قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
مجمع البيان ج : 8 ص : 692
و اليابس من الثمار كلها يتفكهون بها و يتنعمون بالتصرف فيها « و هم مكرمون »
مع ذلك أي معظمون مبجلون و ضد الإكرام الإهانة « في جنات النعيم » أي و هم مع ذلك
في بساتين فيها أنواع النعيم يتنعمون بها « على سرر » و هي جمع سرير « متقابلين »
يستمتع بعضهم بالنظر إلى وجوه بعض و لا يرى بعضهم قفا بعض « يطاف عليهم بكأس » و هو
الإناء بما فيه من الشراب « من معين » أي من خمر جارية في أنهار ظاهرة العيون عن
الحسن و قتادة و الضحاك و السدي و قيل شديد الجري ثم وصف الخمر فقال « بيضاء »
وصفها بالبياض لأنها في نهاية الرقة مع الصفاء و اللطافة النورية التي لها قال
الحسن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن و ذكر أن قراءة ابن مسعود صفراء فيحتمل أن يكون
بيضاء الكأس صفراء اللون « لذة » أي لذيذة « للشاربين » ليس فيها ما يعتري خمر
الدنيا من المرارة و الكراهة « لا فيها غول » أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها و لا
تصيبهم منها وجع في البطن و لا في الرأس و يقال للوجع غول لأنه يؤدي إلى الهلاك « و
لا هم عنها ينزفون » أي يسكرون و لا ينزفون لا يفنى خمرهم و تحمل هذه القراءة على
هذا لزيادة الفائدة و على القراءة الأولى فيحمل الغول على الصداع و الوجع و أذى
الخمار قال ابن عباس معناه و لا يبولون قال و في الخمر أربع خصال السكر و الصداع و
القيء و البول فنزه الله سبحانه خمر الجنة عن هذه الخصال « و عندهم قاصرات الطرف »
قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهن لحبهن إياهم و قيل معناه لا يفتحن أعينهن
دلالة و غنجا « عين » أي واسعات العيون و الواحدة عيناء و قيل هي الشديدة بياض
العين الشديدة سوادها عن الحسن « كأنهن بيض مكنون » شبههن ببيض النعام مكنة بالريش
من الغبار و الريح عن الحسن و ابن زيد و في معناه قول امرىء القيس : كبكر
المقاناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير محلل و قيل شبههن ببطن البيض قبل
أن يقشر و قبل أن تمسه الأيدي و المكنون المصون ثم قال « فأقبل بعضهم على بعض
يتساءلون » يعني أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم من حين بعثوا إلى أن أدخلوا
الجنة فيخبر كل صاحبه بأنعام الله تعالى عليه .
مجمع البيان ج : 8 ص : 693
قَالَ قَائلٌ مِّنهُمْ إِنى كانَ لى قَرِينٌ(51) يَقُولُ أَ ءِنَّك لَمِنَ
الْمُصدِّقِينَ(52) أَ ءِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظماً أَ ءِنَّا
لَمَدِينُونَ(53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطلِعُونَ(54) فَاطلَعَ فَرَءَاهُ فى سوَاءِ
الجَْحِيمِ(55) قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدت لَترْدِينِ(56) وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبى
لَكُنت مِنَ الْمُحْضرِينَ(57) أَ فَمَا نحْنُ بِمَيِّتِينَ(58) إِلا مَوْتَتَنَا
الأُولى وَ مَا نحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(59) إِنَّ هَذَا لهَُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ(60)
القراءة في الشواذ قراءة ابن عباس و ابن محيصن هل أنتم
مطلعون بالتخفيف فأطلع . الحجة الإطلاع الإقبال فعلى هذا يكون معناه
فهل أنتم مقبلون فأقبل و اطلع يكون مسندا إلى مصدره أي فأطلع الإطلاع كما يقال قد
قيم أي قد قيم القيام . الإعراب « إلا موتتنا الأولى » نصب بقوله «
ميتين » انتصاب المصدر بالفعل الواقع قبل كما تقول ما ضربت إلا ضربة واحدة و
التقدير فما نموت إلا موتتنا الأولى . المعنى هذا تمام الحكاية عن
أحوال أهل الجنة و إقبال بعضهم على بعض في المسائلة عن الأخبار و الأحوال « قال
قائل منهم » أي من أهل الجنة « إني كان لي قرين » في دار الدنيا أي صاحب يختص بي
إما من الإنس على قول ابن عباس أو من الشيطان على قول مجاهد « يقول » لي على وجه
الإنكار علي و التهجين لفعلي « أ إنك لمن المصدقين » بيوم الدين و بالبعث و النشور
و الحساب و الجزاء و الاستفهام هنا على وجه الإنكار « أ إذا متنا و كنا ترابا و
عظاما أ إنا لمدينون » أي مجزيون محاسبون من قولهم كما تدين تدان و المعنى أن ذلك
القرين كان يقول لي في الدنيا على طريق الاستبعاد و الاستنكار أ نبعث بعد أن صرنا
ترابا و عظاما بالية و نجازي على أعمالنا أي أن هذا لا يكون أبدا و هذا أبلغ في
النفي من أن يقول لا نبعث و لا نجازي « قال هل أنتم مطلعون » أي ثم قال هذا
مجمع البيان ج : 8 ص : 694
المؤمن لإخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون على
موضع من الجنة يرى منه هذا القرين يقال طلع على كذا إذا أشرف عليه و المعنى هل
تؤثرون أن تروا مكان هذا القرين في النار و في الكلام حذف أي فيقولون له نعم أطلع
أنت فأنت أعرف بصاحبك قال الكلبي و ذلك لأن الله تعالى جعل لأهل الجنة كوة ينظرون
منها إلى أهل النار « فاطلع فرآه » أي فاطلع هذا المؤمن فرأى قرينة « في سواء
الجحيم » أي في وسط النار « قال » أي فقال له المؤمن « تالله إن كدت لتردين » هذه
إن المخففة من الثقيلة بدلالة مصاحبة لام الابتداء لها في قوله « لتردين » أقسم
بالله سبحانه على وجه التعجب إنك كدت تهلكني بما قلته لي و دعوتني إليه حتى يكون
هلاكي كهلاك المتردي من شاهق و منه قوله و ما يغني عنه ماله إذا تردى أي تردى في
النار « و لو لا نعمة ربي » علي بالعصمة و اللطف و الهداية حتى آمنت « لكنت من
المحضرين » معك في النار و لا يستعمل أحضر مطلقا إلا في الشر قال قتادة فو الله لو
لا أن الله عرفه إياه لما كان يعرفه لقد تغير حبره و سبره أي حسنه و سحناؤه « أ فما
نحن بميتين إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين » معناه أن هذا المؤمن يقول لهذا
القرين على وجه التوبيخ و التقريع أ ليس كنت في الدنيا تقول أنا لا نموت إلا الموتة
التي تكون في الدنيا و لا نعذب فقد ظهر الأمر بخلاف ذلك و قيل أن هذا من قول أهل
الجنة بعضهم لبعض على وجه إظهار السرور بدوام نعيم الجنة و لهذا عقبه بقوله « إن
هذا لهو الفوز العظيم » معناه فما نحن بميتين في هذه الجنة إلا موتتنا التي كانت في
الدنيا و ما نحن بمعذبين كما وعدنا الله تعالى و يريدون به التحقيق لا الشك و إنما
قالوا هذا القول لأن لهم في ذلك سرورا مجددا و فرحا مضاعفا و إن كانوا قد عرفوا
أنهم سيخلدون في الجنة و هذا كما أن الرجل يعطي المال الكثير فيقول مستعجبا كل هذا
المال لي و هو يعلم أن ذلك له و هذا كقوله : أ بطحاء مكة هذا الذي أراه
عيانا و هذا أنا . لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَمِلُونَ(61) أَ ذَلِك
خَيرٌ نُّزُلاً أَمْ شجَرَةُ الزَّقُّومِ(62) إِنَّا جَعَلْنَهَا فِتْنَةً
لِّلظلِمِينَ(63) إِنَّهَا شجَرَةٌ تخْرُجُ فى أَصلِ الجَْحِيمِ(64) طلْعُهَا
كَأَنَّهُ رُءُوس الشيَطِينِ(65) فَإِنهُمْ لاَكلُونَ مِنهَا فَمَالِئُونَ مِنهَا
الْبُطونَ(66) ثمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيهَا لَشوْباً مِّنْ حَمِيم(67) ثمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لالى الجَْحِيمِ(68) إِنهُمْ أَلْفَوْا ءَابَاءَهُمْ ضالِّينَ(69)
فَهُمْ عَلى ءَاثَرِهِمْ يهْرَعُونَ(70)
مجمع البيان ج : 8 ص : 695
اللغة النزل الريع و الفضل يقال لهذا الطعام نزل و نزل و قيل هي الأنزال
التي يتقوت بها فتقيم الأبدان و تبقي عليها الأرواح و يقال أقمت للقوم نزلهم أي ما
يصلح أن ينزلوا عليه من الغذاء و زعم قطرب أن الزقوم شجرة مرة تكون بتهامة قال أبو
مسلم و ظاهر التلاوة يدل على أن العرب كانت لا تعرفها فلذلك فسر بعد ذلك . و
الطلع حمل النخلة سمي بذلك لطلوعه و الشوب خلط الشيء بما ليس منه و هو شر منه .
