(الصفحة 90)
وملاقاته مع ماء الحب واقعاً لم يكن وجه للأمر بصبّ الماء عليه وذلك الكوز كما هو ظاهر. مع أنّه لا دليل على أنّ ماء الحب كان أقلّ من الكر بل الظاهر كونه كثيراً لما عرفت سابقاً من أنّ أواني المياه والأوعية المعدّة لها في مكة والمدينة كانت كبيرة لعدم وجود الماء الجاري والراكد الذي بمنزلته ـ نوعاً ـ كما لا يخفى.
7 ـ صحيحة زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس.
وفيه: أنّ الظاهر انّ المراد من قوله: «ذلك الماء» هو ماء البئر لا الماء الموجود في الدلو، توضيحه: انّ الدلو الذي يكون من جلد الخنزير والحبل الذي يكون من شعره إنّما كان المتداول هو استعماله في سقي البساتين كما يظهر من بعض الروايات، وامّا ما ينوح به الماء للوضوء والشرب فكان من أجزاء مأكول اللحم، وـ حينئذ ـ فمع كون نجاسة أجزاء الخنزير من الضروريات عندهم، ومن المعلوم انّ مائهم كان منحصراً في الآبار يحتاج الناس إلى السؤال عن حكم ماء البئر مع وقوع أجزاء الخنزير النجسة عليه، فالحكم بعدم البأس إنّما هو راجع إلى عدم نجاسة ماء البئر والصحيحة تكون من أدلّة طهارته ويدلّ على ذلك رواية حسين بن زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قلت له: شعر الخنزير يعمل حبلاً ويستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها؟ فقال: لا بأس.
فإنّ الظاهر انّ مورد السؤال هو جواز الشرب والوضوء من ماء البئر الملاقي لشعر الخنزير الذي يجعل حبلاً ـ لا جوازهما من ماء الدلو الذي يكون حبله شعر الخنزير الموجب لوقوع بعض القطرات الملاقية معه في الدلو ومائه، ولا الجواز بمعنى الإباحة ـ في مقابل الحرمة ـ لأصل جعل شعر الخنزير حبلاً والإسقاء بسببه من البئر الكذائية.
(الصفحة 91)
مع أنّه لم يفرض في الروايتين إلاّ مجرّد كون الحبل من شعر الخنزير من دون أن يضاف إليه كون الدلو من جلده أيضاً، وعليه فيمكن أن يقال: بأنّ ملاقاة القطرات المترشّحة منه لماء الدلو غير معلومة، مع أنّ الكلام في ملاقاة النجاسة مع الماء القليل والروايتان ـ على تقدير الإغماض عن جميع ما ذكرنا ـ واردتان في ملاقاة القطرة الملاقية لشعر الخنزير مع الماء الواقع في الدلو فلقائل أن يقول بعدم الانفعال في مثل هذا الفرض فتدبّر.
8 ـ مرسلة ابن أبي عمير عن أبي عبدالله(عليه السلام) في عجين عجن وخبز ثمّ علم أنّ الماء كانت فيه ميتة؟ قال: لا بأس، أكلت النار ما فيه.
وفيه انّ الرواية تدلّ على الانفعال بل نفس السؤال تدلّ على مفروغيته غاية الأمر انّه حكم الإمام(عليه السلام) فيها بأنّ النار تكون مطهّرة له فهي من أدلّة القائل بالانفعال لا من أدلّة العدم.
9 ـ ما رواه الكليني، عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشا، عن حمّاد بن عثمان، عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : اغتسل في مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة فيقع في الاناء ما ينزو من الأرض؟ فقال: لا بأس به.
وفيه أنّه لم يعلم كون المراد صورة العلم بنجاسة الموضع الذي ينزو منه الماء إلى الإناء بل الظاهر انّ مورد السؤال صورة الشكّ، ومجرّد كون المحل ممّا يبال فيه ويغتسل من الجنابة لا يلازم العلم بنجاسة الموضع الذي ينزو منه الماء مع أنّك عرفت انّ الكلام في ملاقاة النجاسة مع الماء القليل وهو غير مفروض في الرواية.
10 ـ موثقة عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنّه يهودي؟ فقال: نعم فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟! قال: نعم.
(الصفحة 92)
وفيه ـ مضافاً إلى اضطراب متن السؤال ـ انّه لا دليل على كون المراد من السؤال صورة العلم بكون الشارب يهودياً بل الظاهر هو السؤال عن مورد الشكّ، مع أنّ مسألة نجاسة أهل الكتاب من المسائل الخلافية المعروفة، والروايات الواردة فيها كلّها تدلّ على طهارته وجواز الأكل والشرب معه في إناء واحد وجواز المساورة معه بلا تخصيص بالماء فهذه المسألة لا ترتبط بالمقام إلاّ على تقدير إثبات نجاستهم قبل الورود فيه.
11 ـ رواية ابن مسكان عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سألته عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه، والسنور، أو شرب منه جمل، أو دابّة أو غير ذلك أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال: نعم إلاّ أن تجد غيره فتنزه عنه.
وفيه انّ الظاهر انّ المياه التي كان محلاًّ لولوغ الكلب وشرب الجمل والدابة هي المياه الكثيرة الواقعة خارج البلد، المجتمعة في الغدران مع أنّه ليس محط السؤال هي الطهارة والنجاسة باعتبار ذكر شرب الجمل والدابة في السؤال بل كان محطّه مجرّد ملاقاة الحيوان مع الماء كما لا يخفى.
