(الصفحة 119)
متمرّدة على تطلّعات النور ومنقبضة عن إشراقات الحقّ في الحياة الإنسانية يعسر عليها هضم الحقائق وفهم البيّنات . وتراها ـ في الجهة المقابلة ـ على النقيض من ذلك روحاً مفعمة بالحياة ، تتحلّى بأرضية خصبة ، تسبح في صدر رحب يتلقّى الحقائق بيسر وسهولة ويهتدي لنورها في رفق ودون تكلّف . ونرى ـ بتناسب ما ـ أنّ آية اُخرى تعبّر عن الأمراض الروحية والآفات القلبية ، كالبخل والحسد والحقد والجهل بـ «الرجس» أيضاً ، يقول الله تعالى:
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}(1) ، فالآية تقرّر أنّ ذوي الأرواح المريضة والأنفس السقيمة يزدادون علّة وسقماً كلّما نزلت سورة من القرآن ، وأنّ الداء القلبي يستفحل في نفوسهم بتراكم الأمراض والأرجاس حتّى يصابوا بالكفر والإلحاد ، ومن التعبير «يزدادون رجساً على رجسهم» المسبوق بقوله تعالى:
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}يثبت أنّ المرض النفسي والآفة الأخلاقية هي أيضاً «رجس» . وممّا ذهب إليه ابن عبّاس ، وهو المفسِّر الكبير وأحد تلاميذ مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) ، في معنى «الرجس» المذكور في آية التطهير ، حيث فسّره بالمرض القلبي والسقم الروحي ، ففي محاورة له مع عمر بن الخطّاب يرد عليه مقالته التي ذكر فيها بني هاشم بالسوء ، إذ قال عمر:
«على رِسلك يا ابن عبّاس! أبت قلوبكم يا بني هاشم إلاّ غشّاً في أمر قريش لا يزول
(الصفحة 120)
وحقداً عليها لا يحول» فقال له ابن عبّاس:
«مهلاً . . . لا تنسب هاشماً إلى الغشّ ، فإنّ قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهّره الله وزكّاه ، وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}»(1) .
نتيجة البحث :
اتّضح من هذه الآيات أنّ الرجس داء يصيب الروح وينال من سلامتها ، فالخمر والميسر كانا رجساً لأنّهما يسلبان العقل ويملآن فراغه في الصدر بغضاً وعداوة ، فهما يضيّقان الخناق على البُعد الملكوتي في النفس الإنسانية ويصدّانها عن السموّ والتكامل .
فالصدور الكدرة الممتلئة بالرذائل مبتلاة بالرجس ، ومثل هذه الصدور تفتقد لأرضية تلقّي الفضائل واستقبال المحاسن ، وتتقاعس عن السعي في طريق الكمال والأخذ بأسباب النجاة ، وتجدها تقضي حياتها أسيرة في حبائل الشهوات متردّية في مستنقعات الحقد والحسد ، وهذا التلوّث بالرجس هو الذي يقود البشرية إلى الدمار ويسوقها نحو مصير مؤسف ومستقبل مظلم!
وعلى أيّ حال ، فإنّ جميع الأمراض الروحية والآفات الأخلاقية التي تخفت أوار الحقّ وبريق إشعاعه في ضمير الإنسان وتكدر صفاء الروح وتنال من عظمة النفس ، وتقضي على الخير المودّع فيها والذي يتجلّى في صور التسليم للحقّ والإذعان للحقيقة بعد السعي لها وللقيم
- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 : 53 ـ 54 .
(الصفحة 121)
المعنوية العالية هي رجس .
والآن ، بعد أن اتّضح معنى الرجس بالاصطلاح القرآني نرى أنّ جميع عوامل الشقاء قد اُطلق عليها الرجس ، فهو العلّة الاُولى لجميع الأمراض الروحية التي تحول بين المرء وإدراكه الحقائق ، وتدفعه للتمرّد والطغيان والمكابرة على الرضوخ للحقّ ، وعدم الإذعان للقيم المعنوية حتّى ينتهي الأمر به إلى الكفر والإلحاد ، إنّ «الرجس» يعرّي الإنسان عن جميع الفضائل ويخلفه روحاً مُشبعة بالآفات والأسقام ، وقد جعل القرآن «ضيق الصدر» عنواناً جامعاً لهذه العلل .
على هذا فإنّ مؤدّى آية التطهير هو أنّ الله سبحانه شرح صدور
«أهل البيت»(عليهم السلام) ، ولم يبتلهم بضيق الصدر ، وصوّر قلوبهم سليمة معافاة من الأمراض الروحية التي جعل بينها وبينهم فاصلاً وبوناً لا يسمح بسريان الداء وتسرّبه إليهم .
إنّ
«أهل البيت»(عليهم السلام) الذين انفصلوا عن الآفات والأمراض التي تحول بين المرء والإذعان للحقّ وتدفعه للتمرّد عليه ، تجدهم بتلك القلوب النقيّة والصدور الرحبة في حالة من الانقياد المحض لإرادة الباري تعالى ، والاستعداد التام لتلقّي القيم المعنوية وفهم دقائق أسرارها ، وقد سلكت بهم تلك الفاصلة وهذه الرحابة إلى قمّة الإنسانية الشامخة ، وجعلتهم صفوة الله التي تسبح في بحر الفضائل والكمالات . وما هذا الفاصل وتلك الرحابة إلاّ من فضل الله
{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسلامِ . . .}(1) .
(الصفحة 122)
لذا فإنّ عدم تلوّثهم بالذنوب معلول لسعة صدورهم ورحابتها وامتلاء أرواحهم بالفضائل والكمالات وتعلّقها ، هكذا يتبيّن أنّ آية التطهير شاهد صدق على عظمة أرواح هذه الصفوة ، وبرهان حقّ على سمو أفكارهم وتحرّرهم من قيود الآفات الروحية وخلاصهم من تبعات الأمراض الأخلاقية ، وما هذه العظمة إلاّ موهبة إلهية ، وهي التي نزّهتهم عن الذنوب وطهّرتهم عن المعاصي ، وهي التي فتحت أبواب الفضائل والخيرات أمامهم لينهلوا منها الغاية والحدّ الأقصى ، فالإنسان العظيم لا يجاور الرذائل ، والفكر السليم لا يستمدّ من الخرافات والأباطيل ، والنفوس القويّة والهمم العالية لا تتمكّن منها الاضطرابات الروحية ولا يمكنها أن تصبوا إلى المعاصي ، وآية التطهير عنوان وعلامة على تمتّع
«أهل البيت»(عليهم السلام)بهذه الكمالات الروحية الدافعة إلى الخير والمانعة للشرّ ، فلعمري إن كانت هذه المواهب الجمّة والفيوضات الزاخرة التي نزلت على
«أهل البيت»(عليهم السلام) جبراً فأيّ الفيض لا يكون كذلك ومتى وفيمن تتحقّق حالة الإرادة والاختيار؟!
فعندما نرى عليّاً(عليه السلام) يمثِّل القمّة في التقوى ، فلأنّه ينطلق من تلك الركائز ، وإذا كان يقول:
«والله لو اُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته» (1) ، وإذا كانت الدنيا عنده أزهد من عفطة عنز(2) وأهون من ورقة في فم
- (1) نهج البلاغة: 473 ، الخطبة 224 ، بحار الأنوار 75 : 360 ح76 .
- (2) نهج البلاغة: 30 ، الخطبة 3 .
(الصفحة 123)
جرادة تقضمها(1) ، وكعراق خنزير في يد مجذوم(2) ، وكانت قيمة الرئاسة والإمرة عنده دون شسع نعل بالية(3)! فكلّ ذلك لما أشارت إليه آية التطهير من المنح والمواهب الإلهية التي منّ الله بها على أمير المؤمنين(عليه السلام) ، فنوّره بالعلم والمعرفة ، وأذهب عنه الرجس وطهّره تطهيراً ، فتسامى على هذا العالم وتعالى عن هذه الدنيا وحلّق في سماء المجد والعظمة في الآفاق التي أرادها الله له وللعترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين . وهكذا إذا وجدنا ابنه الحسين(عليه السلام) يقدّم رضيعه ذا الأشهر الستّة وفتاه ذا الثمانية عشر ربيعاً قرابين على طريق محبّة الله وفي سبيل إنقاذ عباده من جور يزيد وتحريرهم من استبداده ، ويتلو ذلك بسوق نسائه وعقائل بيته الشريف اُسارى لبني اُمية وابن آكلة الأكباد ، فذلك لتلك المواهب والنعم التي سبقت له من الباري عزّوجلّ وجعلته ـ كنتيجة للابتعاد عن الرجس ـ عاشقاً لله ، مسلّماً لأمره وإرادته ، هائماً في حبّه ومؤثره على التعلّق بالدنيا وحبّ فلذات كبده!
تقرير حقيقة
وما كان هذا اللطف الخاصّ ليأتي عبثاً وخبطاً مزاجياً لا يخضع لقاعدة وأساس ومعيار ، ولا يظنّن أحد أنّ العناية الإلهية تنصب دون حكمة وبشكل عشوائي لا يراعي استعداد الإنسان وقابليته لتلقّي هذا
- (1) نهج البلاغة: 473 ، الخطبة 224 .
- (2) نهج البلاغة : 702 ، الحكمة 236 . بحار الأنوار 40 : 337 ح21 و 73 : 130 ح135 .
- (3) انظر نهج البلاغة: 70 ، الخطبة 33 .