(الصفحة 183)
الاختلاط بمرحلتين وقد ثبت انّ الماء يتنجّس بالبول في المرحلة الثانية والإمام حكم بطهارته لنزول المطر عليه فالصحيحة تدلّ على أنّ الماء المتنجّس يطهر بنزول المطر عليه.
أقول: امّا الاستدلال الأوّل فيرد عليه انّ صحيحة بن سالم ـ مع قطع النظر عن التعليل فيها لعدم وضوح المراد منه ـ لا دلالة لها على طهارة السطح بإصابة المطر; لأنّ الوكوف إن كان في حال عدم انقطاع المطر ودوام التقاطر فالحكم بعدم البأس بإصابته الثوب أو بالثوب الذي أصابته السماء كذلك لا يكون فيه إشعار فضلاً عن الدلالة على حصول الطهارة للسطح بسبب ذلك، وإن كان في حال الانقطاع وسلّمنا عدم كونه من الفرد النادر فالحكم بعدم البأس بذلك أيضاً لا يلازم حصول الطهارة للسطح لأنّ الملاقاة مع السطح المتنجّس إنّما هي في حال كونه مطراً معتصماً وبعد العبور عنه والرسول في السطح والوكوف بعده لا تكون ملاقاة أصلاً حتى يتنجّس فالحكم بطهارته مع عدم كونه ماء المطر بالفعل يستقيم مع نجاسة السطح أيضاً ودعوى كونه ماءً قليلاً لاقى سطحاً متنجّساً مدفوعة بما عرفت من كونه في حال الملاقاة كان معتصماً وبعد زوال الاعتصام لم تتحقّق الملاقاة أصلاً مضافاً إلى أنّه لم يثبت كون الوكوف من النقطة التي يُبال عليها ولا يكون تمام السطح مبالاً كما لا يخفى. فالإنصاف عدم تمامية هذا الاستدلال.
وامّا الاستدلال الثاني فيدفعه ما أفاده سابقاً في تقريب الاستدلال بالصحيحة على اعتصام ماء المطر من أنّ فرض جريان ماء المطر من الميزاب إنّما يصحّ مع فرض كثرة المطر إذ لا سيلان له مع القلّة ولاسيّما في السطوح القديمة المبناة من اللبنة والطين فإنّ المطر القليل يرسب في مثلهما ومعه لا يمكن أن يسيل كما أنّ سيلان البول من الميزاب يستند غالباً إلى بول رجل أو صبي على السطح لا إلى أبوال جماعة لأنّ
(الصفحة 184)
السطح لم يعد للبول فيه فهذا الفرض في نفسه يقتضي غلبة المطر على البول لكثرته وقلّة البول.
ضرورة انّ بول صبي أو رجل يستهلك في ماء المطر الكثير دفعة ولا يحتاج الاستهلاك إلى طيّ مرحلتين ويؤيّده انّ ظاهر إطلاق الصحيحة انّه لم يضرّه ذلك ولو كانت الإصابة في أوائل آنات الاختلاط مع أنّه لو كان الاستهلاك مفتقراً إلى تحقّقهما لكان اللاّزم مضى زمان ولو في الجملة حتى يتحقّق الاستهلاك التدريجي على ما فرضه والذي يسهل الخطب عدم الحاجة إلى مثل الصحيحة في ذلك لما عرفت من أنّ مرسلة الكاهلي تكفي لإثبات المطهرية مطلقاً من دون حاجة إلى ضميمة أمر آخر.
ويقع الكلام بعد ذلك في كيفية التطهير بماء المطر.
فنقول: امّا كيفية تطهير الماء المتنجّس بماء المطر فسيأتي البحث عنها في بعض المسائل الآتية فارتقب.
وامّا كيفية تطهير سائر المتنجّسات القابلة للتطهير بسبب ماء المطر فقد اختار الماتن ـ دام ظلّه ـ انّه لا يحتاج في الفرش إلى العصر والتعدّد بل لا يحتاج في الأواني أيضاً إلى التعدّد، نعم إذا كان متنجّساً بولوغ الكلب استشكل في طهارته بدون التعفير بل قوى التعفير أولاً والوضع تحت المطر بعده من دون حاجة إلى التعدّد.
