(الصفحة 270)
الاستقلال.
توضيحه: إنّك قد عرفت انّ عدم جواز ارتكاب الملاقي ـ بالكسر ـ ليس من شؤون عدم جواز ارتكاب الملاقي ـ بالفتح ـ بحيث كان ارتكابه بمنزلة ارتكابه، ومرجعه إلى أنّه ليس هنا تكليف واحد متعلّق بالأعيان النجسة، غاية الأمر انّ حرمة ارتكاب ما يلاقيها إنّما هي لأجل أنّه بمنزلة ارتكابها إذ ـ بناءً عليه ـ لا إشكال في تنجّس الملاقي ووجوب الاجتناب عنه أيضاً إذ ليس هنا إلاّ تكليف واحد مردّد بين ذاك الطرف وبين الملاقي والملاقى إذ المفروض انّه ليس للملاقي حكم آخر عدا الحكم المتعلّق بالملاقى ـ بالفتح ـ .
بل نقول: انّ هنا حكمين: أحدهما مترتّب على الملاقي على تقدير كونه هو النجس الواقعي، وهو الذي اقتضى العلم الإجمالي تنجّزه المستلزم لوجوب الاجتناب عنه وعن الطرف الآخر.
ثانيهما: مترتّب على الملاقي على تقدير كونه قد لاقى النجس الواقعي، والعلم الإجمالي بثبوته على هذا التقدير لا يؤثّر أصلاً إذ المفروض انّ الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف الآخر لا يجوز ارتكابهما بحكم العقل للعلم الإجمالي الأوّل وـ حينئذ ـ لا يحكم العقل ثانياً بوجوب الاجتناب عنهما لكونهما طرفين للعلم الإجمالي الثانوي أيضاً لأنّه يشترط في تنجيزه إمكان تحقّق التكليف على كلّ تقدير وهنا ليس الأمر كذلك.
وبالجملة مقتضى حكم العقل عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ لما ذكر.
وامّا الاُصول الشرعية فقد يقال ـ كما قيل ـ بأنّ طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ ونجاسته مسبّبة عن طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ ونجاسته، والأصل الجاري في السبب
(الصفحة 271)
يكون حاكماً على الأصل الجاري في المسبّب، وحيث إنّه لا يجري الأصل هنا في السبب للمعارضة مع الأصل الجاري في الطرف الآخر فلا مانع من جريان الأصل في المسبّب فيكون الملاقي ـ بالكسر ـ محكوماً بالطهارة والحلّية الشرعيتين.
وهنا شبهة لبعض المحقّقين من المعاصرين وهي انّه لا إشكال في أنّ الحلّية مترتّبة على الطهارة بمعنى أنّ الشكّ في الاُولى مسبّب عن الشكّ في الثانية، كما أنّ الشكّ في طهارة الملاقي مسبّب عن الشكّ في طهارة الملاقى كما عرفت، فالشكّ في طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ يكون في مرتبة الشكّ في حلية الملاقى ـ بالفتح ـ بمعنى انّ كليهما مسبّبان عن الشكّ في طهارته و ـ حينئذ ـ نقول: كما أنّه لا يجري الأصل الموضوعي في الملاقي لمعارضته مع الأصل الموضوعي الجاري في الطرف الآخر، كذلك لا يجري الأصل الحكمي فيه لهذه الجهة.
ومن هنا يظهر عدم جريان أصالة الطهارة في الملاقي لكون الشكّ فيها في مرتبة الشكّ في حلّية الملاقى ـ المفروض عدم جريان الأصل بالإضافة إليها للمعارضة ـ فيبقى من الاُصول الستّة أصالة الحلّية الجارية في الملاقي لسلامتها عن المعارضة والمفروض انّه لا يكون هنا أصل حاكم عليها لأنّ الأصل الحاكم لا يجري للمعارضة.
