خفي انّ الرواية بقرينة الذيل ليست إلاّ بصدد بيان كونه مطهراً في الجملة في قبال عدم إمكان تطهيره بشيء آخر أو بماء آخر لا بصدد بيان كون الماء مطهراً على نحو الإطلاق ولكن الذي يسهل الخطب بحيث لا يحتاج إلى تكلّف إقامة الدليل عليه كون المطلب إجماعياً لو لم يكن ضرورياً فتدبّر جيّداً.
الجهة الثانية: في حكم الماء المضاف من حيث كونه طاهراً ومطهراً وعدمه، قال المحقّق في الشرائع: «وهو طاهر لكن لا يزيل حدثاً إجماعاً ولا خبثاً على الأظهر».
أقول: امّا طهارته فلا ينبغي الإشكال فيها فيما إذا كان أصله طاهراً كما إذا أخذ من رمّان طاهر، وامّا إذا كان المضاف إليه نجساً أو متنجّساً فلا ريب في أنّه محكوم بالنجاسة.
(الصفحة 12)
وامّا عدم ارتفاع الحدث به فلا خلاف فيه نصاً وفتوى وقد ادّعى المحقّق عليه الإجماع مضافاً إلى دلالة الأصل عليه فلا اعتماد ـ حينئذ ـ على بعض الروايات الواردة على خلافه مثل ما روي عن أبي الحسن(عليه السلام) من جواز الاغتسال والتوضّي بماء الورد. وقد حكي عن الصدوق الفتوى على طبقه، لكن عن الشيخ(قدس سره) انّه خبر شاذ أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره. مضافاً إلى كونه موافقاً للعامة ومخالفاً للكتاب حيث إنّه أوجب التيمّم عند عدم وجدان الماء بقوله تعالى في سورة المائدة: (فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيّباً) فإنّ مقتضى ظاهره انّ عدم وجدان الماء المطلق بمجرّده موجب لتبدّل الحكم والانتقال إلى التيمّم فالرواية مخالفة له كما هو واضح.
وقد نوقش في الرواية من جهات اُخر ترجع إلى السند والدلالة مثل عدم ظهور كون الاغتسال والتوضّي في الرواية بمعناهما المصطلح واحتمال كون المراد هو المعنى اللغوي ومثل عدم ثبوت كون ماء الورد ماءً مضافاً مطلقاً بل له أقسام أكثرها غير خارج عن الماء المطلق، بل لم يوجد الفرد المضاف في الأعصار المتأخّرة، ولعلّه لم يكن موجوداً في زمان الأئمّة (عليهم السلام) وعلى تقدير إطلاق الرواية يقع التعارض بينها وبين الكتاب بالعموم من وجه وتسقط الرواية في مادّة الاجتماع لأجل المعارضة مع الكتاب ومثل انّه يمكن أن يكون الورد بكسر الواو والمراد الماء الي ترد فيه الدواب ويحتمل ـ حينئذ ـ أن يصير نجساً. ولكن الظاهر انّ هذه المناقشات جلّها لولا كلّها مدفوعة فتدبّر.
وهنا رواية اُخرى واردة في النبيذ رواها الشيخ باسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن العبّاس عن عبدالله بن المغيرة عن بعض الصادقين قال: إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللبن فلا يتوضّأ باللبن، إنّما هو الماء أو التيمّم، فإن
(الصفحة 13)
لم يقدر على الماء وكان نبيذ فإنّي سمعت حريزاً يذكر في حديث انّ النبي(صلى الله عليه وآله) قد توضّأ بنبيذ ولم يقدر على الماء. قال الشيخ(قدس سره) : «أجمعت العصابة على أنّه لا يجوز الوضوء بالنبيذ» لكن عن ابن أبي عقيل الفتوى بالجواز استناداً إلى الرواية.
وقد اُجيب عنها: بأنّه ليس المراد بالنبيذ فيها هو النبيذ المعروف الذي يكون نجساً، بل المراد به ما بيّنه الإمام(عليه السلام) في رواية الكلبي النسّابة المنقولة في الوسائل بعد هذه الرواية من أنّ أهل المدينة شكوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) تغيّر الماء وفساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له فيعمد إلى كف من تمر فيقذف به في الشن فمنه شربه ومنه طهوره وكان يسع الشن ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك رطلاً عراقياً وكانت الكف مشتملة على واحدة من التمر أو اثنتين. ضرورة انّ النبيذ بهذا المعنى لا يكون خارجاً عن الماء المطلق أصلاً كما لا يخفى.
ولكن تمكن المناقشة في هذا الجواب بأنّه على هذا التقدير لا يكون الحكم بجواز الوضوء به مشروطاً بعدم القدرة على الماا بل يجوز التوضّي به ابتداءً كما في الرواية الدالّة على أنّ منه شربه ومنه طهوره فتخصيص الحكم بالجواز بما إذا لم يقدر على الماء كما في الفتوى والرواية ممّا لا وجه له ـ حينئذ ـ أصلاً:
وربّما يقال في مقام الجواب: إنّه لم يعلم أنّ المراد ببعض الصادقين هو الإمام(عليه السلام); لأنّ الظاهر كون الصادقين بصيغة الجمع وإطلاقه على الأئمّة(عليهم السلام) غير معهود، نعم الصادقين بصيغة التثنية يطلق على الإمامين الهمامين الباقر وابنه الصادق(عليهما السلام)ويؤيّده ذيلها المشتمل على النقل عن حريز ولو فرض عدم ثبوت كون الذيل من الإمام بملاحظة النقل يسقط عن الاعتبار لأنّه لا يمكن لحريز النقل عن النبي من دون واسطة وهو غير معلوم على أنّه لو فرض تسليم جميع ذلك لم يثبت كون ما
(الصفحة 14)
نقله الإمام(عليه السلام) عن حريز مورداً لامضائه وإلاّ لما كان وجه لاسناده إلى حريز بل كان يحكم بعدم البأس من قبله، فاسناده إليه مشعر بعدم رضائه وانّه نقله تقية.
والحق انّ اضطراب متن الرواية ومناقضة صدرها وذيلها مانع عن الأخذ بها خصوصاً في مثل هذا الحكم الذي يكون خلافه مجمعاً عليه بين الأصحاب لو لم يبلغ الضرورة، والمناقضة إنّما هي باعتبار دلالة صدر الرواية على انحصار الحكم بالماء أو التيمّم في مورد فرض عدم القدرة على الماء، وعليه فكيف يجتمع معه الحكم بجواز الوضوء بالنبيذ في هذا الفرض مع ظهورها في عدم كونه ماء ولا تراباً كما لا يخفى. هذا كلّه فيما يتعلّق بعدم ارتفاع الحدث بالماء المضاف.
وامّا عدم ارتفاع الخبث به فهو المشهور شهرة كادت تبلغ الإجماع، نعم قد ينقل الخلاف عن المفيد والسيّد(قدس سرهما) كما أنّه ربّما يعدّ المحدِّث الكاشاني(قدس سره) موافقاً لهما ولكنّه لا يخفى انّ خلافه راجع إلى أمر آخر وهو انّه لا يجب الاجتناب إلاّ عن خصوص الأعيان النجسة وانّ النجس لا يكون منجساً بحيث يجب غسل ملاقيه بعد زوال العين إلاّ في خصوص ما قام الدليل على وجوب غسله بعد الزوال أيضاً كالثوب والبدن فلا يجزي فيه ـ حينئذ ـ إلاّ الماء، وامّا العلمان فذهبا إلى أنّ غسل ملاقي النجاسات وإن كان واجباً شرعاً إلاّ أنّ الغسل لا يلزم أن يكون بالماء بل يجوز الغسل بالمضاف بل بكلّ ما يكفي في إزالة العين فالكلام ـ حينئذ ـ يقع في مقامين:
المقام الأوّل: وجوب غسل ما لاقاه النجس مع الرطوبة وعدمه، وبعبارة اُخرى ملاقاة شيء من الأعيان النجسة مع الرطوبة هل توجب سراية النجاسة إلى الملاقى بالفتح بحيث يجب غسل ذلك الشيء بعد إزالة العين عنه إن كانت منتقلة إليه أو غسله ابتداء مع فرض عدم انتقال العين أو لا توجب السراية بوجه، بل تجب إزالة العين فقط ففي الحقيقة: الواجب هي الإزالة دون الغسل إلاّ فيما قام الدليل
(الصفحة 15)
الخاص فيه على وجوب الغسل بعد الإزالة كما في الثوب والبدن؟
وملخّص الكلام في المقام: انّ تأثير الأعيان النجسة في نجاسة ملاقيها مع فرض الرطوبة حكم مغروس في أذهان المتشرّعة خلفاً عن سلف، ويظهر أيضاً بالتتبّع في الأخبار فإنّه وإن لم يرد نص على هذا الحكم بعمومه إلاّ أنّ استفادته من الأخبار الواردة في الموارد الجزئية ممّا لا ينبغي أن ينكر فإنّ العرف بعد ملاحظة تلك الأخبار يستفيد عمومية الحكم وجريانه في كلّ شيء نظراً إلى أنّ المناط هي السراية وهي غير مختصّة بتلك الموارد، كيف ولو اقتصر على خصوص تلك الموارد من دون أن يتعدّى عنها يلزم تأسيس فقه جديد.
هذا مضافاً إلى أنّ ما اعترف به في الثوب والبدن من وجوب غسلهما بملاقاتهما مع النجاسة خلاف ما هو ظاهر الدليل فإنّه لم يرد نص على هذا الحكم بعمومه فيهما وإنّما ورد النصّ في الاُمور الجزئية كملاقاة الثوب مع الدم مثلاً، فالواجب ـ حينئذ ـ الاقتصار على خصوص المورد الذي قام عليه الدليل وورد فيه النص من دون أن يجوز التعدّي حتى في الثوب والبدن، ومن المعلوم انّه لا يلتزم به أصلاً.
ولو نوقش فيما ذكرنا من الفهم العرفي والمغروسية في أذهان المتشرّعة يمكن الاستدلال لعدم الاختصاص بما رواه الصدوق باسناده عن عمّار بن موسى الساباطي انّه سأل أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل يجد في إناءه فأرة وقد توضّأ من ذلك الاناء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه وقد كانت الفأرة متسلخة؟ فقال: إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه ثم يفعل ذلك بعدما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة الحديث. فإنّ مورد السؤال وإن كان هو الثوب إلاّ أنّ الحكم في الجواب بلزوم غسل كلّ ما أصابه ذلك الماء خصوصاً بعد الحكم بلزوم غسل الثياب ظاهر في