(الصفحة 141)
المتنجّسة قابلاً للتطهير لا يمكن رفع اليد عمّا هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء في باب التطهير من أنّ تطهير كلّ شيء إنّما هو بوصول الماء إلى أجزائه المتنجّسة، ويؤيّده انّه لو ورد مثلاً : انّ المتنجّس بالدم يطهر بإيصال الماء إليه حتى يزول لا يمكن أن يقال: إنّ الملاك في ارتفاع النجاسة هو زوال الدم بأي وجه اتفق بالماء أو بغيره، بل للماء خصوصية في باب التطهير.
وبالجملة: معنى الرواية ـ على ما عرفته سابقاً ـ انّ تطهير البئر إنّما يحصل بخروج الماء الجديد العاصم من المادّة وامتزاجه بالمياه الموجودة في البئر إذ الظاهر انّ التعليل الوارد فيها يرجع إلى القضية المطوية في الذيل وهي عروض الطهارة وتجدّدها بعد ذهاب الريح وطيب الطعم، ومعه لا يكون الوجه مجرّد زوال التغيّر بل زواله بنحو خاص وهو امتزاج المياه الخارجة من المادّة مع المياه الموجودة في البئر وقد تقدّم تفصيله فلا نطيل.
ولو سلم انّ ماء البئر تزول نجاسته بمجرّد زوال التغيّر وارتفاعه بأي وجه اتفق فما الدليل على أنّ حكم الماء الكثير غير البئر أيضاً يكون كذلك وهل تسريته ترجع إلى غير القياس الصرف أم لا ترجع إلاّ إليه كما هو ظاهر.
وقد يستدلّ في المقام بقوله(عليه السلام) : «إذا بلغ الماء كراً لم يحتمل خبثاً» نظراً إلى أنّ ظاهره انّ البلوغ إلى ذلك الحدّ مانع عن حمله للخبث مطلقاً، وقد ثبت تقييده بما إذا تغيّر بأحد أوصاف الناسة، وفي غير هذا المورد لم يثبت تقييده فيجب الاقتصار على القدر المتيقّن وهو ما إذا كان التغيّر باقياً غير زائل، والمرجع في غيره الذي منه المقام هو الإطلاق.
وفيه ما عرفت في الجواب عن هذه الرواية في مسألة إتمام القليل المتنجّس كراً من عدم ثبوت هذه الرواية في شيء من كتب الأحاديث للمخالف والمؤالف كما
(الصفحة 142)
اعترف به المحقّق في المعتبر وإن ادّعى ابن إدريس إجماع الفريقين على نقلها وصحّتها، وعلى فرض الثبوت والاعتبار قد عرفت انّ مفادها لا يكون زائداً على مفاد الأخبار المعروفة الدالّة على اعتصام الكر ولا فرق بين مدلوليهما أصلاً خلافاً لبعض الأعلام كما مرّ في تلك المسألة.
ثمّ إنّه قد يستدلّ لذلك بقاعدة الطهارة بعد الاعتراض على استصحاب النجاسة الوارد على أصالة الطهارة ـ كما حقّق في محلّه ـ .
ومحصل الاعتراض انّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن تكون القضية المشكوكة متّحدة مع القضية المتيقّنة من حيث الموضوع والمحمول، وهنا ليس كذلك فإنّ الموضوع في القضية المتيقّنة هو الماء الموصوف بالتغيّر، فاسراء حكمه إلى الماء الذي زال تغيّره اسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر مغاير معه.
وأجاب عنه صاحب المصباح(قدس سره) بأنّ المعروض للنجاسة هو نفس الماء والتغيّر علّة لعروضها، والشكّ إنّما نشأ من احتمال انّ عروض النجاسة كما يكون مسبّباً عن حدوث التغيّر، كذلك بقائها يكون مسبّباً عن بقائه بحيث تدور مداره، أو أنّ التغيّر ليس علّة إلاّ لحدوث النجاسة، وبقائها مستند إلى اقتضائها الذاتي، فلا يجوز في مثل ا لمقام نقض اليقين بالشكّ ورفع اليد عن النجاسة المتيقّنة الثابتة لهذا الماء الموجود بمجرّد احتمال أن يكون زوال التغيّر مؤثِّراً في زوالها.
ولكن الظاهر أنّه لو قلنا بأنّ الموضوع في الأدلّة الواردة في الحكم بالنجاسة هو الماء الموصوف بالتغيّر بأن يكون التغيّر مأخوذاً في الموضوع فلا مانع أيضاً من جريان الاستصحاب وذلك لأنّ مجرى الاستصحاب قد يكون هو العنوان المأخوذ موضوعاً في لسان الدليل، وقد يكون هو المصداق المنطبق عليه ذلك العنوان في الخارج.
(الصفحة 143)
ففي الأوّل لا إشكال في أنّ جريان الاستصحاب مبني على بقاء الموضوع بعنوانه، فإذا شكّ ـ مثلاً ـ في أنّ العالم الذي كان واجب الإكرام سابقاً، هل يجب إكرامه في الزمان اللاّحق أم لا، فاستصحاب بقاء الوجوب إنّما يجدي بالإضافة إلى خصوص العالم لا غير.
وبعبارة اُخرى: الوجوب المستصحب إنّما هو وجوب إكرام العالم لا وجوب غير الإكرام ولا وجوب إكرام غير العالم، فالموضوع في هذا الاستصحاب لابدّ وأن يكون باقياً بعنوانه المأخوذ في لسان الدليل كما هو غير خفي.
وفي الثاني يجري الاستصحاب ولو لم يكن منطبقاً عليه عنوان الموضوع في زمان الشكّ فضلاً عمّا إذا كان الانطباق مشكوكاً، فإذا شكّ ـ مثلاً ـ في أنّ زيداً الذي كان عالماً سابقاً وواجباً إكرامه لأجل كونه عالماً هل يكون واجب الإكرام بعد زوال علمه لاحتمال كون العالمية واسطة في الحدوث أم لا، فلا مانع من جريان استصحاب بقاء وجوب إكرامه لأنّ المفروض انّ هذا الشخص الذي كان واجب الإكرام في السابق باق في زمان الشكّ من غير تبدّل ولا تغيّر وإن كان في هذا الزمان لا ينطبق عليه عنوان العالم المأخوذ في الدليل ولأجله عرض الشكّ في بقاء وجوب الإكرام، لأنّا لا نريد إجراء الدليل وإسرائه إلى زمان الشكّ حتّى يقال: إنّ شموله مبني على صدق موضوع والمفروض عدمه. كيف ولو شمله الدليل لا يبقى مجال للاستصحاب أصلاً ـ كما هو المحقّق في الاُصول ـ بل المراد انّ هذا الفرد الخارجي الذي كان منطبقاً عليه عنوان الموضوع سابقاً باق في زمان الشكّ من دون تبدّل فإبقاء الحكم السابق عليه ليس من قبيل إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر أصلاً.
ومن هنا يظهر الجواب عن الشبهة التي أوقعها بعض الأعاظم(قدس سره) وهي أنّه لا
(الصفحة 144)
إشكال بينهم في أنّ اللاّزم، الرجوع إلى العرف في مقام بيان المراد من الموضوعات الواردة في الأدلّة الشرعية، كما أنّه لا إشكال أيضاً في أنّ بقاء الموضوع المعتبر في جريا الاستصحاب إنّما هو البقاء بنظر العرف.
فحينئذ يرد عليهم انّه لو كان الموضوع العرفي باقياً لا مجال لجريان الاستصحاب لأنّ المفروض بقائه فيشمله الدليل الاجتهادي، ولو لم يكن الموضوع باقياً فلا يجري الاستصحاب أيضاً لعدم اتحاد القضيتين ـ حينئذ ـ كما هو المفروض، فعلى كلا التقديرين لا موقع للاستصحاب في البين.
والجواب انّه خلط بين موضوع الاستصحاب وموضوع الأدلّة فإنّه وإن كان المرجع في كليهما هو العرف إلاّ انّه قد يكون موضوع الاستصحاب بنظره متحقّقاً وباقياً دون موضوع الدليل كما يظهر بالنظر في المثال الذي ذكرناه.
وفيما نحن فيه نقول: إنّه وإن كان الموضوع في لسان الدليل بحسب ما يستفيده العرف منه هو الماء المتغيّر، وبعد زوال التغيّر لا يكون موضوع هذا الحكم باقياً قطعاً، ولذا لا يجوز عندهم التمسّك بالدليل واستفادة الحكم منه إلاّ انّه حيث وصل ذلك الحكم إلى مرتبة الخارج وانطبق على بعض الأفراد فلا يشكّ العرف في بقاء ذلك الفرد بحاله وإن زال عنه وصف التغيّر فيتمسّك بدليل لا تنقض ويستفيد الحكم من ذلك الدليل والتحقيق أكثر من ذلك موكول إلى بحث الاستصحاب من الاُصول.
الثالث: إذا حصل التغيّر لبعض أجزاء الكر ولم يكن الباقي كراً فالظاهر نجاسة الجميع غاية الأمر انّ تنجّس المقدار المتغيّر إنّما حصل لأجل التغيّر وتنجّس الباقي الذي يكون دون الكر إنّما يكون مستنداً إلى الملاقاة مع الماء المتنجّس لأنّ المفروض كونه قليلاً منفعلاً بمجرّد الملاقاة ولا يحصل الطهارة للمجموع إلاّ إذا زال التغيّر عن
(الصفحة 145)
البعض بالامتزاج بالماء المعتصم وامتزج المقدار الباقي به أيضاً لما عرفت من أنّ مجرّد زوال التغيّر من غير طريق الامتزاج بالماء المعتصم غير كاف كما أنّ مجرّد الاتصال في الماء القليل المتنجّس لا يكفي أيضاً بل لابدّ من تحقّق الامتزاج.