(الصفحة 19)
المذكور والفقيه تابع للدليل وقد عرفت انّ مفاده لزوم التطهير بالماء فهذا الوجه مصادرة محضة.
ومنها: الرواية وقد استدلّ بها المفيد(قدس سره) حيث قال بعد حكمه بجواز الغسل بالمضاف: «إنّ ذلك مروي عن الأئمّة (عليهم السلام)» والظاهر انّ مراده منها هي رواية واحدة لا جنسها الصادق على أزيد وانّها هي رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبدالله(عليه السلام)عن أبيه عن علي(عليه السلام) قال: لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق.
ولكنّه يرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى المناقشة في السند بل ضعفه ـ انّها أخصّ من المدعى لورودها في الدم والبصاق فلا دلالة لها على جريان الحكم في غير الدم من سائر النجاسات ولا غير البصاق من المايعات بل مقتضى هذه الرواية على طريق آخر انّه لا يغسل بالبصاق غير الدم كما في مرسلة الكليني أيضاً. ومن الواضح انّها بأجمعها رواية واحدة ولا يكون هناك تعدّد أصلاً ومعه لا يعلم انّ الصادر هل هو على النحو الأوّل أو الثاني وإن جعلها في الوسائل روايات متعدّدة كما هو دأبه في الموارد الكثيرة ومع ذلك فالرواية معرض عنها عند الأصحاب ولا تكون قابلة للاعتماد بوجه. مضافاً إلى أنّه لا يمكن ـ عادة ـ تطهير الدم بالبصاق بحيث كان جامعاً لشرائطه إلاّ إذا كان الدم قليلاً كما هو غير خفي.
فانقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام بطلان الوجوه التي استند إليها لمرام العلمين وإنّ مقتضى التحقيق هو ما ذهب إليه المشهور بلا ارتياب في البين.
الجهة الثالثة: في أنّ المضاف ينجس بمجرّد الاملاقاة ولو كان ألف كرّ. قال المحقّق في الشرائع: «ومتى لاقته النجاسة نجس قليله وكثيره» ومرجع الضمير هو الماء المضاف.
أقول: امّا أصل انفعال الماء المضاف بمجرّد الملاقاة في الجملة فممّا وقع التسالم
(الصفحة 20)
عليه ولم يستشكل فيه أحد من الأصحاب.
وامّا إطلاق الحكم وشموله لما إذا كان كثيراً فمضافاً إلى الإجماع الذي نقله كثير من الأصحاب بحيث يظنّ بل يقطع بتحقّقه يدلّ عليه صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فإن كان جامداً فالقها وما يليها، وكلّ ما بقى، وإن كان ذائباً فلا تأكله واستصبح به والزيت مثل ذلك.
ودلالتها على عدم الفرق بين الكثير والقليل من السمن وكذا الزيت فيما إذا كانا ذائبين وانّ مجرّد الملاقاة توجب النجاسة ممّا لا إشكال فيه، فإنّ الإمام(عليه السلام) إنّما رتّب حرمة الأكل الملازمة للنجاسة في مثل المقام على طبيعة السمن في صورة الذوبان والميعان من دون أخذ قيد فيه من الظرف أو المقدار أو غيرهما من الخصوصيات، فإطلاقه يشمل ما إذا كان السمن كثيراً خصوصاً بعد ملاحظة انّه لم يقع ذلك جواباً لسؤال حتى يصير ذلك قرينة على عدم إرادة الإطلاق بل إنّما هو حكم ابتدائي صادر من الإمام(عليه السلام) وظاهره انّ موضوع ذلك الحكم هي نفس طبيعة السمن إذا كان ذائباً وكذا الزيت فاحتمال مدخلية القلّة في ترتّب الحكم لا وجه له مع ثبوت الإطلاق وعدم قرينة على التقييد، ودعوى الانصراف عن السمن والزيت الكثيرين مدفوعة بأنّها مجرّد ادّعاء لا بيّنة لها أصلاً كما لا يخفى.
ثمّ إنّه لا إشكال في عدم اختصاص الحكم المذكور في الرواية بخصوص الزيت والسمن بل يشمل جميع المايعات ما عدى الماء المطلق، وتوهّم الاختصاص ـ كما في الحدائق ـ حيث قال في مقام الإشكال على الاستدلال بالرواية لعدم الاختصاص: «هذا الاستدلال بمكان من الضعف إذ مورد الرواية ليس ممّا نحن فيه فإنّ المضاف في اصطلاحهم لا يشمل مثل الدهن والزيت وقياسه عليهما باعتبار الاشتراك في الميعان باطل عندنا، امّا أوّلاً فلعدم بناء الأحكام على القياس، وامّا ثانياً فلعدم
(الصفحة 21)
ثبوت كون مطلق الميعان علّة حتّى يلزم من الاشتراك فيها ذلك» مدفوع بما ذكرنا في تعريف الماء المضاف من أنّه ليس من أقسام الماء وأفراده بل هو خارج عن حقيقته كسائر المايعات كاللبن والخل، والفرق بينه وبينها إنّما هو في إطلاق لفظ «الماء» عليه مع إضافته إلى شيء آخر دونها لا في كونه من أنواع الماء وأقسامها بخلافها.
وبالجملة: فإنّ هنا شيئين: الماء المطلق وسائر المائعات التي لكلّ منها حقيقة مستقلّة وماهية خاصّة ومنها الماء المضاف ولذا لا يكون الحكم في المقام والنزاع فيه منحصراً بالماء المضاف، بل إنّما هو في مطلق المائعات فكذلك لا مجال للخدشة في شمولها للماء المضاف أيضاً، فالرواية إنّما وردت في بعض فروع المقام ولا ينبغي الارتياب في أنّ المناط مجرّد الذوبان والميعان فتجري في غير الأمرين.
