(الصفحة 94)
وإن كان التمسّك بما رواه الصدوق عن الأحول الدالّ على تعليل نفي البأس عن ماء الاستنجاء ووقع الثوب فيه بكون الماء أكثر من القذر نظراً إلى أنّ مقتضى عموم التعليل عدم البأس في جميع الموارد التي يكون الماء فيها أكثر من القذر من دون اختصاص ذلك بماء الاستنجاء ففيه انّ الرواية على هذا الطريق مرسلة لا يجوز الاعتماد عليها، مع أنّ من المعلوم انّ مجرّد أكثرية الماء من القذر لا يكون مناطاً لعدم البأس ضرورة انّ الماء المتغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة محكوم بأنّه نجس وإن كان الماء أكثر من القذر، نعم لو اُريد بالأكثرية الغلبة ومرجعها إلى عدم حصول تغيّر له في تلك الأوصاف لكان لما ذكر وجه ولكنّه خلاف ما هو ظاهر فيه كما هو ظاهر.
هذه هي مجموع الروايات الخاصة التي يمكن الاستدلال بها على اعتصام الماء القليل أيضاً، نعم هنا روايات اُخر ربّما يستدلّ بها لكنّه من الواضح انّ الاستدلال بها إنّما هو لتكثير الدليل وإلاّ فلا دلالة بل ولا إشعار فيها أصلاً كما هو ظاهر لمن راجعها، وقد عرفت عدم دلالة شيء من الروايات المتقدّمة على مطلوبهم، ولو سلمت الدلالة في بعضها فهي لا تصلح للمعارضة بعد دلالة الروايات الكثيرة البالغة مائتين أو ثلاثمائة ـ على ما قيل ـ على الانفعال وعدم الاعتصام، وهل تكون مع ذلك معتبرة ومناط الاعتبار ـ وهو بناء العقلاء واستمرار سيرتهم على العمل بأخبار الآحاد ـ موجوداً فيها؟! وهذا بمكان من الوضوح، مضافاً إلى أنّ الشهرة من حيث الفتوى التي هي أوّل المرجّحات ـ كما في مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة بل عند العقلاء أيضاً ـ موافقة لتلك الروايات إذ لم يخالف فيه أحد من الأصحاب إلاّ ابن أبي عقيل ـ من المتقدّمين ـ والفيض الكاشاني ـ من المتأخّرين ـ ولا اعتبار بهما بعد الشذوذ والندرة.
(الصفحة 95)
وامّا الروايات العامّة التي يمكن التمسّك بها أو وقع الاستدلال بها فمنها: النبوي المعروف المتقدّم الذي وصفه الكاشاني بالاستفاضة وقد عرفت توصيفه بأزيد من ذلك وهو قوله(صلى الله عليه وآله) : «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» ونظيره ما ورد من طرقنا ـ وقد ادّعى فيه التواتر ـ من الأئمّة (عليهم السلام). ممّا يدلّ على هذا المضمون وهو انحصار الانفعال بالتغيّر وعدم حصول التأثّر بدونه فمفادها انّ القلّة ـ بعنوانها ـ لا توجب الانفعال ولا تؤثر في الفرق.
وقد نوقش في الاستدلال بالنبويّ بعدم كونه مروياً من طرقنا وإنّما رواها العامّة بطرقهم فلا رواية حتى تتصف بالاستفاضة والرواية من طرقهم أيضاً لا تبلغ هذه المرتبة فكيف يجوز الاستدلال بها.
ويمكن المناقشة في التمسّك بما ورد من طرقنا بهذا المضمون بأن نقل التواتر كنقل الإجماع في عدم الاعتبار والحجّية، نعم هنا روايات يمكن أن يستفاد منها انّ تمام المناط في الانفعال هو التغيّر مثل رواية القماط أبي خالد انّه سمع أبا عبدالله(عليه السلام)يقول في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة فقال أبو عبدالله(عليه السلام): إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ منه، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ. وغيرها من الروايات الواردة بهذا المضمون.
والجواب: انّ هذه الروايات غير واردة في خصوص الماء القليل، بل امّا أن يكون موردها خصوص الماء الكثير ويؤيّده انّ النقيع وشبهه يكون مائه كثيراً نوعاً، وامّا أن يكون أعمّ منه ومن القليل، فعلى الأوّل لا ارتباط لها بالمقام، وعلى الثاني لابدّ من رفع اليد عن إطلاقها وحملها على الماء الكثير بقرينة الروايات الكثيرة الدالّة على انفعال الماء القليل كما هو ظاهر.
نعم لو أغمضنا عن المناقشة في سند النبوي وقلنا بما قال به صاحب الذخيرة ـ
(الصفحة 96)
وفي المحكي عنه ـ من أنّه عمل به الأمّة وقبوله ـ وظاهره انّه مورد لقبول الفريقين معاً، فالوجه في الجواب أن يقال: إنّ دلالته على الحصر لا تبلغ من القوّة بمثابة يمكن لها المعارضة مع روايات الانفعال خصوصاً مع صراحتها وكثرتها.
