(الصفحة 124)
العطاء الكبير ، وأنّ الأمر شمل
«أهل البيت»(عليهم السلام)لمجرّد كونهم أهل بيت النبيّ(صلى الله عليه وآله) وقرابته! كلاّ إنّ هذا التصوّر وهم باطل . إذ إنّ أرضية العطاء والاستعداد لتلقّي العناية واللطف الخاصّ أمر بيد الإنسان ورهن رغبته وإرادته ، فهو الذي يصنع نفسه ويهيّئ حاله لتكون على ذلك المستوى ، وهذا بحث يطول نتركه لمقام آخر ونكتفي بالإشارة إلى آية قرآنية أومأت إلى السرّ في العطاء الإلهي الخاصّ والعناية المتميّزة ، تفتح آفاق التحقيق والبحث أمام القارئ الكريم:
{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً* ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً}(1) ، فالآيتان تقرّران أنّ سرّ الإنعام الإلهي ومفتاح تلقي الفضل الخاصّ هو طاعة الإنسان وعمله في سبيل حياة خالدة ، وذلك بامتثاله أوامر الله ورسوله(صلى الله عليه وآله) . إذن مردّ السعادة والتكرّم بالفيض الإلهي يعود للإنسان نفسه ومدى سعيه لتحقيق أرضية أكثر استعداداً لتلقّي المزيد من الفيض والعطاء الإلهي غير المجذوذ ولا المحظور .
(الصفحة 125)
النكتة الخامسة:
المقصود من «أهل البيت» في آية التطهير
تُرى هل هو البيت العتيق (الكعبة) وجميع المسلمين (أهل القبلة) هم أهله ، أم هو بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأهله هم عشيرته وعائلته ، أم هم كلّ من يمتّ إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) بصلة قرابة أو نسب ممّن لا يُستقبح اجتماعهم تحت غطاء واحد ، ويصحّ تواجدهم وعيشهم في نفس البيت ، فيشمل هذا العنوان نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) وأبناءه بالإضافة إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ(عليه السلام)؟ أم أنّ «أهل البيت» ينصرف إلى المعني العرفي المتداول الذي يطلق على عيال المرء وأزواجه ، فلا يعدو بذلك نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، أم أنّ هناك معنى آخر صرفت إليه هذه العبارة؟
هذه أقوال ممّا طرحه وذهب إليه كبار المفسِّرين ، ولكنّنا نرى أنّها لا تنطبق مع المعنى الواقعي لكلمة «أهل البيت» في الآية الكريمة .
إنّ كلمة «أهل البيت» هي عنوان مشير وتحكي عن حادثة وقعت .
وبعبارة اُخرى: إنّ كلمة «البيت» تشير إلى بيت من بيوت نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، والألف واللام عهدية ، وأهل البيت هم الذين كانوا مجتمعين في الزمان والمكان المعيّنَيْن (حين نزول الآية وفي بيت اُمّ سلمة وفقاً لتعيين الروايات) ، فنزلت الآية في شأن ذلك الجمع تقريراً لفضلهم
(الصفحة 126)
ومنزلتهم وفقاً لمفادها ـ كما سبق إثباته ـ ، فصار ذلك الجمع يُعرف بـ «أهل البيت» ، وعلى هذا الفرض فإنّ «أهل البيت» إشارة إلى الخمسة المجتمعين في بيت اُمّ سلمة .
وفي بداية الأمر حين نزول الآية لم تكن هذه العبارة تحمل إلاّ معنى الإشارة ، ولكن بمرور الزمن صار لها معنى علمي حتّى غدت عنواناً خاصّاً للخمسة المجتمعين في ذلك البيت ، ويمكن القول: إنّ هذا الفرض هو الأرجح والأكثر تطابقاً مع الواقع من بين جميع الاحتمالات التي افترضها المفسِّرون ، وها نحن نعرض مزيداً من التوضيح .
المدّعى
تحديداً لنطاق البحث نقول: إنّ المدّعى هو: أنّ «أهل البيت» هم الخمسة أصحاب الكساء الذين كانوا مجتمعين في بيت اُمّ سلمة . والحدث وإطلاق المصطلح هو نظير «يوم الدار» الذي يشير إلى اليوم الذي جمع فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) عشيرته في دار أبي طالب(عليه السلام)(1) ليعلن نبوّته ودعوته ، وأصبحت كلمة «يوم الدار» عنواناً خاصّاً لتلك الواقعة وذلك اليوم ، وكلمة الدار تشير إلى دار أبي طالب(عليه السلام) . هكذا أصبحت عبارة «أهل البيت» تحمل وتتضمّن معنى علمياً للخمسة الذين دخلوا تحت الكساء في دار اُمّ سلمة .
- (1) عندما نزلت (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214) .
