(الصفحة 150)
خارجاً عن الإجمال مع أنّ دعوى الصراحة في عدم زيادة الكر عن ستمائة رطل ولو بأكثر محتملاته الذي هو الرطل المكّي إن كانت مستندة إلى نفس الصحيحة فلابدّ وأن يكون منشأها الوقوع في مقام التحديد لأنّ العدد لا مفهوم له ومن المعلوم انّ الوقوع في مقام التحديد غايته الظهور في عدم الزيادة ولا وجه لادّعاء الصراحة وإن كانت مستندة إلى ملاحظة المرسلة وفتوى الأصحاب فيرد عليها ـ مضافاً إلى احتمال أن يكون الرطل فيها هو الرطل المكّي وقد عرفت فتوى بعض الأصحاب بأنّ الكرّ ألف وثمانمائة رطلاً بالرطل العراقي ـ انّه لابدّ في مقام ملاحظة دلالة الرواية من النظر إلى نفسها من دون لحاظ رواية اُخرى أو فتوى الأصحاب أصلاً فدعوى صراحة الصحيحة فيما أفاده ممنوعة جدّاً ومنه يظهر النظر فيما أفاده في المرسلة من ثبوت الدلالتين ووجود دلالة صريحة في البين ترفع الإجمال عن الصحيحة.
فالإنصاف انّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا لابدّ من حمل الروايتين على الرطل العراقي بملاحظة رواية الكلبي النسّابة المتقدّمة الظاهرة في أنّ الإطلاق يحمل على العراقي وبعده تتحقّق المعارضة والترجيح مع المرسلة لموافقته للشهرة الفتوائية بين الأصحاب التي هي أوّل المرجّحات في باب تعارض الروايتين وبالنتيجة يحكم بأنّ مقدار الكر بالوزن ألف ومأتا رطل بالرطل العراقي كما هو ظاهر هذا كلّه في التقدير بالوزن.
وامّا تقديره بحسب المساحة والاشبار فقد اختلفت فيه الأقوال ومقتضى النصوص متفاوت جدّاً بل كلّ نصّ يدلّ على غير ما يدلّ عليه الآخر ـ كما سيجيء نقلها ـ والمشهور بينهم بل ربّما يحكي دعوى الإجماع عليه انّ الكر هو ما كان كلّ واحد من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصفاً فيكون مجموع المساحة اثنين
(الصفحة 151)
وأربعين شبراً وسبعة أثمان شبر.
وقيل: ما بلغ مكعبه إلى مائة شبر وهو المنقول عن ابن الجنيد. وقيل: هو ما كان كلّ واحد من أبعاده الثلاثة ثلاثة أشبار فيكون المجموع سبعة وعشرين شبراً وهذا هو الذي نسب إلى القمّيين واختاره جماعة من المحقّقين كالعلاّمة والشهيد وثاني المحقّقين، وذهب المحقّق وصاحب المدارك(قدس سرهما) إلى أنّه ما بلغ مكعبه ستّة وثلاثين شبراً، وعن قطب الراوندي انّه ما بلغ أبعاده إلى عشرة ونصف ولم يعتبر التكسير، وقيل: أو احتمل أن يكون ما بلغ مكعبه إلى ثلاثة وثلاثين شبراً وخمسة أثمان ونصف ثمن.
والمهمّ في المقام نقل الروايات الواردة فيه وبيان مدلولها ووجه الجمع بينهما فنقول:
منها: صحيحة إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : الماء الذي لا ينجسه شيء؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع وشبر وسعة (سعته خ ل).
والظاهر انّ المراد بالسعة هي كلّ واحد من الطول والعرض، والدليل عليه ـ مضافاً إلى أنّ المفهوم منها عند العرف هو هذا المعنى ـ ذكرها في مقابل العمق فقط، وكسره بناء عليه يبلغ إلى ست وثلاثين شبراً لأنّ الذراع عبارة عن مقدار شبرين.
وقد استظهر بعض الأعلام من هذه الصحيحة مذهب القمّيين الذي اختاره أيضاً نظراً إلى أنّه ليس المراد بالسعة الوارد فيها هو الطول والعرض لأنّ الظاهر انّ مفروض كلامه(عليه السلام) هو المدور لأنّه فرض أن سعته ذراع وشبر مطلقاً أي من جميع الجوانب والأطراف وهذا لا يتصوّر إلاّ في الدائرة لأنّها التي تكون نسبة أحد أطرافها إلى الآخر بمقدار معيّن مطلقاً لا تزيد عنه ولا تنقص وهذا بخلاف سائر الأشكال من المربع والمستطيل وغيرهما على أنّ مقتضى طبع الماء أيضاً ذلك، وإنّما
(الصفحة 152)
يتشكّل بسائر الأشكال بقسر قاسر ثمّ أفاد في ذيل كلامه انّ تحصيل المساحة على هذه الكيفية ينتج سبعة وعشرين شبراً بلا زيادة ولا نقصان إلاّ في مقدار يسير وهو لا محيص عن المسامحة فيه لأنّ النسبة بين القطر والمحيط ممّا لم تظهر حقيقتها لمهرة الفنّ والهندسة فكيف يعرفها العوام إلاّ بهذا الوجه المسامحي التقريبي الذي يكون بناء الحكم عليه بعد جعل المعرف مثل الشبر الذي يكون في المتوسطين أيضاً مختلفاً في الجملة.
وأنت خبير بأنّ الحمل على الدائرة خلاف الظاهر لأنّه خلاف ما هو المتفاهم عند العرف خصوصاً مع ملاحظة ذكر العمق في كثير من الروايات الواردة في المقام في مقابل الطول والعرض كما سيظهر ومع ملاحظة انّ مساحة الماء إنّما تكون بتبع مساحة الظرف الواقع فيه، غاية الأمر بمقداره وكون مقتضى طبع الماء الاستدارة لا يؤيّد ذلك بعد كون طبيعة كلّ جسم مقتضية للاستدارة من دون اختصاص ذلك بالماء فلابدّ من ملاحظة الظرف مع أنّ سعة الدائرة لا يكون من جميع الجوانب متساوية بل في كلّ جانب لوحظ مع ما هو مقابله من الجانب الآخر وإلاّ فالنسبة بين بعض الأقواس مع البعض الآخر لا يكون كذلك.
وبالجملة لا وجه لدعوى ظهور الرواية في الدائرة وعلى تقديره فالنتيجة إنّما هي ثمانية وعشرون شبراً وربع شبر تقريباً لأنّ حاصل ضرب مساحة الدائرة المحقّقة من ضرب الشعاع في نفسه والحاصل في عدد 14,3 في العمق يكون زائداً على السبعة والعشرين بشبر وربع شبر وهذا المقدار ممّا لا تنبغي المسامحة فيه بوجه كما هو ظاهر فالرواية على هذا التقدير لا تكون مفتى بها لأحد من الأصحاب.
ومنها: المرسلة التي ذكرها الصدوق في المجالس قال: روى انّ الكر هو ما يكون ثلاثة أشبار طولاً في ثلاثة أشبار عرضاً في ثلاثة أشبار عمقاً. وكسره يبلغ سبعاً
(الصفحة 153)
وعشرين شبراً.
ومنها: المرسلة المذكورة في كتاب «المقنع» قال: روى انّ الكر ذراعان وشبر في ذراعين وشبر. وكسره يبلغ ـ باعتبار ـ إلى خمس وعشرين شبراً، وـ باعتبار آخر ـ خمساً وعشرين شبراً بعد المائة، و ـ باعتبار ثالث ـ ثمانية وتسعون شبراً وثمن شبر تقريباً.
ومنها: رواية إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الماء الذي لا ينجّسه شيء، فقال: كر، قلت: وما الكر؟ قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار.