ولو سلم فغاية مدلول الرواية إطلاق الحكم بالإضافة إلى الكثير والقليل، ولا وجه لحملها على خصوص الصورة الثانية بعد عدم الشاهد عليه فهي قابلة للتقييد بما يدلّ على اعتبار الكرية في اعتصام الماء.
12 ـ رواية الأحول ـ يعني محمد بن النعمان ـ قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : اخرج من الخلاء فاستنجي بالماء فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به؟ فقال: لا بأس. رواها الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اذينة، عنه ورواها الصدوق في العلل عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن يونس بن عبد الرحمن، عن رجل عن
(الصفحة 93)
الغير أو عن الأحول انّه قال: دخلت على أبي عبدالله(عليه السلام) فقال: سل عمّا شئت فارتجت على المسائل، فقال لي: سل ما لكَ؟ فقلت: جعلت فداك الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به؟ فقال: لا بأس، فسكت فقال: أوتدري لِمَ صار لا بأس به؟ قال: قلت: لا والله، فقال: إنّ الماء أكثر من القذر.
وفيه: انّ التمسّك إن كان بما رواه الكليني عن الأحول ممّا ورد في خصوص ماء الاستنجاء من دون اشمال على التعليل أصلاً بتقريب انّه لا خصوصية لماء الاستنجاء لعدم الفرق بينه وبين سائر المياه القليلة الملاقية للنجس، فيرد عليه أنّه لا مساغ لإلغاء الخصوصية من الأخبار الواردة في ماء الاستنجاء الدالّة على طهارته ـ بعد فرض دلالتها عليها ـ بعد ملاحظة كثرة الابتلاء به خصوصاً في الحجاز ولاسيما في الأزمنة السابقة التي لم يكن لهم خلاء أصلاً، هذا مضافاً إلى اختصاصه بأحكام لا تجري في غيره كجوازه بثلاثة أحجار وبالخرقة وغير ذلك من الأحكام المختصّة به، وـ حينئذ ـ فيحتمل قويّاً أن يكون لمائه أيضاً حكم مختص به لا يجري في غيره من المياه القليلة، وإلى الفرق بين المقام وبين ماء الاستنجاء حيث إنّ مورده ما إذا ورد الماء على النجاسة فلقائل أن يقول بعدم الانفعال فيه وثبوته في غيره والبحث فيه موكول إلى المقام الثاني.
فانقدح ممّا ذكرنا انّه لا يجوز التمسّك لعدم انفعال الماء القليل باخبار ماء الاستنجاء كما انّه لا يجوز التمسّك بها لحكم الغسالة التي سيجيء البحث عنها إن شاء الله تعالى، وكذلك لا يجوز التمسّك للمقام بأدلّة ماء الحمّام ـ بناءً على عدم اعتبار الكرية لا فيه ولا في مادّته ولا في المجموع كما هو مقتضى التحقيق ـ لعدم جواز إلغاء الخصوصية منها بعد شدّة الابتلاء به واحتمال التسهيل في خصوص موردها كما لا يخفى.
(الصفحة 94)
وإن كان التمسّك بما رواه الصدوق عن الأحول الدالّ على تعليل نفي البأس عن ماء الاستنجاء ووقع الثوب فيه بكون الماء أكثر من القذر نظراً إلى أنّ مقتضى عموم التعليل عدم البأس في جميع الموارد التي يكون الماء فيها أكثر من القذر من دون اختصاص ذلك بماء الاستنجاء ففيه انّ الرواية على هذا الطريق مرسلة لا يجوز الاعتماد عليها، مع أنّ من المعلوم انّ مجرّد أكثرية الماء من القذر لا يكون مناطاً لعدم البأس ضرورة انّ الماء المتغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة محكوم بأنّه نجس وإن كان الماء أكثر من القذر، نعم لو اُريد بالأكثرية الغلبة ومرجعها إلى عدم حصول تغيّر له في تلك الأوصاف لكان لما ذكر وجه ولكنّه خلاف ما هو ظاهر فيه كما هو ظاهر.
هذه هي مجموع الروايات الخاصة التي يمكن الاستدلال بها على اعتصام الماء القليل أيضاً، نعم هنا روايات اُخر ربّما يستدلّ بها لكنّه من الواضح انّ الاستدلال بها إنّما هو لتكثير الدليل وإلاّ فلا دلالة بل ولا إشعار فيها أصلاً كما هو ظاهر لمن راجعها، وقد عرفت عدم دلالة شيء من الروايات المتقدّمة على مطلوبهم، ولو سلمت الدلالة في بعضها فهي لا تصلح للمعارضة بعد دلالة الروايات الكثيرة البالغة مائتين أو ثلاثمائة ـ على ما قيل ـ على الانفعال وعدم الاعتصام، وهل تكون مع ذلك معتبرة ومناط الاعتبار ـ وهو بناء العقلاء واستمرار سيرتهم على العمل بأخبار الآحاد ـ موجوداً فيها؟! وهذا بمكان من الوضوح، مضافاً إلى أنّ الشهرة من حيث الفتوى التي هي أوّل المرجّحات ـ كما في مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة بل عند العقلاء أيضاً ـ موافقة لتلك الروايات إذ لم يخالف فيه أحد من الأصحاب إلاّ ابن أبي عقيل ـ من المتقدّمين ـ والفيض الكاشاني ـ من المتأخّرين ـ ولا اعتبار بهما بعد الشذوذ والندرة.