(الصفحة 133)
إنّ العبارة بحدّ ذاتها وبصرف النظر عن مدلولها المقترن بالمناسبة ، لا تحمل أيّة فضيلة ولا تعني أيّ تفوّق وكمال ممّا تحمله كلمات من قبيل «عالم ، عادل ، شجاع» ، ولكن مفاد آية التطهير المتدفّقة نوراً وفضيلة هو الذي خلع الفخر والعظمة على مصطلح «أهل البيت» وبلغ به قمّة تحكي معنى أكثر رقياً وسموّاً حتّى من تلك القمّة! وهذا هو السرّ في تحوّل الكلمة إلى عَلَم لهذه الثلّة المباركة .
إذن ، مع مرور الزمن ، بدأت تحفّ بهذه العبارة حيثية أخرى ، وصارت لها موضوعية مستمدّة من موضوع إثبات الفضيلة التي نطقت بها آية التطهير ، وصار «أهل البيت» اللقب الخاص لصفوة الله وخاصّته . ولم تجر كلمة أهل البيت على لسان النبيّ(صلى الله عليه وآله) كعنوان لأسرته قبل نزول آية التطهير في نطاق ما تحرّيناه ، ولكن بعد نزولها فقد تكرّر إطلاقه(صلى الله عليه وآله)هذا اللقب «أهل البيت» عند إرادته ذكر عليّ وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) ، وكأنّه(صلى الله عليه وآله) كان من البهجة والسرور بنزول آية التطهير بحيث كان يتحيّن الفرص ليستعيد ذكراها ويجدّد العهد بها ، فيكرّر ذكر عبارة «أهل البيت»! أو كأنّه يريد إخراج هذا المسمّى وما يعنيه من فضيلة وفخر لأعزائه الأربعة من خلال تكرار النداء والتصريح بهذا اللقب السامي والوسام الربّاني ، اللقب الذي يعادل الدنيا وما فيها ، ومن خلال ترديد الآية التي تضع عترته(صلى الله عليه وآله) في قمّة الهرم الإنساني ، حيث نشاهده(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن حين نزول الآية ولمدّة ستّة أشهر أو أكثر ، وحينما كان يخرج لأداء صلاة الصبح يجعل طريقه على دار
(الصفحة 134)
فاطمة(عليها السلام) وينادي بذلك النداء العظيم: «الصلاة يا أهل البيت»(1) .
نعم ، إنّ الادّعاء بأنَّ تقادم الزمن وحركة التاريخ لم يضفيا على أحد ـ ومن خلال آية التطهير ـ أيَّ فضيلة ولم يلبسا حُلّة الفخر والعزّ لأحد مهما كان ، ولم يظهرا له أيّ امتياز . نعم إنّ مثل هذا الادّعاء الواهي والتفكير المتشتّت والمبعثر بعيد عن روح الفضيلة وطلب الحقيقة ، إضافة إلى أنّه بعيد عن منهج العلماء ومنطق المحقّقين ، بل الواقع أنّ مرور الزمن وتعاقب الأيّام أزالا الستار عن الفضيلة التي اُريد لها أن تُحجب ، وأبرزاها على أحسن صورها وأجمل حالاتها . كما أظهر كلمة «أهل البيت» كعنوان ذهبي يزيّن صفحة التاريخ البشري . لقد كان الرسول(صلى الله عليه وآله)ومن خلال ترديده للآية المباركة يهدف إلى تحقيق عدّة أغراض:
الأوّل:
لكي لا يطمس هذا العنوان الذهبي والوسام الإلهي .
الثاني:
صيانة لهذا العنوان من سطو الطامعين ولصوص السياسة الذين يحاولون أن يتبرقعوا ويتزيّنوا بهذا الوسام العظيم والشرف الرفيع والذي لم يكونوا أهلاً له .
الثالث:
وليعلم الجاهلون بالحقائق القرآنية مَنْ هم أصحاب هذا العنوان الرفيع .
- (1) ذكر العلاّمة المجاهد عبد الحسين شرف الدين في رسالته «الكلمة الغرّاء» ص20 أنّه قد أخرج الإمام أحمد في ص568 ح14042 من الجزء الرابع من مسنده عن أنس بن مالك: أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمرّ بباب فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)وعن أبي الحمراء سبعة أشهر (جامع البيان في تفسير القرآن 22 : 6) ، وفي رواية ذكرها النبهاني وغيره ثمانية أشهر (الدرّ المنثور 5: 199) .
(الصفحة 135)
الرابع:
وليعلم العالم بأسره مَنْ هم أولئك القوم الذين نزلت في حقّهم آية التطهير ورفعتهم فوق ذرى المجد والفضيلة ، ونزّهتهم وإلى الأبد عن كلّ دنس وجهل وشكّ؟
وليعلم الجميع مَنْ هم قادة الإسلام الحقيقيّون ، وأيّ منزلة من منازل الفضيلة يرتقون؟
وليعلم أمثال عكرمة أنّ النظريات التي تفرزها نار العصبية والحقد والحسد لا تستطيع أن تحرف مسير الإنسانية الواعية والقلوب المؤمنة عن جادّة الحقّ والحقيقة .
وليعلم بعض المفسِّرين الذين ابتلوا بداء العصبية ، أنّ القرآن الكريم لا يخضع وبأيّ شكل من الأشكال لمثل تلك الأفكار والنظريات المنحرفة ، وأنّ هذا الكتاب المقدّس حصر طريق الوصول إلى الفضيلة به لا بسواه ، وأنّ تعاليمه الإلهية وقوانينه العالية لا تنسجم مع الأفكار المنبعثة عن الهوى ، والناجمة عن القناعات الشخصية والآراء الفردية .
وأخيراً لكي يتسلّح طالبو الحقيقة بالبرهان الساطع والدليل النيّر المستند إلى كلام سيّد المرسلين(صلى الله عليه وآله) .
ثمرة التحقيق :
إنّ هذا الأسلوب المبتكر في تحقيق كلمة «أهل البيت» جديرٌ أن يصون البحث ويخرجه من حالة القال والقيل ، وإنّ أخذ هذا الأسلوب بنظر الاعتبار واعتماد نتائجه يؤدّي إلى أن يصبح البحث والجدل في مفهوم «أهل البيت» لغواً لا فائدة فيه ، وأن لا موضوع حينئذ للبحث عن سعة وضيق هذا المفهوم ، من قبيل: ماذا تعني كلمة الأهل؟ ومَنْ هم
(الصفحة 136)
أهل البيت؟ وهل الآية تشمل نساء النبيّ أم لا؟ وكذلك التعصّب الفكري لحصر هذا المفهوم بنساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) . كلّ ذلك لا يتعدّى ـ بعد هذا التحقيق ـ عن كونه ادّعاءً فارغاً وأمراً عارياً عن الحقّ والحقيقة . وإذا كان هناك بحث في كلمة «أهل البيت» فيمكن أن يدّعى أنّ مصطلح «أهل البيت» قرينة لـ «أهل بيت النبوّة» ممّا يجعل دخول النساء في نطاقه أمراً له وجه ما; لأنّ التداول العرفي للعبارة يشمل النساء أيضاً ، ولكن التحقيق الدقيق حدّد كون «أهل البيت» في آية التطهير عنواناً مشيراً يقصد الخمسة المتميّزة المجتمعة في أحد بيوت النبيّ(صلى الله عليه وآله) في دار اُمّ سلمة ، تماماً كما هي عبارة «أصحاب الكساء» في كونها عنواناً مشيراً إلى العظماء الخمسة(عليهم السلام) .
إذن فكما أنّ أحداً من العلماء والمحقّقين ، وأيّاً من أهل الحلّ والعقد لم يبحث في مفهوم كلمة «الكساء» ، وتسالموا على أنّ «أصحاب الكساء» عنوان يشير إلى المجتمعين تحت ذلك الغطاء ، كذلك لا ينبغي البحث في مفهوم كلمة «أهل البيت» ، إذ لا أهمّية للكلمة بنفسها ، ولم تكن معنيّة في ذاتها ، إذ لم يكن مفهوم «أهل البيت» هو موضوع آية التطهير ، ولم يكن هذا المفهوم هو الذي نزلت الآية بعصمته وطهارته ، حتّى نبحث ـ بعد ذلك ـ في شمولها لزوجات النبيّ من عدمه؟
فهذه العبارة لم تكن إلاّ إشارة إلى الأشخاص الخمسة ، وحتّى اُمّ سلمة التي كانت شاهداً نزيهاً على الحدث بقيت مستثناة وخارجة عن كساء القدس الذي شمل تلك النخبة والصفوة . ولعلّ الأمر يقتضي مزيداً من التوضيح .
(الصفحة 137)مزيد من التوضيح
إنّ الأحكام والتبعات التي تُحمل على موضوع ما ، تُحمَل تارةً بصورة قضيّة حقيقيّة واُخرى على نحو القضيّة الخارجيّة ، كما يصطلح في لغة أهل الفنّ والاختصاص . ففي القضايا الخارجية قد يحدّد موضوع القضية الأشخاص المعينين في الخارج صراحة ، وقد يشير إليهم إشارة خاصّة تحت عنوان ما يرمز إليهم ويدلّ عليهم ولا يمكن أن يضمّ غيرهم .
على سبيل المثال قد يأخذ شكل القضية الصورة التالية: «يجب احترام العالم» هذه قضية حقيقية ، هنا يجب البحث في مفهوم العالم ، وعلى قدر ما يسع هذا المفهوم من مصاديق فيجب احترامهم ، أي كلّ من يكون عالماً فيجب احترامه .
وقد يأخذ شكل القضية صورة اُخرى وتكون على هذا النحو: «احترم زيداً وعمرواً» هذه قضية خارجية ، ومن يجب احترامه في هذه القضية هما زيد وعمرو ، اللذان هما اسما عَلَم لشخصين معيّنين ، وقد يقال في نفس هذه القضية الخارجية: «احترم الشخصين ذوي الجبّة الخضراء» ، والقضية هنا جعلت «الجبّة الخضراء» عنواناً يشير إلى زيد وعمرو ، ومن ينبغي احترامه في هذه القضية هما زيد وعمرو فقط ، ولا يصحّ بحال أن تكون «الجبّة الخضراء» محور البحث في هذه القضية! بحيث يُبحث في مفهوم «الجبّة» و«الخضراء» وفي إضافة الجبّة إلى الخضراء ، ثم يتمّ ـ في ضوء ذلك ـ استنتاج أيّ الناس يجب احترامهم؟!
إذن البحث في القضايا الحقيقية يتناول المفهوم ويتعرّض لطبيعة موضوع الحكم ، ولكن في القضايا الخارجية ـ سواء في حالة التصريح