(الصفحة 127)أدلّة وإثباتات المدّعى
1 ـ إنّ الآيات التي ذُكر فيها لفظ «البيت» التي سبقت آية التطهير أو لحقتها جاءت على صيغة الجمع المحلّى بنون النسوة «بيوتكنّ» ، وهذا ممّا يعني أنّ «البيت» إشارة إلى بيت معيّن من تلك البيوت (بيوت الزوجات) أو حجرة من تلك الحجرات ، وحيث إنّ المراد من «بيوتكنّ» هو بيوت زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) فلابدّ من أن يكون «البيت» من ذلك النسيج أيضاً ، وبدخول «ال» التعريف على أحد تلك البيوت تعيّن أنّ المراد هو بيت اُمّ سلمة ، وممّا تظافرت واتّفقت عليه وشهدت به الروايات من الفريقين أنّ الآية نزلت في ذلك المكان التاريخي . وبملاحظة ما سلف بيانه وإثباته في قضية ترتيب الآيات وانتظام النصوص القرآنية ، وأنّ ذلك من الوحي وممّا أمر به النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله)وأمضاه ، فإنّ هذا الدليل سيحتلّ موقعه وستتجلّى حجّته .
2 ـ إنّ مبادرة واندفاع اُمّ سلمة رضوان الله عليها وحرصها الشديد على الاستفهام من النبيّ(صلى الله عليه وآله) وسؤاله عن مدلول الآية فور نزولها وهل هي مشمولة بها أم لا؟ والجواب السلبي التي تلقّته عن سؤالها يدلّ على أنّها كانت تعيش وهماً ، وأنّ شبهة اعترتها وجعلتها تستفهم ، وما لذلك الوهم وتلك الشبهة من مدخل وعلّة إلاّ كونها انتزعت من عبارة «أهل البيت» التي جاءت في الآية مفهوم «الساكنين في بيتها» ، فحيث كان المراد من «أهل البيت» المجتمعين في بيتها فقد ظنّت أنّ الخطاب شملها أيضاً . وإن قيل: إنّ منشأ سؤال اُمّ سلمة هو انتزاعها معنى زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله) من عبارة «أهل البيت» وإنّ استفهامها كان من هذا المنطلق ، فإنّه مدفوع بكون احتمال شمول الآية لعموم الزوجات كان
(الصفحة 128)
منتفياً لدى اُمّ سلمة إذ استفهمت عن حالها فقط ، ولم تفرض بأيّ وجه أن تكون بقيّة الزوجات مشمولات أيضاً .
3 ـ إنّ آية التطهير ـ وفقاً للروايات المعتبرة والمشهورة ، وممّا تسالم عليه الجميع ـ تشمل شخص النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) أيضاً ، وحيث إنّ معنى عبارة «أهل البيت» وفقاً لجميع الوجوه الاُخرى غير قابل للانطباق على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فلا مناص من الإذعان بالمعنى القائل: إنّها تقصد المجتمعين في ذلك البيت المعيّن «بيت اُمّ سلمة» .
4 ـ لقد ذكرت عبارة «أهل البيت» في موضع آخر من القرآن الكريم ، وقد استُعملت في ذلك الموضع أيضاً بمعنى المجتمعين في أحد بيوت النبيّ إبراهيم(عليه السلام) ، إذ كان إبراهيم(عليه السلام) مختلياً بزوجته سارة في الحجرة ، فهبطت الملائكة المرسلة إلى لوط النبيّ في مهمّة ما وجعلت طريقها على دار إبراهيم ، هبطت على إبراهيم الذي كان واقفاً في داره بينما كانت زوجته سارة جالسة لتبشّرهما بحمل سارة وبمولود عزيز هو إسحاق وبحفيد عزيز يأتيهم من إسحاق! فتذهل سارة من هذه البشارة وكيفيّة تحقّقها في زوجين بلغا سن اليأس! فتجيب الملائكة عن سؤال سارة وعجبها
{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}(1) .(2)
- (1) هود : 73 .
- (2) إشارة إلى الآيات الكريمة (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُم لاَ تَصِلُ إِلَيهِ . . . إِنَّ هَذا لَشَيءٌ عَجِيبٌ)(هود: 70 ـ 72) التي ذكرت القصّة ، وتفصيلها في التفاسير ، وتعميماً للفائدة نلخّص ما جاء في إحداها ، ذكر صاحب الميزان أعلى الله مقامه أنّ الرسل هم الملائكة ، وظاهر السياق أنّ البشرى التي جاءت بها الرسل إبراهيم أنّها البشارة بإسحاق ، فتسالموا هم وإبراهيم ، ثمّ قدّم إليهم عجلاً مشويّاً فلم يأكلوا منه ، وذلك أمارة الشرّ ، فقالوا: (لاَ تَخَفْ إِنَّا اُرْسِلنَا إِلى قَوْمِ لُوط) فعلم أنّهم من الملائكة الكرام المنزّهين عن الأكل والشرب ، وبينما كان يكلِّمهم ويكلِّمونه في أمر الطعام وامرأته قائمة هناك تنظر إلى ما يجري بين إبراهيم وضيفيه وما كان يخطر ببالها شيء دون ذلك ، ففاجأها الحيض فبشّرتها الملائكة أنّها ستلد إسحاق ، وإسحاق سيولد له يعقوب ولد بعد ولد ، فعجبت واستنكرت ذلك فقالوا لها: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) . . . (الميزان في تفسير القرآن 10 : 332 ـ 337) .