(الصفحة 202)
طاهر فهو أمر رابع مذكور في ذيل الرواية ومنفي عنه البأس ولا ارتباط له بالمقام فالعمدة هي الثلاثة المذكورة قبل الذيل ولابدّ من أن يكون المراد من كلّ منها غير الآخر حتّى يستقيم التفصيل.
والظاهر انّ المراد من الأوّل مطلق الماء المستعمل ولذا لو سكت الإمام(عليه السلام) ولم يصدر منه غير الفقرة الاُولى لاستفدنا منها عدم البأس بالتوضؤ من الماء المستعمل مطلقاً هذا بالنظر إلى نفس هذه الفقرة ولكنّه يستفاد من الفقرة الثانية والثالثة انّ المراد من الماء المستعمل في الفقرة الاُولى هو الماء الذي غسل فيه أو به القذارات العرفية غير النجسة شرعاً.
كما انّ الظاهر انّ المراد من الثاني هو الماء الذي غسل به الثوب النجس بداهة انّه لا فرق بين الثوب والبدن لو كانا طاهرين وإن كانا كثيفين.
والمراد من الثالث هو الماء المستعمل الذي اغتسل فيه الرجل من الجنابة من دون نظر إلى كون الجنب حاملاً للنجاسة الظاهرية بداهة انّه لو كان المراد من الجنب خصوص الجنب الذي في بدنه نجاسة ظاهرية وكان عدم جواز التوضّي منه لأجل كونه مستعملاً في رفع الخبث وغسل النجاسة الظاهرية لأصبحت الفقرة الثانية والثالثة واردتين في مورد واحد وكان مفادهما شيئاً واحداً وهو عدم جواز التوضّي بالماء المستعمل الذي غسل فيه المتنجّس فلا فائدة في التفصيل أصلاً فلا محيص من أن تكون الفقرة الثالثة لبيان حكم الماء المستعمل الذي اغتسل فيه الجنب بما هو جنب من دون التفات إلى نجاسة بدنه أصلاً.
وبتقريب آخر المراد من قوله(عليه السلام) : الماء الذي يغسل به الثوب هو غسل الثوب من النجاسة الحاصلة فيه فإنّ المنصرف من لفظ الغسل الوارد في الأخبار هو هذا المعنى وإن كان بحسب معناه اللغوي أعمّ منه وهذا بخلاف لفظ «المستعمل» في
(الصفحة 203)
قوله: «لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل» فإنّه ليس له حقيقة خاصّة في اصطلاح الشرع، بل المراد معناه اللغوي، والمراد من قوله: «أو يغتسل به الرجل من الجنابة» ظاهره الذي هو عبارة عن الماء المستعمل في رفع حدث الجنابة لا ما يغسل به المني نظراً إلى الملازمة العادية بين حدوث الجنابة ونجاسة البدن بالمني واجتماع غسالتهما ـ نوعاً ـ في مكان واحد، وذلك ـ مضافاً إلى منع الملازمة ـ لأنّ الحكم مترتّب على هذا العنوان أي ما يستعمل في رفع حدث الجنابة فمجرّد الملازمة لا يوجب صرف الحكم عنه إلى عنوان آخر مضافاً إلى أنّه لو كان المراد غسالة المني لم يكن وجه لتخصيصه بالذكر بعد ذكر غسالة النجاسات قبله كما عرفت.
فحاصل مدلول الرواية عدم جواز التوضّي بغسالة النجاسات ولا بالماء المستعمل في رفع حدث الجنابة أو ما يعمّها ـ بناءً على أن يكون قوله: «وأشباهه» معطوفاً على الضمير المجرور في قوله: «يتوضّأ منه» حتى يكون مكسوراً كما عرفت انّه الأظهر، وامّا التوضّي بالماء المستعمل في الوضوء إذا اجتمع في محلّ نظيف لم يكن نجساً فهو جائز صحيح، وفيه إشعار على خلاف ما زعمه أبو حنيفة من نجاسة ماء الوضوء كما تقدّم، فتصير الرواية بناءً على ما ذكرنا متعرّضة لحكم ثلاث مسائل: التوضّي بغسالة النجاسات وبالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر وبالماء المستعمل في الوضوء.
وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ من أنّ المراد من الرجل هو خصوص الجنب الذي في بدنه نجاسة ظاهرية دون مطلق الجنب نظراً إلى قيام القرينة الداخلية والخارجية عليه:
امّا القرينة الخارجية فهي الأخبار الكثيرة الواردة لبيان كيفية غسل الجنابة الآمرة بأخذ كفّ من الماء وغسل الفرج به ثمّ غسل أطراف البدن حيث إنّها دلّت
(الصفحة 204)
على أنّ غسل الفرج وإزالة نجاسته معتبر في صحّة غسل الجنابة، فالمراد بالجنب في الرواية هو الذي في بدنه نجاسة، وكذلك الأخبار المفصلة بين الكرّ والقليل في نجاسة الماء الذي اغتسل فيه الجنب إذ لو لم تكن في بدنه نجاسة لم يكن وجه لنجاسة الماء باغتساله فيه مطلقاً.
