(الصفحة 51)
وجه لإضافة قيد السيلان بالفعل واعتباره في تحقّقه بل لابدّ من الالتزام بكفاية ملكة الجريان في صدقه وإن لم يكن جارياً بالفعل كما انّه يطلق التاجر على التاجر المحبوس غير المشتغل بالتجارة في برهة من الزمان.
وبالجملة فلفظ «الجاري» امّا أن يكون تابعاً لفعله في الصدق، وامّا أن يكون من قبيل التاجر، فعلى الأوّل لا مجال لأخذ قيد النبوع من الأرض فيه كما انّه على الثاني لا وجه لاعتبار الجريان بالفعل في صدقه وتحقّقه فالجمع بين الأمرين ممّا لا يساعده اللغة اللهمّ إلاّ أن يقال بموافقة العرف معه.
و ـ حينئذ ـ فلا وجه لما يظهر من بعض الكلمات من دلالة اللغة والعرف على هذا المعنى، وكان صاحب الجواهر(قدس سره) تفطّن لعدم كون اللغة مساعدة على هذا المعنى ولأجله ادّعى كونه هو المتبادر عند العرف ويثبت به اللغة. ولا محيص عن ذلك بعد ملاحظة ما ذكرنا من الاسمية والعلمية فإنّها لا محالة ترتبط بالعرف وتصير حقيقة عرفية كما عرفت في كلام المسالك.
وكيف كان فالظاهر في معنى الجاري اعتبار أن يكون له مادّة تحت الأرض فالماء الجاري من مادّة حاصلة على الأرض كالثلج على الجبال لا يقال له انّه الماء الجاري كما يظهر بمراجعة العرف، ولا يبعد القول بعدم لزوم الجريان على وجه الأرض بالفعل بل يكفي كونه قابلاً ومستعدّاً للجريان بحيث لو لم يمنع عنه مانع يكون كسائر المياه الجارية على وجه الأرض، ومقتضى ذلك كون ماء البئر ماءً جارياً أيضاً ولعلّ استثناء صاحب المسالك (قدس سره) إنّما هو لأجل عدم مساعدة العرف عليه.
وقد ادّعى جامع المقاصد ـ في المحكي عنه ـ الاتفاق ممّن عدا ابن أبي عقيل على أنّ الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد يعتبر فيه الكرية ولكنّه ربّما يقال بأنّ
(الصفحة 52)
البداهة والوجدان تحكمان بأنّ مثل دجلة والفرات من أقسام الماء الجاري مع أنّ منشأهما ذ وبان ثلوج الجبال، وعليه فيمكن أن يكون مراده من النبع هو المادّة الموجبة لدوام الجريان في مقابل مثل الساعة واليوم سواء كانت تحت الأرض أم على الجبال ولكن هذا الاحتمال خلاف ظاهر لفظ «النبع» كما لا يخفى.
وحكم البداهة والوجدان بذلك ممنوع والإطلاق إنّما هو بالمعنى اللغوي الذي عرفت انّه بملاحظته لا مانع من الإطلاق على ماء الميزاب والابريق، نعم نفس الفرق بين المادّة الواقعة تحت الأرض والمادّة الواقعة فوقها خصوصاً بعد ملاحظة انّ الأولى إنّما تتحقّق غالباً وتنشأ من الثانية مشكلة جدّاً فالإنصاف مع ذلك جعل الثانية من مصاديق الماء الجاري، كما أنّ مجرّد قابلية الجريان والاستعداد له من دون الفعلية لا يكفي في الصدق، وعليه فاستثناء البئر يكون من قبيل الاستثناء المنقطع ويتعيّن الاحتمال الثاني من الاحتمالات المتقدّمة فتدبّر جيّداً.
ثمّ إنّه هل يعتبر في النبع من الأرض أن يكون على وجه يخرج الماء دفعة، أو يكفي أن يكون خروجه بنحو الرشح؟ الظاهر هو الثاني خصوصاً بعد ملاحظة انّ الغالب في أكثر البلاد هو الرشح لأنّ الغالب اجتماع الماء في الأمكنة المنخفضة والترشح من عروق الأرض تدريجاً ومنه ظهر انّه لا يعتبر أن يكون خارجاً من عين بمعنى أن يكون له منبع تحت الأرض يخرج منه الماء، بل يكفي الخروج من تحت الأرض ولو لم يكن له منبع بأن كان ذلك لتبدّل الأبخرة بالماء تدريجاً وخروجه منه وذلك ظاهر لمن راجع العرف وإن كان الظاهر من كلمات بعض اللغويين اعتبار الخروج من العين في تحقّق النبع، نعم ما ذكرناه من كفاية خروج الماء بنحو الرشح إنّما هو فيما إذا كان الماء المجتمع من الرشحات متّصلاً بها، وعليه فالماء الجاري على وجه الأرض الحاصل من رشحات واقعة فوق الجبال بأن كان الماء مترشّحاً على
(الصفحة 53)
مكان من فوقها ثمّ يصير مجتمعاً في ذلك المكان الأسفل ثمّ يجري على وجه الأرض لا يكون ماءً جارياً قطعاً وإن لم نعتبر فيه خصوص المادّة الأرضية.
والعجب من بعض الأعلام حيث استدلّ لعدم اعتبار كون الجريان بنحو الدفع والفوران بإطلاق صحيح ابن بزيع باعتبار التعليل بأنّ له مادّة نظراً إلى تحققها في الرشح أيضاً مع أنّ التعليل فيه إنّما يجدي لتعميم الحكم بالاعتصام لكلّ ماء مشتمل على مادّة ولا دلالة له على صدق عنوان الماء الجاري أصلاً والكلام إنّما هو في موضوعه وما له أحكام مخصوصة لا تجري لا تجري في سائر المياه المعتصمة، كما أنّ لها أيضاً أحكاماً خاصة لا تجري في الماء الجاري.