والإنصاف انّ هذه الرواية وحدها كافية في إثبات المطلوب ـ وهو انفعال جميع المايعات عدى الماء بمجرّد الملاقاة مطلقاً قليلة كانت أو كثيرة ـ لما عرفت من صحّة السند وتمامية الدلالة وبطلان المناقشة.
نعم هنا بعض الروايات الاُخر غير الخالية عن الدلالة على المطلوب وإن كان في دلالة بعضها أو سنده نظر وإشكال مثل رواية جابر الجعفي عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال: فقال أبو جعفر(عليه السلام) : لا تأكله فقال له الرجل: الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال أبو جعفر(عليه السلام) : إنّك لم تستخف بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء.
وفيه ـ مضافاً إلى ضعف سند الرواية ـ انّه يحتمل فيها ـ قويّاً ـ أن يكون مورد السؤال هو وقوع الفأرة في الطعام بحيث تفسّخت فيه وانبثت أجزائها فحرمة أكل
(الصفحة 22)
الطعام إنّما هي من حيث استلزامه لأكل الميتة لا أنّ أكله بمنزلة أكلها في الحرمة، والدليل على ذلك انّه جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحريم الميتة، ومن المعلوم انّه لم يقل أحد بأنّ حرمة شيء تستلزم حرمة ما يلاقيه، وحمل الحرمة في الرواية على النجاسة ـ مضافاً إلى أنّه خلاف الظاهر من دون قرينة وبيّنة على الخلاف ـ لا دليل عليه أصلاً، والقول بأنّ الطباع تتنفّر من أكل الطعام الذي صارت أجزاء الميتة مخلوطة بأجزائه منبثّة فيها فلا ينبغي حمل مورد السؤال عليه، ويدفعه قول السائل: الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها، خصوصاً بعد ملاحظة حال الأعراب في صدر الإسلام، وبالجملة فدلالة الرواية على نجاسة الطعام غير تامّة.
ورواية السكوني عن جعفر عن أبيه(عليهما السلام) انّ عليّاً(عليه السلام) سُئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة قال: يهرق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل. ودلالتها على النجاسة ظاهرة ولكنّه ربّما يستبعد الشمول لما إذا كان المرق كثيراً وإن كان في الاستبعاد نظر خصوصاً بعد ملاحظة انّ العرب في مضايفهم ربّما يطبخون بعيراً في القدور، ومن الواضح انّ المرق في مثل هذه القدور لا يكون أقلّ من الكرّ.
وموثقة عمّار بن موسى عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس. الحديث.
والدن كما في «المنجد» الراقود العظيم لا يقعد إلاّ أن يحفر له. ولا يبعد أن يقال بإمكان كونه ظرفاً للمايع الكثير كما هو الغالب في الظروف المتداولة في ذلك الزمان المعدّة للماء ونظائره. وغير ذلك من الروايات التي يمكن أن يستدلّ بها للمقام.
ثمّ إنّه قد يتمسّك لتعميم الحكم بالإضافة إلى القليل والكثير بقاعدة المقتضى
(الصفحة 23)
والمانع ـ كما عن الشيخ الأنصاري(قدس سره) بتقريب انّ المستفاد من أدلّة اعتصام الكثير المطلق انّ الكرية عاصمة وإلاّ فالمقتضى للانفعال في الكثير أيضاً موجود كما يشهد بذلك استناد عدم الانفعال إلى الكرية فهي مانعة; لأنّ استناد عدم الشيء إلى وجود شيء آخر دليل على مانعية الشيء الآخر وثبوت المقتضى للشيء الأوّل، والقول بأنّه يحتمل أن تكون القلّة شرطاً يدفعه انّها من الاُمور العدمية غير القابلة للتأثير والتأثّر، فاللاّزم أن تكون الكرية مانعة، وـ حينئذ ـ فمع الشكّ في المانعية كما في المقام يكون مقتضى الأصل عدمها فيكون تأثير المقتضى بلا مزاحم.
وأنت خبير بأنّ مثل هذه الكلمات لا يرتبط بباب الشرعيات فإنّها ليست من قبيل المقتضى بحيث يكون الموضوع مقتضياً لحكمه كالاقتضاء الثابت في التكوينيات بل إنّما هي أحكام مترتّبة على موضوعاتها، ويمكن أن يكون لبعض القيود العدمية مدخلية فيها.
ثمّ لو سلم ذلك فالحكم بثبوت المقتضى ـ بالفتح ـ متوقّف على ثبوت المقتضي وإحراز عدم المانع ومجرّد الشكّ في المانع لا يكفي في الحكم بذلك، وما أفاده من أنّ مقتضى الأصل العدم إن كان المراد به هو الأصل الشرعي الذي هو عبارة ـ في المقام ـ عن الاستصحاب، فعدم ثبوت وصف المانعية للكرية لا تكون له حالة سابقة متيقنة، واستصحاب عدم ثبوت طبيعة المانع لا يثبت عدم مانعيتها، وإن كان المراد به هو الأصل العقلائي الذي هو عبارة عن بنائهم على ثبوت المقتضى ـ بالفتح ـ ولو مع الشكّ في وجود المانع فنحن لم نتحقّق هذا البناء أصلاً، وعلى تقديره فمورده ما إذا شكّ في وجود المانع الذي تكون مانعيته محرزة لا فيما إذا شكّ في مانعية الموجود ـ كما في المقام ـ .
والإنصاف انّ الحكم في المسألة بحيث لا يحتاج إلى هذه الاُمور العقلية غير