(الصفحة 128)
منتفياً لدى اُمّ سلمة إذ استفهمت عن حالها فقط ، ولم تفرض بأيّ وجه أن تكون بقيّة الزوجات مشمولات أيضاً .
3 ـ إنّ آية التطهير ـ وفقاً للروايات المعتبرة والمشهورة ، وممّا تسالم عليه الجميع ـ تشمل شخص النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) أيضاً ، وحيث إنّ معنى عبارة «أهل البيت» وفقاً لجميع الوجوه الاُخرى غير قابل للانطباق على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، فلا مناص من الإذعان بالمعنى القائل: إنّها تقصد المجتمعين في ذلك البيت المعيّن «بيت اُمّ سلمة» .
4 ـ لقد ذكرت عبارة «أهل البيت» في موضع آخر من القرآن الكريم ، وقد استُعملت في ذلك الموضع أيضاً بمعنى المجتمعين في أحد بيوت النبيّ إبراهيم(عليه السلام) ، إذ كان إبراهيم(عليه السلام) مختلياً بزوجته سارة في الحجرة ، فهبطت الملائكة المرسلة إلى لوط النبيّ في مهمّة ما وجعلت طريقها على دار إبراهيم ، هبطت على إبراهيم الذي كان واقفاً في داره بينما كانت زوجته سارة جالسة لتبشّرهما بحمل سارة وبمولود عزيز هو إسحاق وبحفيد عزيز يأتيهم من إسحاق! فتذهل سارة من هذه البشارة وكيفيّة تحقّقها في زوجين بلغا سن اليأس! فتجيب الملائكة عن سؤال سارة وعجبها
{قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}(1) .(2)
- (1) هود : 73 .
- (2) إشارة إلى الآيات الكريمة (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُم لاَ تَصِلُ إِلَيهِ . . . إِنَّ هَذا لَشَيءٌ عَجِيبٌ)(هود: 70 ـ 72) التي ذكرت القصّة ، وتفصيلها في التفاسير ، وتعميماً للفائدة نلخّص ما جاء في إحداها ، ذكر صاحب الميزان أعلى الله مقامه أنّ الرسل هم الملائكة ، وظاهر السياق أنّ البشرى التي جاءت بها الرسل إبراهيم أنّها البشارة بإسحاق ، فتسالموا هم وإبراهيم ، ثمّ قدّم إليهم عجلاً مشويّاً فلم يأكلوا منه ، وذلك أمارة الشرّ ، فقالوا: (لاَ تَخَفْ إِنَّا اُرْسِلنَا إِلى قَوْمِ لُوط) فعلم أنّهم من الملائكة الكرام المنزّهين عن الأكل والشرب ، وبينما كان يكلِّمهم ويكلِّمونه في أمر الطعام وامرأته قائمة هناك تنظر إلى ما يجري بين إبراهيم وضيفيه وما كان يخطر ببالها شيء دون ذلك ، ففاجأها الحيض فبشّرتها الملائكة أنّها ستلد إسحاق ، وإسحاق سيولد له يعقوب ولد بعد ولد ، فعجبت واستنكرت ذلك فقالوا لها: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) . . . (الميزان في تفسير القرآن 10 : 332 ـ 337) .
(الصفحة 129)
فهل يصحّ أن نصرف المقصود من «أهل البيت» في هذه الآية إلى أهل القبلة أو زوجات إبراهيم(عليه السلام) أو أقربائه؟ من المقطوع به أنّ الجواب منفيّ . إنّ فصول القصة وتوالي أحداثها لممّا يقتضي هذا التعبير ويفرض استعمال مثل هذا الإطلاق ، فدخول الرسولين على شكل ضيفين وامتناعهما عن الأكل ، والخوف الذي انبعث في قلوب أهل البيت وأصحاب الدار من هذا الموقف ثم انكشاف العلّة في ذلك وكونهما من الملائكة جعل من هذا التعبير أفضل اسلوب وألطف وأبلغ عبارة لنقل بشارة البارئ تعالى لإبراهيم وسارة من خلال نسبته للدار والبيت الذي يأويان إليه لاستراحتهما .
5 ـ هناك شواهد من الأحاديث الشريفة تثبت المدّعى:
أ ) في رواية أحمد بن حنبل أنّ اُمّ سلمة قالت: كان النبيّ(صلى الله عليه وآله)في بيتي وكنت اُصلّي في مخدعي إذ نزلت آية التطهير
، فأدخلتُ رأسي في البيت فقلتُ: وأنا معكم يارسول الله؟(1) ويتّضح من هذا المقطع من الرواية أنّ البيت كان فيه مخدع ، وأنّ اُمّ سلمة كانت منشغلة فيه بالعبادة
- (1) المسند لأحمد بن حنبل 10: 177 ح26570 ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3: 492 .
(الصفحة 130)
حين نزول الآية ، فأطلّت برأسها من المخدع وسألت انضمامها وشمولها بالعناية الإلهية . وهذا يعني أنّ أمّ سلمة انتزعت من عبارة «أهل البيت» في الآية أنّ المجتمعين تحت ذلك السقف حظوا بالمكرمة ، فأرادت غيضاً من فيض ، فأطلّت برأسها وسألت النبيّ(صلى الله عليه وآله) : وأنا معكم؟ فإن لم تكن آية التطهير تشمل كلّ من كان في ذلك البيت ، وتحت ذلك السقف ما كانت أمّ سلمة لتطمع وتطمح في أن تشملها الآية هي أيضاً . إذن كلمة «البيت» في الرواية تُعدّ قرينة على أنّ المراد من «أهل البيت» في الآية هو عنوان أهل البيت المجتمعين في دار اُمّ سلمة والمتواجدين تحت ذلك السقف(1) .