و الحميم الحار الذي يدنو من الإحراق المهلك قال : أحم الله ذلك من لقاء
أحاد أحاد في الشهر الحلال أي أدناه و حمم ريش الفرخ حين يدنو من الطيران و
الحميم الصديق القريب أي الداني من القلب و هرع الرجل و أهرع إذا استحث فأسرع قال
الأزهري الإهراع الإسراع و المهرع الحريص . المعنى ثم قال سبحانه في
تمام الحكاية عن قول أهل الجنة « لمثل هذا فليعمل العاملون » أي لمثل هذا الثواب و
الفوز و الفلاح فليعمل العاملون في دار التكليف و قيل إن هذا من قول الله تعالى أي
لمثل هذا النعيم الذي ذكرناه و هو من قوله لهم رزق معلوم إلى قول بيض مكنون فليعمل
العاملون هذا ترغيب في طلب الثواب بالطاعة أي من كان يريد أن يعمل لنفع يرجوه
فليعمل لمثل هذا النفع العظيم « أ ذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم » أي أ ذلك الذي
ذكرناه من قرى أهل الجنة و ما أعد لهم خير في باب الأنزال التي يتقوت بها و يمكن
معها الإقامة أم نزل أهل النار فيها عن الزجاج و قيل معناه أ سبب هذا المؤدي إليه
خير أم سبب ذلك لأن الزقوم لا خير فيه و قيل إنما جاز ذلك لأنهم لما عملوا بما أدى
إليه فكأنهم قالوا فيه خير و قيل إنما قال خير على وجه المقابلة فهم مثل قوله أصحاب
الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا و هذا كما يقول الرجل لعبده إن فعلت كذا
أكرمتك و إن فعلت كذا
مجمع البيان ج : 8 ص : 696
ضربتك هذا خير أم ذلك و إن
لم يكن في الضرب خيرا و الزقوم ثمر شجرة متكمرة جدا من قولهم تزقم هذا الطعام إذا
تناوله على تكره و مشقة شديدة و قيل الزقوم شجرة في النار يقتاتها أهل النار لها
ثمرة مرة خشنة اللمس منتنة الرائحة و قيل إنها معروفة من شجر الدنيا تعرفها العرب و
قيل إنها لا تعرفه فقد روي أن قريشا سمعت هذه الآية قالت ما نعرف هذه الشجرة فقال
ابن الزبعري الزقوم بكلام البربر التمر و الزبد و في رواية بلغة اليمن فقال أبو جهل
لجاريته يا جارية زقمينا فأتته الجارية بتمر و زبد فقال لأصحابه تزقموا بهذا الذي
يخوفكم به محمد فيزعم أن النار تنبت الشجرة و النار تحرق الشجرة فأنزل الله سبحانه
« إنا جعلناها فتنة للظالمين » أي خبرة لهم افتتنوا بها و كذبوا بكونها فصارت فتنة
لهم عن قتادة و الزجاج و قيل إن المراد بالفتنة العذاب أي جعلناها شدة عذاب لهم من
قوله يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون عن الجبائي و أبي مسلم « إنها شجرة تخرج من
أصل الجحيم » أي إن الزقوم شجرة تنبت في قعر جهنم و أغصانها ترفع إلى دركاتها عن
الحسن و لا يبعد أن يخلق الله سبحانه بكمال قدرته شجرة في النار من جنس النار أو من
جوهر لا تأكله النار و لا تحرقه كما أنها لا تحرق السلاسل و الأغلال فيها و كما لا
تحرق حياتها و عقاربها و كذلك الضريع و ما أشبه ذلك « طلعها كأنه رءوس الشياطين »
يسأل عن هذا فيقال كيف شبه طلع هذه الشجرة برءوس الشياطين و هي لا تعرف و إنما يشبه
الشيء بما يعرف و أجيب عنه بثلاثة أجوبة ( أحدها ) أن رءوس الشياطين ثمرة يقال لها
الأستن و إياه عنى النابغة بقوله : تحيد عن أستن سود أسافله مثل الإماء
اللواتي تحمل الحزما و هذه الشجرة تشبه بني آدم قال الأصمعي و يقال له الصوم و أنشد
: موكل بشدوف الصوم يرقبه من المعارم مهضوم الحشا زرم يصف وعلا يظن هذا
الشجر قناصين فهو يرقبه و الشدوف الشخوص واحدها شدف ( و ثانيا ) أن الشيطان جنس من
الحيات فشبه سبحانه طلع تلك الشجرة برءوس تلك الحيات أنشد الفراء :
مجمع البيان
ج : 8 ص : 697
عنجرد تحلف حين أحلف كمثل شيطان الحماط أعرف أي له عرف و
أنشد المبرد : و في البقل إن لم يدفع الله شره شياطين يعدو بعضهن على بعض (
و ثالثها ) أن قبح صور الشياطين متصور في النفوس و لذلك يقولون لما يستقبحونه جدا
كأنه شيطان فشبه سبحانه طلع هذه الشجرة بما استقرت بشاعته في قلوب الناس قال الراجز
: أبصرتها تلتهم الثعبانا شيطانة تزوجت شيطانا و قال أبو النجم : الرأس
قمل كله و صئبان و ليس في الرجلين إلا خيطان و هي التي يفزع منها الشيطان و قال
امرؤ القيس : أ تقتلني و المشرفي مضاجعي و مسنونة زرق كأنياب أغوال فشبه
أسنته بأنياب الأغوال و لم يقل أحد أنه رأى الغول و هذا قول ابن عباس و محمد ابن
كعب القرظي و قال الجبائي إن الله تعالى يشوه خلق الشياطين في النار حتى أنه لو
رآهم راء من العباد لاستوحش منهم فلذلك شبه برءوسهم « فإنهم لآكلون منها » يعني أن
أهل النار ليأكلون من ثمرة تلك الشجرة « فمالئون منها البطون » أي يملئون بطونهم
منها لشدة ما يلحقهم من ألم الجوع و قد روي أن الله تعالى يجوعهم حتى ينسوا عذاب
النار من شدة الجوع فيصرخون إلى مالك فيحملهم إلى تلك الشجرة و فيهم أبو جهل
فيأكلون منها فتغلي بطونهم كغلي الحميم فيستسقون فيسقون شربة من الماء الحار الذي
بلغ نهايته في الحرارة فإذا قربوها من وجوههم شوت وجوههم فذلك قوله يشوي الوجوه
فإذا وصل إلى بطونهم صهر ما في بطونهم كما قال سبحانه يصهر به ما في بطونهم و
الجلود فذلك شرابهم و طعامهم
مجمع البيان ج : 8 ص : 698
فذلك قوله « ثم إن
