(الصفحة 265)
انحلال الخطابات الشرعية إلى الخطابات المتعدّدة حسب تعدّد المخاطبين وتكثّرهم حتى يلاحظ حال كلّ واحد منهم من حيث استحسان توجّه الخطاب إليه وعدمه ولعمري انّ هذا من الوضوح بمكان.
وـ حينئذ ـ إذا فرض عدم ابتلاء المكلّف ببعض الأطراف في الشبهة المحصورة فتوجيه الخطاب الخاص إليه بالنهي عن الخمر المردّد بين هذا الاناء والاناء الذي يكون في أقصى بلاد الهند وإن كان مستهجناً مع الإطلاق وعدم التعليق على الابتلاء إلاّ انّه مجرّد فرض لم يوجد في الشريعة لأنّ الخطابات فيها إنّما هي على نحو العموم والمفروض كونه من جملة المخاطبين فالتكليف متوجّه إلى لا محالة ويجب عليه الاجتناب عن الاناء الموجود عنده وإن كان الحرام مردّداً بينه وبين ما لا يكون مورداً لابتلاء المكلّف به عادةً، فما اشتهر بين المتأخّرين من اشتراطهم في وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة كون الجميع مورداً لابتلاء المكلّف ممّا لا يعلم له وجه، ويؤيّده انّه لا يكون بين المتقدّمين من ذكر هذا الشرط عين ولا أثر بل إنّما حدث في الأزمنة المتأخّرة كما عرفت.
ويدلّ على ما ذكرنا أيضاً انّه من الواضح انّه لا فرق بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية من هذه الجهة أصلاً، فكما أنّه يشترط في حسن توجيه الخطاب إلى زيد بالنهي عن شرب الخمر ابتلائه به عادة وإلاّ تلزم اللغوية ـ كما عرفت ـ كذلك يشترط في جعل النجاسة له ابتلائه بذلك الشيء المجعول له النجاسة عادةً إذ من المعلوم انّ جعل النجاسة وسائر الأحكام الوضعية إنّما هو لغرض ترتّب الأثر من عدم جواز الصلاة في الشيء النجس وعدم جواز استعماله والانتفاع به مطلقاً أو في الجملة، وغيرهما من الأحكام والآثار، وـ حينئذ ـ فجعل النجاسة على الشيء الذي لا يبتلى به المكلّف عادةً يكون مستهجناً عرفاً فيلزم ـ بناء على
(الصفحة 266)
قولهم بانحلال الخطابات الشرعية إلى خطابات متعدّدة متكثّرة بمقدار كثرة المخاطبين وتعدّدهم ـ أن تكون الأحكام الوضعية أيضاً كذلك فاللاّزم أن يكون الشيء نجساً بالإضافة إلى من يكون ذلك الشيء مورداً لابتلائه وعدم كونه نجساً بالنسبة إلى من لا يتحقّق له الابتلاء به عادةً لما عرفت من استهجان جعل النجاسة له بعدما فرض من أنّ الأحكام الوضعية مجعولة لغرض ترتّب الأثر مع أنّ ضرورة الفقه تقضي بخلافه فإنّ الشيء المحكوم بالنجاسة نجس بالإضافة إلى جميع الناس لأنّ النجاسة من الاُمور الواقعية التي لا تكاد تختلف باختلاف الأشخاص من حيث الابتلاء وعدمه، نعم يمكن جعل الطهارة الظاهرية للنجس الواقعي بالإضافة إلى الشاكّ الذي لا يكون عالماً بالحالة السابقة أيضاً إلاّ أنّ الكلام في الحكم الواقعي دون الحكم الظاهري كما هو واضح وهكذا سائر الأحكام الوضعية غير النجاسة والطهارة.
