(الصفحة 120)
وما يقال من أنّه لا فرق بين الطهارة والنجاسة، فكما أنّ عروض النجاسة للماء غير البالغ حدّ الكر لا يتوقف على ملاقاة جميع أجزائه مع النجاسة، بل يتصف بها بمجرّد ملاقاة بعض أجزائه معها فكذلك زوالها لا يتوقف على اتصال جميع أجزائه المتنجّسة بالماء المعتصم.
مدفع بأنّ قياس الطهارة على النجاسة مع الفارق كما يظهر بمراجعة العرف، فانّهم يستقذرون من الماء الذي وقع فيه بعض القذارات الصورية ولا يرتفع استقذارهم بمجرّد الاتصال بماء آخر كما أنّهم لا يستعملون الماء الذي وقع القذر في بعض أطرافه.
وبالجملة مقتضى الروايتين عدم حصول الطهارة بمجرّد إصابة الماء إلى بعض أجزاء الماء المتنجّس بل تتوقّف على إصابته إلى جميع أجزائه، ولذا لو لم يكن في هذا الباب إلاّ هاتان الروايتان لأشكل استفادة كون الماء قابلاً للتطهير منهما لأنّ مفادهما هو اعتبار الاستهلاك بالنسبة إلى الماء المتنجّس لأنّه مساوق لوصول الماء المطهر إلى جميع أجزائه، وقد عرفت انّ المناط في كون الشيء قابلاً للتطهير هو بقائه بحقيقته بعده والاستهلاك مناف لذلك، نعم قد عرفت أيضاً انّ وصول الماء إلى جميع الأجزاء يمكن أن لا يكون ملازماً للاستهلاك بل كان مساوقاً للامتزاج وعليه فالاستفادة المذكورة غير مشكلة.
وربّما يستدلّ لكفاية مجرّد الاتصال بما ورد في ماء الحمّام من أنّه كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً.
وفيه أنّ نجاسة ماء النهر إنّما هي بعد تغيّره بأحد الأوصاف الثلاثة وقد عرفت انّ الماء المتغيّر لا يمكن ارتفاع تغيّره بمجرّد اتصاله بماء آخر بل زوال التغيّر مسبّب عن اختلاط المائين وامتزاج الأجزاء بالآخر.
(الصفحة 121)
وربّماى وجه هذا القول أيضاً بما يمكن أن يورد على القائلين باعتبار الامتزاج وعدم كفاية مجرّد الاتصال، وهو أنّ المرادب الامتزاج هل هو امتزاج الكلّ بالماء العاصم أو امتزاج بعضه؟ والأوّل محال لاستلزامه تداخل أحد الجسمين في الآخر، وعلى تقدير إمكانه فالاطّلاع على هذا النحو من الامتزاج ممتنع عادة، والثاني تحكم صرف لو اُريد به أزيد من الامتزاج الحاصل من الاتصال، ولو اُريد به غيره فهو المطلوب.
وفيه انّه لم يرد لفظ «الامتزاج» وعنوانه في نص أو معقد إجماع حتى يورد عليه بما ذكر، بل قد عرفت انّ العمدة في هذا الباب هي صحيحة ابن بزيع المتقدّمة، والمستفاد منها ـ بعد دلالتها على اعتبار الامتزاج كما ظهر سابقاً ـ هو الامتزاج بحيث يوجب زوال التغيّر ولو كان متغيّراً ضعيف لأنّ مقتضى إطلاقها ـ كما تقدّم آنفاً ـ انّه لو حصل تغيّر ضعيف للماء ولو كان في غاية الضعف، وزال بسبب امتزاجه بالماء الطاهر العاصم يكفي مجرّد زواله في ارتفاع نجاسة جميع الماء، فالمقدار المعتبر من الامتزاج هو ما يكون مؤثِّراً في زوال التغيّر، ولو كان متغيّراً بتغيّر ضعيف، ويؤيّده انّ ما ذكرناه هو المجمع عليه بين الأصحاب بمعنى عدم وجود القائل بأزيد من هذا المقدار ما عدا بعض المتأخّرين حيث احتمل بل استظهر اعتبار الاستهلاك وقد عرفت انّ مرجعه إلى عدم كون الماء قابلاً للتطهير وانّه والأعيان النجسة في صف واحد كما هو غير خفي.
