(الصفحة 125)
الطهارة إلاّ أنّ الطهارة فيها طهارة ظاهرية ثابتة من ناحية الاستصحاب أو قاعدة الطهارة فلا ارتباط لها بالمقام أصلاً.
ويمكن الاستدلال له بدليل ثالث وهو مركّب من أمرين:
أحدهما: دعوى قصور الأدلّة الدالّة على انفعال الماء القليل عن شمول الماء المتمّم ـ بالكسر ـ لأنّ موضوعها هو الماء القليل الملاقي للنجس وهو غير متحقّق في المقام لأنّ الماء المذكور حال القلّة لم يكن ملاقياً للنجس، وحال الملاقاة لا يكون متّصفاً بوصف القلّة، إذ بالملاقاة يتبدّل الموضوع ويندرج في عنوان الكر فأدلّة الانفعال قاصرة عن الشمول لمثل المقام.
ثانيهما: صحيحة ابن بزيع الواردة في البئر ـ المتقدّمة ـ بناءً على ما احتملنا في معناها ونفينا البُعد عنه من أنّ المراد بالتعليل الوارد فيها وهو قوله(عليه السلام): «لأنّه له مادّة» ليس خصوص ما له مادّة من المياه حتى يختص الحكم المذكور فيها بالبئر والجاري وأشباههما، بل المراد هو التقوى بالماء المعتصم الخارج من عروق الأرض لأنّ الخصوصية التي بها تمتاز المادّة عن سائر المياه المعتصمة وهي كونها في ظرف مخصوص ونابعة من تحت الأرض لا مدخلية لها في الحكم المذكور فيها وـ حينئذ ـ فيصير مفاد الرواية انّه لو امتزج الماء الطاهر المعتصم بالماء المتنجس بحيث زال تغيّره ـ ولو كان متغيّراً بتغيّر ضعيف لم يكن معه حاجة إلى خروج الماء من المادّة كثيراً ـ تعرض له الطهارة وتزول عنه النجاسة.
فإذا ثبت قصور أدلّة الانفعال عن شمول مثل المقام والمفروض انّه لا دليل على النجاسة غيرها فمقتضى قاعدة الطهارة بل استصحابها كون الماء الطاهر المتمِّم ـ بالكسر ـ طاهراً بعد الملاقاة أيضاً وهو معنى اعتصامه وعدم تأثّره، ومقتضى عموم الصحيحة لكلّ ماء معتصم ـ كما عرفت تقريبه ـ انّ الماء المتمّم لكونه معتصماً
(الصفحة 126)
كما فرض يصير موجباً لطهارة الماء المتمَّم ـ بالفتح ـ لو امتزج معه بالمقدار المعتبر منه.
وما يقال: من أنّه لا وجه للقول بكون الماء المتمِّم ـ بالكسر ـ معتصماً بعد فرض كونه قليلاً إذ من الواضح تأثّره بالنجاسة وانفعاله منها كسائر المياه القليلة مدفوع بأنّ المراد بالاعتصام ليس عدم قابلية الماء للتأثّر من النجاسة أصلاً، كيف وقد عرفت انّ كلّ ما ينفعل بسبب التغيّر فالمراد منه هنا انّه يكون بحيث لا يقبل التأثير من الماء الذي اُريد تطهيره بهذا الماء فلا ينافي صلوحه للتأثير من ناحية النجاسات الاُخرى.
ويدفع هذا الدليل المنع عن قصور أدلّة انفعال الماء القليل عن الشمول لمثل المقام ممّا يتبدّل موضوع القلّة بالملاقاة ويندرج في موضوع الكر، وذلك لأنّ الموضوع للحكم بالنجاسة بسبب الملاقاة هو الماء القليل بمعنى أنّ الملاقاة بعد كونه قليلاً علّة لعروض النجاسة، كما أنّ الكر لو خرج عن الكرية بسبب الملاقاة مع النجس لا يخرج عن الطهارة لأنّ الموضوع هو الماء الكر الملاقي وهو متحقّق.