لهم عليها » زيادة على شجرة الزقوم « لشوبا من حميم » أي خليطا و مزاجا من ماء حار
يمزج ذلك الطعام بهذا الشراب و قيل إنهم يكرهون على ذلك عقوبة لهم « ثم إن مرجعهم »
بعد أكل الزقوم و شراب الحميم « لألى الجحيم » و ذلك أنهم يوردون الحميم لشربه و هو
خارج عن الجحيم كما تورد الإبل إلى الماء ثم يردون إلى الجحيم و يدل على ذلك قوله
يطوفون بينها و بين حميم آن و الجحيم النار الموقدة و المعنى أن الزقوم و الحميم
طعامهم و شرابهم و الجحيم المسعرة منقلبهم و مأواهم « إنهم ألفوا آباءهم ضالين » أي
إن هؤلاء الكفار صادفوا آباءهم ذاهبين عن الحق و الدين « فهم على آثارهم يهرعون »
في الضلال أي يقلدونهم و يتبعونهم اتباعا في سرعة و قيل معناه يسرعون عن ابن عباس و
الحسن و قيل يعملون بمثل أعمالهم عن الكلبي و قيل يستحثون عن أبي عبيدة . وَ
لَقَدْ ضلَّ قَبْلَهُمْ أَكثرُ الأَوَّلِينَ(71) وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا فِيهِم
مُّنذِرِينَ(72) فَانظرْ كيْف كانَ عَقِبَةُ الْمُنذَرِينَ(73) إِلا عِبَادَ
اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(74) وَ لَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ
الْمُجِيبُونَ(75) وَ نجَّيْنَهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76) وَ
جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ(77) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فى
الاَخِرِينَ(78) سلَمٌ عَلى نُوح فى الْعَلَمِينَ(79) إِنَّا كَذَلِك نجْزِى
الْمُحْسِنِينَ(80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(81) ثمَّ أَغْرَقْنَا
الاَخَرِينَ(82)
المعنى ثم أقسم سبحانه فقال « و لقد » اللام هي التي تدخل
في جواب القسم و قد للتأكيد « ضل قبلهم » أي قبل هؤلاء الكفار الذين هم في عصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن طريق الهدى و اتباع الحق « أكثر الأولين » من
الأمم الخالية و الأكثر هو الأعظم في العدد و الأول هو الكائن قبل غيره و الأول قبل
كل شيء هو الله سبحانه لأن كل ما سواه موجود بعده و في هذه الآية
مجمع البيان ج
: 8 ص : 699
دلالة على أن أهل الحق في كل زمان كانوا أقل من أهل الباطل « و لقد
أرسلنا فيهم منذرين » من الأنبياء و المرسلين يخوفونهم من عذاب الله تعالى و
يحذرونهم معاصيه « فانظر كيف كان عاقبة المنذرين » أي من المكذبين المعاندين للحق و
المعنى فانظر يا محمد كيف أهلكتهم و ما ذا حل بهم من العذاب و كذلك يكون عاقبة
المكذبين ثم استثنى من المنذرين فقال « إلا عباد الله المخلصين » الذين قبلوا من
الأنبياء و أخلصوا عبادتهم لله تعالى فإن الله خلصهم من ذلك العذاب و وعدهم بجزيل
الثواب « و لقد نادانا نوح » أي دعانا نوح بعد ما يئس من إيمان قومه لننصره عليهم و
ذلك قوله أني مغلوب فانتصر « فلنعم المجيبون » نحن لنوح في دعائه أجبناه إلى ما سأل
و خلصناه من أذى قومه بإهلاكهم و قيل هو على العموم أي فلنعم المجيبون نحن لمن
دعانا « و نجيناه و أهله من الكرب العظيم » أي من المكروه الذي كان ينزل به من قومه
و الكرب كل غم يصل حره إلى الصدر و أصل النجاة من النجوة للمكان المرتفع فهي الرفع
من الهلاك و أهله هم الذين نجوا معه في السفينة « و جعلنا ذريته هم الباقين » بعد
الغرق فالناس كلهم بعد نوح من ولد نوح عن ابن عباس و قتادة فالعرب و العجم من أولاد
سام بن نوح و الترك و الصقالبة و الخزر و يأجوج و مأجوج من أولاد يافث بن نوح و
السودان من أولاد حام بن نوح قال الكلبي لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من
الرجال و النساء إلا ولده و نساؤهم « و تركنا عليه في الآخرين » أي تركنا عليه ذكرا
جميلا و أثنينا عليه في أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فحذف عن ابن عباس و
مجاهد و قتادة و معنى تركنا أبقينا قال الزجاج معناه تركنا على الذكر الجميل إلى
يوم القيامة و ذلك الذكر قوله « سلام على نوح في العالمين » أي تركنا عليه أن يصلي
عليه إلى يوم القيامة فكأنه قال و تركنا عليه التسليم في الآخرين ثم فسر التسليم
بقوله « سلام على نوح في العالمين » و قال الفراء تركنا عليه قولا و هو أن يقال في
آخر الأمم سلام على نوح في العالمين قال الكلبي معناه سلامة منا على نوح و هذا هو
السلام و المراد بقوله اهبط بسلام منا و بركات عليك « إنا كذلك نجزي المحسنين » أي
جزيناه ذلك الثناء الحسن في العالمين بإحسانه عن مقاتل و قيل إن معناه مثل ما فعلنا
بنوح نجزي كل من أحسن بأفعال الطاعات و تجنب المعاصي و نكافيهم بإحسانهم « إنه من
عبادنا المؤمنين » يعني نوحا و هذه الآية تتضمن مدح المؤمنين حيث خرج من بينهم مثل
نوح « ثم أغرقنا الآخرين » أي من لم يؤمن به و المعنى ثم أخبركم إني أغرقت الآخرين
. النظم الوجه في اتصال قصة نوح و الأنبياء بما قبلها تسلية النبي (صلى
الله عليهوآلهوسلّم) في كفر قومه بأن حالهم معه شبيهة بحال من تقدم من الأمم مع
أنبيائهم و تحذير القوم عن سلوك مثل طريقتهم لئلا يعاقبوا بمثل عقوبتهم .