ولابد في إحراز حصول الطهارة للماء القليل المتنجّس من إحراز تحقّق الامتزاج بهذا المقدار أي بالمقدار الذي لو كان متغيّراً لأوجب زواله ومع الشكّ في الحصول يكون مقتضى الاستصحاب بقاء النجاسة وعدم تحقّق الطهارة.
وقد ظهر ممّا ذكرنا عدم اعتبار أن يكون المطهر عالياً كما ربّما توهمه عبارة
(الصفحة 122)
الشرائع: «ويطهر بإلقاء كر عليه فما زاد دفعة» لما عرفت من أنّ المستند في هذا الباب هي الصحيحة وموردها ما إذا كان المطهر سافلاً كما أنّ قوله(عليه السلام) : «ماء الحمّام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً» ينفي اعتبار ذلك.
وامّا اعتبار الدفعة المصرّح به في العبارة فمنشأ احتماله امّا توقّف حصول الامتزاج المعتبر في التطهير عليه، وامّا بقاء الماء على العاصمية المعتبرة فيه قطعاً، وامّا احتمال المدخلية تعبّداً زائداً على اعتبار الامتزاج والعاصمية.
وينفي أصل اعتبارها انّ عمدة المستند هي الصحيحة ومن المعلوم انّ الماء الخارج من المادّة في موردها الذي يوجب زوال التغيّر وحصول الطهارة إنّما يكون خارجاً منها تدريجاً لا دفعة، نعم لو لم يكن هنا دليل في البين لكان مقتضى استصحاب النجاسة إلى أن يحصل العلم بالطهارة لزوم رعاية كلّ ما تحتمل مدخليته في ذلك ولكن مع وجود الدليل لا يبقى موقع لمثل الاستصحاب.
نعم هنا إشكال من جهة تعميم حكم الصحيحة لمثل المقام من المياه الخالية عن المادّة لأنّه متوقّف على إلغاء الخصوصية من التعليل الوارد فيها وهو قوله(عليه السلام): «لأنّ له مادّة» بتقريب انّ الخصوصية التي بها تمتاز ذات المادّة عن سائر المياه المعتصمة هي كون مائها واقعاً في عروق الأرض نابعاً من تحتها ومن الظاهر أنّه لا خصوصية لهذه الخصوصية، ولا مدخلية لهذه الجهة بنظر العرف أصلاً، فالجهة المشتركة بينها وبين تلك المياه ـ وهي الاعتصام ـ هي المعتبرة في رفع النجاسة وهذا واضح لمن راجع أهل العرف.
وإن أبيت إلاّ عن اختصاص الحكم بالمياه التي لها مادّة كالبئر والجاري فاللاّزم الحكم باعتبار الدفعة بل كلّ ما تحتمل مدخليته في رفع النجاسة لو لم يكن في البين ما ينفي الاحتمال، نعم لو استند لعدم اعتبار هذا القيد إلى ما ورد في ماء الحمّام لكان
(الصفحة 123)
ذلك مبنياً على دعوى عدم الخصوصية لماء الحمّام وعمومية الحكم الوارد فيه وقد عرفت ما فيها.
(في تتميم الماء القليل المتنجّس كراً)
قد وقع الاختلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ في أنّه هل يطهر الماء القليل المتنجس بإتمامه كراً أم لا؟ على أقوال ثلاثة:
أحدها وهو المشهور سيّما بين المتأخّرين عدم ارتفاع النجاسة بالاتمام كراً مطلقاً ـ سواء كان التتميم بالماء الطاهر أو النجس ـ .
ثانيها: ما ذهب إليه الشيخ والسيّد (قدس سرهما) من التفصيل بين ما إذا كان التتميم بالماء الطاهر فيرتفع وبين ما إذا كان بغيره فلا يرتفع.
ثالثها: ما ذهب إليه ابن إدريس من كفاية التتميم كراً مطلقاً سواء كان بالطاهر أو بالمتنجس الآخر.
وعن السيد المرتضى(قدس سره) انّه استدلّ على مذهبه بوجهين:
الأوّل: انّ الأدلّة الدالّة على اعتصام الكر تدلّ على أنّ الكرية لا تلائم مع النجاسة ولا تقبلها ـ لا ابتداءً ولا استدامة ـ وأنّ بلوغ الماء إلى ذلك المقدار يوجب استهلاك النجاسة الطارئة عليه وانعدامها فتستوي ملاقاتها قبل الكثرة وبعدها.
وتوضيح كلامه بتقريب منّا انّ المستفاد من أدلّة اعتصام الكر وعدم انفعاله انّ المناط في ذلك هي الكثرة المانعة عن سراية النجاسة الواقعة في بعض أطراف الماء إلى غيره من سائر الأطراف، فكما أنّه لو وقع بعض القذارات العرفية في بعض أطراف الماء يكون الاستقذار من غيره من الأطراف دائراً مدار تحقّق السراية بنظر العرف كذلك بلوغ الماء حدّ الكر يصير مانعاً شرعاً عن تأثير النجاسة الملاقية إلى
(الصفحة 124)
جميع أجزاء الماء.
وبالجملة فالمناط المستفاد من الدليل هي الكثرة، ولا فرق فيها من جهة الاعتصام بين ما إذا تحقّقت الملاقاة قبل البلوغ أو بعده لتحقّق المناط في كلتا الصورتين، كما لو فرض انّ مثقالاً من السمّ يؤثر في الماء الذي كان أقلّ من خمسين منّاً ولا يؤثِّر في الماء البالغ خمسين أو أكثر فإنّه لا فرق في عدم تأثيره في الصورة الثانية بين ما إذا كان البلوغ إلى ذلك المقدار قبل وقوع السم فيه أو وقع السم أوّلاً ثمّ زيدَ على الماء حتى بلغ خمسين كما لا يخفى.
ويرد عليه انّ اللاّزم ـ بناءً على هذا ـ ملاحظة النسبة بين الماء وبين النجاسة الملاقية معه بمعنى انّه لو كانت قطرة من البول ـ مثلاً ـ مؤثِّرة في الماء الذي ينقص من الكر بقليل فالقطرتان منه تؤثر فيما يقارب الكرين، كما أنّه لو لم يؤثر منّ مِنَ البول في الماء البالغ حدّ الكر فاللاّزم عدم تأثير النصف منه لو نقص الماء عن الكر بقليل. وبالجملة لو بنى على استفادة هذا المناط من أدلّة الاعتصام في الكر يلزم مثل ما ذكر من التوالي الفاسدة.
والحق أن يقال: إنّ المناط في ذلك غير معلوم، والانفعال وضدّه لا يبتنيان على ما ذكر، وعليه لا يجوز رفع اليد عن ظواهر أدلّة الاعتصام الدالّة على أنّ الكرية دافعة للنجاسة ولا دلالة لها على الرافعية بوجه.
الثاني: انّ العلماء أجمعوا على أنّ الكر الذي فيه شيء من الأعيان النجسة طاهر، مع أنّه يحتمل أن تكون النجاسة طارئة عليه قبل بلوغه إلى حدّ الكر فلولا كفاية بلوغه كراً في الحكم بطهارته مطلقاً لما أمكن الحكم بها في الماء المذكور.
وفيه انّ محلّ الكلام في المقام في الطهارة الواقعية المستفادة من الأدلّة الاجتهادية والمسألة المذكورة في كلامه ذات شقوق وصور وفي أكثرها وإن كان الحكم هي