ب ) جاء في رواية ابن جرير أنّ اُمّ سلمة قالت:
«وأنا جالسة على باب البيت فقلت أنا: يارسول الله ألست من أهل البيت؟» (2) ترى لِمَ كان سؤال اُمّ سلمة هذا؟ هل كانت في شكّ من كونها إحدى زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله)؟! كلاّ بطبيعة الحال ، ولكن وجه الاستفهام في سؤال اُمّ سلمة يفهم من كلامها ـ رضي الله عنها ـ حيث قالت: وأنا جالسة على باب البيت فقلت: يارسول الله أَلست من أهل البيت؟» تعني الساكنين والمجتمعين في تلك الدار وتحت سقف واحد .
وعلى هذا الأساس فهمت اُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ من كلمة «أهل البيت» هذه المجموعة المتواجدة تحت غطاء واحد . وبما أنّها كانت قريبة
- (1) راجع المراد من مصطلح «العنوان المشير» الذي جاء توضيحه في الصفحة 15 هامش 1 ، وسيأتي لاحقاً تفصيله .
- (2) جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري 22: 7 ، تفسير ابن كثير 3: 493 .
(الصفحة 131)
منهم ومجاورة لهم; لذلك استفسرت بأنّ الآية التي نزلت في هذه المجموعة تشملها أم لا .
احتمال وجيه في خروج اُمّ سلمة عن مورد الآية
يستفاد من الروايتين المذكورتين أنّ خروج اُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ عن مورد الآية لم يكن خروجاً تعبّدياً ، بل التقدير الإلهي والمشيئة الربّانية اقتضت أن تكون هذه المرأة خارج الدار في وقت نزول الآية المباركة «آية التطهير» ، وبالفعل كانت المرأة في ذلك الوقت خارج الدار أو مجاورة لها ، الأمر الذي دعاها أن تبذل جميع الجهود وتتوسّل بكلّ شيء لعلّها تحظى بهذا الشرف العظيم وتدخل ضمن عِداد المجتمعين تحت الكساء!
ولكن لا رادّ لقضاء الله ، حيث لم تكن اُمّ سلمة رغم عظمتها مؤهلة لحمل هذا الوسام الفاخر; ولذا كان الأجدر بها أن تنسحب من هذا الميدان وتتوجّه إلى الدعاء والتوسّل ، والشاهد الحي لهذا الاحتمال حديث جابر بن عبدالله الأنصاري ، هذا الرجل العظيم الذي كان يحمل بعض أسرار القرآن والعترة ، الذي يقول:
«نزلت هذه الآية على النبيّ(صلى الله عليه وآله) وليس في البيت إلاّ فاطمة والحسن والحسين وعليّ(عليهم السلام): {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله)
: اللّهم هؤلاء أهلي»(1) .
على هذا ، فإنّ زوجة النبيّ الفاضلة ليست من
«أهل البيت»(عليهم السلام)
- (1) شواهد التنزيل 2: 29 ح648 ، مجمع البيان 8 : 138 ، تفسير نور الثقلين 4: 277 .
(الصفحة 132)
«والعاقل تكفيه الإشارة» ، إذ لم تكن في الدار التي نزلت فيها الآية ، كما ظهرت في هذه الرواية أيضاً لفظة «البيت» كقرينة على أنّ المراد من أهل البيت هو بيت اُمّ سلمة .
تسمية جديدة
لقد كان هذا مفاد عبارة «أهل البيت» عند نزول الآية هو: «النازلون دار اُمّ سلمة ، المجتمعون في بيتها» ، ولكن بمرور الزمان وتقادم الأيّام أخذت العبارة لنفسها عنواناً تاريخياً .
فالحادثة في يومها الأوّل وقعت ـ باتفاق جميع العلماء المحقّقين من السنّة والشيعة ـ عندما اجتمع أربعة أشخاص بدعوة من النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله) في دار زوجته الفاضلة ، ولم تكن لائحة المدعوّين تتجاوز الأسماء المباركة ، لـ «عليّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)» ، ولم يكن من سبيل لتحديدهم وتعريفهم إلاّ إطلاق هذه الأسماء النورانية عليهم ، ولكن مع نزول الآية الشريفة بأمر البارئ عزّوجلّ وإرادته فقد خلع على هذه الثلّة المباركة أعظم فضيلة ومنقبة ، وصارت الألسن تتناقل تسميتهم الجديدة
«أهل البيت»(عليهم السلام) شيئاً فشيئاً حتّى تعيّن كعنوان أساسي لهم .
إنّ عبارة «أهل البيت» التي انبثقت كمعنى تاريخي من حادثة معيّنة ، تحوّلت بمرور الزمان إلى عنوان ولافتة مفعمة بالفخر والفضيلة ، وأصبحت متعيّنة في النبيّ وصهره وأبنائه ، ومن مختصّات ألقابهم صلوات الله عليهم أجمعين . وما هذا وذاك إلاّ لأهمّية الموقف والعظمة التي سجّلتها آية التطهير!