(الصفحة 247)
الاستنجاء في جميع الفروض والحكم في الروايات معلّق على نفس طبيعة الاستنجاء، نعم لا يبعد أن يقال بعدم الشمول لما لو تبدّل مخرجه الطبيعي إلى موضع آخر موقتاً لعدم صدق الاستنجاء عليه، كما أنّه لا يشمل من لا يكون له مخرج أصلاً بل يقيء كلّ ما يأكل ويشرب. وبالجملة فالمناط صدق الاستنجاء لأنّ الحكم مترتّب على طبيعته لا على الافراد حتّى يشكّ في الشمول للأفراد غير المتعارفة، ولو شكّ في مورد صدق الاستنجاء فالواجب ترتيب أحكام النجاسة عليه فتدبّر.
ثمّ إنّ المراد بالعفو ـ على القول به ـ هل هو العفو عن خصوص الملاقي بمعنى عدم تأثير ماء الاستنجاء في نجاسة ملاقيه، وامّا سائر الأحكام المترتّبة على النجس كحرمة الأكل والشرب فلا مناص عن ترتّبها عليه، أو انّ المراد هو العفو عن جميع الأحكام اللاّزمة لعدم صدق العفو في غيرها، أو العفو عن جميع الأحكام؟ وجوه بل أقوال.
ولكنّه لا يخفى انّه لو قلنا بالعفو فلا محيص عن أن يكون المراد به هو المعنى الأوّل لوضوح انّه لم يرد في روايات الباب كلمة «العفو» حتّى يقال بعدم صدقه إلاّ في الأحكام اللاّزمة أو بشموله لجميع الأحكام بل الروايات بين ما يدلّ على عدم البأس وبين ما يكون مدلوله عدم التأثير في نجاسة الثوب، ومن الواضح انّ الضمير في قوله(عليه السلام) : «لا بأس به» يرجع إلى الثوب الذي وقع على ماء الاستنجاء أو إلى وقوع الثوب فيه لا إلى نفس الماء فيصير مفاد مجموع الروايات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي بعد إلغاء خصوصية الثوبية، وامّا ارتفاع سائر الأحكام الموضوعة على النجس المترتّبة عليه فلا دليل عليه أصلاً.
بقي الكلام في هذا المقام في جواز استعماله في رفع الحدث والخبث وعدمه والأقوال في المسألة ثلاثة:
(الصفحة 248)
أحدها: عدم جواز استعماله في رفع شيء منهما لكونه محكوماً بالنجاسة، غاية الأمر ثبوت العفو بمعنى عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي للروايات الدالّة عليه وهو محكي عن الشهيد وكلّ من قال بالنجاسة.
ثانيها : جواز استعماله في رفع كلّ واحد منهما لكونه طاهراً ولم يقم دليل على المنع من استعماله فيه وقد قوّاه صاحب الحدائق ونسبه إلى المحقّق الأردبيلي(قدس سرهما).
ثالثها: ما اختاره السيّد في العروة من ثبوت الطهارة وجواز استعماله في رفع الخبث دون الحدث للإجماعات المنقولة على أنّ الماء المستعمل في إزالة الخبث لا يرفع الحدث.
أقول : امّا عدم الجواز على القول بالنجاسة فواضح لعدم جواز استعمال الماء المتنجّس في رفع الحدث ولم يقم دليل على العفو بحيث يشمل رفع هذا المنع أيضاً كما عرفت، وامّا على القول بالطهارة فمقتضى القاعدة في بادئ النظر جواز استعماله في رفع كلّ واحد منهما ; لأنّ المفروض ثبوت الطهارة وعدم وجود دليل على المنع عدا الإجماعات المنقولة على عدم جواز استعمال الماء المستعمل في إزالة الخبث مطلقاً أو خصوص ماء الاستنجاء في رفع الحدث كما هو المحكي عن العلاّمة وبعض المتأخّرين كصاحب الذخيرة، ولكن حيث قد حقّق في محلّه عدم حجّية الإجماعات المنقولة بغير التواتر أوّلاً، واحتمال كون المدرك بعض الروايات الذي سيجيء ثانياً، ووضوح كون أكثر المجمعين قائلين بنجاسة الغسالة ثالثاً، لا يبقى لحجّية هذه الإجماعات مجال.
