قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
مجمع
البيان ج : 9 ص : 79
فَلَمَّا ءَاسفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ
فَأَغْرَقْنَهُمْ أَجْمَعِينَ(55) فَجَعَلْنَهُمْ سلَفاً وَ مَثَلاً
لِّلاَخِرِينَ(56) * وَ لَمَّا ضرِب ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُك مِنْهُ
يَصِدُّونَ(57) وَ قَالُوا ءَ أَلِهَتُنَا خَيرٌ أَمْ هُوَ مَا ضرَبُوهُ لَك إِلا
جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ(58) إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ
وَ جَعَلْنَهُ مَثَلاً لِّبَنى إِسرءِيلَ(59) وَ لَوْ نَشاءُ لجََعَلْنَا مِنكم
مَّلَئكَةً فى الأَرْضِ يخْلُفُونَ(60)
القراءة قرأ حمزة و الكسائي سلفا
بضم السين و اللام و قرأ الباقون بفتحهما و قرأ أهل المدينة و ابن عامر و الأعشى و
البرجمي و الكسائي و خلف يصدون بضم الصاد و الباقون بكسر الصاد . الحجة
من قرأ سلفا جاز أن يكون جمعا لسلف مثل أسد و أسد و وثن و وثن و من قرأ « سلفا
» فلأن فعلا قد جاء في حروف يراد بها الكثرة فكأنه اسم من أسماء الجمع قالوا خادم و
خدم و طالب و طلب و حارس و حرس و كذلك المثل واحد يراد به الجمع و لذلك عطف على سلف
في قوله « فجعلناهم سلفا و مثلا » و معنى يصدون و « يصدون » جميعا يضجون عن أبي
عبيدة قال و الكسر أجود و يقال صد عن كذا فيوصل بعن كما قال الشاعر : صددت
الكأس عنا أم عمرو و كان الكأس مجراها اليمينا و صدوا عن سبيل الله فمن ذهب في
يصدون إلى معنى يعدلون كان المعنى إذا قومك منه أي من أجل المثل يصدون و لم يوصل
يصدون بعن و من قال يصدون يضجون جعل من متصلة بيضج كما تقول يضج من كذا و قال بعض
المفسرين معنى يصدون يضجون و المعنى أنه لما نزل إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب
جهنم الآية لأنها اتخذت آلهة و عبدت فعيسى في حكمهم قال و لما ضرب ابن مريم مثلا
إذا قومك في هذا الذي قالوه منه
مجمع البيان ج : 9 ص : 80
يضحكون لما أتوا
به من عندهم من تسويتهم بين عيسى و بين آلهتهم و ما ضربوه إلا إرادة للمجادلة لأنهم
قد علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوا من الموات . اللغة يقال آسفه
فأسف يأسف أسفا أي أغضبه فغضب و أحزنه فحزن و يقال الأسف الغيظ من المغتم إلا أنه
هاهنا بمعنى الغضب و السلف المتقدم على غيره قبل مجيء وقته و منه السلف في البيع و
السلف نقيض الخلف و الجدل مقابل الحجة بالحجة و قيل الجدل اللدد في الخصام و أصله
من جدل الحبل و هو شدة فتله و رجل مجدول الخلق أي شديدة و قيل أصله من الجدالة و هي
الأرض كان كل واحد من الخصمين يروم إلقاء صاحبه على الجدالة . المعنى
ثم أخبر سبحانه عن انتقامه من فرعون و قومه فقال « فلما آسفونا » أي أغضبونا عن
ابن عباس و مجاهد و غضب الله سبحانه على العصاة إرادة عقوبتهم و رضاه عن المطيعين
إرادة ثوابهم الذي يستحقونه على طاعتهم و قيل معناه آسفوا رسلنا لأن الأسف بمعنى
الحزن لا يجوز على الله سبحانه « انتقمنا منهم » أي انتقمنا لأوليائنا منهم «
فأغرقناهم أجمعين » ما نجا منهم أحد « فجعلناهم سلفا » أي متقدمين إلى النار « و
مثلا » أي عبرة و موعظة « للآخرين » أي لمن جاء بعدهم يتعظون بهم و المعنى أن حال
غيرهم يشبه حالهم إذا أقاموا على العصيان « و لما ضرب ابن مريم مثلا » اختلف في
المراد به على وجوه ( أحدها أن معناه و لما وصف ابن مريم شبها في العذاب بالآلهة أي
فيما قالوه على زعمهم و ذلك أنه لما نزل قوله « إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب
جهنم » قال المشركون قد رضينا بأن تكون آلهتنا حيث يكون عيسى و ذلك قوله « إذا قومك