وبالجملة يجري الأصل الحكمي في الملاقي دون الموضوعي فلا يجب الاجتناب عنه مع أنّه لا يكون محكوماً بالطهارة.
ويمكن الجواب عن الشبهة بأنّ الأدلّة الدالّة على اعتبار الاُصول الشرعية لا تكون شاملة لأطراف العلم الإجمالي بنظر العرف وإن لم يكن مانع عن الشمول بنظر العقل من جهة لزوم التناقض بين الصدر والذيل لما سيجيء من عدم اللزوم إلاّ أنّ العرف لا يقضي بكون الأطراف مشكوكة الحكم حتّى ينطبق عليها موضوع
(الصفحة 272)
أدلّة الاُصول، وعليه فلا مانع من جريان أصالة الطهارة أيضاً في الملاقي بعد كونه منطبقاً عليه وموضوع تلك الأدلّة.
مع أنّ الشكّ في طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ واقعاً في رتبة الشكّ في حلّية الملاقى ـ بالفتح ـ لا يستدعي عدم جريانه بعد عدم وجود ما هو الملاك لعدم الجريان فيه أصلاً ضرورة انّ عدم جريان أصالة الحلّية في الملاقى ـ بالفتح ـ إنّما هو لأجل المعارضة على ما هو المفروض وهذا الملاك لا يكون بمتحقّق في أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ لعدم ثبوت المعارض لها ومجرّد وقوع الأصلين في رتبة واحدة لا يقتضي اتحاد حكمهما بوجه كيف وقد حكم صاحب الشبهة بجريان أصالة الحلّية في الملاقي ـ بالكسر ـ مع اعترافه بكون الشكّ فيها مسبّباً عن الشكّ في طهارته فمع التسبّب المقتضي للتأخّر إذا لم يكن عدم جريان الأصل في السبب لأجل المعارضة موجباً لعدم جريانه في المسبّب لخلوّه عنها فمع الاتحاد يكون ذلك بطريق أولى كما لا يخفى.
وقد أجاب صاحب الشبهة عنها بوجهين:
أحدهما: ما ربّما يمكن إرجاعه إلى الجواب الأوّل الذي ذكرنا عنها فلا نطيل بذكره.
ثانيهما: انّ الأصل في أطراف العلم الإجمالي لا يكون جارياً للزوم المناقضة بين الصدر والذيل في أدلّة اعتباره و ـ حينئذ ـ الأصلان الجاريان في الملاقي ـ بالكسر ـ يكونان سليمين عن المعارض والحاكم فيكون محكوماً بالطهارة والحلّية معاً.
ويرد عليه عدم لزوم المناقضة أصلاً فإنّه لا تكون تلك الأدلّة مشتملة على الحكمين حتى يقال بتناقضهما فإنّه لا يعقل جعل الحكم على اليقين الذي تكون حجّيته من لوازم ذاته بل مدلول تلك الأدلّة حكم واحد مترتّب على الشكّ، غاية
(الصفحة 273)
الأمر يكون مبنى حصول العلم، وقد عرفت انّ العقل لا يأبى عن جريانها في أطراف العلم إلاّ أنّ العرف لا يكون مساعداً عليه.
فتلخّص من مجموع ما ذكرنا انّ الملاقى محكوماً بالطهارة والحلّية شرعاً.
ثمّ إنّه قد اشتهر في الألسن وتكرّر في الكلمات انّه مع جريان الأصل في السبب لا يبقى مجال لجريانه في المسبّب أصلاً لأنّه مع جريانه في السبب لا يبقى شكّ في ناحية المسبّب حتى يجري الأصل فيه.
