(الصفحة 99)
بإيراد كرّ من الماء عليه وذلك يشقّ، فدلّ على أنّ الماء إذا ورد على النجاسة لا تعتبر فيه القلّة والكثرة كما يعتبر فيما يرد النجاسة عليه».
وذكر الحلّي بعد نقل عبارة السيّد: «قال محمّد بن إدريس: وما قوى في نفس السيّد هو الصحيح المستمر على أصل المذهب وفتاوى الأصحاب».
أقول: لا يخفى أنّ ما أفاده السيّد من الوجه دليل على أنّ مراده إنّما هو ماء الغسالة لوضوح عدم جريانه في جميع صور المسألة، بل في خصوص مورد الاجتماع بينها وبين ماء الغسالة، وقد عرفت انّ النزاع هنا أعمّ منه.
ويحتمل أن يكون مراده الفرق بين الماء الأعلى الوارد على النجاسة كماء الابريق الجاري عليها، وبين الماء المتساوي من حيث السطح مع النجاسة أو الأسفل منها فلا ينفعل الماء الأعلى باتصاله بالنجاسة بخلاف غيره من المساوي أو الأسفل، ويؤيّد ذلك ما ذكره الحلّي من أنّه الموافق لأصل المذهب وفتاوى الأصحاب فتدبّر.
وكيف كان فربّما يستدلّ على التفصيل في المقام بقاعدة الطهارة بعد دعوى انّه ليس فيما يدلّ على انفعال الماء إذا لم يكن بالغاً حدّ الكرّ ما يدلّ بعمومه على شمول الحكم لمثل المقام لأنّ أغلب أدلّة اعتبار الكرية في الاعتصام وانفعال الماء القليل واردة في مورد ورود النجاسة على الماء، وما كان من قبيل قوله(عليه السلام): «إذا كان الماء قدر كر لا ينجّسه شيء» لا يستفاد منه إلاّ انفعال الماء القليل في الجملة، والقدر المتيقّن منه غير مثل المقام.
وفيه المنع من عدم استفادة العموم من هذه المفاهيم، توضيحه: انّ الموضوع في المنطوق إنّما هو نفس طبيعة الماء بلا دخالة قيد فيه أصلاً، والحكم المترتّب عليه إنّما هو عدم تنجّسه بملاقاة شيء من النجاسات فيما إذا كان بالغاً حدّ الكر، فإطلاق الموضوع إنّما يفيد عدم مدخلية شيء في ترتّب هذا الحكم عليه، كما أنّ مقتضى
(الصفحة 100)
وقوع النكرة في سياق النفي إنّما هو عدم تأثير شيء من النجاسات فيه من دون أن يختصّ ذلك بخصوص بعضها، فاستفادة عمومية الحكم وعدم الفرق بين صورة ورود النجاسة على الماء والعكس إنّما هو من إطلاق لفظ «الماء» أو من إطلاق لفظ «الشيء» هذا في المنطوق.
وامّا المفهوم فمن الواضح بقاء اللفظين فيه على إطلاقهما، نعم لا يبقى مجال للقول بشمول الحكم لجميع النجاسات لأنّ استفادة التعميم في المنطوق إنّما هي من وقوع النكرة في سياق النفي، ومن المعلوم انّ نقيض السالبة الكلّية إنّما هي الموجبة الجزئية.
وبالجملة: فحيث إنّ عموم الحكم وشموله لصورتي ورود الماء على النجاسة وورودها عليه إنّما كان مستفاداً من الإطلاق في المنطوق وهو بعينه باق في طرف المفهوم فلا مجال للحكم بعدم دلالة المفهوم على التعميم.
نعم لو كان معنى الإطلاق راجعاً إلى العموم ـ كما ذكره بعض في الاُصول ـ لكان الإطلاق من هذه الحيثية كالعموم بالإضافة إلى افراد النجاسات وأنواعها فكما أنّه يرتفع بإيجاب البعض كذلك هذا أيضاً يرتفع بإيجاب البعض، ولكن الظاهر عدم صحّة هذا المعنى إذ ليس معنى الإطلاق إلاّ الإرسال وعدم التقييد بالقيد، لا العموم لجميع الافراد والحالات. وبعبارة اُخرى مرجع الإطلاق إلى رفض القيود لا إلى ملاحظتها بأجمعها كما لا يخفى.
ويدلّ على بطلان التفصيل أيضاً انّ المتبادر عند المتشرّعة من هذه الأدلّة انّ الوجه في انفعال الماء القليل ليس إلاّ مجرّد الملاقاة مع النجس وعدم استعداد هذه الكمّية للفرار عن التأثّر والانفعال من دون أن يكون فرق بين الصورتين عندهم بل لا يكاد يخطر ببالهم احتمال الفرق أصلاً.
(الصفحة 101)
هذا مع ثبوت الإطلاق في بعض الروايات الخاصة أيضاً مثل رواية أبي بصير الدالّة على نجاسة الماء الملاقى لما يبلّ ميلاً من الخمر من دون تفصيل بين الصورتين.
التفصيل الثاني ما هو المحكي عن الشيخ الطوسي(قدس سره) وهو الفرق بين ما يدركه الطرف من النجاسة وما لا تدركه العين منها بالانفعال في خصوص الأوّل دون الثاني، والظاهر انّ مستنده في الفرق هي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً فأصاب إنائه هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضّأ منه، قال: وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا.
بتقريب انّ مورد السؤال هو العلم بإصابة الدم الإناء أي الماء الواقع فيه فملاقاة الماء مع الدم مفروض في مورد السؤال وعليه فالجواب الدالّ على الفرق يرجع إلى التفصيل المدّعى.