منه يصدون » أي يضجون ضجيج المجادلة حيث خاصموك و هو قوله « و قالوا أ آلهتنا خير
أم هو » أي ليست آلهتنا خيرا من عيسى فإن كان عيسى في النار بأنه يعبد من دون الله
فكذلك آلهتنا عن ابن عباس و مقاتل ( و ثانيها ) أن معناه لما ضرب الله المسيح مثلا
ب آدم في قوله « إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب » أي من قدر على أن
ينشىء آدم من غير أب و أم قادر على إنشاء المسيح من غير أب اعترض على النبي (صلى
الله عليهوآلهوسلّم) بذلك قوم من كفار قريش فنزلت هذه الآية ( و ثالثها ) أن معناه
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما مدح المسيح و أمه و أنه ك آدم في الخاصية
قالوا إن محمدا يريد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى عن قتادة ( و رابعها ) ما رواه
سادة أهل البيت عن علي عليهم أفضل الصلوات أنه قال جئت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يوما فوجدته في ملأ من قريش فنظر إلي ثم قال يا علي إنما مثلك في
هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم أحبه قوم فأفرطوا في حبه فهلكوا و أبغضه قوم فأفرطوا
في بغضه فهلكوا و اقتصد فيه قوم فنجوا فعظم
مجمع البيان ج : 9 ص : 81
ذلك
عليهم فضحكوا و قالوا يشبهه بالأنبياء و الرسل فنزلت الآية « و قالوا أ آلهتنا خير
أم هو » أي آلهتنا أفضل أم المسيح فإذا كان المسيح في النار رضينا أن تكون آلهتنا
معه عن السدي و ابن زيد و قيل معناه أن آلهتنا خير من المسيح فإذا عبد المسيح جاز
أن تعبد آلهتنا عن الجبائي و قيل هو كناية عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و
المعنى آلهتنا خير من محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هو يأمرنا بأن نعبده كما عبد
النصارى المسيح و نطيعه و نترك آلهتنا عن قتادة و قال علي بن عيسى معنى سؤالهم
بقولهم « أ آلهتنا خير أم هو » أنهم ألزموا ما لا يلزم على ظن منهم و توهم كأنهم
قالوا و مثلنا فيما نعبد مثل ما يعبد المسيح فأيما خير عبادة آلهتنا أم عبادة
المسيح على أنه إن قال عبادة المسيح أقر بعبادة غير الله و كذلك أن قال عبادة
الأوثان و إن قال ليس في عبادة المسيح خير قصر به عن المنزلة التي أبين لأجلها من
سائر العباد و جوابهم عن ذلك أن اختصاص المسيح بضرب من التشريف و الإنعام عليه لا
يوجب العبادة له كما لا يوجب أن ينعم عليه بأعلى مراتب النعمة « ما ضربوه لك إلا
جدلا » أي ما ضربوا هذا المثل لك إلا ليجادلوك به و يخاصموك و يدفعوك به عن الحق
لأن المتجادلين لا بد أن يكون أحدهما مبطلا بخلاف المتناظرين لأن المناظرة قد تكون
بين المحقين « بل هم قوم خصمون » أي جدلون في دفع الحق بالباطل ثم وصف سبحانه
المسيح فقال « إن هو إلا عبد أنعمنا عليه » أي ما هو إلا عبد أنعمنا عليه بالخلق من
غير أب و بالنبوة « و جعلناه مثلا لبني إسرائيل » أي آية لهم و دلالة يعرفون بها
قدرة الله تعالى على ما يريد حيث خلقه من غير أب فهو مثل لهم يشبهون به ما يرون من
أعاجيب صنع الله ثم قال سبحانه دالا على كمال قدرته و على أنه لا يفعل إلا الأصلح «
و لو نشاء لجعلنا منكم » أي بدلا منكم معاشر بني آدم « ملائكة في الأرض يخلفون »
بني آدم أي يكونون خلفاء منهم و المعنى لو نشاء أهلكناكم و جعلنا الملائكة بدلكم
سكان الأرض يعمرونها و يعبدون الله و مثل قوله « منكم » في الآية ما في قول الشاعر
: فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على الطهيان و قيل معناه و لو نشاء
لجعلناكم أيها البشر ملائكة فيكون من باب التجريد و فيه إشارة إلى قدرته على تغيير
بنية البشر إلى بنية الملائكة « يخلفون » أي يخلف بعضهم بعضا .
