(الصفحة 205)
وبعبارة اُخرى: لا وجه لحمل الحكم الثابت على المطلق على أكثر أفراده والخصم لا يحمله على الأفراد النادرة، بل يجعل الموضوع نفس الطبيعة المطلقة وقد شاع انّ كثرة افراد صنف لا توجب حمل النوع عليها فلا وجه لرفع اليد عن الإطلاق مع عدم وجود الدليل على التقييد وقيام الدليل عليه في الأخبار الواردة لبيان كيفية غسل الجنابة وكذا في الأخبار المفصلة بين الكر والقليل في الماء الذي اغتسل فيه الجنب لا يوجب الحمل عليه في المقام مع عدم قيام الدليل عليه، بل قيامه على عدمه وهو وضوح تغاير الجملتين وعدم كون الاختلاف في مجرّد الثوبية والبدنية، مع أنّ في بعض الأخبار المفصلة جعل بول الدواب في سياق الجنب، ومن المعلوم انّ الدواب التي تبول في الماء غالباً لا تكون أبوالها نجسة.
وامّا الثانية فلعدم ارتباط الذيل بالصدر لأنّ الذيل إنّما هو في مقام بيان حكم الماء المستعمل في الوضوء بخلاف الصدر الذي هو وارد في بيان حكم غسالة النجاسات أو الماء المستعمل في غسل الجنابة، مع أنّ المراد من الشيء النظيف في الذيل هو الاناء الذي تقع فيه المياه والقطرات المستعملة في الوضوء لا أعضاء المتوضّي. وكيف يمكن أن يستفاد من اعتبار عدم نجاسة الاناء الواقع فيه ماء الوضوء في الحكم بجواز التوضّي به.
ثانياً: انّ علّة عدم جواز التوضّي من الماء المستعمل في رفع الجنابة هي نجاسة بدن الجنب وانّ المراد بالجنب من كان على بدنه نجاسة ظاهرية فهل قام الدليل على وحدة المناط في الأحكام المذكورة في الرواية، وحمل مطلق الثوب على خصوص النجس لقيام القرينة التي تقدّمت لا يلازم رفع اليد عن الإطلاق في الرجل الجنب كما هو ظاهر.
فالإنصاف تمامية دلالة الرواية على مذهب الصدوقين والشيخين (قدس سرهم) لكنّك
(الصفحة 206)
عرفت ضعف السند جدّاً بحيث لا مساغ للتعويل عليها.
ومن جملة الروايات التي استدلّ بها على المنع صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) قال: سألته عن ماء الحمّام، فقال: ادخله بازار، ولا تغتسل من ماء آخر إلاّ أن يكون فيهم (فيه خ د) جنب أو يكثر أهله فلا يدرى فيهم جنب أم لا. فإنّها بظاهرها تدلّ على أنّ اغتسال الجنب في ماء الحمّام يمنع عن الاغتسال به ثانياً; لأنّ النهي في المستثنى منه لا يدلّ على الحرمة حتّى يكون الاستثناء منها دليلاً على جواز المستثنى للقطع بعدم حرمة الاغتسال من ماء آخر، وتوجيه النهي بأنّه مناف للتقية يدفعه الاستثناء فيها.
وقد ناقش فيها صاحب المعالم(قدس سره) بأنّ الاستثناء من النهي إنّما يوجب ارتفاع الحرمة فحسب ولا يثبت به الوجوب أو غيره، فمعنى الرواية ـ حينئذ ـ انّ الاغتسال من ماء آخر غير منهي عنه إذا كان في الحمّام جنب لا أنّه يجب ذلك فلا دلالة للرواية على عدم جواز الاغتسال بماء الحمّام إذا كان فيه جنب.
وأجاب عن هذه المناقشة صاحب الحدائق(قدس سره) بأنّ الاستثناء من الوجوب يدلّ على حرمة الشيء عرفاً لأنّ الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي كما أفاده نجم الأئمّة(رحمه الله) .
ويرد على جوابه وضوح انّ الاستثناء من التحريم لا يثبت إلاّ ارتفاعه، وامّا ثبوت حكم آخر من الوجوب أو غيره فلا، وكلام نجم الأئمّة لا يدلّ على أزيد من أنّ الاستثناء من الوجوب عدم الوجوب ومن الحرمة عدمها، وامّا ثبوت حكم آخر فلا.
ولنرجع إلى مفاد الرواية وبيان أنّ المراد من الماء الآخر الذي نهى عن الاغتسال منه ماذا؟ فنقول:
(الصفحة 207)
قال بعض الأعلام ما ملخّصه: «لا يمكن أن يكون المراد منه ماء الخزانة لعدم كون الاغتسال منه مرسوماً حتى ينهى عنه، ولكون ماء الخزانة أكثر من الكر بمراتب وأيّ مانع من الاغتسال في مثله وإن اغتسل فيه جنب، كما أنّه لم يرد به ماء الأحواض الصغيرة لعدم تعارف الاغتسال في الحياض بل ولا يتيسّر الدخول فيها لصغرها وإنّما كانوا يأخذون الماء منها بالأكفّ والظروف ويغتسلون حولها فيتعيّن أن يكون المراد منه المياه المجتمعة من الغسالة فهو الذي نهى عن الاغتسال فيه، ويدلّ عليه عدّة روايات:
منها: ما عن حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل ـ حينئذ ـ قال: سألته أو سأله غيري عن الحمّام قال: ادخله بميزر وغضّ بصرك ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم.
ومنها: موثّقة ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمّام فإنّ فيها غسالة ولد الزنا...
ومنها: غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يظهر منها انّ الاغتسال من مجتمع الغسالة كان أمراً متعارفاً ومرسوماً في تلك الأزمنة، فالمتحصّل انّ النهي ـ الذي هو نهي تنزيل لا محالة ـ في صحيحة محمد بن مسلم إنّما تعلّق على الاغتسال من ماء الغسالة».
وفي كلامه نظر واضح; لأنّه بناءً عليه يصير محصل الكلام في مفاد الرواية انّ الإمام(عليه السلام) نهى عن الاغتسال من ماء الغسالة إلاّ أن يكون في الحمّام أو في المجتمعين فيه جنب فيجوز الاغتسال منه ـ حينئذ ـ فراراً عن لجنب مع أنّه لو كان الجنب في الحمّام مشتغلاً بالاغتسال يجري ماء غسالته إلى البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام التي
(الصفحة 208)
جوّز الإمام(عليه السلام) الاغتسال منها فيقع فيما فرّ منه. مضافاً إلى أنّ النهي في رواية حمزة ابن أحمد قد علّل بأنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب ماء وـ حينئذ ـ فكيف يجوز الاغتسال منها فراراً عن الجنب وماء غسالته، والإنصاف انّ هذا الكلام من بعض الأعلام عجيب جدّاً.
والحقّ انّ المراد من ماء آخر هو ماء غير الحمّام لأنّ السائل ـ وهو محمد بن مسلم ـ قد سأل عن ماء الحمّام فقال: ادخله بازار ولا تغتسل من ماء آخر... ومن الظاهر انّ المتفاهم العرفي من هذا الكلام في مقابل ماء الحمّام هو ماء غير الحمّام ولم يفرض في الرواية كون الرجل في الحمّام حتّى يتوجّه النهي إليه بعده، بل الظاهر بملاحظة قوله(عليه السلام) : «ادخله» كون النهي أيضاً مربوطاً بقبل الدخول فتدبّر.
فيصير المعنى انّه إن شئت أن تدخل الحمّام وتستفيد من مائه فادخله بازار ولا يلزم عليك اتعاب النفس وتكليفها بالاغتسال من ماء آخر إلاّ أن يكون فيهم جنب أو يكثر أهله فلا يدرى فيهم جنب أم لا، فالنهي عن الاغتسال من ماء آخر إرشاد إلى عدم لزوم المواجهة مع مشكلات الاغتسال من ماء آخر ولا يكون نهياً مولوياً حتّى يقال: لِمَ لا يجوز الاغتسال من ماء الحمّام مع وجود الجنب فيه أو يقال: إنّ الاستثناء من التحريم يفيد الوجوب أي وجوب الاغتسال من ماء آخر عند وجود الجنب فيه، ودعوى انّه مع عدم الدخول كيف يستكشف وجود الجنب في الحمّام أو كثرة أهله واضحة المنع.
نعم يبقى الكلام ـ حينئذ ـ في الفرق بين صورة وجود الجنب في الحمّام ـ قطعاً أو احتمالاً ـ وبين صورة عدم وجوده فيه من جهة الاغتسال من ماء آخر وعدمه ولعلّ منشأه انّه في الصورة الاُولى يتحقّق للداخل في الحمّام كلفة ومشقّة من جهة المراقبة لأنّ اغتسال الجنب مع كون بدنه نجساً غالباً يوجب ترشّح غسالته إلى غيره ومن
(الصفحة 209)
المعلوم نجاستها كما سيأتي البحث فيها إن شاء الله تعالى، وهذا بخلاف الصورة الثانية التي لا حاجة فيها إلى المراقبة نوعاً.
وقد انقدح ممّا ذكرنا انّ الرواية وإن كانت تامّة من حيث السند إلاّ أنّ دلالتها ممنوعة عكس الرواية المتقدّمة.
ومنها: صحيحة ابن مسكان قال: حدّثني صاحب لي ثقة انّه سأل أبا عبدالله(عليه السلام)عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، فيريد أن يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال: ينضح بكفّ بين يديه وكفّاً من خلفه وكفّاً عن يمينه وكفّاً عن شماله ثمّ يغتسل. وتقريب الاستدلال بها انّ الظاهر من تقرير الإمام(عليه السلام) وأمره بالنضح الذي هو مانع من رجوع الغسالة إلى الماء ـ لأنّ الظاهر انّ المراد بالنضح هو النضح على الأرض لا على البدن، والنضح على الأوّل يوجب رطوبتها وهي تمنع عن جريان الماء على الوهادة ـ ان دخول الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر في الماء الذي يُغتسل منه مانع عن صحّة الغسل به كما هو المرتكز في ذهن السائل ولأجله سئل عن كيفية الاغتسال في مورد السؤال والإمام قرّره على ذلك ولم يردعه عنه وصار بصدد العلاج بالكيفية المذكورة.
وفيه انّ محطّ نظر السائل فيها هي النجاسة والطهارة بقرينة تقييده الماء بالقليل ولو كان نظره إلى المستعمل في رفع حدث الجنابة بما هو مستعمل فيه وانّه لا يجوز استعماله في رفع الحدث ثانياً لم يكن وجه لهذا التقييد كما أنّ التقييد بقوله: وليس معه إناء يشعر بل يدلّ على ذلك.
مع أنّ الإمام(عليه السلام) لم يقرّر السائل ولم يتصدّ لبيان علاج رجوع الماء المستعمل إلى مركزه الاولي لوضوح انّ نضح الماء إلى الجوانب المذكورة لو لم يكن موجباً لسرعة