(الصفحة 114)
الاستحباب من دون أن يكون الانفعال وعدمه مورداً للنظر ولكن هذه المناقشة أيضاً خلاف الظاهر وإن كان يكفي للقائل بالتعميم وجود رواية واحدة ولا يحتاج إلى تعدّد الدليل فصحيحة زرارة على تقدير إجمالها أو ثبوت المناقشة فيها لا تكاد تقدح في إثبات القول بالتعميم ونفي التفصيل كما هو غير خفيّ.
فالإنصاف انّ هذا التفصيل أيضاً ممّا لا يكون إليه سبيل.
التفصيل السادس: ما حكي عن بعض المحقّقين من المتأخّرين من التفصيل بين ملاقاة الماء مع شيء من النجاسات والمتنجّسات واستقراره معه، وملاقاته لأحدهما وعدم الاستقرار معه كما إذا وقعت قطرة ماء على أرض نجسة فطفرت عنها إلى مكان آخر فوراً بالقول بالانفعال في الأوّل وعدمه في الثاني مستنداً إلى رواية عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : اغتسل في مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض فقال: لا بأس به.
بتقريب أنّها تدلّ على أنّ الماء الملاقي للأرض النجسة أو المتنجّسة حيث انّه لم يستقر معها، بل انفصل عنها بعد الملاقاة بلا فصل حكم بعدم انفعاله ونفى البأس عنه فالمناط فيه هو الانفصال الفوري وعدم الاستقرار.
وربما يجاب عنه بأنّ السؤال فيها عن حكم الملاقى لأحد أطراف العلم الإجمالي فإنّ البول والغسالة إنّما وقعا على قطعة من الأرض لا على جميعها، ولا يدرى انّ ما وقع في الإناء بعد الانفصال من الأرض هل لاقى القطعة النجسة أو القطعة الطاهرة، وعليه فمدلول الرواية الحكم بطهارة الملاقى لأحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة ويكون أجنبياً عن محلّ الكلام.
ولكنّه أورد على هذا الجواب بأنّ حمل السؤال فيها على ذلك بعيد غايته لأنّ ظاهر الرواية انّ النزو إنّما هو من المكان النجس وحمله على صورة الشكّ في انّه
(الصفحة 115)
نزى من النجس أو الطاهر يتوقّف على مؤونة زائدة وإضافة انّه نزى من مكان لا يعلم انّه نجس أو طاهر، وإطلاق السؤال والجواب يدفع هذا الاحتمال فالمناقشة في دلالة الرواية ممّا لا وجه له.
قال المورد: «وإنّما الإشكال في سندها لأنّها ضعيفة بمعلّى بن محمّد لعدم ثبوت وثاقته فالاستدلال بها على التفصيل المذكور غير تامّ».
والظاهر أنّ محط نظر السائل عبارة عن أمر ثالث وهو أنّ الماء الواقع في الإناء بعد كونه مستعملاً في رفع خبث البول أو الجنابة ورفع حدثها لأنّ المكان مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة هل يكون مانعاً عن جواز الاغتسال بالماء الذي كان في الاناء من الأوّل نظراً إلى اختلاطه بما استعمل في رفع الحدث والخبث أم لا فنظر السائل إنّما هو إلى ذلك ولا يكون في السؤال نظر إلى نجاسة الأرض أو قطعة منها والشاهد على ذلك مضافاً إلى أنّ الاغتسال من الجنابة في محلّ لا يلازم نجاسته لعدم كون بدن الجنب نجساً دائماً خصوصاً في الأزمنة السابقة ـ الاستشهاد على نفي البأس بآية الحرج في رواية الفضيل قال: سئل أبو عبدالله(عليه السلام) عن الجنب يغتسل فينضح من الأرض في الماء فقال: لا بأس هذا ممّا قال الله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج).
فإنّ الاستشهاد بالكريمة لا يناسب إلاّ مع ما ذكرنا من كون مورد السؤال هو اختلاط الماء المستعمل في رفع الحدث أو الخبث مع الماء الذي يغتسل به من الجنابة ولا ملائمة بينه وبين الانفعال وعدمه أصلاً كما هو أوضح من أن يخفى، ولعلّه يجيء البحث في مفاد الرواية في بعض المباحث الآتية كما أنّه يأتي البحث عن منجّسية المتنجّس أيضاً فيما يأتي فتتميم الكلام فيه موكول إليه فارتقب وهنا نختم الكلام في المقام الثاني من هذه المسألة.
(الصفحة 116)
المقام الثالث: في تطهير الماء القليل المتنجّس وقد حكم في المتن بأنّ طهارته تتحقّق بالامتزاج بماء معتصم كالجاري والكر وإنّ مجرّد الاتصال بدون الامتزاج لا يكفي فيها.
وقبل الخوض في كيفية التطهير لابدّ أوّلاً من بيان انّ الماء هل يكون قابلاً للتطهير كسائر الجامدات المتنجّسة، أو يكون غير قابل له كالأعيان النجسة؟ ونقول: لولا الدليل الشرعي على قابلية الماء للتطهير وخروجه عن وصف النجاسة إلى وصف الطهارة لكان مقتضى ما هو المرتكز في أذهان العرف في باب التطهير عدم قابلية الماء له، وذلك لأنّ الشيء القابل للتطهير هو ما كان باقياً بعد وصول الماء إلى أجزائه النجسة كما هو المغروس في أذهان أهل العرف، فالثوب المتنجّس مثلاً قابل للتطهير بعد وصول الماء إلى الموضع النجس منه لعدم انتفائه بعد وصول الماء إليه وبقائه بحقيقته.