مجمع البيان
ج : 9 ص : 82
وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلساعَةِ فَلا تَمْترُنَّ بهَا وَ
اتَّبِعُونِ هَذَا صِرَطٌ مُّستَقِيمٌ(61) وَ لا يَصدَّنَّكُمُ الشيْطنُ إِنَّهُ
لَكمْ عَدُوُّ مُّبِينٌ(62) وَ لَمَّا جَاءَ عِيسى بِالْبَيِّنَتِ قَالَ قَدْ
جِئْتُكم بِالْحِكْمَةِ وَ لأُبَينَ لَكُم بَعْض الَّذِى تخْتَلِفُونَ فِيهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ(63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبى وَ رَبُّكمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَطٌ مُّستَقِيمٌ(64) فَاخْتَلَف الأَحْزَاب مِن بَيْنهِمْ
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْم أَلِيم(65)
القراءة
في
الشواذ قراءة ابن عباس و قتادة و الضحاك و أنه لعلم بفتح العين و اللام أي أمارة و
علامة . المعنى ثم رجع سبحانه إلى ذكر عيسى (عليه السلام) فقال « و إنه
لعلم للساعة » يعني أن نزول عيسى (عليه السلام) من أشراط الساعة يعلم بها قربها «
فلا تمترن بها » أي بالساعة فلا تكذبوا بها و لا تشكوا فيها عن ابن عباس و قتادة و
مجاهد و الضحاك و السدي و قال ابن جريح أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله
يقول سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم
تعال صل بنا فيقول : لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة من الله لهذه الأمة أورده
مسلم في الصحيح و في حديث آخر كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم و قيل
إن الهاء في قوله « و إنه » يعود إلى القرآن و معناه أن القرآن لدلالة على قيام
الساعة و البعث يعلم به ذلك عن الحسن و قيل معناه أن القرآن لدليل الساعة لأنه آخر
الكتب أنزل على آخر الأنبياء عن أبي مسلم و قوله « و اتبعون هذا صراط مستقيم »
معناه و اتبعوني فيما أمركم به هذا الذي أنا عليه طريق واضح قيم « و لا يصدنكم
الشيطان » أي و لا يصرفنكم الشيطان بوساوسه عن دين الله « إنه لكم عدو مبين » بين
العداوة يدعوكم إلى الضلال الذي هو سبب هلاككم ثم أخبر سبحانه عن حال عيسى (عليه
السلام) حين بعثه الله نبيا فقال « و لما جاء عيسى بالبينات » أي بالمعجزات الدالة
على نبوته و قيل بالإنجيل عن قتادة « قال » لهم
مجمع البيان ج : 9 ص : 83
«
قد جئتكم بالحكمة » أي بالنبوة عن عطاء و قيل بالعلم بالتوحيد و العدل و الشرائع «
و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه » قيل إن المعنى كل الذي تختلفون فيه كقول لبيد :
أو يخترم بعض النفوس حمامها أي كل النفوس و كقول القطامي : قد يدرك المتأني
بعض حاجته و قد يكون من المستعجل الزلل أي كل حاجته عن أبي عبيدة قال الزجاج و
الصحيح أن البعض لا يكون في معنى الكل و الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض
الذي اختلفوا فيه و بين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه و قول الشاعر : أو
يخترم بعض النفوس حمامها إنما يعني نفسه و قيل معناه لأبين لكم ما تختلفون فيه من
أمور الدين دون أمور الدنيا « فاتقوا الله » بأن تجتنبوا معاصيه و تعملوا بالطاعات
« و أطيعون » فيما أدعوكم إليه « إن الله هو ربي و ربكم » الذي تحق له العبادة «
فاعبدوه » خالصا و لا تشركوا به شيئا « هذا صراط مستقيم » يفضي بكم إلى الجنة و
ثواب الله « فاختلف الأحزاب من بينهم » يعني اليهود و النصارى اختلفوا في أمر عيسى
« فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم » قد مر تفسير الآية في سورة مريم .