وقد ادّعى بعض الأعلام صراحتها في الدلالة على مدّعاه، لأنّها وإن لم تشتمل على ذكر شيء من الطول والعرض والعمق إلاّ انّ السائل كغيره يعلم انّ الماء من الأجسام وكلّ جسم مكعّب يشتمل على أبعاد ثلاثة لا محالة ولا معنى لكونه ذا بعدين فإذا قيل: ثلاثة في ثلاثة مع عدم ذكر البُعد الثالث علم انّه أيضاً ثلاثة، وعليه إذا ضربنا الثلاثة في الثلاثة ثمّ الحاصل في الثلاثة يبلغ سبعة وعشرين شبراً.
وليت شعري انّه ما الفرق بين هذه الرواية وصحيحة إسماعيل بن جابر المتقدّمة حيث حمل الاُولى على الدائرة وهذه على غيرها وهل مجرّد ذكر العمق فيها قرينة عليه أو انّ ذكر كلمة «السعة» أوجب الحمل على الدائرة ففي هذه الرواية وإن لم تكن هذه الكلمة مذكورة إلاّ أنّ الاقتصار على ذكر البُعدين لِمَ لا يكون قرينة على كون المراد هي الدائرة مع كون الأصل في الأجسام سيّما الماء على قوله هي الاستدارة ولعمري انّه تحكّم صرف كما أنّ ذكر العمق في الاُولى لا يكاد يصلح قرينة على الحمل المذكور بعد وضوح كون المراد من أحد البُعدين في هذه الرواية هو العمق لا محالة.
نعم في الرواية أمران آخران:
(الصفحة 154)
أحدهما: انّ جعل هذه الرواية رواية مستقلّة ثانية بعد كون الراوي والسائل في كلتيهما هو إسماعيل بن جابر والمسؤول أيضاً هو أبو عبدالله الصادق(عليه السلام) ومورد السؤال هو الماء الذي لا ينجّسه شيء مشكل جدّاً; لأنّه من البعيد السؤال عن شيء واحد من شخص واحد أزيد من مرّة واحدة، وعليه فلا يبعد أن يقال بكونهما رواية واحدة، غاية الأمر انّ الجواب الصادر من الإمام(عليه السلام) لا يعلم انّه هل كان مطابقاً للاُولى أم الثانية.
ثانيهما: عدم خلوّ سند الرواية من ضعف لأنّه قد رواها في الكافي عن ابن سنان عن إسماعيل بن جابر. ورواها الشيخ ـ تارة ـ عن عبدالله بن سنان عن إسماعيل بن جابر، و ـ اُخرى ـ عن محمّد بن سنان عن إسماعيل بن جابر، ومن المعلوم انّها رواية واحدة ـ وإن لم نقل بوحدتها مع الرواية السابقة ـ وعليه فيتردّد الأمر بين أن يكون الراوي عن إسماعيل بن جابر هو عبدالله بن سنان الذي هو موثّق بلا إشكال، وبين أن يكون الراوي عنه هو محمد بن سنان المطعون في أكثر الكتب الرجالية ولم يقل أحد بوثاقته إلاّ المفيد(قدس سره) في بعض كلماته، وحكى انّه نص على قدحه في بعض كلماته الاُخر.
وبالجملة لا ينبغي الارتياب في ضعف الرجل، ومع هذا الترديد لا تكون الرواية مشمولة لأدلّة حجّية خبر الواحد التي يرجع جميعها إلى بناء العقلاء على العمل بقول الثقة وترتيب آثار الصدق عليه ـ كما حقّق في موضعه ـ وإطلاق «ابن سنان» وإن كان منصرفاً إلى عبدالله بن سنان إلاّ أنّ الظاهر انّ حذف كلمة «محمد» إنّما وقع من الناسخين ، ويؤيّده كون الراوي عنه هو البرقي الذي يكون أقرب إلى محمد بن سنان بل مراجعة الأسانيد والتتبّع فيها تقضي بأنّ البرقي لا يروي عن عبدالله بن سنان ولا هو من إسماعيل بن جابر، وعليه فالرواية غير قابلة للاعتماد