وبعبارة اُخرى: الملاقاة هنا علّة لتحقّق الكرية وترتّب الانفعال معاً والكرية مانعة عن تأثير النجاسة، فالحكم المترتّب على الكر ـ وهو عدم التأثّر ـ متأخّر عن الانفعال المترتّب على الملاقاة بمرتبة واحدة لكونه في رتبة موضوع الحكم بعدم الانفعال وهي الكرية.
وبالجملة: لا شبهة في أنّ الملاقاة إنّما حصلت في حال القلّة وبمجرّدها يصير الماء معروضاً للحكم بالنجاسة، ولا يبقى معه مجال للحكم بعدم الانفعال المترتّب على الكرية المتأخّرة عن الملاقاة وهذا واضح لا ينبغي الارتياب فيه فهذا الدليل أيضاً غير صالح للاستدلال به.
(الصفحة 127)
وربّما يستدلّ له بدليل رابع ـ بعد عدم قصر الادعاء على خصوص الطهارة الواقعية التي هي ظاهر كلامه(قدس سره) بل الأعمّ منها ومن الطهارة الظاهرية ـ وهو الرجوع إلى قاعدة الطهارة بعد تعارض استصحاب نجاسة الماء المتمّم ـ بالفتح ـ واستصحاب طهارة الماء المتمِّم ـ بالكسر ـ نظراً إلى انعقاد الإجماع على عدم اختلاف ماء واحد ممتزج بعضه ببعض في الطهارة والنجاسة فإنّه بعد تعارض الاستصحابين تكون قاعدة الطهارة هي المحكمة في البين.
وأنت خبير بأنّه لا مجال للاستصحاب بعدما عرفت من أنّ أدلّة انفعال الماء القليل لا تقصر عن شمول مثل المقام ممّا يخرج الموضوع بالملاقاة عن حدّ القلّة ويندرج في موضوع الكر; لأنّ موضوعها هو الماء القليل الملاقي للنجس وهو متحقّق في المقام لأنّه لا شبهة في أنّ الملاقاة إنّما هي من صفات الماء في حال القلّة إذ المفروض أنّه بعد تحقّق الملاقاة يتحقّق موضوع الكرية، فالتلاقي وصف للمائين بلا إشكال، وـ حينئذ ـ فامّا أن يقال: إنّ التلاقي وقع مع الكر فيتوجّه عليه انّ المجموع متّصف بالكرية ـ على ما هو المفروض ـ ، ولا يعقل أن يلاقى بعض أجزاء الكر مع هذا الماء الموصوف بالكرية وهذا واضح جدّاً، وامّا أن يقال: بأنّ التلاقي وقع بين المائين الموصوفين بالقلّة فيلزم تحقّق موضوع تلك الأدلّة، إذ المفروض ملاقاة الماء القليل مع النجاسة وهو موضوع للحكم بالانفعال، فإذا لم تكن الأدلّة قاصرة عن شمول المقام فاللاّزم الحكم بنجاسة الماء بجميع أجزائه فلا يبقى مجال لاستصحاب الطهارة حتّى يعارضه استصحاب النجاسة ويرجع بعد التساقط إلى قاعدة الطهارة كما لا يخفى على اُولي الدراية.
وقد أجاب المحقّق الهمداني(قدس سره) عن هذا الدليل أيضاً بما حاصله تقديم استصحاب النجاسة على استصحاب الطهارة لأجل حكومته عليه، نظراً إلى أنّ من آثار بقاء
(الصفحة 128)
نجاسة الماء المتمّم تنجيس ملاقيه الذي هو الماء المتمِّم، وليس من آثار طهارة الثاني تطهير ملاقيه وهو الأوّل.
وأنت خبير بأنّه بعد الاعتراف بقصور أدلّة الانفعال عن شمول مثل المقام ممّا يخرج بالملاقاة عن موضوعها لا وجه للحكومة أصلاً إذ ليس ـ حينئذ ـ من آثار بقاء نجاسة الماء المتمم تنجيس ما لاقاه ممّا صار بسببه كرّاً إذ ليس الدليل على التنجيس إلاّ أدلّة الانفعال وقد اعترف ـ على ما هو المفروض ـ بعدم شمولها للمقام.
وبالجملة: لا دليل على منجسية الماء المتمم ـ بالفتح ـ بعد فرض القصور ولو كانت النجاسة متيقّنة فضلاً عمّا لو اُحرزت بالاستصحاب، فكما أنّه ليس من آثار بقاء طهارة الماء المتمم ـ بالكسر ـ تطهيره للماء المتنجس كذلك ليس من آثار بقاء نجاسة الأوّل تنجيس ملاقيه، ولولا الإجماع على عدم اختلاف ماء واحد في الحكم لكنّا نقول ببقاء كلّ من المائين على حاله من الطهارة والنجاسة كما أنّه في غير معقد الإجماع ـ وهي صورة الامتزاج التي هي إحدى الصورتين للمسألة ـ لابدّ وأن يقال باختلاف حكمهما على هذا القول إلاّ أن يدعى شمول الإجماع لكلتا الصورتين بدعوى كون الاتصال مساوقاً للوحدة عرفاً كما أنّه مساوق لها عقلاً ولكن دعوى الشمول مع لزوم الاقتصار في الأدلّة اللبية على القدر المتيقّن ممنوعة وإن كان الاتصال يوجب اتصاف الماء بالوحدة عرفاً أيضاً.
وبالجملة لا ينبغي الارتياب في أنّه على فرض قصور أدلّة الانفعال لا مجال للإشكال على الاستدلال أصلاً لو فرض تحقّق الإجماع أيضاً.
ثمّ إنّه ذكر المجيب في طيّ كلامه انّ الشكّ في بقاء نجاسة الماء المتنجّس وبقاء طهارة الماء الطاهر كلاهما مسبّبان عن الشكّ في سببية الكرية للرفع والأصل عدمها.
(الصفحة 129)
ولا يخفى أنّ الشكّ في بقاء نجاسة الماء المتنجّس وإن كان مسبّباً عن الشكّ في سببية الكرية للرفع، إلاّ أنّ الشكّ في بقاء طهارة الماء الطاهر لا يكون مسبّباً عن الشكّ المذكور أصلاً، كما أنّ ما ذكره من أنّ الأصل عدم سببية الكرية للرفع مبني على كون السببية مجعولة من جانب الشارع، وامّا بناء على القول بكشفه عنها وبيانه للناس فلا يتمّ فتدبّر.
وقد استدلّ صاحب السرائر (قدس سره) على ما ذهب إليه من كفاية التتميم ولو بالماء المتنجّس بما ورد عنهم (عليهم السلام) من قولهم: «إذا بلغ الماء كراً لم يحمل خبثاً» نظراً إلى أنّ كلمة «خبثاً» نكرة واقعة في سياق النفي وهي تفيد العموم فتشمل الخبث المتقدّم والمتأخّر، ومعنى «لم يحمل» انّه لا يتّصف بالخبث فإنّ العرض محمول على معروضه وصفة له والكر لا يتصف بالخبث مطلقاً كما هو معنى الاعتصام، فالعبارة بمثابة أن يقال: الكر لا يتصف بالنجاسة مطلقاً وخروج صورة التغيّر إنّما هو لقيام الدليل على استثنائها ومع عدمه كما في المقام لابدّ من الأخذ بإطلاق الرواية وشمولها لصورة كون الملاقاة قبل الكرية والحكم بأنّ الكرية رافعة للنجاسة كما أنّها دافعة لها.
وفيه ـ مضافاً إلى أنّه من البعيد غايته أن يكون اجتماع المائين المتنجّسين وامتزاجهما فضلاً عن مجرّد الاتصال موجباً لحصول الطهارة لكليهما معاً ـ .
أوّلاً: انّ المتتبعين في كتب الأحاديث أنكروا وجود هذه الرواية في شيء من كتب المخالف والمؤالف ولذلك قال المحقّق في المعتبر: «إنّ كتب الحديث خالية عنه أصلاً حتى انّ المخالفين لم يعملوا بها إلاّ ما يحكى عن ابن حي وهو زيدي منقطع المذهب، وما رأيت شيئاً أعجب من دعوى ابن إدريس إجماع المخالف والمؤالف على نقلها وصحّتها» والإجماع المنقول ـ على فرض حجّيته ـ إنّما يكون حجّة في باب الفتوى وليس بحجّة في نقل الرواية فالرواية غير تامّة من حيث السند.