مجمع البيان ج : 9 ص : 84
هَلْ يَنظرُونَ إِلا الساعَةَ أَن
تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشعُرُونَ(66) الأَخِلاءُ يَوْمَئذِ بَعْضهُمْ
لِبَعْض عَدُوُّ إِلا الْمُتَّقِينَ(67) يَعِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكمُ الْيَوْمَ
وَ لا أَنتُمْ تحْزَنُونَ(68) الَّذِينَ ءَامَنُوا بِئَايَتِنَا وَ كانُوا
مُسلِمِينَ(69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَ أَزْوَجُكمْ تحْبرُونَ(70) يُطاف
عَلَيهِم بِصِحَاف مِّن ذَهَب وَ أَكْوَاب وَ فِيهَا مَا تَشتَهِيهِ الأَنفُس وَ
تَلَذُّ الأَعْينُ وَ أَنتُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(71) وَ تِلْك الجَْنَّةُ الَّتى
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(72) لَكمْ فِيهَا فَكِهَةٌ كَثِيرَةٌ
مِّنْهَا تَأْكلُونَ(73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَلِدُونَ(74)
لا يُفَترُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسونَ(75)
القراءة قرأ أهل المدينة
و ابن عامر و حفص « ما تشتهيه الأنفس » بزيادة الهاء و الباقون تشتهي الأنفس بحذف
الهاء . الحجة قال أبو علي حذف هذه الهاء من الصلة في الحسن كإثباتها
إلا أن الحذف يرجح على الإثبات بأن عامة هذا النحو في التنزيل جاء على الحذف نحو
قوله « أ هذا الذي بعث الله رسولا » « و سلام على عباده الذين اصطفى » و يقوي الحذف
من جهة القياس أنه اسم قد طال و الأسماء إذا طالت فقد يحذف منها كما يحذف في
اشهيباب و احميرار و كما حذفوا من كينونة فكما ألزموا الحذف لهذا كذلك حسن أن تحذف
الهاء من الصلة . اللغة الحبور السرور الذي يظهر في الوجه أثره و حبرته
أي حسنته و الحبار الأثر و الصحاف جمع صفحة و هي الجام الذي يؤكل فيه الطعام و
الأكواب جمع كوب و هي إناء على صورة الإبريق لا أذن له و لا خرطوم و قيل أنه كالكأس
للشراب قال الأعشى : صريفية طيب طعمها لها زبد بين كوب و دن .