نعم هنا شيء وهو انّه لا يبعد دعوى انصراف أدلّة الوضوء والغسل المشروعين لحصول النظافة الظاهرية أيضاً مقدّمة لعبادة المعبود والخضوع لديه والتقرّب إليه جلّ شأنه عن الوضوء والغسل بماء الاستنجاء بل تنكر المتشرّعة على القائل
(الصفحة 249)
بجوازه بحيث يجعلونه كالأحكام المبتدعة، كما أنّه لا يبعد أن يقال بانصراف الأدلّة الواردة في التطهير عن النجاسات عن التطهير بمثل هذا الماء فتدبّر.
وامّا القول الثالث فيمكن الاستدلال له ـ مضافاً إلى الإجماعات المنقولة المذكورة ـ برواية عبدالله بن سنان ـ المتقدّمة في بحث الغسالة ـ المشتملة على قوله(عليه السلام): «الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضّأ منه وأشباهه» بتقريب انّه بعد وضوح كون المراد بالثوب هو الثوب النجس لا خصوصية للثوب، بل المراد مطلق المتنجّس فيشمل محلّ النجو أيضاً، كما أنّه لا خصوصية للوضوء، بل المراد مطلق رافع الحدث ولو كان غسلاً خصوصاً لو كان الضمير في أشباهه راجعاً إلى الوضوء.
أقول: امّا الإجماعات فقد عرفت الجواب عن الاستدلال بها.
وامّا الرواية فـ ـ مضافاً إلى ضعف سندها كما عرفت البحث فيه مفصلاًّ ـ يرد على الاستدلال بها انّ الكلام إنّما هو مع فرض الطهارة ولا دلالة للرواية عليها، ومن المحتمل أن يكون الحكم بعدم الجواز ناشئاً عن نجاسة الغسالة، وعليه فإلغاء الخصوصية من الثوب إنّما هو بالمقدار الذي يكون مشتركاً معه في هذا الحكم أي النجاسة ولا وجه لإلغائه بحيث يشمل محلّ النجو أيضاً مع كون الماء المستعمل في غسله محكوماً بالطهارة كما هو المفروض. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
المقام الثاني: فيما يكون الطهارة أو العفو مشروطاً به جزماً أو احتمالاً وهي اُمور:
الأوّل: أن لا يتغيّر أحد أوصافه الثلاثة: اللون والطعم والريح بنجاسة المحلّ الذي انفصل عنه الماء ولا ينبغي الإشكال في اعتبار هذا الأمر لإطلاق ما دلّ على نجاسة الماء المتغيّر وعدم المنافاة بينه وبين أدلّة طهارة ماء الاستنجاء لوضوح انّ السؤال في هذه الروايات إنّما هو عن حيثية كونه ملاقياً للنجس بمعنى أنّه هل يكون
(الصفحة 250)
ماء الاستنجاء كسائر المياه القليلة المنفعلة بمجرّد الملاقاة مع النجاسة أو له خصوصية لا يتأثّر بذلك فمحطّ نظر السائل إنّما هو هذه الحيثية، وعليه فالحكم بالطهارة من هذه الجهة لا ينافي النجاسة في مورد حصول التغيّر فلا منافاة بين أدلّة المقام وبين مثل النبوي: «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه» ولا سيّما بعد ملاحظة عدم كون التغيّر أمراً غالبياً في ماء الاستنجاء بل قد يتّفق أحياناً.