وليعلم انّ النقض بالأحكام الوضعية بهذه الكيفية المذكورة إنّما يرد على جميع الأقوال المتشتّتة المختلفة في باب الأحكام الوضعية إلاّ أنّ ورود النقض على مثل الشيخ(قدس سره) في الرسالة ممّن يقول بعدم استقلالها وانتزاعها من الأحكام التكليفية الثابتة في مواردها أوضح وأظهر فتدبّر.
ثمّ إنّ لازم ما ذكروه في المقام من اشتراط تنجّز التكليف المعلوم بالإجمال بصحّة توجّه التكليف على أيّ تقدير انّه لو تردّد الأمر ـ مثلاً ـ بين أن يكون هذا الاناء خمراً أو ذلك الاناء بولاً لا يجب الاجتناب عن شيء من الانائين من جهة الشرب أصلاً; لأنّ توجيه الخطاب بقوله: لا تشرب البول يكون مستهجناً بعد عدم ثبوت الداعي إلى شربه بوجه، والخطاب بقوله: لا تشرب الخمر، لا يعلم ثبوته في القرض وـ حينئذ ـ فلا موجب للاجتناب عن الشرب أصلاً ـ بناءً على قولهم ـ مع
(الصفحة 267)
أنّ ذلك بعيد جدّاً.
ثمّ إنّ مقتضى ما ذكرنا من أنّ الخطابات الواردة في الشريعة لا تكاد تنحلّ إلى خطابات متعدّدة حسب تعدّد المخاطبين بل كلّ واحدة منها خطاب واحد والمخاطب فيها متعدّد انّه لو شكّ مكلّف في تحقّق القدرة وعدمه يجب عليه الاحتياط لما عرفت من أنّ عدم استحقاق العقوبة مع عدم القدرة إنّما هو للعذر لا لعدم توجّه التكليف، وـ حينئذ ـ فمرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في ثبوت العذر وعدمه واللاّزم فيه الاحتياط.
وامّا بناءً على الانحلال وكون القدرة شرطاً لثبوت التكليف فالقاعدة مع الشكّ فيها تقتضي الرجوع إلى البراءة لكون الشكّ في الشرط موجباً للشكّ في أصل التكليف المشروط به، والمرجع فيه أصالة البراءة مع أنّهم لا يلتزمون بها، بل يوجبون الاحتياط بهذا أيضاً يؤيّد بل يدلّ على عدم تمامية دعوى الانحلال فتأمّل.
المقام الثاني: في حكم الملاقي لبعض أطراف الشبهة المحصورة ونقول:
لا يخفى انّ العلم الإجمالي بالحرام المردّد بين أمرين أو اُمور، أو النجاسة المردّدة كذلك لا يؤثّر في صيرورة كلّ واحد من الطرفين أو الأطراف هو الحرام الواقعي أو النجس الواقعي بحيث تصير الأطراف متغيّرة عن الحالة السابقة على العلم الإجمالي ومتلوّنة بلون الواقع فيترتّب على كلّ واحد منها جميع الأحكام المترتّبة على الواقع، فلا يحكم بنجاسة الملاقي لأحد المشتبهين لأجل الملاقاة مع ما هو من أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة لأنّ التنجّس إنّما هو من الأحكام والآثار المترتّبة على ملاقاة النجس الواقعي لا من آثار ملاقاة ما يجب الاجتناب عنه وتلزم المعاملة معه معاملة النجس الواقعي تحفّظاً على الواقع كما هو واضح.
(الصفحة 268)
نعم قد يقال كما قيل بتنجّس ملاقي أحد المشتبهين، امّا لأنّ معنى الاجتناب عن الأعيان النجسة إنّما هو الاجتناب عنها وعمّا يلاقيها ـ ولو بوسائط ـ ولذا استدلّ صاحب الغنية على تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة بقوله تعالى: (والرجز فاهجر) بناءً على أنّ تهجر النجاسات لا يتحقّق إلاّ بالتهجر عن ملاقيها، وامّا للملازمة بين نجاسة الأعيان النجسة وما يلاقيها كما تدلّ عليه رواية جابر الجعفي عن أبي جعفر(عليه السلام) انّه أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر(عليه السلام) : لا تأكله، فقال الرجل: الفأرة أهون عليَّ من أن أترك طعامي لأجلها، فقال أبو جعفر(عليه السلام) : إنّك لم تستخف بالفأرة وإنّما استخففت بدينك، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء. وجه الدلالة انّه(عليه السلام) جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحريم الميتة، ولولا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافاً بتحريم الميتة، فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.