المقام الثاني: في حكم الماء الجاري من جهة الاعتصام وعدمه وهو ـ أي الاعتصام ـ فيما إذا كان الماء الجاري كرّاً موضع وفاق، وفي القليل منه يظهر الخلاف من العلاّمة(قدس سره) حيث ذهب إلى أنّه لا فرق بين القليل من الجاري والقليل من غيره ونسب ذلك إلى الشهيد الثاني أيضاً وما يستفاد منه إطلاق الحكم وشموله لصورة القلّة أيضاً روايات:
منها: صحيحة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب، فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضّأ منه ولا تشرب. فإنّها تدلّ بإطلاقها على جواز التوضّي والشرب من الماء الجاري فيما إذا غلب على ريح الجيفة ولو كان قليلاً غير بالغ حدّ الكرّ ودعوى عدم الشمول للماء الجاري باعتبار فرض وقوع الجيفة الظاهر في الماء الراكد واضحة المنع.
ومنها: رواية أبي خالد القماط أنّه سمع أبا عبدالله(عليه السلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ منه، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ. ومورد
(الصفحة 54)
السؤال في هذه الرواية وإن كان هو الماء النقيع وهو الماء الراكد المجتمع في موضع إلاّ أنّ العدول في الجواب عن بيان حكم هذا المورد بخصوصه والتعبير بالقضية الكلّية ربّما يدلّ على المطلب، وحمل تعريف «الماء» في الجواب على العهد خلاف الظاهر ولذا يستفاد من هذه الرواية حكم صورة التغيّر والانفعال بالنسبة إلى الجاري بل كلّ ماء كما لا يخفى.
ومنها: رواية سماعة قال: سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء قال: يتوضّأ من الناحية التي ليس فيها الميتة. ودلالتها على حكم المقام ظاهرة.
ومنها: وهي العمدة صحيحة محمد بن إسماعيل عن الرضا(عليه السلام) قال: ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادّة.
فإنّه لا ريب في أنّ المراد بقوله(عليه السلام) : «لا يفسده شيء» ليس هو الاخبار عن أنّه لا يفسد بماء هو مفسد في نظر العرف بل المراد به بيان الحكم وهو الاعتصام وعدم الانفعال وحينئذ فامّا أن يقال بأنّ التعليل بأنّ له مادّة يكون تعليلاً لهذا الحكم وعليه فالرواية لها دلالة ظاهرة على حكم الماء الجاري نظراً إلى التعليل لأنّه يستفاد منها أنّ العلّة في الاعتصام وعدم الانفعال كون الماء متّصفاً بأنّ له مادّة، ومن المعلوم وجود هذه العلّة في الماء الجاري لو لم يكن بنحو أقوى وبطريق أولى خصوصاً لو خصصنا موضوع الماء الجاري بما إذا كانت له مادّة أرضية.
وامّا أن يقال بكونه تعليلاً لما يترتّب على ذهاب الريح وطيب الطعم وهي طهارة الماء لأنّه لا يناسب أن يكون تعليلاً لنفس ذهاب الريح وطيب الطعم فتأمّل، وعليه فتدلّ الرواية أيضاً على اعتصام الماء الجاري ولو كان قليلاً غير بالغ حدّ الكر لدلالتها على أنّ العلّة في طهارة الماء بعد فرض عدم تغيّره أو ذهابه إنّما هو كونه ذا
(الصفحة 55)
مادّة والمفروض اشتراك الجاري مع البئر في هذه الجهة فالعلّة تدلّ على عموم الحكم لجميع موارد ثبوتها.
ودعوى أنّه على التقدير الثاني يكون الاشتمال على المادّة رافعاً للنجاسة الحاصلة بالتغيّر بعد ذهابه والغرض هو الاعتصام وعدم مجيء النجاسة أصلاً، مدفوعة بأنّه على هذا التقدير تكون دلالة الرواية على حكم المقام بالأولوية القطعية نظراً إى أنّ الدفع أهون من الرفع وما يصلح للثاني فهو صالح للأوّل بالأولوية.
ومنها: الروايات الواردة في البول في الماء الجاري الدالّة على عدم البأس وقد استدلّ بها المحقّق الهمداني(قدس سره) وهي بين ما يدلّ على نفي البأس عن البول في الماء الجاري وهي أكثرها وما يدلّ على عدم البأس بالماء الجاري الذي يبال فيه وهي رواية سماعة قال: سألته عن الماء الجاري يبال فيه؟ قال: لا بأس به. والطائفة الاُولى لا دلالة لها على حكم المقام فإنّ جواز البول في الماء الجاري في مقابل الحرمة والكراهة لا يلازم الاعتصام وعدم الانفعال بوجه، ورواية سماعة باعتبار كون السؤال فيها عن حكم الماء الجاري بعد البول فيه تدلّ على اعتصامه إلاّ أن يقال إنّ التعبير بعدم البأس إنّما يلائم الحكم التكليفي لا الوضعي فلا فرق بينها وبين الطائفة الاُولى، أو يقال بأنّ السؤال إنّما هو المحمول والمسند والضمير في الجواب يرجع إلى البول المستفاد من جملة «يبال فيه» الذي هو المسند وعليه فلا فرق بين الطائفتين أيضاً.
ومنها: صحيحة داود بن سرحان قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : ما تقول في ماء الحمّام؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري. والاستدلال بهذه الرواية على اعتصام الماء الجاري مطلقاً يتوقّف على ثلاث مقدّمات: