(الصفحة 75)
الطائفة الثانية الدالّة على النجاسة على ما إذا لم يبلغ ذلك الحدّ.
وفيه: انّ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ـ المتقدّمة ـ قد علّل فيها الطهارة بكون البئر له مادّة فهي صريحة في أنّ الموجب لاعتصامها والمانع عن انفعالها إنّما هو كونه له مادّة لا كون مائه بالغاً حدّ الكرّ فلا يمكن حملها على ما إذا كان الماء بالغاً ذلك الحدّ.
وقد يقال: بأنّ الطائفة الأولى منصرفة إلى ما إذا كان الماء كرّاً لكون مياه الآبار غالباً تبلغ حدّ الكرّ فلا تنافي بينها وبين الأدلّة الدالّة على انفعال الماء القليل.
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ دعوى الانصراف لا تختص بخصوص الطائفة الاُولى بل تجري في الثانية أيضاً ـ انّه لا تعارض بين الطائفة الاُولى وبين أدلّة انفعال الماء القليل بعدما عرفت من أنّ عمدة هذه الأدلّة هي مفهوم قوله(عليه السلام) : «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» وأنّ القضية الشرطية لا دلالة لها على الحصر أصلاً، فمفادها ليس إلاّ أن الكرية موجبة للاعتصام ولا ينفي الدليل الدالّ على أنّ الماء الذي كانت له مادّة معتصم أيضاً.
مع أنّه يدفع هذين القولين انّه بناء عليهما لا يبقى لعنوان «ماء البئر» موضوعية ضرورة انّ المناط في الاعتصام ـ حينئذ ـ هي الكرية لا كونه ماء البئر مع أنّ العنوان المأخوذ في الدليل هو هذا العنوان فالحمل على صورة تحقّق الكرية مستلزم لإلغاء العنوان رأساً فيلزم حمل كلام الحكيم على اللغوية فتدبّر.
ونختم الكلام في بحث ماء البئر بما أفاده سيّدنا المحقّق الاستاذ الطباطبائي البروجردي ـ قدّس سرّه الشريف ـ دليلاً على القول بطهارة ماء البئر مطلقاً وعدم نجاسته بمجرّد الملاقاة مضافاً إلى الروايات وسائر الأدلّة المعروفة بين المتأخّرين الدالّة على الطهارة بحيث لا يكاد يمكن الخدشة فيها ولذا صار موجباً لانقلاب
(الصفحة 76)
شهرة النجاسة إلى شهرة الطهارة من زمن محمد بن محمد الجهم ـ استاذ العلاّمة وتلميذ المحقّق وقد قال المحقّق في حقّه وحقّ تلميذه الآخر أب العلاّمة للخواجة نصير الدين الطوسي الذي حضر محفل المحقّق ذات يوم: إنّهما أعلم من اجتمع عنده بالأصولين «أصول الاعتقاد وأصول الفقه» ـ وتبعه العلاّمة في ذلك واستقر عليه رأي من بعده.
وكيف كان فدليل الاستاذ انّه لا إشكال في أنّ فتوى المعصوم(عليه السلام) في ماء البئر امّا النجاسة مطلقاً بسبب مجرّد الملاقاة وامّا الطهارة كذلك من دون أن يكون هناك فصل بين القليل والكثير، وذلك لعدم ذهاب أحد من علمائنا الإمامية ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ إلى التفصيل عدا بعض من لا يُعرف ولا يُعتنى بقوله، وـ حينئذ ـ فالحكم الواقعي امّا النجاسة مطلقاً وامّا الطهارة كذلك، وبعد ورود روايات كثيرة في الكر دالّة على اعتصامه وعدم انفعاله لابدّ من ملاحظة انّ ماء البئر إذا كان كرّاً هل يكون مشمولاً لتلك الروايات أم لا؟ لا مجال لدعوى عدم الشمول لأنّ خصوصية البئر عبارة عن الاشتمال عن المادّة ووقوع الماء في قعر الأرض، ومن المعلوم انّ وقوع الماء في قعر الأرض لا يوجب تبدّل حكم الكر ولا وجه لدعوى انصراف روايات الكر إلى الماء الواقع في سطح الأرض لوضوح انّ المناط هي الكثرة وبلوغ الماء إلى كم خاص ومقدار مخصوص ولا دخالة للظرف والمكان فيه أصلاً، وامّا الاشتمال على المادّة فلو لم يكن موجباً لاسراء حكم الكر إلى القليل من ماء البئر لا يصير موجباً لانفعال الكر من البئر ضرورة، فإذا ثبتت طهارة ماء البئر إذا كان كراً بمقتضى الروايات الواردة فيه تظهر طهارته إذا كان قليلاً أيضاً وذلك لعدم الفصل بين الصورتين كما عرفت.
(الصفحة 77)
مسألة 9 ـ الراكد المتصل بالجاري حكمه حكم الجاري فالغدير المتّصل بالنهر بساقية ونحوها كالنهر، وكذا أطراف النهروان كان مائها واقفاً1.
1 ـ لا خفاء في أنّ الراكد المتّصل بالجاري يكون حكمه حكم الجاري من جهة الاعتصام وعدم التأثّر بمجرّد الملاقاة وذلك للاتصال بالجاري الذي يكون له مادة فيصدق انّ الراكد أيضاً له مادّة وقد مرّ أنّ المستفاد من صحيحة ابن بزيع المتقدّمة الواردة في البئر انّ كلّ ماء كان له مادّة يكون معتصماً آبياً عن التأثّر والانفعال بنفس الملاقاة لكن مفادها مجرّد الاعتصام فقط، وامّا ترتّب حكم الجاري من غير هذه الجهة ككفاية غسل المتنجّس بالبول مرّة فيه إذا قلنا باختصاص هذا الحكم بالجاري وعدم جريانه في المياه المعتصمة الاُخر فلا دليل عليه بعد عدم صدق عنوان «الماء الجاري» عليه لفرض كونه راكداً واقفاً ولا يتّصف إلاّ بمجرّد الاتصال كما هو ظاهر.
(الصفحة 78)
مسألة 10 ـ يطهر الجاري وما في حكمه إذا تنجّس بالتغيّر إذا زال تغيّره ولو من قبل نفسه وامتزج بالمعتصم1.
1 ـ في كيفية تطهير الماء الجاري المتغيّر احتمالات أربعة: زوال التغيّر مطلقاً، وزواله مع الاتصال، وزواله مع الامتزاج بما يخرج من المادة، أو مع الاستهلاك أيضاً.
قد يقال ـ كما عن الشهيد(قدس سره) ـ بكفاية زوال التغيّر بأي وجه اتفق، وربما يوجه بأنّ مقتضى صحيحة ابن بزيع المتقدّمة انّ الطهارة متفرّعة على طيب الطعم وذهاب الريح الذي هو عبارة اُخرى عن زوال التغيّر، والأمر بالنزح إنّما هو لأجل كونه سبباً عادياً لزوال التغيّر وإلاّ فليس له خصوصية للعلم بأنّه لو خرج ماء البئر من غير طريق النزح على وجه يزول به التغيّر تترتّب عليه الطهارة بلا ريب.
وبالجملة: فالمستفاد من الرواية انّ تمام المؤثّر في حصول الطهارة إنّما هو طيب الطعم وذهاب الريح على ما هو مقتضى الإطلاق، فلو كان شيء آخر دخيلاً في ترتّب الحكم لوجب على المتكلِّم بيانه، وحيث لم يبين يستكشف عدم مدخلية شيء آخر، وـ حينئذ ـ لو حصل طيب الطعم وذهاب الريح من غير طريق النزح يترتّب عليه الحكم بالطهارة فالمناط هما الوصفان ولا خصوصية لطريقة النزح.
لكنّه أورد على هذا الكلام المحقّق الهمداني(قدس سره) في المصباح بما حاصله: انّ التمسّك بالإطلاق لعدم مدخلية شيء في ترتّب الحكم المعلّق عليه إنّما هو بالنسبة إلى القيود التي لو لم يبيّنها المولى لكان نقضاً لغرضه، وفي مثل المقام ممّا يكون المطلق ملازماً للقيد بحيث لا يمكن الانفكاك بينهما فلا يجوز التمسّك بإطلاقه لنفي اعتبار القيد إذ لا يترتّب على عدم البيان نقض للغرض، وـ حينئذ ـ فلا يجوز التمسّك في المقام بإطلاق زوال التغيّر لنفي اعتبار الامتزاج مع كون زوال التغيّر مسبّباً ـ عادةً ـ عن
(الصفحة 79)
الامتزاج بعد النزح، وبعبارة اُخرى النزح مقدّمة لتحقّق شيئين: الوصفين وحصول الامتزاج وفي الرواية قد اكتفى بذكر الأوّل لكون الثاني ملازماً له عادة.
أقول: يمكن أن يوجه قول الشهيد(قدس سره) بوجه لا يرد عليه شيء وهو أنّ صدر الرواية قد علّق الحكم بالنجاسة فيه على مجرّد تحقّق التغيّر ثمّ ذكر ما يوجب ارتفاعها وهو حصول طيب الطعم وذهاب الريح الذي هو عبارة اُخرى عن زوال التغيّر ـ كما عرفت ـ فمدلولها دوران الطهارة والنجاسة مدار التغيّر وزواله، فالمتبادر منها عند أهل العرف هو كون التغيّر علّة تامّة لحصول النجاسة ترتفع عند زواله، وإن كان المحتمل عند العقل أن يكون التغيّر واسطة في ثبوت النجاسة لا في عروضها حتى يكون الأمر دائراً مدار وجوده وعدمه ومع هذا الاحتمال لا يكون مجرّد زواله موجباً لارتفاع النجاسة ولكن المتبادر عند العرف من مثل هذا الكلام الذي علّق الحكم فيه على شيء، وارتفاعه على زواله مع احتمال أن لا يكون مجرّد زواله موجباً لارتفاعه، دوران الحكم ـ وجوداً وعدماً ـ مدار وجود ذلك الشيء وعدمه كما لا يخفى.
وبالملة فمفاد صدر الرواية ـ بنظر العرف ـ كون التغيّر علّة تامّة لثبوت النجاسة فترتفع بمجرّد زوالها ولا يتوقّف ارتفاعها على شيء آخر أصلاً، وهذا بناء على رجوع التعليل الواقع في ذيل الرواية إلى صدرها أعني قوله(عليه السلام): «واسع لا يفسده شيء» واضح لا إشكال فيه، وامّا بناء على رجوعه إلى القضية المتصيّدة من ذيل الرواية أعني الطهارة لأنّه لو ألقى هذا الكلام المشتمل على هذه العلّة على العرف لا يفهم منه انّ مجرّد كونه ذا مادّة يوجب التبدّل وحصول وصف الطهارة بل حيث إنّ المادة موجبة لجريان الماء منها بعد النزح تدريجاً يصير الماء طاهراً لحصول الامتزاج مع ما يخرج من المادّة ومن هنا ينقدح النظر فيما أفاده صاحب المصباح(قدس سره)