والتحقيق لا يساعد هذا الكلام بنحو الكلّية والعموم بل لا يكون له وجه أصلاً في بعض الموارد:
ولتوضيح ما هو الحقّ لابدّ من تقديم أمر وهو انّه قد اشتهر بينهم أيضاً انّ الاستصحاب الجاري في الموضوعات الخارجية معناه وجوب ترتيب الأثر عليها في الزمان اللاّحق لأنّه حيث لا يكون الحكم ببقائها من وظائف الشارع ـ بما هو شارع ـ فلا محالة يكون معنى حرمة نقض اليقين بالشكّ في تلك الموضوعات وجوب ترتيب الآثار الشرعية المترتّبة عليها في زمان الشكّ، وعلى هذا المعنى يتحقّق الاختلاف في معنى قوله(عليه السلام) : «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالنسبة إلى الاستصحاب الجاري في نفس الأحكام الشرعية الذي مرجعه إلى بقاء نفس تلك الأحكام في زمان الشكّ والاستصحاب الجاري في الموضوعات الخارجية الذي مرجعه إلى وجوب ترتيب الآثار الشرعية عليها في ذلك الزمان.
والتحقيق انّ معنى «لا تنقض اليقين بالشكّ» ليس إلاّ وجوب إبقاء المتيقّن في زمان الشكّ مطلقاً سواء كان المتيقّن من الأحكام الشرعية أو من الموضوعات الخارجية، غاية الأمر انّه لا حاجة في الأوّل في إثبات الحكم إلى ضمّ دليل آخر وإضافته إلى أدلّة الاستصحاب بخلاف الثاني فإنّ إثبات الحكم موقوف على ضمّ
(الصفحة 274)
دليل آخر إليها لأنّ الاستصحاب الجاري في الموضوعات لا يقتضي إلاّ مجرّد بقائها في الزمان اللاّحق فترتّب الحكم عليها يحتاج إلى ضمّ دليل يدلّ على ترتّب الحكم على تلك الموضوعات، فالاستصحاب الجاري في العدالة ـ مثلاً ـ لا يؤثّر إلاّ في بقائها في الزمان اللاّحق تعبّداً، وبهذا يتحقّق موضوع الأدلّة الدالّة على ترتّب بعض الأحكام على العدالة كجواز الاقتداء بصاحبها وجواز الطلاق عنده والأخذ بشهادته وغير ذلك من الأحكام والآثار المترتّبة على موضوع العدالة.
وبالجملة الاستصحاب الجاري في الموضوعات يكون حاكماً على الأدلّة الواقعية لأنّه يقح بسببه موضوعاتها فيتحقّق معنى الحكومة.
ومن هنا يظهر انّه ل و لم يكن الموضوع مترتّباً عليه حكم شرعي في شيء من الأدلّة الشرعية لا يكون الاستصحاب فيه جارياً بوجه لأنّ النتيجة تتوقّف على ثبوت الصغرى والكبرى معاً، فالأولى بدون الثانية كالعكس لا تنتج أصلاً، وقد عرفت انّ الاستصحاب الموضوعي لا يجدي إلاّ في ثبوت ال صغرى وحدها بحيث يحتاج إثبات الحكم إلى ضمّ كبرى إليها وهذا بخلاف الاستصحاب الجاري في الحكم فإنّ إثبات الحكم لا يحتاج إلى أزيد منه وإلاّ فمن الواضح انّه لا يختلف معنى «لا تنقض...» بالنسبة إلى الاستصحابين كما هو ظاهر.
إذا تحقّقت ما ذكرنا تعرف انّ ما ذكروه من أنّ جريان الأصل في السبب يغني عن جريانه في المسبّب ولا يبقى معه مجال له أصلاً، لا يكون تامّاً على نحو العموم بل إنّما يصحّ في خصوص ما لو كان الشكّ في ناحية المسبّب في الأثر الشرعي المترتّب على الموضوع المشكوك ـ وهو الذي يعبّر عنه بالشكّ في ناحية السبب ـ كالشكّ في نجاسة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكرية، فإنّ جريان استصحاب الكرية يؤثّر في تحقّق موضوع ما يدلّ على أنّ الغسل بالماء الكر يوجب زوال النجاسة