(الصفحة 21)
ثبوت كون مطلق الميعان علّة حتّى يلزم من الاشتراك فيها ذلك» مدفوع بما ذكرنا في تعريف الماء المضاف من أنّه ليس من أقسام الماء وأفراده بل هو خارج عن حقيقته كسائر المايعات كاللبن والخل، والفرق بينه وبينها إنّما هو في إطلاق لفظ «الماء» عليه مع إضافته إلى شيء آخر دونها لا في كونه من أنواع الماء وأقسامها بخلافها.
وبالجملة: فإنّ هنا شيئين: الماء المطلق وسائر المائعات التي لكلّ منها حقيقة مستقلّة وماهية خاصّة ومنها الماء المضاف ولذا لا يكون الحكم في المقام والنزاع فيه منحصراً بالماء المضاف، بل إنّما هو في مطلق المائعات فكذلك لا مجال للخدشة في شمولها للماء المضاف أيضاً، فالرواية إنّما وردت في بعض فروع المقام ولا ينبغي الارتياب في أنّ المناط مجرّد الذوبان والميعان فتجري في غير الأمرين.
والإنصاف انّ هذه الرواية وحدها كافية في إثبات المطلوب ـ وهو انفعال جميع المايعات عدى الماء بمجرّد الملاقاة مطلقاً قليلة كانت أو كثيرة ـ لما عرفت من صحّة السند وتمامية الدلالة وبطلان المناقشة.
نعم هنا بعض الروايات الاُخر غير الخالية عن الدلالة على المطلوب وإن كان في دلالة بعضها أو سنده نظر وإشكال مثل رواية جابر الجعفي عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال: فقال أبو جعفر(عليه السلام) : لا تأكله فقال له الرجل: الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال أبو جعفر(عليه السلام) : إنّك لم تستخف بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء.
وفيه ـ مضافاً إلى ضعف سند الرواية ـ انّه يحتمل فيها ـ قويّاً ـ أن يكون مورد السؤال هو وقوع الفأرة في الطعام بحيث تفسّخت فيه وانبثت أجزائها فحرمة أكل
(الصفحة 22)
الطعام إنّما هي من حيث استلزامه لأكل الميتة لا أنّ أكله بمنزلة أكلها في الحرمة، والدليل على ذلك انّه جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحريم الميتة، ومن المعلوم انّه لم يقل أحد بأنّ حرمة شيء تستلزم حرمة ما يلاقيه، وحمل الحرمة في الرواية على النجاسة ـ مضافاً إلى أنّه خلاف الظاهر من دون قرينة وبيّنة على الخلاف ـ لا دليل عليه أصلاً، والقول بأنّ الطباع تتنفّر من أكل الطعام الذي صارت أجزاء الميتة مخلوطة بأجزائه منبثّة فيها فلا ينبغي حمل مورد السؤال عليه، ويدفعه قول السائل: الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها، خصوصاً بعد ملاحظة حال الأعراب في صدر الإسلام، وبالجملة فدلالة الرواية على نجاسة الطعام غير تامّة.
ورواية السكوني عن جعفر عن أبيه(عليهما السلام) انّ عليّاً(عليه السلام) سُئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة قال: يهرق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل. ودلالتها على النجاسة ظاهرة ولكنّه ربّما يستبعد الشمول لما إذا كان المرق كثيراً وإن كان في الاستبعاد نظر خصوصاً بعد ملاحظة انّ العرب في مضايفهم ربّما يطبخون بعيراً في القدور، ومن الواضح انّ المرق في مثل هذه القدور لا يكون أقلّ من الكرّ.
وموثقة عمّار بن موسى عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس. الحديث.
والدن كما في «المنجد» الراقود العظيم لا يقعد إلاّ أن يحفر له. ولا يبعد أن يقال بإمكان كونه ظرفاً للمايع الكثير كما هو الغالب في الظروف المتداولة في ذلك الزمان المعدّة للماء ونظائره. وغير ذلك من الروايات التي يمكن أن يستدلّ بها للمقام.
ثمّ إنّه قد يتمسّك لتعميم الحكم بالإضافة إلى القليل والكثير بقاعدة المقتضى
(الصفحة 23)
والمانع ـ كما عن الشيخ الأنصاري(قدس سره) بتقريب انّ المستفاد من أدلّة اعتصام الكثير المطلق انّ الكرية عاصمة وإلاّ فالمقتضى للانفعال في الكثير أيضاً موجود كما يشهد بذلك استناد عدم الانفعال إلى الكرية فهي مانعة; لأنّ استناد عدم الشيء إلى وجود شيء آخر دليل على مانعية الشيء الآخر وثبوت المقتضى للشيء الأوّل، والقول بأنّه يحتمل أن تكون القلّة شرطاً يدفعه انّها من الاُمور العدمية غير القابلة للتأثير والتأثّر، فاللاّزم أن تكون الكرية مانعة، وـ حينئذ ـ فمع الشكّ في المانعية كما في المقام يكون مقتضى الأصل عدمها فيكون تأثير المقتضى بلا مزاحم.