مجمع البيان ج : 8 ص : 700
* وَ إِنَّ مِن شِيعَتِهِ لابْرَهِيمَ(83)
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سلِيم(84) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا ذَا
تَعْبُدُونَ(85) أَ ئفْكاً ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ(86) فَمَا ظنُّكم
بِرَب الْعَلَمِينَ(87) فَنَظرَ نَظرَةً فى النُّجُومِ(88) فَقَالَ إِنى سقِيمٌ(89)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ(90) فَرَاغَ إِلى ءَالِهَتهِمْ فَقَالَ أَ لا
تَأْكلُونَ(91) مَا لَكمْ لا تَنطِقُونَ(92) فَرَاغَ عَلَيهِمْ ضرْبَا
بِالْيَمِينِ(93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ(94) قَالَ أَ تَعْبُدُونَ مَا
تَنْحِتُونَ(95) وَ اللَّهُ خَلَقَكمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ(96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ
بُنْيَناً فَأَلْقُوهُ فى الجَْحِيمِ(97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فجَعَلْنَهُمُ
الأَسفَلِينَ(98) وَ قَالَ إِنى ذَاهِبٌ إِلى رَبى سيهْدِينِ(99) رَب هَب لى مِنَ
الصلِحِينَ(100)
القراءة قرأ حمزة وحده يزفون بضم الياء و الباقون بفتحها و
في الشواذ قراءة الحسن فراغ عليهم سفقا و قراءة عبد الله بن زيد يزفون خفيفة الفاء
. الحجة زفت الإبل تزف إذا أسرعت و قراءة حمزة يزفون أي يحملون غيرهم
على الزفيف قال الأصمعي أزففت الإبل حملتها على أن تزف و هو سرعة المشي و مقاربة
الخطو و المفعول محذوف على قراءته و قيل أيضا أن أزف لغة في زف و لما يزفون
بالتخفيف فذهب قطرب إلى أنها تخفيف يزفون كقوله و قرن في بيوتكن أي اقررن قال
الهذلي : و زفت الشول من برد العشي كما زف النعام إلى حفانه الروح
مجمع
البيان ج : 8 ص : 701
و الظاهر أن يزفون من وزف يزف مثل وعد يعد و أما قوله
سفقا فهو من قولهم سفقت الباب و صفقته و الصاد أعرف و روي عن الحسن بالصاد أيضا .
اللغة الشيعة الجماعة التابعة لرئيس لهم و صار بالعرف عبارة عن شيعة
علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذين كانوا معه على أعدائه و بعده مع من قام مقامه
من أبنائه و روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال ليهنكم الاسم قلت و ما هو
قال الشيعة قلت إن الناس يعيروننا بذلك قال أما تسمع قول الله سبحانه « و إن من
شيعته لإبراهيم » و قوله فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه و الروغ الميل من
جهة إلى جهة يقال راغ يروغ روغا و روغانا أي حاد و الرواغ الحياد قال عدي بن زيد :
حين لا ينفع الرواغ و لا ينفع إلا المصادق النحرير . الإعراب
آلهة بدل من قوله « إفكا » و إفكا مفعول تريدون . « فما ظنكم » ما مبتدأ و
ظنكم خبره و قوله « ضربا » مصدر فعل محذوف و التقدير يضربهم ضربا و الباء في قوله «
باليمين » متعلق بذلك المحذوف و « يزفون » حال من أقبلوا « و الله خلقكم » في موضع
نصب على الحال من تعبدون و التقدير أ تعبدون ما تنحتون مخلوقين . « هب لي »
مفعوله محذوف أي ولدا . المعنى ثم أتبعه سبحانه و تعالى بقصة إبراهيم
(عليه السلام) فقال « و إن من شيعته لإبراهيم » أي و إن من شيعة نوح إبراهيم يعني
أنه على منهاجه و سنته في التوحيد و العدل و اتباع الحق عن مجاهد و قيل إن معناه و
إن من شيعة محمد إبراهيم كما قال أنا حملنا ذريتهم أي ذرية من هو أب لهم فجعلهم
ذرية لهم و قد سبقوهم عن الفراء « إذ جاء ربه بقلب سليم » أي حين صدق الله و آمن به
بقلب سليم خالص من الشرك بريء من المعاصي و الغل و الغش ، على ذلك عاش و عليه مات و
قيل بقلب سليم من كل ما سوى الله تعالى لم يتعلق بشيء غيره عن أبي عبد الله (عليه
السلام) « إذ قال لأبيه و قومه » حين رآهم يعبدون الأصنام من دون الله على وجه
التهجين لفعالهم و التقريع لهم « ما ذا تعبدون » أي أي شيء تعبدون « أ إفكا آلهة »
الإفك هو أشنع الكذب و أفظعه و أصله قلب الشيء عن جهته التي هي له فلذلك كان الكذب
إفكا و إنما قال آلهة على اعتقاد المشركين و توهمهم الفاسد في إلهية الأصنام لما
اعتقدوا أنها تستحق العبادة ثم أكد التقريع بقوله « دون الله تريدون » أي تريدون
عبادة آلهة دون عبادة الرحمن فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه لأن الإرادة لا
يصح تعلقها إلا
مجمع البيان ج : 8 ص : 702
بما يصح حدوثه و الأجسام مما لا
يصح أن تراد « فما ظنكم برب العالمين » أن يصنع بكم مع عبادتكم غيره و قيل معناه
كيف تظنون برب تأكلون رزقه و تعبدون غيره و قيل معناه ما تظنون بربكم إنه على أي
صفة و من أي جنس من أجناس الأشياء حين شبهتم به هذه الأصنام و فيه إشارة إلى أنه لا
يشبه شيئا « فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم » اختلف في معناه على أقوال ( أحدها
) أنه (عليه السلام) نظر في النجوم فاستدل بها على وقت حمى كانت تعتاده فقال « إني
سقيم » أراد أنه قد حضر وقت علته و زمان نوبتها فكأنه قال إني سأسقم لا محالة و حان
الوقت الذي تعتريني فيه الحمى و قد يسمى المشارف للشيء باسم الداخل فيه قال الله
تعالى إنك ميت و إنهم ميتون و لم يكن نظره في النجوم على حسب ما ينظره المنجمون
طلبا للأحكام و مثله قول الشاعر : اسهري ما سهرت أم حكيم و اقعدي مرة لذاك
و قومي و افتحي الباب و انظري في النجوم كم علينا من قطع ليل بهيم ( و
ثانيها ) أنه نظر في النجوم كنظرهم لأنهم كانوا يتعاطون علم النجوم فأوهمهم أنه
يقول بمثل قولهم فقال عند ذلك « إني سقيم » فتركوه ظنا منهم أن نجمة يدل على سقمه و
يجوز أن يكون الله تعالى أعلمه بالوحي أنه سيسقمه في وقت مستقبل و جعل العلامة على
ذلك إما طلوع نجم على وجه مخصوص أو اتصاله ب آخر على وجه مخصوص فلما رأى إبراهيم
تلك الأمارة قال « إني سقيم » تصديقا بما أخبره الله تعالى ( و ثالثها ) أن معناه
نظر في النجوم نظر تفكر فاستدل بها كما قصة الله تعالى في سورة الأنعام على كونها
محدثة غير قديمة و لا آلهة و أشار بقوله « إني سقيم » على أنه في حال مهلة النظر و
ليس على يقين من الأمر و لا شفاء من العلم و قد يسمى الشك بأنه سقم كما يسمى العلم
بأنه شفاء و إنما زال عنه هذا السقم عند زوال الشك و كمال المعرفة عن أبي مسلم و
هذا الوجه ضعيف لأن سياق الآية يمنع منه فإن قوله « إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال
لأبيه و قومه ما ذا تعبدون » إلى هذا الموضع من قصته يبين أنه (عليه السلام) لم يكن
في زمان مهلة النظر و أنه كان كامل المعرفة خالص اليقين و البصيرة ( و رابعها ) أن
معنى قوله « إني سقيم » إني سقيم القلب أو الرأي حزنا من إصرار القوم على عبادة