ثمّ إنّه قد استدلّ المحدِّث الكاشاني (قدس سره) في الوافي على عدم اعتبار الكرية في الاعتصام بوجوه اُخر:
عمدتها انّه لو كان معيار نجاسة الماء وطهارته، نقصانه عن الكر وبلوغه إليه لما جاز إزالة الخبث بالقليل منه بوجه من الوجه مع أنّه جائز بالاتفاق، وذلك لأنّ كلّ جزء من أجزاء الماء الوارد على المحلّ النجس إذا لاقاه كان متنجساً بالملاقاة خارجاً عن الطهورية في أوّل آنات اللقاء، وما لم يلاقه لا يعقل أن يكون مطهراً، والفرق بين وروده على النجاسة ووردها عليه ـ مع أنّه مخالف للنصوص ـ لا يجدي إذ الكلام في ذلك الجزء الملاقي ولزوم تنجّسه، والقدر المستعلي لكونه دون مبلغ الكرية لا يقوى على أن يعصمه بالاتصال عن الانفعال، فلو كانت الملاقاة مناط التنجّس لزم تنجّس القدر الملاقي لا محالة فلا يحصل التطهير أصلاً، وامّا ما تكلّفه بعضهم من ارتكاب القول بالانفعال هنالك من بعد الانفصال عن المحلّ الحامل للنجاسة فمن أبعد التكلّفات، ومن ذا الذي يرتضي القول بنجاسة الملاقي للنجاسة بعد مفارقته عنها وطهارته حال ملاقاته لها بل طهوريته.
وفيه انّ هذه الحجّة ـ لو تمّت ـ فإنّما تختص بخصوص موردها وهو ما إذا كان الماء القليل مستعملاً في التطهير، وامّا في غيره مثل ما إذا وقعت النجاسة في إناء من الماء ـ مثلاً ـ فلا تجري فيه وقد عرفت انّ الكلام في هذا المقام إنّما هو في الايجاب الجزئي في مقابل السلب الكلّي والدليل لا يكون وافياً به هذا مضافاً إلى عدم تماميته في نفسه فإنّا سنبيّن في مبحث الغسالة ـ إن شاء الله تعالى ـ انّه يكفي في الطهورية
(الصفحة 97)
كون الماء طاهراً قبل الملاقاة، وان تنجسه بالملاقاة لا يكاد يقدح في الطهورية أصلاً فانتظر.
ومنها: انّ ما يستدلّون به على اشتراط الكر مفهومات لا تصلح لمعارضة المنطوقات المبرهن عليها.
والجواب عن هذا الوجه واضح بعد ملاحظة عدم اختصاص الروايات الدالّة على اعتبار الكرية في الاعتصام بخصوص ما يدلّ منها بالمفهوم بل فيها روايات كثيرة تدلّ صريحاً بالمنطوق على ذلك وبعد ملاحظة عدم دلالة شيء من الروايات التي استدلّ بها على العدم على مدّعاه كما عرفت تفصيله وبعد ملاحظة الأمرين لا يبقى مجال لهذا الاستدلال أصلاً.
ومنها: أنّه لو كان ـ يعني الكرية ـ شرطاً لكان أولى المواضع بتعذّر الطهارة مكة والمدينة المشرّفتين، إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة ومن أوّل عصر النبي(صلى الله عليه وآله) إلى آخر عصر الصحابة لم ينقل واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء عن النجاسات، وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء والذين لا يحترزون عن النجاسات بل الكفّار كما هو معلوم لمن تتبّع.
والجواب: انّ هذا الوجه أيضاً إنّما يصلح دليلاً في مقابل من يدّعى الإيجاب الكلّي، وامّا المدّعى للموجبة الجزئية في مقابل السالبة الكلّية فلا يدفعه هذا الوجه والكلام في المقام إنّما هو في هذا المرام كما تقدّم.
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا انّه لا محيص عن الالتزام بانفعال الماء القليل في الجملة.
المقام الثاني: في أنّ الانفعال للماء القليل هل يكون ثابتاً مطلقاً وعلى جميع التقادير أو انّه فرق بين ما إذا كان الماء وارداً على النجاسة وعكسه أو بين ما لا
(الصفحة 98)
يدركه الطرف وما يدركه أو بين ما إذا كان الماء واقعاً في السطح الأعلى وغيره أو بين ما إذا كان الملاقي نجساً وما إذا كان متنجّساً فهنا تفاصيل محتملة ولأكثرها قائل ولابدّ من ملاحظتها فنقول:
التفصيل الأوّل ـ وهو الذي صرّح الماتن ـ دام ظلّه ـ بعدمه ـ هو التفصيل بين ما إذا كانت النجاسة واردة على الماء القليل والعكس بالحكم بالانفعال في الصورة الاُولى دون الثانية، وقد ينسب هذا التفصيل إلى السيّد وابن إدريس(قدس سرهما) ومنشأ النسبة ما ذكره السيّد في الناصريات وما يظهر من السرائر من اختياره لما ذكر فيها والأولى نقل عبارة السيّد حتّى تظهر حال النسبة ولكنّه لابدّ قبله من ملاحظة الفرق بين هذا المقام وبين مسألة الغسالة ـ التي سيجيء البحث فيها إن شاء الله تعالى ـ فإنّ النزاع هنا في الماء الوارد على النجاسة سواء كان مستعملاً للتطهير أم لم يكن كذلك، وسواء ورد الماء على النجاسة وتجاوز عنها أو استقرّ معها كما إذا اختلط الماء بالدم الذي يكون في الإناء ـ مثلاً ـ من دون أن يتحقّق التغيّر بوجه، والبحث هناك في الماء المستعمل للتطهير سواء ورد الماء على النجاسة أو كان موروداً لها فالنسبة بين المقامين عموم من وجه.
إذا عرفت ذلك نقول: قال السيّد في الناصريات: «المسألة الثالثة: لا فرق بين ورود الماء على النجاسة وبين ورود النجاسة على الماء، وهذه المسألة لا أعرف فيها نصّاً لأصحابنا ولا قولاً صريحاً، والشافعي يفرّق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه فيعتبر القلّتين في مورد النجاسة على الماء، ولا يعتبر في ورود الماء على النجاسة، وخالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة، ويقوى في نفسي عاجلاً إلى أن يقع التأمّل لذلك صحّة ما ذهب إليه الشافعي، والوجه فيه انّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة لأدّى ذلك إلى أن الثوب لا يطهر من النجاسة إلاّ