وأنت خبير بأنّ مثل هذه الكلمات لا يرتبط بباب الشرعيات فإنّها ليست من قبيل المقتضى بحيث يكون الموضوع مقتضياً لحكمه كالاقتضاء الثابت في التكوينيات بل إنّما هي أحكام مترتّبة على موضوعاتها، ويمكن أن يكون لبعض القيود العدمية مدخلية فيها.
ثمّ لو سلم ذلك فالحكم بثبوت المقتضى ـ بالفتح ـ متوقّف على ثبوت المقتضي وإحراز عدم المانع ومجرّد الشكّ في المانع لا يكفي في الحكم بذلك، وما أفاده من أنّ مقتضى الأصل العدم إن كان المراد به هو الأصل الشرعي الذي هو عبارة ـ في المقام ـ عن الاستصحاب، فعدم ثبوت وصف المانعية للكرية لا تكون له حالة سابقة متيقنة، واستصحاب عدم ثبوت طبيعة المانع لا يثبت عدم مانعيتها، وإن كان المراد به هو الأصل العقلائي الذي هو عبارة عن بنائهم على ثبوت المقتضى ـ بالفتح ـ ولو مع الشكّ في وجود المانع فنحن لم نتحقّق هذا البناء أصلاً، وعلى تقديره فمورده ما إذا شكّ في وجود المانع الذي تكون مانعيته محرزة لا فيما إذا شكّ في مانعية الموجود ـ كما في المقام ـ .
والإنصاف انّ الحكم في المسألة بحيث لا يحتاج إلى هذه الاُمور العقلية غير
(الصفحة 24)
التامّة كما عرفت.
الجهة الرابعة: في الاستدراك الذي أفاده في المتن بقوله: «نعم إذا كان جارياً من العالي إلى السافل ولو بنحو الانحدار مع الدفع بقوّة ولاقى أسفله النجاسة تختص بموضوع الملاقاة وما دونه ولا تسري إلى الفوق» ومثاله ما إذا صبّ الجلاب من ابريق على يد كافر فلا ينجس ما في الابريق وإن كان متصلاً بما في يده.
والمستفاد من المتن انّ عدم السراية في مورد الاستدراك إنّما هو لثبوت أمرين: أحدهما الجريان من العالي إلى السافل ولو بنحو الانحدار، والثاني هو الدفع بقوّة.
ولكنّه ربّما يقال: إنّ الملاك في عدم السراية إنّما هو تعدّد الماء بالنظر العرفي واتصافه بكونه مائين أو أكثر ولا وقع لكون الماء عالياً أو سافلاً أو متساوياً; لأنّ الميزان في عدم سراية النجاسة والطهارة من أحد طرفي الماء إلى الآخر إنّما هو جريان الماء بالدفع فإنّ السيلان والاندفاع يجعلان الماء متعدّداً بالنظر العرفي فسافله غير عاليه وهما ماءان فلا تسري النجاسة من أحدهما إلى الآخر كما في الفوارات والأنابيب المستعملة فعلاً.
والظاهر انّ الملاك هو السراية وعدمها، والدفع بقوّة لا يوجب تعدّد الماء ولو بالنظر العرفي بل إنّما يمنع عن تحقّق السراية التي هي المناط في الحكم بالنجاسة فعدم ثبوت النجاسة في مثل الفوارات ليس إلاّ لعدم تحقّق السراية لا لثبوت التعدّد والخروج من الوحدة، وعليه فكلّما كانت السراية هناك موجودة يحكم بالنجاسة فيه وإلاّ فلا، سواء كان جارياً من العالي إلى السافل أو العكس أو مساوياً.
ومن هنا يمكن أن يقال كما قيل بعدم ثبوت السراية في الكثرة المفرطة في المضاف الراكد وشبهه فيسهل الأمر في عيون النفط المستخرج في عصرنا المعلوم غالباً مباشرة الكافر بالرطوبة المسرية وإن كان في المثال تأمّل نظراً إلى أنّ المباشرة
(الصفحة 25)
غير معلومة غالباً لا في حال الاستخراج ولا بعده.
وبالجملة الملاك هو السراية وعدمها والدفع بقوّة يمنع عن تحقّق السراية ولا يوجب التعدّد أصلاً.