الأصنام و هي لا تسمع و لا تبصر و يكون على هذا معنى نظره في النجوم فكرته في أنها
محدثة مخلوقة مدبرة و تعجبه كيف ذهب على العقلاء ذلك من حالها حتى عبدوها و ما رواه
العياشي بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا و الله ما
كان سقيما و ما كذب فيمكن أن يحمل على أحد الوجوه التي ذكرناها و يمكن أن يكون على
وجه التعريض بمعنى أن كل من كتب عليه
مجمع البيان ج : 8 ص : 703
الموت فهو
سقيم و إن لم يكن به سقم في الحال و ما روي أن إبراهيم (عليه السلام) كذب ثلاث
كذبات قوله « إني سقيم » و قوله بل فعله كبيرهم هذا و قوله في سارة أنها أختي فيمكن
أن يحمل أيضا على المعاريض أي سأسقم و فعله كبيرهم على ما ذكرناه في موضعه و سارة
أخته في الدين و قد ورد في الخبر إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب و المعاريض أن
يقول الرجل شيئا يقصد به غيره و يفهم عنه غير ما يقصده و لا يكون ذلك كذبا فإن
الكذب قبيح بعينه و لا يجوز ذلك على الأنبياء لأنه يرفع الثقة بقولهم جل أمناء الله
تعالى و أصفياؤه عن ذلك و قوله « فتولوا عنه مدبرين » إخبار عن قومه أنهم لما سمعوا
قوله « إني سقيم » تركوه و أعرضوا عنه و خرجوا إلى عيدهم « فراغ إلى آلهتهم » معناه
فمال إلى أصنامهم التي كانوا يدعونها آلهة « فقال أ لا تأكلون » خاطبها و إن كانت
جمادا على وجه التهجين لعابديها و تنبيههم على أن من لا يتكلم و لا يقدر على الجواب
كيف تصح عبادتها و كانوا صنعوا للأصنام طعاما تقربا إليها و تبركا بها فلما لم
تجيبوه قال « ما لكم لا تنطقون » زيادة في تهجين عابديها كأنهم حاضرون لها أي ما
لكم لا تجيبون و في هذا تنبيه على أنها جماد لا تأكل و لا تنطق فهي أخس الأشياء و
أقلها « فراغ عليهم ضربا باليمين » أي فمال على الأصنام يضربها و يكسرها باليد
اليمني لأنها أقوى على العمل عن الربيع بن أنس و قيل المراد باليمين القوة كما في
قوله : تلقاها عرابة باليمين عن الفراء و هو قول السدي و قيل معناه بالقسم الذي
سبق منه و هو قوله و تالله لأكيدن أصنامكم « فأقبلوا إليه يزفون » أي أقبلوا بعد
الفراغ من عيدهم إلى إبراهيم يسرعون عن الحسن و ابن زيد و قيل يزفون زفيف النعام و
هو حالة بين المشي و العدو عن مجاهد و في هذا دليل أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم
بأصنامهم فقصدوه مسرعين و حملوه إلى بيت أصنامهم و قالوا له أنت فعلت هذا بإلهتنا
فأجابهم على وجه الحجاج عليهم بأن « قال أ تعبدون ما تنتحون » فهو استفهام معناه
الإنكار و التوبيخ أي كيف يصح أن يعبد الإنسان ما يعمله بيده فإنهم كانوا ينحتون
الأصنام بأيديهم « و الله خلقكم و ما تعملون » أي و خلق ما علمتم من الأصنام فكيف
تدعون عبادته و تعبدون معمولكم و هذا كما يقال فلان يعمل الحصير و هذا الباب من عمل
فلان النجار قال الحسن معناه و خلق أصل الحجارة التي تعملون منها الأصنام و هذا
يجري مجرى قوله تلقف ما يأفكون و قوله تلقف ما صنعوا في أنه أراد المنحوت من الجسم
هنا دون العرض الذي هو النحت كما أراد هناك المأفوك فيه و المصنوع فيه من الحبال و
العصي دون العرض الذي هو فعلهم فليس لأهل الجبر تعلق بهذه الآية في الدلالة على أن
الله سبحانه خالق لأفعال العباد لأن من المعلوم أن الكفار لم يعبدوا نحتهم
مجمع
البيان ج : 8 ص : 704
الذي هو فعلهم و إنما كانوا يعبدون الأصنام التي هي
الأجسام و قوله « ما تنحتون » هو ما يعملون في المعنى على أن مبنى الآية على
التقريع للكفار و الإزراء عليهم بقبيح فعلهم و لو كان معناه و الله خلقكم و خلق
عبادتكم لكانت الآية إلى أن تكون عذرا لهم أقرب من أن تكون لوما و تهجينا و لكان
لهم أن يقولوا و لم توبخنا على عبادتها و الله تعالى هو الفاعل لذلك فتكون الحجة
لهم لا عليهم و لأنه قد أضاف العمل إليهم بقوله « تعملون » فكيف يكون مضافا إلى
الله تعالى و هذا تناقض و لما لزمتهم الحجة « قالوا ابنوا له بنيانا » قال ابن عباس
بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا و عرضه عشرون ذراعا و ملاءوه نارا
و طرحوه فيها و ذلك قوله « فألقوه في الجحيم » قال الزجاج كل نار بعضها فوق بعض فهي
جحيم و قيل إن الجحيم النار العظيمة « فأرادوا به كيدا » أي حيلة و تدبيرا في
إهلاكه و إحراقه بالنار « فجعلناهم الأسفلين » بأن أهلكناهم و نجينا إبراهيم و
سلمناه و رددنا كيدهم عنه و قيل بأن أشرفوا عليه فرأوه سالما و تحققوا أن كيدهم لا
ينفذ فيه و علموا أنهم مغلوبون « و قال » إبراهيم « إني ذاهب إلى ربي » قال ابن
عباس معناه مهاجر إلى ربي أي أهجر ديار الكفار و أذهب إلى حيث أمرني الله تعالى
بالذهاب إليه و هي الأرض المقدسة و قيل إني ذاهب إلى مرضاة ربي بعملي و نيتي عن
قتادة « سيهدين » أي يهديني ربي فيما بعد إلى طريق المكان الذي أمرني بالمصير إليه
أو إلى الجنة بطاعتي إياه قال مقاتل و هو أول من هاجر و معه لوط و سارة إلى الشام و
إنما قال « سيهدين » ترغيبا لمن هاجر معه في الهجرة و توبيخا لقومه فلما قدم الأرض
المقدسة سأل إبراهيم ربه الولد فقال « رب هب لي من الصالحين » أي ولدا صالحا من
الصالحين كما تقول أكلت من الطعام فحذف لدلالة الكلام عليه . فَبَشرْنَهُ
بِغُلَم حَلِيم(101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعْىَ قَالَ يَبُنىَّ إِنى أَرَى فى
الْمَنَامِ أَنى أَذْبحُك فَانظرْ مَا ذَا تَرَى قَالَ يَأَبَتِ افْعَلْ مَا
تُؤْمَرُ ستَجِدُنى إِن شاءَ اللَّهُ مِنَ الصبرِينَ(102) فَلَمَّا أَسلَمَا وَ
تَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103) وَ نَدَيْنَهُ أَن يَإِبْرَهِيمُ(104) قَدْ صدَّقْت
الرُّءْيَا إِنَّا كَذَلِك نجْزِى الْمُحْسِنِينَ(105) إِنَّ هَذَا لهَُوَ
الْبَلَؤُا الْمُبِينُ(106) وَ فَدَيْنَهُ بِذِبْح عَظِيم(107) وَ تَرَكْنَا
عَلَيْهِ فى الاَخِرِينَ(108) سلَمٌ عَلى إِبْرَهِيمَ(109) كَذَلِك نجْزِى
الْمُحْسِنِينَ(110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(111) وَ بَشرْنَهُ
بِإِسحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصلِحِينَ(112) وَ بَرَكْنَا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسحَقَ
وَ مِن ذُرِّيَّتِهِمَا محْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ(113)
مجمع
البيان ج : 8 ص : 705
القراءة قرأ أهل الكوفة غير عاصم ما ذا تري بضم التاء
و كسر الراء و الباقون بفتح التاء و الراء و في الشواذ قراءة الأعمش و الضحاك بضم
التاء و فتح الراء و روي عن علي (عليه السلام) و ابن مسعود و ابن عباس و مجاهد و
الضحاك و الأعمش و جعفر بن محمد فلما سلما بغير ألف و لام مشددة .
الحجة
قال أبو علي من فتح التاء فقال « ما ذا ترى » كان مفعول ترى أحد الشيئين إما أن
يكون ما ذا في موضع نصب بأنه مفعول و يكون بمنزلة اسم واحد و إما أن يكون ذا بمنزلة
الذي فيكون مفعول ترى الهاء المحذوفة من الصلة و يكون ترى على هذا معناها الرأي و
ليس إدراك الحاسة كما تقول فلان يرى رأي أبي حنيفة و إذا جعلت ذا بمعنى الذي صار
تقديره ما الذي تراه فيصير ما في موضع ابتداء و الذي في موضع خبره و يكون المعنى ما
الذي تذهب إليه فيما ألقيت إليك هل تستسلم له و تتلقاه بالقبول أو تأتي غير ذلك و
من قرأ ما ذا تري فيجوز أن يكون ما مع ذا بمنزلة اسم واحد فيكونا في موضع نصب و
المعنى أ جلدا ترى على ما تحمل عليه أم خوار أو يجوز أن يكون ما مبتدأ و ذا بمعنى
الذي و يعود إليه الذكر المحذوف من الصلة و الفعل منقول من رأى زيد الأمر و أريته
الشيء إلا أنه من باب أعطيت فيجوز الاقتصار على أحد المفعولين دون الآخر كما أن
أعطيت كذلك و لو ذكرت المفعول الآخر كان أريت زيدا خالدا و قال ابن جني من قرأ ما
ذا ترى فالمعنى ما ذا يلقى إليك و يوقع في خاطرك و من قرأ « ما ذا ترى » فالمعنى ما
ذا تشير به و تدعو إلى العمل بحسبه و هو من قولك ما رأيك في كذا و منه قوله لتحكم
بين الناس بما أراك الله أي بما يحضرك إياه الرأي و الخاطر و أما قوله « أسلما »
فمعناه فوضا و أطاعا و أما سلما فمن التسليم أي سلما أنفسهما و أراهما كالتسليم
باليد لما أمرا به و لم يخالفا ما أريد منهما من إجماع إبراهيم الذبح و إسحاق أو
إسماعيل الصبر . اللغة التل الصرع و منه التل من التراب جمعه تلول و
التليل العنق لأنه يتل و الجبين
مجمع البيان ج : 8 ص : 706
ما عن يمين
الجبهة و شمالها و للوجه جبينان الجبهة بينهما و الذبح بكسر الذال المهيا لأن يذبح
و بفتح الذال المصدر .
الإعراب اختلف في جواب لما من قوله « فلما أسلما
» فقيل هو محذوف و تقديره فلما أسلما و تله للجبين و ناديناه فازا و ظفرا بما أرادا
و قيل جوابه ناديناه و الواو زائدة . نبيا منصوب بأنه حال من « بشرناه » و ذو
الحال إسحاق . المعنى ثم أخبر سبحانه أنه استجاب لإبراهيم دعاءه بقوله
« فبشرناه بغلام حليم » أي بابن وقور عن الحسن قال و ما سمعت الله تعالى نحل عباده
شيئا أجل من الحلم و الحليم الذي لا يعجل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه و قيل
الذي لا يعجل بالعقوبة قال الزجاج و هذه البشارة تدل على أن الغلام يبقى حتى ينتهي
في السن و يوصف بالحلم ثم أخبر سبحانه أن الغلام الذي بشره به ولد له و ترعرع بقوله
« فلما بلغ معه السعي » أي شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم عن مجاهد و المعنى بلغ إلى
أن يتصرف و يمشي معه و يعينه على أموره قالوا و كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة و قيل
يعني بالسعي العمل لله و العبادة عن الحسن و الكلبي و ابن زيد و مقاتل « قال يا بني
إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى » معنى رأى في الكلام على خمسة أوجه (
أحدها ) أبصر ( و الثاني ) علم نحو رأيت زيدا عالما ( و الثالث ) ظن كقوله تعالى
إنهم يرونه بعيدا و نراه قريبا ( و الرابع ) اعتقد نحو قوله : و إنا لقوم ما
نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر و سلول ( و الخامس ) بمعنى الرأي نحو رأيت هذا
الرأي و أما رأيت في المنام فمن رؤية البصر فمعنى الآية أن إبراهيم قال لابنه إني
أبصرت في المنام رؤيا تأويلها الأمر بذبحك فانظر ما ذا تراه أو أي شيء ترى من الرأي
و لا يجوز أن يكون ترى هاهنا بمعنى تبصر لأنه لم يشر إلى شيء يبصر بالعين و لا يجوز
أن يكون بمعنى علم أو ظن أو اعتقد لأن هذه الأشياء تتعدى إلى مفعولين و ليس هنا إلا
مفعول واحد مع استحالة المعنى فلم يبق إلا أن يكون من الرأي و الأولى أن يكون الله
تعالى قد أوحى إليه في حال اليقظة و تعبده بأن يمضي ما يأمره به في حال نومه من حيث
إن منامات الأنبياء لا تكون إلا صحيحة و لو لم يأمره بذلك في حال اليقظة لما كان
يجوز أن يعمل على ما يراه في المنام و قال سعيد بن جبير عن ابن عباس منامات
الأنبياء وحي و قال قتادة رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئا فعلوه و قال أبو مسلم
رؤيا الأنبياء مع أن
مجمع البيان ج : 8 ص : 707
جميعها صحيحة ضربان (
أحدهما ) أن يأتي الشيء كما رأوه و منه قوله سبحانه لقد صدق الله رسوله الرؤيا
بالحق لتدخلن المسجد الحرام الآية ( و الآخر ) أن يكون عبارة عن خلاف الظاهر مما
رأوه في المنام و ذلك كرؤيا يوسف الأحد عشر كوكبا و الشمس و القمر ساجدين و كان
رؤيا إبراهيم من هذا القبيل لكنه لم يأمن أن يكون ما رآه مما يلزمه العمل به على
الحقيقة و لا يسعه غير ذلك فلما أسلما أعلمه الله سبحانه أنه صدق الرؤيا بما فعله و
فدى ابنه من الذبح بالذبح « قال يا أبت افعل ما تؤمر » أي ما أمرت به « ستجدني إن
شاء الله من الصابرين » أي ستصادفني بمشيئة الله و حسن توفيقه ممن يصبر على الشدائد
في جنب الله و يسلم لأمره « فلما أسلما » أي استسلما لأمر الله و رضيا به و أطاعاه
و قيل معناه سلم الأب ابنه لله و سلم الابن نفسه لله « و تله للجبين » أي اضطجعه
على جبينه عن الحسن و قيل معناه وضع جبينه على الأرض لئلا يرى وجهه فتلحقه رقة
الآباء عن ابن عباس و روي أنه قال اذبحني و أنا ساجد لا تنظر إلى وجهي فعسى أن
ترحمني فلا تذبحني « و ناديناه أن يا إبراهيم » تقديره ناديناه بأن يا إبراهيم أي
بهذا الضرب من القول « قد صدقت الرؤيا » أي فعلت ما أمرت به في الرؤيا « إنا كذلك
نجزي المحسنين » أي كما جزيناه بالعفو عن ذبح ابنه نجزي من سلك طريقهما في الإحسان
بالاستسلام و الانقياد لأمر الله « إن هذا لهو البلاء المبين » أي إن هذا لهو
الامتحان الظاهر و الاختبار الشديد و قيل إن هذا لهو النعمة الظاهرة و تسمى النعمة
بلاء بسببها المؤدي إليها كما يقال لأسباب الموت هي الموت لأنها تؤدي إليه و اختلف
العلماء في الذبيح على قولين ( أحدهما ) أنه إسحاق و روي ذلك عن علي (عليه السلام)
و ابن مسعود و قتادة و سعيد بن جبير و مسروق و عكرمة و عطا و الزهري و السدي و
الجبائي و القول الآخر أنه إسماعيل عن ابن عباس و ابن عمر و سعيد بن المسيب و الحسن
و الشعبي و مجاهد و الربيع بن أنس و الكلبي و محمد بن كعب القرظي و كلا القولين قد
رواه أصحابنا عن أئمتنا (عليهم السلام) إلا أن الأظهر في الروايات أنه إسماعيل و
يعضده قوله بعد قصة الذبح « و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين » و من قال إنه بشر
بنبوة إسحاق فقد ترك الظاهر و لأنه قال في موضع آخر فبشرناها بإسحاق و من وراء
إسحاق يعقوب فبشره بإسحاق و بأنه سيولد له يعقوب فكيف يبشره بذرية إسحاق ثم يأمره
بذبح إسحاق مع ذلك و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال أنا ابن
الذبيحين و لا خلاف أنه من ولد إسماعيل و الذبيح الآخر هو عبد الله أبوه و حجة من
قال إنه إسحاق أن أهل الكتابين أجمعوا على ذلك و جوابه أن إجماعهم ليس بحجة و قولهم
غير مقبول و روى محمد ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال كنت عند عمر بن عبد
العزيز فسألني عن الذبيح فقلت إسماعيل و استدللت بقوله « و بشرناه بإسحاق نبيا من
الصالحين » فأرسل إلى رجل بالشام
مجمع البيان ج : 8 ص : 708
كان يهوديا
فأسلم و حسن إسلامه و كان يرى أنه من علماء اليهود فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك
و أنا عنده فقال إسماعيل ثم قال و الله يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك و
لكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أبوكم الذي كان من أمر الله فيه ما كان فهم
يجحدون ذلك و يزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم و قال الأصمعي سألت أبا عمرو بن
العلاء عن الذبيح إسحاق أم إسماعيل فقال يا أصمعي أين ذهب عنك عقلك و متى كان إسحاق
بمكة و إنما كان بمكة إسماعيل و هو بنى البيت مع أبيه و المنحر بمكة لا شك فيه و قد
استدل بهذه الآية من أجاز نسخ الشيء قبل وقت فعله فقال إن الله تعالى نهاه عن ذبحه
بعد أن أمره به و قد أجيب عن ذلك بأجوبة ( أحدها ) أنه سبحانه لم يأمر إبراهيم
بالذبح الذي هو فري الأوداج و إنما أمره بمقدمات الذبح من الإضجاع و تناول المدية و
ما يجري مجرى ذلك و العرب قد تسمي الشيء باسم مقدماته و لهذا قال « قد صدقت الرؤيا
» و لو كان أمره بالذبح لكان إنما صدق بعض الرؤيا و أما الفداء بالذبح فلما كان
يتوقعه من الأمر بالذبح و لا يمتنع أيضا أن يكون فدية عن مقدمات الذبح لأن الفدية
لا يجب أن تكون من جنس المفدي أ لا ترى أن حلق الرأس قد يفدي بدم ما يذبح و كذلك
لبس الثوب المخيط و الجماع و غير ذلك ( و ثانيها ) أنه (عليه السلام) إنما أمر
بصورة الذبح و قد فعله لأنه فرى أوداج ابنه و لكنه كلما فرى جزءا منه و جاوزه إلى
غيره عاد في الحال ملتحما فإن قلت إن حقيقة الذبح هو قطع مكان مخصوص تزول معه
الحياة فالجواب أن ذلك غير مسلم لأنه يقال ذبح هذا الحيوان و لم يمت بعد و لو سلمنا
أن حقيقة الذبح ذلك لكان لنا أن نحمل الذبح على المجاز للدليل الدال عليه ( و
ثالثها ) أن الله تعالى أمره بالذبح إلا أنه سبحانه جعل على عنقه صفحة من نحاس و
كلما أمر إبراهيم السكين عليه لم يقطع أو كان كلما اعتمد على السكين انقلب على
اختلاف الرواية فيه و هذا التأويل يسوغ إذا قلنا إنه كان مأمورا بما يجري مجرى
الذبح و لا يسوغ إذا قلنا إنه أمر بحقيقة الذبح لأنه يكون تكليف لما لا يطاق ثم قال
سبحانه « و فديناه بذبح عظيم » الفداء جعل الشيء مكان الشيء لدفع الضرر عنه و الذبح
هو المذبوح و ما يذبح و معناه أنا جعلنا الذبح بدلا عنه كالأسير يفدي بشيء و اختلف
في الذبح فقيل كان كبشا من الغنم عن ابن عباس و مجاهد و الضحاك و سعيد بن جبير قال
ابن عباس هو الكبش الذي تقبل من هابيل حين قربه و قيل فدي بوعل أهبط عليه من ثبير
عن الحسن و لم سمي عظيما فيه خلاف قيل لأنه كان مقبولا عن مجاهد و قيل لأن قدر غيره
من الكباش يصغر بالإضافة إليه و قيل لأنه رعى في الجنة أربعين خريفا عن سعيد
مجمع البيان ج : 8 ص : 709
ابن جبير و قيل لأنه كان من عند الله كونه و لم
يكن عن نسل و قيل لأنه فداء عبد عظيم « و تركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم
كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين » قد مضى تفسير ذلك « و بشرناه بإسحاق »
أي بولادة إسحاق « نبيا من الصالحين » أي ولدا نبيا من جملة الأنبياء الصالحين و
هذا ترغيب في الصلاح بأن مدح مثله في جلالته بالصلاح و من قال إن الذبيح إسحاق قال
يعني بشرناه بنبوة إسحاق و آتينا إسحاق النبوة بصبره « و باركنا عليه و على إسحاق »
أي و جعلنا فيما أعطيناهما من الخير و البركة يعني النماء و الزيادة و معناه و
جعلنا ما أعطيناهما من الخير دائما ثابتا ناميا و يجوز أن يكون أراد كثرة ولدهما و
بقاءهم قرنا بعد قرن إلى أن تقوم الساعة « و من ذريتهما » أي و من أولاد إبراهيم و
إسحاق « محسن » بالإيمان و الطاعة « و ظالم لنفسه » بالكفر و المعاصي « مبين » بين
الظلم .