وبالجملة فمناط قابلية الشيء للتطهير هو بقائه بحقيقته بعده وإلاّ فمثل الدم من الأعيان النجسة أيضاً قابل له بعد إلقائه في الماء الكر واستهلاكه فيه مع أنّه ليس كذلك لعدم بقائه ـ بعد الإلقاء والاستهلاك ـ على الحقيقة الدمية والمفروض كون هذه الحقيقة موضوعة للحكم بالنجاسة.
وبعد ملاحظة ذلك يظهر أنّ الماء المتنجّس لا يكون قابلاً للتطهير لعدم تحقّق مناط القابلية فيه لأنّ تطهيره إنّما هو بوصول الماء إلى جميع أجزائه المتّصفة بالنجاسة خصوصاً بعد عدم الاكتفاء بمجرّد الاتصال من دون الامتزاج، ووصول الماء إلى جميع الأجزاء لا يتحقّق إلاّ بعد الاستهلاك وهو موجب للطهارة حتى في الأعيان النجسة كما عرفت، وعليه فمقتضى القاعدة المعروفة عند العقلاء والعرف في باب التطهير هو أن لا يكون الماء قابلاً للتطهير.
(الصفحة 117)
نعم يمكن أن يقال: بأنّ وصول الماء إلى جميع أجزاء الماء المتنجّس يتحقّق بمجرّد الامتزاج من دون الاستهلاك فلو ألقى الكر ـ مثلاً ـ على الماء القليل المتنجّس ثمّ اختلطا يتحقّق بمجرّد الامتزاج ما هو المعتبر في تطهير الماء من وصول الماء الطاهر إلى جميع الأجزاء المتّصفة بالنجاسة، والامتزاج لا يوجب انعدام حقيقة الشيء كالاستهلاك، وعليه فلا يرى فرق بين الماء المتنجّس والجامدات المتنجّسة إلاّ من حيث توقّف تطهيره على الامتزاج بماء آخر وهو لا يوجب أن لا يكون قابلاً للتطهير.
ويمكن المنناقشة من جهة اُخرى وهي أنّ الامتزاج حيث لا يكاد يمكن أن يتحقّق دفعة بل إنّما يحصل تدريجاً فلا يتّصف كلّ جزء من الأجزاء المتنجّسة بأنّه لاقاه الكر ـ مثلاً ـ فتدبّر.
وكيف كان مقتضى ما ورد من الشرع كون الماء كالأشياء الجامدة المتنجّسة قابلاً للتطهير وذلك لدلالة مثل صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع ـ المتقدّمة الواردة في البئر ـ الدالّة على عروض الطهارة لماء البئر المتغيّر بعد ذهاب التغيّر وزوال الريح وطيب الطعم معلّلاً بأنّ له مادّة ـ إن كان التعليل راجعاً إلى الذيل ـ .
وامّا ما ورد في النبوي من أنّ الماء يطهر ولا يطهر. فالمراد منه انّ الماء مطهِّر لغيره ولا يقبل التطهير بالغير، لا أنّه لا يقبل التطهير أصلاً حتّى بماء آخر لأنّ الموضوع فيه إنّما هي نفس طبيعة الماء فإذا حكم عليها بالطهورية فمعناه كونه مطهِّراً لغيره والحكم عليها بأنّها لا تطهر يرجع أيضاً إلى عدم قابليتها للتطهير من جانب الغير لأنّ الموضوع له أيضاً هي نفس الطبيعة.
ثمّ إنّه بعد الفراغ عن كون الماء قابلاً للتطهير يقع الكلام في كيفية تطهير الماء المتنجّس فنقول: عمدة ما ورد من الروايات في هذا الباب هي صحيحة محمد بن
(الصفحة 118)
إسماعيل بن بزيع المتقدّمة.
وقد تتوهّم دلالتها على كفاية مجرّد اتصال الماء المتنجّس بالماء المعتصم كالجاري والكر ولا يعتبر الامتزاج ، بتقريب انّه لا إشكال في أنّه لا خصوصية للنزح المأمور بها فيها لأنّ النزح مقدّمة لزوال التغيّر الموجب لنجاسة الماء، والتعليل الوارد فيها لا يوجب الاختصاص بالمياه التي لها مادّة لأنّ الخصوصية التي بها تمتاز المادّة عن سائر المياه المعتصمة وهي النبع والجريان من عروق الأرض لا مدخلية لها أصلاً، و ـ حينئذ ـ فمدلول الرواية انّ زوال التغيّر موجب لارتفاع النجاسة المسبّبة عنه لاتّصاله بماء معتصم، ولا دلالة لها على اعتبار أزيد من الاتصال.
ويرد عليه ما عرفت سابقاً من أنّ زوال التغيّر المسبّب عن النزح إنّما يتحقّق بإخراج الماء منه تدريجاً ثمّ الخروج من المادة بمقداره وامتزاجه بالمياه الموجودة فيه وإلاّ فمجرّد الاتصال بالمادة لا يوجب زوال التغيّر من الماء المتصف به لأنّ تقليله لا يوجب تضعيف التغيّر فضلاً عن إزالته، وإنّما يرتفع بالاخراج والخروج من المادّة تدريجاً وامتزاجهما.
وبالجملة فللنزح خصوصيتان:
إحداهما: الإخراج بالدلو وأشباهه.
ثانيتهما: انّه موجب للخروج من المادّة بمقداره وامتزاجه بالماء الموجود في البئر، والأوّل لا إشكال بنظر العرف في عدم مدخليته بوجه بل لا يكون أصل الإخراج معتبراً عندهم فلو خرج ماء كثير من المادّة ـ أحياناً ـ بيث صار موجباً لزوال التغيّر ترتفع النجاسة، وامّا الثاني فلا دليل على عدم مدخليته ولا يكون بحسب نظر العرف كالحجر في جنب الإنسان بل يحتمل ـ قويّاً ـ دخالته في زوال النجاسة.