المعنى قال سبحانه موبخا لهم « هل ينظرون » أي هل ينتظر هؤلاء الكفار
بعد ورود الرسل و القرآن « إلا الساعة » أي القيامة « أن تأتيهم بغتة » أي فجاة « و
هم لا يشعرون » أي لا يدرون وقت مجيئها « الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو » معناه أن
الذين تخالوا و تواصلوا في الدنيا يكون بعضهم أعداء لبعض ذلك اليوم يعني يوم
القيامة و هم الذين تخالوا على الكفر و المعصية و مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما يرى كل واحد منهم من العذاب بسبب تلك المصادقة ثم استثنى من
جملة الأخلاء المتقين فقال « إلا المتقين » من المؤمنين الموحدين الذي خال بعضهم
بعضا على الإيمان و التقوى فإن تلك الخلة تتأكد بينهم يوم القيامة و لا تنقلب عداوة
« يا عباد لا خوف عليكم اليوم » أي يقال لهم وقت
مجمع البيان ج : 9 ص : 85
الخوف يا عبادي لا خوف عليكم من العذاب اليوم « و لا أنتم تحزنون » من فوات
الثواب ثم وصف سبحانه عباده و ميزهم من غيرهم فقال « الذين آمنوا ب آياتنا » أي
صدقوا بحججنا و دلائلنا و اتبعوها « و كانوا مسلمين » أي مستسلمين لأمرنا خاضعين
منقادين و « الذين آمنوا » في محل النصب على البدل من عبادي أو الصفة له ثم بين
سبحانه ما يقال لهم بقوله « أدخلوا الجنة أنتم و أزواجكم » اللاتي كن مؤمنات مثلكم
و قيل يعني أزواجهم من الحور العين في الجنة « تحبرون » أي تسرون و تكرمون و قد مر
تفسيره في سورة الروم « يطاف عليهم بصحاف » أي بقصاع « من ذهب » فيها ألوان الأطعمة
« و أكواب » أي كيزان لا عرى لها و قيل بانية مستديرة الرأس اكتفى سبحانه بذكر
الصحاف و الأكواب عن ذكر الطعام و الشراب « و فيها » أي و في الجنة « ما تشتهيه
الأنفس » من أنواع النعيم المشروبة و المطعومة و الملبوسة و المشمومة و غيرها « و
تلذ الأعين » أي و ما تلذه العيون بالنظر إليه و إنما أضاف الالتذاذ إلى الأعين و
إنما الملتذ على الحقيقة هو الإنسان لأن المناظر الحسنة سبب من أسباب اللذة فإضافة
اللذة إلى الموضع الذي يلذ الإنسان به أحسن لما في ذلك من البيان مع الإيجاز و قد
جمع الله سبحانه بقوله « ما تشتهيه الأنفس و تلذ الأعين » ما لو اجتمع الخلائق كلهم
على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان
« و أنتم فيها » أي في الجنة و أنواع من الملاذ « خالدون » أي دائمون مؤبدون « و
تلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون » أي أعطيتموها بأعمالكم قال ابن عباس
الكافر يرث نار المؤمن و المؤمن يرث جنة الكافر و هذا كقوله « أولئك هم الوارثون »
« لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون » جمع لهم بين الطعام و الشراب و الفواكه و بين
دوام ذلك فهذه غاية الأمنية ثم أخبر سبحانه عن أحوال أهل النار فقال « إن المجرمين
في عذاب جهنم خالدون » دائمون « لا يفتر عنهم » العذاب أي لا يخفف عنهم « و هم فيه
مبلسون » آيسون من كل خير .
مجمع البيان ج : 9 ص : 86
وَ مَا
ظلَمْنَهُمْ وَ لَكِن كانُوا هُمُ الظلِمِينَ(76) وَ نَادَوْا يَمَلِك لِيَقْضِ
عَلَيْنَا رَبُّك قَالَ إِنَّكم مَّكِثُونَ(77) لَقَدْ جِئْنَكم بِالحَْقِّ وَ
لَكِنَّ أَكْثرَكُمْ لِلْحَقِّ كَرِهُونَ(78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا
مُبرِمُونَ(79) أَمْ يحْسبُونَ أَنَّا لا نَسمَعُ سِرَّهُمْ وَ نجْوَاهُم بَلى وَ
رُسلُنَا لَدَيهِمْ يَكْتُبُونَ(80) قُلْ إِن كانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا
أَوَّلُ الْعَبِدِينَ(81) سبْحَنَ رَب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ رَب الْعَرْشِ عَمَّا
يَصِفُونَ(82) فَذَرْهُمْ يخُوضوا وَ يَلْعَبُوا حَتى يُلَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى
يُوعَدُونَ(83) وَ هُوَ الَّذِى فى السمَاءِ إِلَهٌ وَ فى الأَرْضِ إِلَهٌ وَ هُوَ
الحَْكِيمُ الْعَلِيمُ(84) وَ تَبَارَك الَّذِى لَهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ
وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ عِندَهُ عِلْمُ الساعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(85)
القراءة قرأ ابن كثير و أهل الكوفة غير عاصم إلا يحيى و روح عن يعقوب و
إليه يرجعون بالياء و الباقون بالتاء و في الشواذ قراءة ابن مسعود و يحيى و الأعمش
يا مال و روي ذلك عن علي (عليه السلام) و قراءة أبي عبد الرحمن اليماني فأنا أول
العبدين بغير ألف و القراءة المشهورة « العابدين » . الحجة قال أبو علي
حجة الياء في يرجعون أن قبله غيبة و هو قوله « فذرهم يخوضوا و يلعبوا » و حجة التاء
أن يراد به مع الغيبة مخاطبون فغلب الخطاب على الغيبة أو يكون على قل لهم و إليه
ترجعون و قوله يا مال على المذهب المألوف في الترخيم قال الشاعر : فأبلغ مالكا
عني رسولا و ما يغني الرسول لديك مال أي يا مالك قال ابن جني و في هذا الموضع
سر و هو أنهم لعظم ما هم فيه خفيت قواهم و صغر كلامهم فكان هذا في موضع الاختصار و
قوله « أنا أول العابدين » من قولهم عبدت من الأمر أعبد عبدا أي أنفت منه قال
الفرزدق : أولئك قومي إن هجوني هجوتهم و أعبد أن تهجى كليب بدارم و لكن
نصفا إن سببت و سبني بنو عبد شمس من قريش و هاشم .
مجمع البيان ج : 9 ص
: 87
الإعراب قوله « و هو الذي في السماء إله » ارتفع إله بكونه خبر مبتدإ
محذوف من الصلة و تقديره و هو الذي هو في السماء إله و في السماء يتعلق بقوله « إله
» و موضعه نصب به و إن كان مقدما عليه « و عنده علم الساعة » أي علم وقوع الساعة
فالمصدر مضاف إلى المفعول أي يعلم وقوع الساعة .
المعنى لما بين سبحانه
ما يفعله بالمجرمين بين أنه لم يظلمهم بذلك فقال « و ما ظلمناهم و لكن كانوا هم
الظالمين » نفوسهم بما جنوا عليها من العذاب « و نادوا يا مالك » أي و يدعون خازن
جهنم فيقولون يا مالك « ليقض علينا ربك » أي ليمتنا ربك حتى نتخلص و نستريح من هذا
العذاب « قال » أي فيقول مالك مجيبا لهم « إنكم ماكثون » أي لابثون دائمون في
العذاب قال ابن عباس و السدي إنما يجيبهم مالك بذلك بعد ألف سنة و قال عبد الله بن
عمر بعد أربعين عاما « لقد جئناكم » أي يقول الله تعالى لقد أرسلنا إليكم الرسل «
بالحق » أي جاءكم رسلنا بالحق و أضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره و قيل هو من قول
مالك و إنما قال « لقد جئناكم » لأنه من الملائكة و هم من جنس الرسل عن الجبائي « و
لكن أكثركم » معاشر الخلق « للحق كارهون » لأنكم ألفتم الباطل فكرهتم مفارقته « أم
أبرموا أمرا فإنا مبرمون » أي بل أحكموا أمرا في كيد محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)
و المكر به « فإنا مبرمون » أي محكمون أمرا في مجازاتهم « أم يحسبون » أي بل أ يظن
هؤلاء الكفار « أنا لا نسمع سرهم و نجواهم » أي ما يسرونه من غيرهم و يتناجون به
بينهم و السر ما يضمره الإنسان في نفسه و لا يظهره لغيره و النجوى ما يحدث به
المحدث غيره في الخفية « بلى » نسمع ذلك و ندركه « و رسلنا لديهم يكتبون » ما
يقولونه و يفعلونه يعني الحفظة و سبب نزول الآية مذكور في تفسير أهل البيت (عليهم
السلام) « قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين » اختلف في معناه على أقوال (
أحدها ) أن معناه إن كان للرحمن ولد في قولكم و على زعمكم فأنا أول العابدين أي أول
من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد و المعنى فأنا أول الموحدين لله المنكرين
لقولكم عن مجاهد ( و ثانيها ) أن إن بمعنى ما النفي و المعنى ما كان للرحمن ولد
فأنا أول العابدين لله المقرين بذلك عن ابن عباس و قتادة و ابن
مجمع البيان ج :
9 ص : 88 زيد ( و ثالثها ) إن معناه لو كان له ولد لكنت أنا أول الأنفين من
عبادته لأن من كان له ولد لا يكون إلا جسما محدثا و من كان كذلك لا يستحق العبادة
لأنه لا يقدر على النعم التي يستحق بها العبادة عن الجبائي و غيره ( و رابعها ) أنه
يقول كما أني لست أول من عبد الله فكذلك ليس لله ولد و هذا كما تقول إن كنت كاتبا
فأنا حاسب تريد لست كاتبا و لا أنا حاسب عن سفيان بن عيينة ( و خامسها ) أن معناه
لو كان له ولد لكنت أول من يعبده بأن له ولدا و لكن لا ولد له عن السدي و أبي مسلم
و هذا كما يقال لو دعت الحكمة إلى عبادة غيره لعبدته لكن الحكمة لا تدعو إلى عبادة
غيره و لو دل الدليل على أن له ولدا لقلت به و لكنه لا يدل فهذا تحقيق لنفي الولد و
تبعيد له لأنه تعليق محال بمحال ثم نزه سبحانه نفسه عن ذلك فقال « سبحان رب
السماوات و الأرض رب العرش عما يصفون » أي تنزيها لمالك السماوات و الأرض و خالقهن
و خالق العرش و مدبره عما يصفونه به من اتخاذ الولد لأن من قدر على ذلك استغنى عن
اتخاذ الولد ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) على وجه التهديد للكفار
فقال « فذرهم يخوضوا » في باطلهم « و يلعبوا » في دنياهم « حتى يلاقوا يومهم الذي
يوعدون » فيه بعذاب الأبد و هو يوم القيامة « و هو الذي في السماء إله و في الأرض
إله » أي هو الذي تحق له العبادة في السماء و تحق له العبادة في الأرض و إنما كرر
لفظ إله لأمرين ( أحدهما ) التأكيد ليتمكن المعنى في النفس ( و الثاني ) لأن المعنى
هو إله في السماء يجب على الملائكة عبادته و إله في الأرض يجب على الإنس و الجن
عبادته « و هو الحكيم » في جميع أفعاله « العليم » بمصالح عباده « و تبارك الذي له
ملك السماوات و الأرض و ما بينهما » أي دامت بركته فمنه البركات و إيصال السعادات و
جل عن أن يكون له ولد أو شبيه من له التصرف في السماوات و الأرض و فيما بينهما بلا
دافع و لا منازع « و عنده علم الساعة » أي علم يوم القيامة لأنه لا يعلم وقته على
التعيين غيره « و إليه ترجعون » يوم القيامة فيجازي كلا على قدر عمله .
مجمع البيان ج : 9 ص : 89
وَ لا يَمْلِك الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن
دُونِهِ الشفَعَةَ إِلا مَن شهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ(86) وَ لَئن
سأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنى يُؤْفَكُونَ(87) وَ
قِيلِهِ يَرَب إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ(88) فَاصفَحْ عَنهُمْ وَ قُلْ
سلَمٌ فَسوْف يَعْلَمُونَ(89)
القراءة قرأ عاصم و حمزة و قيله بالجر و
الباقون بالنصب و في الشواذ قراءة الأعرج و مجاهد و قيله بالرفع و قرأ أهل المدينة
و الشام فسوف تعلمون بالتاء و الباقون بالياء . الحجة قال أبو علي وجه
الجر في « و قيله » أنه معطوف على قوله « و عنده علم الساعة » و علم قيله أي يعلم
الساعة و من يصدق بها و يعلم قيله و معنى يعلم قيله أي يعلم أن الدعاء مندوب إليه
نحو قوله « ادعوني أستجب لكم » و « ادعوا ربكم تضرعا و خفية » و أما من نصب حمله
