(الصفحة 136)
أجزائه في محل وبعضها الآخر في محلّ آخر ولكن الاتصال بينهما موجود كالغديرين الموصولين بساقية؟ ثمّ الاتصال له مراتب من حيث القوّة والضعف، هذا مع تساوي السطوح، أو يعمّ جميع الصور المتقدّمة وما إذا لم تكن السطوح متساوية، وهذا على أقسام أيضاً:
منها: ما كان الماء الموجود في المحل الأعلى واقفاً غير خارج منه، ومنها ما كان الماء الموجود فيه جارياً على السطح الأسفل، والجريان قد يكون بنحو الانحدار وقد يكون بغير هذا النحو، وهو امّا أن يكون مطلقاً أو بالنسبة إلى خصوص السافل دون العالي فهذه فروض وصور كثيرة.
ولا يخفى انّ الدليل في هذا الباب إنّما ينحصر بالأخبار المستفيضة الدالّة على أنّه إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ومن الواضح انّ المراد بها هو الماء الواحد فالمناط صدق الوحدة بنظر العرف وـ حينئذ ـ فلا يبعد أن يقال بعدم اختصاص المناط بالصورة الاُولى لعدم الفرق بينها وبين الصورة الثانية في صدق الوحدة وتحقّقها عند العرف كما يظهر بالمراجعة اخليهم، وامّا الصورة الثالثة فصدق الوحدة بهذا النظر يدور مدار قوّة الاتصال وضعفه وعليه يحمل ما عن صاحب المعالم(قدس سره) من عدماعتصام الكر فيما إذا كان متفرّقاً ولو مع اتصالها بالسواقي والأنابيب، ولو كان نظره إلى المنع مطلقاً يتوجّه عليه المنع بعد وجود الدليل وصدق الوحدة العرفية وخلوّ دعوى الانصراف عن الوجه. والأمر في الصورة الرابعة أيضاً كذلك.
وامّا الصورة الخامسة فبعض مصاديقها وفروضها وإن كان يعدّ واحداً إلاّ أنّ البعض الآخر لا يكون كذلك فلا يقال على الماء الموجود في الابريق المتّصل بماء سافل انّه كر إذا كان المجموع بالغاً ذلك الحدّ فلا ينجس بملاقاة النجس، كما أنّه لا يقال على منّ مِن الماء الموجود في الحوض ـ مثلاً ـ انّه كر لاتصاله بالماء الموجود في
(الصفحة 137)
الحب مع فرض كون المجموع كذلك، وهذا لا ينافي ما ذكرناه سابقاً من أنّه لو وقعت النجاسة في الماء السافل لا توجب تنجّس الماء العالي بخلاف العكس وذلك لما عرفت من أنّ مناط تنجّس جميع أجزاء الماء مع ثبوت وصف الملاقاة بالإضافة إلى بعضها هي سراية النجاسة ولا يعقل تحقّقها بالنسبة إلى الماء العالي بل هي متحقّقة في الماء السافل إذا كانت الملاقاة ثابتة للعالي كما لا يخفى.
وبالجملة: لا تكون هنا ضابطة كلّية يتعيّن بها مصاديق موضوع الاعتصام وعدم الانفعال بل المدار هو صدق الوحدة بنظر العرف وهو قد يختفي في بعض الموارد وسيأتي حكم موارد الشكّ فانتظر.
ثمّ إنّه يظهر من الشيخ (قدس سره) في كتاب الطهارة تقوي كلّ من العالي والسافل بالآخر استناداً إلى تحقّق الاتحاد بنظر العرف ثمّ قال: «ويؤيّد الاتّحاد قوله(عليه السلام): ماء الحمّام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً، جعل(عليه السلام) المادة بعضاً من ماء الحمّام مع تسنيمها عليه، وقوله(عليه السلام) في صحيحة داود بن سرحان: هو بمنزلة الماء الجاري، فإنّ الظاهر رجوع الضمير إلى المجموع من المادّة وما في الحياض».