وامّا القرينة الداخلية فهي قوله(عليه السلام) في ذيل الرواية: «وامّا الذي يتوضّأ به الرجل...» حيث دلّ على أنّ المناط في جواز الوضوء والغسل بالماء المستعمل نظافته ونجاسته وانّ حكمه بعدم الجواز فيما غسل به الثوب أو اغتسل به من الجنابة إنّما هو في صورة نجاسة الثوب وبدن الجنب، الموجبة لنجاسة الماء الملاقي لشيء منهما، وامّا إذا كان الماء طاهراً فلا مانع من الاغتسال والتوضؤ به، فلا إطلاق في الرواية حتّى يدلّ على عدم جواز استعمال الماء المستعمل في غسل الجنابة أو غسل الثياب في رفع الحدث مطلقاً.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى الفرق البين بين الاغتسال والغسل وعدم كون تغيير العبارة للتفنن فقط بحيث يكون الاختلاف من جهة المورد فقط وكأن الجملة الاُولى ناظرة إلى غسل الثوب النجس والثانية إلى تطهير البدن النجس كما هو واضح ـ عدم تمامية شيء من القرينتين:
امّا الاُولى فغاية مفادها انّ بدن أكثر من كان جنباً مريداً للاغتسال متنجّس في حاله ولا يكون على نحو يغسل فرجه في مكان ويغتسل في مكان آخر ولكنّه هل يصير قرينة على أنّ كلّ حكم جعل الجنب موضوعاً له يكون المراد منه خصوص الجنب الذي كان في بدنه جنابة بحيث لو قيل ـ مثلاً ـ : «يحرم على الجنب الدخول في المسجد» يستفاد منه انّ المراد من كان بدنه نجساً في حال الجنابة بالنجاسة المرتبطة بها.
(الصفحة 205)
وبعبارة اُخرى: لا وجه لحمل الحكم الثابت على المطلق على أكثر أفراده والخصم لا يحمله على الأفراد النادرة، بل يجعل الموضوع نفس الطبيعة المطلقة وقد شاع انّ كثرة افراد صنف لا توجب حمل النوع عليها فلا وجه لرفع اليد عن الإطلاق مع عدم وجود الدليل على التقييد وقيام الدليل عليه في الأخبار الواردة لبيان كيفية غسل الجنابة وكذا في الأخبار المفصلة بين الكر والقليل في الماء الذي اغتسل فيه الجنب لا يوجب الحمل عليه في المقام مع عدم قيام الدليل عليه، بل قيامه على عدمه وهو وضوح تغاير الجملتين وعدم كون الاختلاف في مجرّد الثوبية والبدنية، مع أنّ في بعض الأخبار المفصلة جعل بول الدواب في سياق الجنب، ومن المعلوم انّ الدواب التي تبول في الماء غالباً لا تكون أبوالها نجسة.
وامّا الثانية فلعدم ارتباط الذيل بالصدر لأنّ الذيل إنّما هو في مقام بيان حكم الماء المستعمل في الوضوء بخلاف الصدر الذي هو وارد في بيان حكم غسالة النجاسات أو الماء المستعمل في غسل الجنابة، مع أنّ المراد من الشيء النظيف في الذيل هو الاناء الذي تقع فيه المياه والقطرات المستعملة في الوضوء لا أعضاء المتوضّي. وكيف يمكن أن يستفاد من اعتبار عدم نجاسة الاناء الواقع فيه ماء الوضوء في الحكم بجواز التوضّي به.
ثانياً: انّ علّة عدم جواز التوضّي من الماء المستعمل في رفع الجنابة هي نجاسة بدن الجنب وانّ المراد بالجنب من كان على بدنه نجاسة ظاهرية فهل قام الدليل على وحدة المناط في الأحكام المذكورة في الرواية، وحمل مطلق الثوب على خصوص النجس لقيام القرينة التي تقدّمت لا يلازم رفع اليد عن الإطلاق في الرجل الجنب كما هو ظاهر.
فالإنصاف تمامية دلالة الرواية على مذهب الصدوقين والشيخين (قدس سرهم) لكنّك
(الصفحة 206)
عرفت ضعف السند جدّاً بحيث لا مساغ للتعويل عليها.
ومن جملة الروايات التي استدلّ بها على المنع صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) قال: سألته عن ماء الحمّام، فقال: ادخله بازار، ولا تغتسل من ماء آخر إلاّ أن يكون فيهم (فيه خ د) جنب أو يكثر أهله فلا يدرى فيهم جنب أم لا. فإنّها بظاهرها تدلّ على أنّ اغتسال الجنب في ماء الحمّام يمنع عن الاغتسال به ثانياً; لأنّ النهي في المستثنى منه لا يدلّ على الحرمة حتّى يكون الاستثناء منها دليلاً على جواز المستثنى للقطع بعدم حرمة الاغتسال من ماء آخر، وتوجيه النهي بأنّه مناف للتقية يدفعه الاستثناء فيها.
وقد ناقش فيها صاحب المعالم(قدس سره) بأنّ الاستثناء من النهي إنّما يوجب ارتفاع الحرمة فحسب ولا يثبت به الوجوب أو غيره، فمعنى الرواية ـ حينئذ ـ انّ الاغتسال من ماء آخر غير منهي عنه إذا كان في الحمّام جنب لا أنّه يجب ذلك فلا دلالة للرواية على عدم جواز الاغتسال بماء الحمّام إذا كان فيه جنب.
وأجاب عن هذه المناقشة صاحب الحدائق(قدس سره) بأنّ الاستثناء من الوجوب يدلّ على حرمة الشيء عرفاً لأنّ الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي كما أفاده نجم الأئمّة(رحمه الله) .
ويرد على جوابه وضوح انّ الاستثناء من التحريم لا يثبت إلاّ ارتفاعه، وامّا ثبوت حكم آخر من الوجوب أو غيره فلا، وكلام نجم الأئمّة لا يدلّ على أزيد من أنّ الاستثناء من الوجوب عدم الوجوب ومن الحرمة عدمها، وامّا ثبوت حكم آخر فلا.
ولنرجع إلى مفاد الرواية وبيان أنّ المراد من الماء الآخر الذي نهى عن الاغتسال منه ماذا؟ فنقول: