(الصفحة 56)
إحداها: أنّ التنزيل والتشبيه إنّما هو في الاعتصام لا في الانفعال لأنّه المشهور والمعروف بالنسبة إلى الماء الجاري ولو لم نقل باعتصام القليل منه.
ثانيتها: إنّ المنزل إنّما هي الحياض الصغيرة التي كانت موردة لابتلاء الناس بها في الحمّام، لا المخزن المتّصل بها، ولا المجموع منه ومن تلك الحياض الصغيرة، أمّا الأوّل فواضح.
وامّا الثاني فلأنّ تنزيله منزلة الماء الجاري يكون ـ حينئذ ـ بلا وجه لعدم المناسبة بينهما وعدم ثبوت وجه الشبه بوجه، بخلاف ما إذا كان التنزيل بالنسبة إلى الحياض الصغيرة وحدها فإنّ وجه الشبه ـ حينئذ ـ كون كلّ منهما مشتملاً على مادّة يخرج منها الماء، هذا مضافاً إلى أنّ المخزن المتّصل بالحياض لم يكن مورداً للابتلاء حتى يسأل عنه، وإنّما كان محلّ الابتلاء خصوص تلك الحياض الصغيرة الواقعة في الحمّام.
ثالثتها: كون ماء تلك الحياض غير بالغ حدّ الكر غالباً وهو كذلك على ما هو المتعارف الموجود في الخارج، ويؤيّده وقوع السؤال عنه في الأخبار الكثيرة مع أنّه لو كان بالغاً حدّ الكرّ لم يحتج إلى السؤال لوضوح حكم الكرّ وعدم خصوصية لماء الحمّام ـ حينئذ ـ كما هو ظاهر.
وبعد ثبوت هذه المقدّمات يستفاد من الرواية ثبوت الحكم في الماء الجاري وعدم الفرق بين قليله وكثيره لاشتماله على المادّة، وينقدح بطلان ما أورد أو يمكن أن يورد على الاستدلال بالرواية مثل المناقشة في دلالتها والحكم بإجمالها نظراً إلى عدم معلومية وجه الشبه وانّه لم يعلم انّ الإمام (عليه السلام) شبّه ماء الحمّام بالماء الجاري في أي شيء، ومثل ما أفاده بعض الأعلام من أنّ الظاهر أنّ المياه الجارية في أراضي العرب والحجاز منحصرة بالماء الجاري الكثير ولا يوجد فيها جار قليل وإن كان
(الصفحة 57)
يوجد في أراضي العجم كثيراً فالتشبيه بلحاظ أنّ الجاري الكثير كما أنّه معتصم لكثرته ويتقوّى بعضه ببعض ـ لا بمادّته فإنّها ليست بماء ـ كذلك ماء الحمّام يتقوّى بعضه ببعض ولو لأجل مجرّد الاتصال بانبوب أو بغيره فوزان هذه الرواية وزان ما ورد من أنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً.
بمعنى أنّه يمنع عن عروض النجاسة عليه لكثرته في نفسه لا لأجل مادّته فإذاً لا نظر في الرواية إلى اعتصام الجاري بالمادّة مطلقاً قليلاً كان أم كثيراً، وتشبيه ماء الحمّام به من هذه الجهة.
أقول: أمّا المناقشة في الدلالة ودعوى إجمال الرواية فواضحة المنع بملاحظة المقدّمة الاُولى.
وامّا ما أفاده بعض الأعلام فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع كون الغلبة في المياه الجارية في أراضي العرب مع الكثرة فضلاً عن دعوى الانحصار، وإلى عدم اختصاص الحكم بتلك المياه، وإلى ما عرفت من كون مورد السؤال خصوص الماء الموجود في الحياض الصغيرة وانّه هو الذي يعبّر عنه بماء الحمّام لا المجموع منه ومن الماء الموجود في المخزن ـ انّ التشبيه لو كان بلحاظ الكثرة لم يكن وجه لتخصيص الماء الجاري بالذكر بعد ثبوت هذه الجهة في الكرّ الراكد أيضاً فإنّه لأجل كثرته يتقوّى بعضه ببعض ويمنع عن عروض النجاسة عليه فالتشبيه بالجاري إنّما هو لأجل خصوصية موجودة فيه مفقودة في مثل الكرّ الراكد وليست تلك الخصوصية إلاّ مجرّد الاشتمال على المادّة والاتصال بها ونظر الرواية إلى أنّ المادّة الجعلية الموجودة في الحمّامات بمنزلة المادّة الأصلية الطبيعية الثابتة في الماء الجاري فكما أنّ الثانية نشأت منها الاعتصام في الماء الجاري فكذلك الأولى يوجب الاعتصام لماء الحوض الصغير في الحمّام فالإنصاف تمامية دلالة مثل الرواية على عدم انفعال
(الصفحة 58)
الجاري مطلقاً.
ثمّ إنّه أيّد المحقّق الهمداني(قدس سره) في المصباح ما ذهب إليه المشهور بصحيحة ابن مسلم الواردة في الثوب الذي يصيبه البول: «وإن غسلته في ماء جار فمرّة» قال في تقريبه: «إذ لو كان ملاقاة الماء للنجاسة سبباً لتنجّسه لكان على الإمام(عليه السلام) التنبيه عليه في مثل هذه الفروض ولو لم يكن مقصوداً بالسؤال، هذا إذا لم نقل باعتبار ورود الماء القليل في تطهير الثوب النجس وإلاّ فالصحيحة الأخيرة بإطلاقها مثبتة للمطلوب، ودعوى انصراف مثل هذه الأخبار عن العيون التي لا يكون مائها كراً ممنوعة».
وأورد عليه بأنّ بيان طهارة الأشياء ونجاستها وإن كان وظيفة الإمام(عليه السلام) إلاّ أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان في مقام البيان من هذه الجهة وليس في مثل الصحيحة بصدد بيان حكم الماء بل بصدد بيان كيفية تطهير الثوب المتنجّس بالبول وعليه فكيف يمكن أن يستفاد من السكوت طهارة الماء، وبأنّه لا مانع من الالتزام بتخصيص ما دلّ على اعتبار ورود الماء على النجس في مقام التطهير بإطلاق الصحيحة ويحكم بعدم اعتبار الورود في خصوص الجاري القليل فإنّ اعتباره على تقدير القول به لم يثبت بدليل لفظي مطلق حتى تقع بينهما المعارضة.
أقول: امّا الإيراد الأوّل فمدفوع بأنّه وإن كان يشترط في التمسّك بالإطلاق كونه وارداً في مقام البيان إلاّ أنّه مع ذلك لا مجال للمناقشة في أنّ المتفاهم العرفي من مثل الصحيحة الحكم ببقاء الماء على طهارته السابقة فإنّه وإن لم يكن إلاّ في مقام بيان تطهير الثوب إلاّ أنّ ظاهره العرفي ليس حصول الطهارة له وزوالها عن الماء بل بقاء الماء على طهارته الأوّلية وحدوث أمر واحد وهو زوال النجاسة عن الثوب فتدبّر.
وامّا الإيراد الثاني فمدفوع بأنّ الاستدلال إنّما يبتني على فرض اعتبار ورود الماء
(الصفحة 59)
في مقام التطهير مطلقاً وعليه فالالتزام بالتخصيص مناف لمبنى الاستدلال كالالتزام بعدم اعتبار الورود أصلاً كما لا يخفى هذا كلّه في مستند المشهور.
وامّا العلاّمة(قدس سره) فقد استند لما ذهب إليه من التفصيل بمفهوم الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء. فإنّ مفادها أنّ العلّة المنحصرة والسبب الوحيد لعدم تنجّس الماء واعتصامه هو بلوغه قدر الكرّ فينتفي مع انتفائها من دون فرق بين الجاري وغيره.
وتحقيق الجواب يتوقّف على بيان حال المفهوم وأنّه هل يصلح لأن يعارض المنطوق أم لا؟ ـ وإن كان هذا البحث خارجاً عن البحث الفقهي ـ فنقول: قد اشتهر بين المتأخّرين من الأصوليين انّ تعليق الحكم على شرط أو وصف أو غيرهما من القيود يفيد كون ذلك الشرط أو الوصف أو القيد الآخر علّة منحصرة لثبوت الحكم بحيث ينتفي الحكم بمجرّد انتفاء ما علّق عليه كانتفاء كلّ معلول بانتفاء علّته المنحصرة.
وهذا المعنى المعروف مناف لما يقتضيه التتبّع في الاستعمالات العرفية فإنّ الظاهر أنّه بحسبها لا يفيد تعليق الحكم على مثل الشرط إلاّ مجرّد دخالته في الحكم، امّا كون ذلك الشرط علّة فلا يستفاد منه فضلاً عن أن يكون علّة منحصرة، ألا ترى انّه لو قيل: «إذا طلعت الشمس فالحرارة موجودة» لا يستفاد منه كون طلوع الشمس علّة منحصرة لحدوث الحرارة وإلاّ لزم أن تكون هذه القضية كاذبة مخالفة للواقع ـ وهو خلاف الواقع ـ فبعد فرض الصدق وعدم كون الاستعمال مجازياً ـ كما هو واضح ـ يدلّ ذلك على أنّ التعليق بالشرط لا يفيد إلاّ مجرّد دخالته في الحكم، وهذا هو الموافق لحكم العقل أيضاً فإنّه يحكم بأنّ المتكلّم المختار إذا أخذ في موضوع حكمه قيداً فاللاّزم الحكم بدخالة القيد في الحكم المذكور صوناً لكلامه
(الصفحة 60)
عن اللغوية عكس باب الإطلاق فإنّ مقتضى حكم العقل في ذلك الباب انّه إذا فرض كون المتكلم في مقام البيان ولم يأخذ قيداً في متعلّق الحكم فاللاّزم الحكم بكون موضوع حكمه نفس الطبيعة بلا قيد، وكما أنّ تقييد الموضوع بدليل آخر لا ينافي ذلك الإطلاق بل الواجب حمله عليه، فكذلك ثبوت الحكم فيما نحن فيه مع قيد آخر لا ينافي تعليقه على القيد الأوّل فتدبّر.
وفي المقام نقول: لا يستفاد من تلك الأخبار إلاّ مجرّد أنّ بلوغ الماء قدر كرّ له دخالة في الاعتصام وعدم التأثّر ولا ينافي ذلك انّ اتصافه بكونه جارياً أيضاً موجباً لعدم الانفعال، نعم المستفاد من تلك الأخبار انّ ذلك الحكم لا يكاد يترتّب على طبيعة الماء من دون مدخلية أي قيد لما عرفت من أنّه يلزم أن يكون أخذ القيد لغواً منافياً لشأن المتكلِّم الملتفت المختار.
فانقدح من جميع ذلك انّ المفهوم لا يصلح لأن يعارض المنطوق أصلاً وإن شئت فقل: إنّه ليس هناك مفهوم حتى يتّصف بالمعارضة للمنطوق فلا تعارض بين الأدلّة في المقام بل الواجب الأخذ بإطلاق أدلّة الماء الجاري والحكم باعتصام القليل منه أيضاً.
ثمّ إنّه لو قيل بإفادة تعليق الحكم على شرط ونحوه كون ذلك الشرط علّة وحيدة لترتّب الجزاء وسبباً منحصراً لثبوت الحكم بحيث ينتفي بانتفائه ففي مثل المقام يقع التعارض بين الأدلّة ولا تكون لإحدى الطائفتين حكومة على الاُخرى، لأنّ الحكومة مرجعها إلى كون دليل الحاكم ناظراً إلى دليل المحكوم ومفسِّراً له شارحاً إيّاه ـ بحسب الموضوع أو المحمول أو المراتب المتقدّمة أو المتأخّرة كما حقّقناه في محلّه ـ ولا ريب في عدم تحقّق هذا المعنى هنا، ضرورة أنّ مقتضى أدلّة الجاري ثبوت حكمه بالإضافة إلى جميع مصاديقه، ومقتضى هذه الأدلّة انفعال الماء