[ القصة ] من ذهب إلى الذبيح إسحاق ذكر أن إبراهيم لما فارق
قومه مهاجرا إلى الشام هاربا بدينه كما حكى الله سبحانه عنه بقوله إني ذاهب إلى ربي
سيهدين دعا الله سبحانه أن يهب له ولدا ذكرا من سارة فلما نزل به أضيافه من
الملائكة المرسلين إلى المؤتفكة و بشروه بغلام حليم قال إبراهيم حين بشر به هو إذا
له ذبيح فلما ولد الغلام و بلغ معه السعي قيل له أوف بنذرك الذي نذرت فكان هذا هو
السبب في أمره (عليه السلام) بذبح ابنه فقال إبراهيم (عليه السلام) عند ذلك لإسحاق
انطلق نقرب قربانا لله و أخذ سكينا و حبلا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال
قال له الغلام يا أبة أين قربانك فقال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك إلى
آخره عن السدي و قيل إن إبراهيم رأى في المنام أن يذبح ابنه إسحاق و قد كان حج
بوالدته سارة و أهله فلما انتهى إلى منى رمى الجمرة هو و أهله و أمر سارة فزارت
البيت و احتبس الغلام فانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى فاستشاره في نفسه فأمره
الغلام أن يمضي ما أمره الله و سلما لأمر الله فأقبل شيخ فقال يا إبراهيم ما تريد
من هذا الغلام قال أريد أن أذبحه فقال سبحان الله تريد أن تذبح غلاما لم يعص الله
طرفة عين قط قال إبراهيم إن الله أمرني بذلك قال ربك ينهاك عن ذلك و إنما أمرك بهذا
الشيطان فقال إبراهيم لا و الله فلما عزم على الذبح قال الغلام يا أبتا خمر وجهي و
شد وثاقي قال إبراهيم يا بني الوثاق مع الذبح و الله لا أجمعهما عليك اليوم و رفع
رأسه إلى السماء ثم انحنى عليه بالمدية و قلب جبرائيل المدية على قفاها و اجتر
الكبش من قبل ثبير و اجتر الغلام من تحته و وضع الكبش مكان الغلام و نودي من ميسرة
مسجد الخيف يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا بإسحاق إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو
البلاء المبين قال و لحق إبليس بأم الغلام حين زارت البيت
مجمع البيان ج : 8 ص
: 710
فقال لها ما شيخ رأيته بمنى قالت ذاك بعلي قال فوصيف رأيته قالت ذاك ابني
قال فإني رأيته و قد أضجعه و أخذ المدية ليذبحه قالت كذبت إبراهيم أرحم الناس فكيف
يذبح ابنه قال فو رب السماء و رب هذه الكعبة قد رأيته كذلك قالت و لم قال زعم أن
ربه أمره بذلك قالت حق له أن يطيع ربه فوقع في نفسها أنه قد أمر في ابنها بأمر فلما
قضت نسكها أسرعت في الوادي راجعة إلى منى واضعة يديها على رأسها و هي تقول يا رب لا
تؤاخذني بما عملت بأم إسماعيل فلما جاءت سارة و أخبرت الخبر قامت إلى ابنها تنظر
فرأت إلى أثر السكين خدشا في حلقه ففزعت و اشتكت و كانت بدو مرضها الذي هلكت به
رواه العياشي و علي بن إبراهيم بالإسناد في كتابيهما و من قال أن الذبيح إسماعيل
فمنهم محمد بن إسحاق بن يسار و ذكر أن إبراهيم كان إذ زار إسماعيل و هاجر حمل على
البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة يروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى إذا بلغ
معه السعي رأى في المنام أن يذبحه فقال له يا بني خذ الحبل و المدية ثم انطلق بنا
إلى هذا الشعب لنحتطب فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله
عنه فقال يا أبت اشدد رباطي حتى لا اضطرب و اكفف عني ثيابك حتى لا تنتضح من دمي
شيئا فتراه أمي و اشحذ شفرتك و أسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت
شديد فقال له إبراهيم نعم العون أنت يا بني على أمر الله ثم ذكر نحوا مما تقدم ذكره
و روى العياشي بإسناده عن بريدة بن معاوية العجلي قال قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام) كم كان بين بشارة إبراهيم (عليه السلام) بإسماعيل (عليه السلام) و بين
بشارته بإسحاق قال كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه فبشرناه بغلام حليم
يعني إسماعيل و هي أول بشارة بشر الله بها إبراهيم في الولد و لما ولد لإبراهيم
إسحاق من سارة و بلغ إسحاق ثلاث سنين أقبل إسماعيل (عليه السلام) إلى إسحاق و هو في
حجر إبراهيم فنحاه و جلس في مجلسه فبصرت به سارة فقالت يا إبراهيم ينحي ابن هاجر
ابني من حجرك و يجلس هو في مكانه لا و الله لا تجاورني هاجر و ابنها في بلاد أبدا
فنحهما عني و كان إبراهيم مكرما لسارة يعزها و يعرف حقها و ذلك لأنها كانت من ولد
الأنبياء و بنت خالته فشق ذلك على إبراهيم و اغتم لفراق إسماعيل (عليه السلام) فلما
كان في الليل أتى إبراهيم آت من ربه فأراه الرؤيا في ذبح ابنه إسماعيل بموسم مكة
فأصبح إبراهيم حزينا للرؤيا التي رآها فلما حضر موسم ذلك العام حمل إبراهيم هاجر و
إسماعيل في ذي الحجة من أرض الشام فانطلق بهما إلى مكة ليذبحه في الموسم فبدأ
بقواعد البيت الحرام فلما رفع قواعده خرج إلى منى حاجا و قضى نسكه بمنى و رجع إلى
مكة فطافا بالبيت أسبوعا ثم انطلقا إلى السعي فلما صارا في المسعى قال إبراهيم
(عليه السلام) لإسماعيل (عليه السلام) يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك في موسم
عامي هذا فما ذا ترى قال يا
مجمع البيان ج : 8 ص : 711
أبت افعل ما تؤمر
فلما فرغا من سعيهما انطلق به إبراهيم إلى منى و ذلك يوم النحر فلما انتهى به إلى
الجمرة الوسطى و أضجعه لجنبه الأيسر و أخذ الشفرة ليذبحه نودي أن يا إبراهيم قد
صدقت الرؤيا إلى آخره و فدي إسماعيل بكبش عظيم فذبحه و تصدق بلحمه على المساكين و
عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سألته عن كبش إبراهيم (عليه السلام)
ما كان لونه قال أملح أقرن و نزل من السماء على الجبل الأيمن من مسجد منى بحيال
الجمرة الوسطى و كان يمشي في سواد و يأكل في سواد و ينظر في سواد و يبعر في سواد و
يبول في سواد و عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سأل عن صاحب
الذبح قال هو إسماعيل و عن زياد بن سوقة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سألته عن
صاحب الذبح فقال إسماعيل (عليه السلام) . وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ
هَرُونَ(114) وَ نجَّيْنَهُمَا وَ قَوْمَهُمَا مِنَ الْكرْبِ الْعَظِيمِ(115) وَ
نَصرْنَهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغَلِبِينَ(116) وَ ءَاتَيْنَهُمَا الْكِتَب
الْمُستَبِينَ(117) وَ هَدَيْنَهُمَا الصرَط الْمُستَقِيمَ(118) وَ تَرَكْنَا
عَلَيْهِمَا فى الاَخِرِينَ(119) سلَمٌ عَلى مُوسى وَ هَرُونَ(120) إِنَّا كذَلِك
نجْزِى الْمُحْسِنِينَ(121) إِنهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(122)
اللغة أصل المن القطع و منه قوله لهم أجر غير ممنون أي غير مقطوع و حبل
منين أي منقطع و النصر المعونة إلا أن كل نصر معونة و ليس كل معونة نصرا لأن النصر
يختص بالمعونة على الأعداء و المعونة عامة . المعنى ثم عطف سبحانه على
ما تقدم بذكر موسى و هارون فقال « و لقد مننا على موسى و هارون » أي أنعمنا عليهما
نعما قطعت عنهما كل أذية فمنها النبوة و منها النجاة من آل فرعون و منها سائر النعم
الدينية و الدنياوية « و نجيناهما و قومهما » بني إسرائيل « من الكرب العظيم » من
تسخير قوم فرعون إياهم و استعمالهم في الأعمال الشاقة و قيل من الغرق « و نصرناهم »
على فرعون و قومه « فكانوا هم الغالبين » القاهرين بعد أن كانوا مغلوبين مقهورين «
و آتيناهما الكتاب المستبين » يعني التوراة الداعي إلى نفسه بما فيه من البيان و
كذلك كل كتب الله تعالى بهذه الصفة « و هديناهما الصراط المستقيم » أي دللناهما على
الطريق
|