لكن في الوسائل بعد نقل الرواية: «الذي يفهم من أوّل الحديث إصابة الدم الاناء والشكّ في إصابة الماء كما يظهر من السؤال والجواب فلا إشكال فيه» ومرجعه إلى أنّ إصابة الإناء الذي يكون بمعنى الظرف معلومة وإصابته إلى الماء زائداً على الاناء مشكوكة فلا مانع من أن تجري فيه قاعدة الطهارة ولا يرتبط بالتفصيل المذكور أصلاً. وقد حكى هذا الحمل عن شيخ الشريعة الاصفهاني(قدس سره) في بحثه، ويؤيّده بل يدلّ عليه ذيل الرواية الدالّة على عدم صلاحية الوضوء من الماء مع العلم بوقوع القطرة فيه، ودعوى احتمال كون المراد هي القطرة البيّنة التي تدركها العين لا الأعمّ منها وممّا لا تدركه واضحة الفساد بل الفرق بين السؤالين إنّما يرجع إلى الشكّ في إصابة الماء في الأوّل والعلم بها في الثاني، كما أن دعوى انّ حمل السؤال
(الصفحة 102)
الأوّل على الشبهة البدوية التي لا يجب فيها الفحص اتفاقاً ينافي الجواب الظاهر في وجوبه. مدفوعة بمنع ظهور الجواب في الوجوب فلا منافاة، كما أنّ قوله في السؤال: «فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً» لا شهادة فيه بكون محط النظر هو اتّصاف النجس الملاقى بكونه صغيراً بل هذا القول تمهيد لبيان الشكّ في إصابة الماء كما لا يخفى.
وهنا حمل آخر أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) وهو الحمل على صورة العلم الإجمالي وتردّد الإصابة بين أن تكون مضافة إلى الإناء وبين أن تكون مرتبطة بالماء، غاية الأمر عدم تنجّز العلم الإجمالي في مورد السؤال لخروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء لعدم الابتلاء بخارج الاناء نوعاً خصوصاً في مثل الوضوء.
ولكن يبعده مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر السؤال ـ انّ دعوى كون الاناء خارجاً عن محلّ الابتلاء ممّا لا يتمّ أصلاً وعدم الابتلاء بخارج الاناء لو فرض تماميته لا ارتباط له بالرواية التي فرض السائل فيها الإصابة إلى الاناء لا إلى خارجه فتدبّر.
ويمكن أن يكون مستند هذا التفصيل دعوى انصراف الأدلّة الدالّة على نجاسة ذلك النجس الملاقي عمّا إذا بلغ في القلّة بمقدار لا يدركه الطرف، ويرد عليه ـ حينئذ ـ انّه إن كان المراد بقوله: «لا يدركه الطرف» هو فرضه كالعدم بالنظر المسامحي العرفي ـ كما يظهر من التمثيل له بـ «رأس الأبر» ـ فيرد عليه منع دعوى الانصراف إذ لا شاهد عليها أصلاً بعد تحقّق النجاسة ووجودها وثبوت الملاقاة كما هو المفروض .
وإن كان المراد به انّه لا يدرك بنظر العرف أصلاً بل الاطلاع عليه يحتاج إلى الوسائل غير العادية فالانصراف مسلم لا ينبغي الارتياب فيه وله نظائر كثيرة
(الصفحة 103)
كالحكم بطهارة المتنجّس بالدم إذا زالت عينه ولو بقى لونه، فإنّ العقل يحكم بأنّ بقاء اللون كاشف عن بقاء أجزاء الدم لامتناع انتقال العرض ـ كما حقّق في محلّه ـ ومع ذلك فهو بنظر العرف زائل غير باق ولذا يحكم عليه بالطهارة، وكالحكم بطهارة الماء المجاور للميتة الآخذ ريحها بسبب المجاورة فإنّه لا مجال للحكم بنجاسة الماء لأنّه لا يعدّ الريح من أجزاء الميتة عرفاً وإن كان من أجزائها عقلاً ـ كما قرّر في موضعه ـ فعلى هذا التقدير لا مجال لمنع الانصراف إلاّ انّ هذا ليس تفصيلاً في المسألة بعد عدم تحقّق الملاقاة للماء مع النجس بنظر العرف الذي يكون هو الملاك في هذه الأبواب فتدبّر.
التفصيل الثالث ما عرفت نظيره في باب الماء المضاف من أنّه إذا كان جارياً من العالي إلى الأسفل ولاقى أسفله النجاسة تختص بموضع الملاقاة وما دونه ولا تسري إلى الفوق والوجه فيه ـ بعد منع كون اختلاف السطح موجباً لتحقّق التعدّد فلا يشمله أدلّة الانفعال لأنّ موضوعها الماء الواحد وذلك لمنع منافاة الاختلاف مع الوحدة بعد كون الاتصال مساوقاً لها كما قرّر في محلّه ـ انّ الظاهر انصرافها عن هذه الصورة خصوصاً بعد ملاحظة صحّة استعماله للتطهير كما هو المتداول إلى الآن سيما في مثل المدينة المنوّرة التي كان مورد ابتلاء الناس فيها هي المياه القليلة لقلّة الماء الكثير.
وبالجملة: لا ينبغي الارتياب في عدم شمول تلك الأدلّة لمثل هذه الصورة بعد ملاحظة استعمال الماء القليل في مقام التطهير من زمن النبي(صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا ولو كان الحكم شاملاً لمثل المقام لما كان يمكن التطهير بالماء القليل بوجه.
ويمكن أن يقال: إنّ الوجه في عدم تنجّس الماء العالي هو أنّ المتفاهم عند العرف من تلك الأدلّة انّ المناط في تنجّس الجزء ـ غير الملاقي ـ هو سراية النجاسة من