ثمّ إنّه لو سلّمنا شمول أدلّة الاستنجاء لصورة التغيّر والحكم بالطهارة فيها أيضاً فلا مجال لادّعاء الانصراف فيها أصلاً لأنّ مورده ما إذا أوجب تقييداً في الدليل حتّى لا يجوز التمسّك بإطلاقه وهو لم يثبت في المقام، وعليه فيقع التعارض بين أدلّة طهارة الاستنجاء الشاملة لفرض التغيّر وبين مثل النبوي الدالّ على نجاسة الماء المتغيّر مطلقاً ويصير الترجيح مع النبوي لضعف شمول أخبار الاستنجاء لهذا الفرض حتّى ادّعى فيها الانصراف كما عرفت، أوّلاً، وعدم وجود ماء متغيّر محكوم بالطهارة ثانياً ; لأنّ جميع المياه المعتصمة أيضاً محكومة بالنجاسة مع التغيّر، وعدم اقتضاء التسهيل ـ الذي يبتني حكم ماء الاستنجاء عليه ـ للحكم بالطهارة فيه أيضاً ثالثاً; لعدم كون التغيّر أمراً غالبياً لو لم نقل بثبوت الغلبة مع الافراد غير المتغيّرة.
هذا ولكنّه أفاد بعض الأعلام في وجه ترجيح أخبار النجاسة طريقاً آخر وهو انّ فيها ما هو عام وهو صحيحة حريز: «كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء وأشرب... وبما انّ دلالته بالوضع فتتقدّم على إطلاق الطائفة الاُولى لا محالة وبذلك يحكم بنجاسة ماء الاستنجاء عند تغيّره بأوصاف النجس.
وهذا الكلام مخدوش أولاً بأنّ هذه الرواية بمنطوقها تدلّ على بيان حكم الماء
(الصفحة 251)
غير المتغيّر، والمعارض مع أخبار الاستنجاء هو الأدلّة الواردة في الماء المتغيّر الدالّة على نجاسته. نعم ذيل الرواية وارد في حكم الماء المتغيّر ولكنّه خال عن لفظ العموم.
وثانياً: بأنّ الموضوع في هذه الرواية أيضاً هو لفظة «الماء» وهي مطلقة وكلمة «كلّما» زمانية، والمراد الماء في كلّ زمان. ومن المعلوم انّ مدّعاه هو العموم الافرادي لا الازماني فالرواية لا دلالة لها عليه أصلاً، وعليه فالتحقيق في وجه الترجيح ما ذكرنا.
ثمّ لا يخفى انّ المعارضة بين الدليلين إنّما هو على فرض القول بالطهارة في ماء الاستنجاء، وامّا على تقدير النجاسة وثبوت العفو فلا معارضة أصلاً ولكنّه مع ذلك لا تشمل أدلّة ماء الاستنجاء لصورة التغيّر لما ذكرنا في أوّل البحث فلا تغفل.
ثمّ إنّ المراد بالتغيّر ـ في المقام ـ إنّما هو التغيّر بعد الانفصال عن المحلّ والاجتماع في موضع وحد، وامّا مجرّد تغيّر أوّل جزء منه مع زواله بعد الاجتماع أو قبل الوصول إلى المحلّ الذي يجتمع فيه ماء الاستنجاء فلا يوجب النجاسة أصلاً لندرة فرض ما لو لم يتغيّر شيء من أجزائه بوجه فلو حمل الأخبار على ذلك الفرض يلزم طرحها غالباً.
الأمر الثاني: أن لا تكون فيه أجزاء متميّزة من الغائط، والوجه في اعتباره كما قيل: إنّ المتعارف في الاستنجاء ما إذا بقى من النجاسة في الموضع شيء يسير ولا يوجد شيء من أجزائها المتمايزة في الماء، وامّا إذا كان الباقي في الموضع كثيراً خارجاً عن العادة على نحو وجد بعض أجزائها في الماء متميّزاً حين الاستنجاء أو بعد الفراغ منه فلا يمكن الحكم فيه بطهارة الماء لأنّ الأجزاء الموجودة في الماء نجاسة خارجية ودليل طهارة ماء الاستنجاء إنّما يدلّ على أنّ الملاقاة للنجاسة في موضعها