أقول: امّا ما ذكر من أنّ معنى الاجتناب عن شيء إنّما هو الاجتناب عنه وعن ملاقيه فهو محلّ نظر بل منع ضرورة انّه لو لم يكن هناك دليل على نجاسة ملاقي النجس لم يفهم أحد من نفس الأدلّة الدالّة على نجاسة الأعيان النجسة نجاسة ما يلاقيها من سائر الأشياء، ولذا وقع الخلاف في نجاسة الملاقي واختار بعض عدم تنجّس الماء القليل بملاقاة النجس فضلاً عن غيره من سائر الأشياء وقد مرّت الأقوال والتفاصيل المتعدّدة في هذا البحث فراجع.
وامّا قوله تعالى: (والرجز فاهجر) فقد عرفت في ذلك البحث انّه أجنبي عن المقام.
وامّا الرواية فـ ـ مضافاً إلى ضعف سندها ـ يحتمل قويّاً أن يكون مورد السؤال
(الصفحة 269)
فيها ـ هو وقوع الفأرة في الطعام بحيث تفسّخت فيه وانبثّت أجزائها، فحرمة أكل الطعام إنّما هي من حيث استلزامه لأكل الميتة لا انّ أكله بمنزلة أكلها في الحرمة، والدليل على ذلك انّه جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحريم الميتة، ومن المعلوم انّه لم يقل أحد بأنّ حرمة الشيء تستلزم حرمة ملاقيه، وحمل الحرمة في الرواية على النجاسة ـ مضافاً إلى أنّه خلاف الظاهر من دون قرينة وبيّنة عليه ـ لا دليل عليه أصلاً، والقول بأنّ الطباع تتنفّر من أكل الطعام الكذائي الذي صارت أجزاء الميتة مخلوطة بأجزائه فلا ينبغي حمل مورد السؤال عليه، يدفعه قول السائل: «الفأرة أهون عليَّ من أن أترك طعامي لأجلها» خصوصاً بعد ملاحظة حال الأعراب في صدر الإسلام، وبالجملة الرواية أجنبية عن المقام.
مضافاً إلى أنّه يمكن لنا أن نستدلّ على أنّ الاجتناب عن الشيء لا يكون مساوقاً للاجتناب عن ملاقيه بمفهوم الأدلّة الدالّة على أنّ الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجّسه شيء فإنّ مفهومها انّه إذا لم يبلغ الماء ذلك المقدار يصير نجساً بملاقاة الأعيان النجسة ـ جميعها أو بعضها على الخلاف الذي مرّ الكلام فيه ـ وظاهره انّ الملاقاة تؤثّر في صيرورته نجساً مستقلاًّ بحيث لو لم يجتنب عنه لم يجتنب عن النجس الذي هو نفس الماء الملاقي لا أنّ ترك الاجتناب عنه مساوق لترك الاجتناب عن النجس الملاقى ـ بالفتح ـ فتدبّر جيّداً.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول : الكلام في حكم الملاقي لأحد الأطراف يقع ـ تارةًـ فيما هو مقتضى حكم العقل، و ـ اُخرى ـ فيما تقتضيه الاُصول الشرعية، امّا مقتضى حكم العقل فلا إشكال في أنّه هو جواز ارتكاب الملاقي إذ العقل بعدما حكم بتنجّز التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، المستلزم لوجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة مقدّمة للواقع وتحفّظاً له لا يحكم بوجوب الاجتناب عنها ثانياً على نحو