(الصفحة 207)
قال بعض الأعلام ما ملخّصه: «لا يمكن أن يكون المراد منه ماء الخزانة لعدم كون الاغتسال منه مرسوماً حتى ينهى عنه، ولكون ماء الخزانة أكثر من الكر بمراتب وأيّ مانع من الاغتسال في مثله وإن اغتسل فيه جنب، كما أنّه لم يرد به ماء الأحواض الصغيرة لعدم تعارف الاغتسال في الحياض بل ولا يتيسّر الدخول فيها لصغرها وإنّما كانوا يأخذون الماء منها بالأكفّ والظروف ويغتسلون حولها فيتعيّن أن يكون المراد منه المياه المجتمعة من الغسالة فهو الذي نهى عن الاغتسال فيه، ويدلّ عليه عدّة روايات:
منها: ما عن حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل ـ حينئذ ـ قال: سألته أو سأله غيري عن الحمّام قال: ادخله بميزر وغضّ بصرك ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم.
ومنها: موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمّام فإنّ فيها غسالة ولد الزنا...
ومنها: غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يظهر منها انّ الاغتسال من مجتمع الغسالة كان أمراً متعارفاً ومرسوماً في تلك الأزمنة، فالمتحصّل انّ النهي ـ الذي هو نهي تنزيل لا محالة ـ في صحيحة محمد بن مسلم إنّما تعلّق على الاغتسال من ماء الغسالة».
وفي كلامه نظر واضح; لأنّه بناءً عليه يصير محصل الكلام في مفاد الرواية انّ الإمام(عليه السلام) نهى عن الاغتسال من ماء الغسالة إلاّ أن يكون في الحمّام أو في المجتمعين فيه جنب فيجوز الاغتسال منه ـ حينئذ ـ فراراً عن لجنب مع أنّه لو كان الجنب في الحمّام مشتغلاً بالاغتسال يجري ماء غسالته إلى البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام التي
(الصفحة 208)
جوّز الإمام(عليه السلام) الاغتسال منها فيقع فيما فرّ منه. مضافاً إلى أنّ النهي في رواية حمزة ابن أحمد قد علّل بأنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب ماء وـ حينئذ ـ فكيف يجوز الاغتسال منها فراراً عن الجنب وماء غسالته، والإنصاف انّ هذا الكلام من بعض الأعلام عجيب جدّاً.
والحقّ انّ المراد من ماء آخر هو ماء غير الحمّام لأنّ السائل ـ وهو محمد بن مسلم ـ قد سأل عن ماء الحمّام فقال: ادخله بازار ولا تغتسل من ماء آخر... ومن الظاهر انّ المتفاهم العرفي من هذا الكلام في مقابل ماء الحمّام هو ماء غير الحمّام ولم يفرض في الرواية كون الرجل في الحمّام حتّى يتوجّه النهي إليه بعده، بل الظاهر بملاحظة قوله(عليه السلام) : «ادخله» كون النهي أيضاً مربوطاً بقبل الدخول فتدبّر.
فيصير المعنى انّه إن شئت أن تدخل الحمّام وتستفيد من مائه فادخله بازار ولا يلزم عليك اتعاب النفس وتكليفها بالاغتسال من ماء آخر إلاّ أن يكون فيهم جنب أو يكثر أهله فلا يدرى فيهم جنب أم لا، فالنهي عن الاغتسال من ماء آخر إرشاد إلى عدم لزوم المواجهة مع مشكلات الاغتسال من ماء آخر ولا يكون نهياً مولوياً حتّى يقال: لِمَ لا يجوز الاغتسال من ماء الحمّام مع وجود الجنب فيه أو يقال: إنّ الاستثناء من التحريم يفيد الوجوب أي وجوب الاغتسال من ماء آخر عند وجود الجنب فيه، ودعوى انّه مع عدم الدخول كيف يستكشف وجود الجنب في الحمّام أو كثرة أهله واضحة المنع.
نعم يبقى الكلام ـ حينئذ ـ في الفرق بين صورة وجود الجنب في الحمّام ـ قطعاً أو احتمالاً ـ وبين صورة عدم وجوده فيه من جهة الاغتسال من ماء آخر وعدمه ولعلّ منشأه انّه في الصورة الاُولى يتحقّق للداخل في الحمّام كلفة ومشقّة من جهة المراقبة لأنّ اغتسال الجنب مع كون بدنه نجساً غالباً يوجب ترشّح غسالته إلى غيره ومن
(الصفحة 209)
المعلوم نجاستها كما سيأتي البحث فيها إن شاء الله تعالى، وهذا بخلاف الصورة الثانية التي لا حاجة فيها إلى المراقبة نوعاً.
وقد انقدح ممّا ذكرنا انّ الرواية وإن كانت تامّة من حيث السند إلاّ أنّ دلالتها ممنوعة عكس الرواية المتقدّمة.
ومنها: صحيحة ابن مسكان قال: حدّثني صاحب لي ثقة انّه سأل أبا عبدالله(عليه السلام)عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، فيريد أن يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال: ينضح بكفّ بين يديه وكفّاً من خلفه وكفّاً عن يمينه وكفّاً عن شماله ثمّ يغتسل. وتقريب الاستدلال بها انّ الظاهر من تقرير الإمام(عليه السلام) وأمره بالنضح الذي هو مانع من رجوع الغسالة إلى الماء ـ لأنّ الظاهر انّ المراد بالنضح هو النضح على الأرض لا على البدن، والنضح على الأوّل يوجب رطوبتها وهي تمنع عن جريان الماء على الوهادة ـ ان دخول الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر في الماء الذي يُغتسل منه مانع عن صحّة الغسل به كما هو المرتكز في ذهن السائل ولأجله سئل عن كيفية الاغتسال في مورد السؤال والإمام قرّره على ذلك ولم يردعه عنه وصار بصدد العلاج بالكيفية المذكورة.
وفيه انّ محطّ نظر السائل فيها هي النجاسة والطهارة بقرينة تقييده الماء بالقليل ولو كان نظره إلى المستعمل في رفع حدث الجنابة بما هو مستعمل فيه وانّه لا يجوز استعماله في رفع الحدث ثانياً لم يكن وجه لهذا التقييد كما أنّ التقييد بقوله: وليس معه إناء يشعر بل يدلّ على ذلك.
مع أنّ الإمام(عليه السلام) لم يقرّر السائل ولم يتصدّ لبيان علاج رجوع الماء المستعمل إلى مركزه الاولي لوضوح انّ نضح الماء إلى الجوانب المذكورة لو لم يكن موجباً لسرعة
(الصفحة 210)
جريان الماء المستعمل ورجوعه إلى محلّه الأصلي لا يكون مانعاً عن رجوعه قطعاً، ولو كان بصدد العلاج المذكور لأمره بأن يجعل الرمل أو التراب بين موضع غسله ومركز الماء أو أمره بأن يغتسل بالتدهين بالماء حتى لا تجري المياه المستعملة إلى الوهادة، والظاهر من هذه الرواية بقرينة الجواب انّ السؤال قد كان محطّ النظر فيه الشكّ في نجاسة الأرض وطهارتها ولذا ذكر الإمام(عليه السلام) مسألة نضح الماء إلى الجوانب وهو حكم تعبّدي محض ثابت في موارد الشكّ في الطهارة والنجاسة كما يظهر بمراجعة الأخبار الكثيرة الدالّة عليه.
مع أنّه لا دليل على أنّ المحذور الذي قرّره الإمام(عليه السلام) هي حرمة الاستعمال فلعلّ السائل يرى كراهته ويؤيّده وضوح انّ العلاج بما ذكر مبني على المسامحة فتدبّر.
ومنها: رواية الفضيل بن يسار عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الرجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء فقال: لا بأس ما جعل عليكم في الدين من حرج. فإنّ انتضاح الماء في الإناء يعمّ بإطلاقه صورة الانتضاح من البدن إليه من دون توسط الأرض وـ حينئذ ـ فتعليل نفي البأس بعدم مجعولية الحرج في الدين يدلّ على أنّ القطرة أو القطرات المنتضحة في الاناء كانت مقتضية لعدم جواز الاستعمال من الماء الموجود في الاناء إلاّ أنّه مرفوع للزوم الحرج، فيدلّ على أنّ الماء المستعمل لو كان جارياً في الاناء لا يجوز الاغتسال به أصلاً، والقائل بالمنع أيضاً يقول باستثناء القطرة والقطرات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والذي يوهن التمسّك بالرواية انّ هذه الرواية رواها الشيخ(قدس سره) بعينها عن فضيل بن يسار عن أبي عبدالله(عليه السلام) إلاّ أنّه ذكر فيها بدل: «ينتضح من الماء» «ينتضح من الأرض» ودعوى انّها رواية مستقلّة غير هذه الرواية بعيدة جدّاً كما هو غير خفي على من كان مأنوساً بالروايات وكيفية نقلها وضبطها في الكتب، وـ حينئذ ـ فتعليل
(الصفحة 211)
عدم البأس بنفي الحرج إنّما هو لاحتمال نجاسة الأرض فيصير مدلول الرواية انّ النكتة في الحكم بطهارتها في مورد الشكّ إنّما هو لزوم الحرج ولا دلالة فيها بل ولا إشعار على أنّه لو كان بدل القطرة والانتضاح الماء والجريان لكان الحكم عدم الجواز فتدبّر جيّداً.
ومنها: رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) قال: سألته أو سأله غيري عن الحمّام فقال: ادخله بميزر، وغضّ بصرك، ولا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها ماء الحمّام، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم. فإنّ الظاهر انّ كلّ واحد من الثلاثة مستقلّ في النهي عن الاغتسال به.
ويرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى جهالة بعض الرواة ـ انّ محطّ النظر فيها النجاسة والطهارة والنهي مع ذلك تنزيهي بدليل ذكر ولد الزنا بنحو الإطلاق فإنّ الإجماع قائم على أنّه لا بأس بالاغتسال في الماء الذي قد اغتسل به ولد الزنا من غير الجنابة، ويمكن أن يكون النهي تحريمياً مستنداً إلى نجاسة بدن الجنب غالباً وعدم مبالاة ولد الزنا بالنجاسة والطهارة وكون الناصب نجس العين كما سيأتي.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) وسئل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب، قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء. فإنّها تدلّ على أنّ الماء إذا اغتسل فيه الجنب ولم يكن قدر كر لا يجوز استعماله.
وفيه انّ السؤال فيها إنّما يكون عن الطهارة والنجاسة بقرينة جواب الإمام(عليه السلام)، فالمراد بالجنب فيها من كان بدنه نجساً، وعليه فجواب الإمام(عليه السلام) إنّما يكون لبيان قاعدة كلّية وهي انّ الماء إذا بلغ ذلك القدار لم ينجسه شيء ولا يرتبط بالمقام بوجه وإلاّ فيكون مفاد المفهوم انّ الماء إذا لم يكن قدر كر ينجّسه اغتسال الجنب فيه