أقول: امّا الرواية الاُولى فليس فيها تأييد لمرامه(قدس سره) أصلاً إذ كون المادّة بعضاً من ماء الحمّام لا يدلّ على اتحادها مع ما في الحياض الصغيرة إلاّ بعد إثبات انّ ماء الحمّام واحد، لأنّه يمكن ـ قبل ثبوت ذلك ـ أن تتّصف المادّة بكونها بعضاً من ماء الحمّام ولا تتّصف بكونها بعضاً من الماء الواحد.
وبالجملة فمفاد الرواية انّ المادّة بعض من ماء الحمّام، و المدّعى كونها متّحدة مع ما في الحياض وأين هذا من ذاك، والاستشهاد على وحدة ماء الحمّام بأنّ التشبيه بماء النهر يدلّ على كون ماء الحمّام أيضاً واحداً كماء النهر، يدفعه انّ التشبيه إنّما هو في خصوص تطهير بعضه بعضاً لا في سائر أحكام ماء النهر.
(الصفحة 138)
وامّا الرواية الثانية فلا إشكال في أنّ مرجع الضمير فيها هو الماء الموجود في الحياض لا المموع منه ومن المادّة لأنّ خصوص ما في الحياض كان مورداً لابتلاء الناس فالسؤال إنّما وقع عنه، مضافاً إلى أنّ تنزيل المجموع بالماء الجاري ممّا لا يصدر من البليغ العادي فضلاً عن الإمام(عليه السلام) لعدم المشابهة بينهما ـ حينئذ ـ أصلاً، وهذا بخلاف ما لو كان المراد منه هو خصوص الماء الموجود في الحياض فإنّ التنزيل على هذا التقدير تنزيل لطيف مرجعه إلى أنّه كما يكون الماء الجاري مستمدّاً من المادّة متقوّياً بها كذلك يكون ماء الحمّام مستمدّاً من مادّته الجعلية، متقوّياً بها معتصماً بسببها، فلا يتأثّر بملاقاة النجس.
ثمّ إنّه لا يمكن التمسّك لتقوي السافل بالعالي بالأخبار الواردة في ماء الحمّام، لأنّه متوقّف ـ أوّلاً ـ على إلغاء الخصوصية منها، وـ ثانياً ـ على عدم اعتبار الكرية في مادّة الحمّام، وقد عرفت انّه لا مجال لإلغاء الخصوصية وعلى تقديره فالمتمسك ممّن يعتبر الكرية في مادّة الحمّام.
الثاني: إذا حصل التغيّر لبعض أجزاء الكر وكان الباقي كراً أيضاً فلا خفاء في عدم نجاسة الباقي بعد اعتصامه وعدم عروض التغير له كما أنّه لا ريب في نجاسة المقدار المتغيّر بسبب حصول التغيّر له، إنّما الإشكال في كيفية تطهيره والمختار كما مرّ البحث فيه توقّفه على الامتزاج بالباقي بحيث يزول تغيّره بسببه كما أنّه لو كان هناك كر متغيّر بجميع أجزائه يكون حصول الطهارة له متوقّفاً على زوال تغيّره وحصول امتزاجه بالماء المعتصم ولكنّه قد يقال في باب الكر بأنّ زوال التغيّر ولو من غير ناحية المطهر المعتصم يكفي في ارتفاع النجاسة لما يستفاد من الأخبار الكثيرة من كفاية زوال التغيّر بأي وجه اتفق:
منها: صحيحة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: كلّما غلب الماء على ريح
(الصفحة 139)
الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب، فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضّأ منه ولا تشرب.
فإنّ مقتضى الرواية انّ المناط في جواز الوضوء والشرب هو غلبة الماء على ريح الجيفة، سواء كانت الغلبة حاصلة من الأوّل أو بعد التغيّر.
وفيه انّ ظاهر الرواية هي غلبة الماء بما هو ماء على ريح الجيفة فإذا زال التغيّر من ناحية شيء آخر لم تحصل غلبة الماء بما هو ماء بل حصلت بواسطة شيء آخر فحكم هذا المورد غير مذكور في الرواية أصلاً إلاّ أن يقال بثبوت المفهوم لها.
ومنها: موثقة سماعة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يمرّ بالماء وفيه دابة ميتة قد أنتنت، قال: إذا كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ ولا تشرب.
فإنّ مفادها انّ المناط ف ي عدم جواز الوضوء والشرب هو كون النتن غالباً على الماء، وبعد زوال التغيّر لا يكون هذا المناط باقياً فلا وجه لبقاء النجاسة.
ويرد عليه انّه يحتمل قويّاً أن تكون الرواية واردة في مقام بيان حكم الحدوث فلا تعرض فيها لحكم البقاء.
ومنها: رواية عبدالله بن سنان قال: سأل رجل أبا عبدالله(عليه السلام) ـ وأنا حاضر ـ عن غدير أتوه وفيه جيفة، فقال: إذا كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضّأ.
فإنّ مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين ما إذا كان الماء قاهراً من الأوّل أو بعد كونه مقهوراً للنجاسة.
وفيه ما عرفت في الجواب عن الاستدلال برواية حريز ـ المتقدّمة ـ من أنّ ظاهر الرواية كون الماء قاهراً بوصف كونه ماء على ريح النجاسة، وبعد فرض كونه مقهوراً حين الحدوث لا يعقل أن تعرض له القاهرية إلاّ لأجل شيء آخر ومعه لا يصدق انّ الماء من حيث هو ماء قاهر عليها، فالرواية غير متعرّضة لحكم المقام لو
(الصفحة 140)
لم نقل بكون مدلولها هو بقاء النجاسة في هذا الفرض وعدم ارتفاعها.
ومنها: رواية علاء بن الفضيل قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الحياض يُبال فيها، قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول.
فإنّ مفادها انّ العلّة المنحصرة لعدم البأس هي غلبة لون الماء على لون البول وهي متحقّقة فيما لو زال التغيّر وإن كان بنفسه.
وفيه ـ مضافاً إلى ضعف السند ـ انّ الظاهر كون الرواية متعرّضة لحكم الحدوث فقط ولا دلالة لها على حكم البقاء بوجه. فظهر انّ الاستدلال بهذه الروايات في غير محلّه.
نعم يمكن أن يستدلّ لذلك بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ـ المتقدّمة ـ الواردة في ماء البئر لأنّ مقتضى قوله(عليه السلام) : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر» انّ علّة حدوث الفساد وزوال الطهارة هو مجرّد عروض وصف التغيّر للماء، ومقتضى قوله(عليه السلام) في الذيل: «فينزح حتى يذهب الريح ويطيب الطعم» انّ مجرّد زوال التغيّر يؤثِّر في ارتفاع النجاسة، إذ ليس للنزح خصوصية بل الملاك صيرورة الماء بحيث طاب طعمه وذهبت ريحه فمفاده ـ صدراً وذيلاً ـ انّ التغيّر يدور مداره النجاسة ـ حدوثاً وبقاءً ـ فهي العلّة التامّة لحدوث النجاسة وبارتفاعها تزول كما هو الشأن في كلّ معلول بالإضافة إلى علّته.
ولكنّك خبير بأنّه وإن لم يكن للنزح خصوصية في ارتفاع النجاسة ـ كما مرّ مراراً ـ إلاّ أنّه قد ذكرنا سابقاً انّ المناط في كون الشيء قابلاً للتطهير هو بقائه بعد ارتفاع النجاسة وعروض الطهارة بحيث لو لم يكن دليل على قابلية الماء أيضاً للتطهير لقلنا بعدم القابلية إلاّ بعد الاستهلاك الذي مرجعه إلى انتفاء الموضوع وزوال الحقيقة، ولكنّه بعد قيام الدليل على الخلاف وانّ الماء يكون كالجامدات