أقول: امّا عدم الاحتياج إلى العصر في مثل الثوب والفرش وإلى التعدّد في مثلهما والأواني فقد يقال في وجهه: إنّ النسبة بين مرسلة الكاهلي وما دلّ على اعتبار التعدّد أو العصر عموم من وجه إذ المرسلة دلّت بعمومها على أنّ كلّ شيء رآه المطر فقد طهر سواء كان ذلك الشيء ممّا يعتبر فيه العصر أو التعدّد أم لم يكن، كما أنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على اعتبار العصر أو التعدّد عدم الفرق في ذلك بين أن يصيبه
(الصفحة 185)
المطر وأن يغسل بماء آخر فيتعارضان في مثل غسل آنية الخمر بالمطر، والترجيح مع المرسلة لما قرّر في محلّه من أنّ العموم مقدّم على الإطلاق في المتعارضين، فإنّ دلالة المرسلة بالوضع والعموم لمكان لفظة «كلّ» فلا يعتبر في إصابة المطر شيء من العصر والتعدّد بل يكتفى في تطهيره بمجرّد رؤية المطر.
وأنت خبير ببطلان هذا الوجه; لأنّ شمول المرسلة للمقام أيضاً بالإطلاق لا بالعموم ضرورة انّ اعتبار العصر أو التعدّد على فرضه لا يوجب التخصيص في المرسلة بإخراج المقام، بل يوجب تقييد الرؤية بتحقّق العصر بعدها أو بعدم كونه مرّة واحدة بداهة انّ التخصيص إنّما هو فيما إذا لم يتحقّق التطهير بماء المطر أصلاً لا فيما إذا تحقّق، غاية الأمر مع إضافة العصر أو التعدّد وهذا من الوضوح بمكان فدلالة كلا الدليلين إنّما هي بالإطلاق ولا مرجح لأحدهما على الآخر..
كما أنّه ربّما يقال في وجه عدم اعتبار شيء من الأمرين في التطهير بماء المطر بأنّه على تقدير تمامية إطلاق الدليلين بنحو يشمل المقام يكون رفع اليد عن إطلاق المرسلة وتقييدها بدليلهما موجباً لإلغاء خصوصية المطر وذلك خلاف ظاهر الرواية جدّاً فيتعيّن العكس أعني تقييد دليلي العصر والتعدّد والأخذ بإطلاقها.
والظاهر عدم تمامية هذا الوجه أيضاً لأنّ ثبوت خصوصية المطر في المقام أيضاً إنّما هو فرع تمامية الإطلاق وتقدّمه على الإطلاق المعارض وإلاّ فلم يقم دليل على ثبوتها فيه أيضاً، ودعوى كونه خلاف الظاهر جدّاً، مندفعة بأنّ الظهور إنّما نشأ من الإطلاق والكلام فعلاً في تقدّمه على المعارض وعدمه.
ودعوى انّه لا يبقى ـ حينئذ ـ فرق بين ماء المطر وبين غيره من المياه لا فيما لا يحتاج إلى الأمرين ولا فيما يحتاج إليهما أو إلى أحدهما.
مدفوعة أيضاً بأنّه لم يثبت كون دليل ماء المطر ناظراً إلى إثبات خصوصية فيه
(الصفحة 186)
من بين سائر المياه فلعلّ مراده انّه مع عدم كونه ماء مجتمعاً وبالغاً إلى حدّ مخصوص يكون بحكم المجتمع البالغ فتجوز استفادة التطهير منه.
وربّما يستدلّ بوجه ثالث يجري في خصوص العصر وهو انّ الدليل على اعتبار العصر في الغسل إنّما هو أدلّة انفعال الماء القليل لأنّ الماء الداخل في جوف المتنجّس قليلا لاقى متنجّساً فيتنجّس لا محالة مع بقائه في الجوف فلابدّ من إخراجه بالعصر، ومن الواضح انّ هذا الدليل لا يجري في مثل ماء المطر من المياه المعتصمة لعدم انفعالها بملاقاة المتنجّس فلا وجه ـ حينئذ ـ لاعتبار العصر.
وأورد عليه بأنّ دليل اعتبار العصر ليس ما ذكر بل الدليل إنّما هو عدم تحقّق الغسل بدون العصر لأنّ مجرّد إدخال المتنجّس في الماء وإخراجه عنه لا يسمّى غسلاً لا في لغة العرب ولا في غيرها من اللغات كما أنّه لا فرق من هذه الجهة بين المياه أصلاً.
وهنا وجه رابع اختاره بعض الأعلام حيث قال: «الصحيح في وجه عدم اعتبار العصر والتعدّد في الغسل بالمطر أن يتمسّك بصحيحة هشام بن سالم الدالّة على كفاية مجرّد إصابة المطر للمتنجّس في تطهيره معللاًّ بأنّ الماء أكثر... حيث دلّت على طهارة السطح الذي يبال عليه إذا رسب فيه المطر فيستفاد منها انّ للمطر خصوصية من بين سائر المياه تقتضي كفاية إصابته وقاهريته في تطهير المتنجّسات بلا حاجة فيه إلى تعدّد أو عصر».
وقد عرفت انّ الصحيحة مع إجمال العلّة الواردة فيها وعدم وضوح المراد منها لا دلالة لها على طهارة السطح حتّى يستفاد منها الخصوصية المذكورة لعدم الملازمة بين الحكم الوارد فيها وبين طهارة السطح بوجه كما مرّ.
والظاهر انّ الوجه في ذلك قصور أدلّة اعتبار الأمرين عن الشمول للمقام امّا
(الصفحة 187)
دليل العصر فإن كان هو أدلّة انفعال الماء القليل كما عرفت في الوجه الثالث فعدم شموله لماء المطر وكذا مثله من المياه المعتصمة واضح، وإن كان هو عدم تحقّق عنوان الغسل بدونه كما مرّ في الإيراد على ذلك الوجه فالظاهر تحقّقه بدونه في التطهير بماء المطر فإنّ الارتكاز العرفي في الغسل بماء المطر ليس إلاّ أن يجعل المتنجّس تحته بحيث يراه المطر ويصيب المواضيع المتنجّسة منه ولم يعهد بين العرف أن يعصر حتى يتحقّق الغسل، كما أنّ عنوان التعدّد لا يجري في ماء المطر فإنّه ليس ماء مجتمعاً في محلّ حتّى يتحقّق فيه التعدّد، بل هو قطرات نازلة غير متّصلة وفي مثلها لا مفهوم للتعدّد أصلاً فإنّ كلّ قطرة لها وجود مستقلّ ولا معنى لفرض عدّة منها شيئاً واحداً وفرض عدّة اُخرى شيئاً آخر فتدبّر.
بقي الكلام في حكم الإناء المتنجّس بولوغ الكلب من جهة الحاجة إلى التعفير وعدمها وإن كان التعدّد غير محتاج إليه لما ذكر في وجه عدم اعتباره، والظاهر كما أفاده الماتن ـ دام ظلّه ـ من أنّ الأقوى الاحتياج إلى التعفير لأنّ دليل مطهّرية المطر ليس بأقوى ممّا دلّ على اعتبار التعفير، بل لا منافاة بين الدليلين أصلاً وذلك لأنّ دليل اعتبار التعفير مفاده انّ ولوغ الكلب في الإناء يوجب تنجّسه بنحو لا يكفي في تطهيره الماء، بل يتوقّف على التعفير بالتراب، وإن شئت قلت: إنّ الولوغ يوجب حصول مواد مسمّاة في العصر الحاضر بـ «الميكرب» للاناء ولا يوجب انعدامها إلاّ التراب والأجزاء الترابية، هذا مفاد دليل اعتبار التعفير.
وامّا دليل المطر فلا دلالة له على أنّ ماء المطر يقوم مقام كلّ مطهّر حتّى يمكن التمسّك بعمومه لمطهرية الكافر أيضاً كإسلام، بل مدلولها انّ ماء المطر يكفي في مطهّرية كلّ شيء يتحقّق الطهارة له بالماء فغاية مدلوله ثبوت خصوصية جميع المياه من جهة التطهير في ماء المطر. وعليه فلا منافاة بينه وبين دليل التعفير أصلاً،