على موضع و عنده علم الساعة لأن الساعة مفعول بها و ليست بظرف فالمصدر مضاف إلى
المفعول به و مثل ذلك قوله : قد كنت داينت بها حسانا مخافة الإفلاس و
الليانا يحسن بيع الأصل و القيانا فكما أن القيان و الليان محمولان على ما أضيف
إليه المصدر من المفعول به فكذلك قوله تعالى « و عنده علم الساعة » لما كان معناه
يعلم الساعة حملت قيله على ذلك و يجوز أن تحمله على يقول قيله فيدل انتصاب المصدر
على فعله و كذلك قول كعب : يسعى الوشاة جنابيها و قيلهم إنك يا ابن أبي
سلمى لمقتول أي و يقولون حقا و وجه ثالث أن يحمل على قوله « يحسبون أنا لا نسمع
سرهم و نجواهم » و قيله و من قرأ و قيله بالرفع احتمل ضربين ( أحدهما ) أن يجعل
الخبر و قيله قيل يا رب فيحذف ( و الآخر ) أن يجعل الخبر و قيله يا رب مسموع و
متقبل فيا رب منصوب الموضع بقيله المذكور و على القول الآخر بقيله المضمر و هو من
صلته و لا يمتنع ذلك من حيث امتنع أن يحذف بعض الموصول و يبقى بعضه لأن حذف القول
قد كثر حتى صار بمنزلة المذكور و قد يحتمل بيت كعب الرفع على هذين الوجهين و قال
ابن جني هو معطوف على علم أي و علم قيله فحذف المضاف فالمصدر الذي هو قيل مضاف إلى
الهاء الذي هو مفعول في المعنى و التقدير و عنده علم أن يقال يا رب أن هؤلاء قوم لا
يؤمنون و من قرأ فسوف
مجمع البيان ج : 9 ص : 90
تعلمون بالتاء فالوجه فيه
أنه على تقدير قل لهم فسوف تعلمون و وجه الياء أن يحمل على الغيبة التي هي فاصفح
عنهم و قوله « و قل سلام » تقديره و قل أمرنا و أمركم سلام أي متاركة .
المعنى ثم ذكر سبحانه أنه لا شفاعة لمعبوديهم فقال « و لا يملك الذين
يدعون من دونه » أي الذي يدعوه الكفار إلها و يوجهون عبادتهم إليه من الأصنام و
غيرها « الشفاعة » لمن يعبدهم كما توهمه الكفار و هي مسألة الطالب العفو عن غيره و
إسقاط العقاب عنه « إلا من شهد بالحق » و هم عيسى بن مريم و عزير و الملائكة
استثناهم سبحانه ممن عبد من دون الله فإن لهم عند الله منزلة الشفاعة عن قتادة و
قيل معناه لا يملك أحد من الملائكة و غيرهم الشفاعة إلا لمن شهد بالحق أي شهد أن لا
إله إلا الله و ذلك أن النضر بن الحارث و نفرا من قريش قالوا إن كان ما يقوله محمد
حقا فنحن نتولى الملائكة و هم أحق بالشفاعة لنا منه فنزلت الآية فالمعنى أنهم
يشفعون للمؤمنين بإذن الله « و هم يعلمون » أي يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم
و في هذا دلالة على أن حقيقة الإيمان هو الاعتقاد بالقلب و المعرفة لأن الله شرط مع
الشهادة العلم و هو ما اقتضى طمأنينة القلب إلى ما اعتقده بحيث لا يتشكك إذا شكك و
لا يضطرب إذا حرك « و لئن سألتهم » يا محمد « من خلقهم » أي أخرجهم من العدم إلى
الوجود « ليقولن الله » لأنهم يعلمون ضرورة أن أصنامهم لم تخلقهم « فأنى يؤفكون »
أي فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره « و قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون »
قال قتادة هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه و ينكر عليهم تخلفهم عن الإيمان و ذكر أن
قراءة عبد الله و قال الرسول يا رب أن هؤلاء قوم لا يؤمنون و على هذا فالهاء في « و
قيله » يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « فاصفح عنهم » أي فأعرض عنهم يا
محمد بصفح وجهك كما قال و أعرض عن الجاهلين « و قل سلام » أي مداراة و متاركة و قيل
هو سلام هجران و مجانبة لا سلام تحية و كرامة كقوله « سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين
» و قيل معناه قل ما تسلم به من شرهم و أذاهم و هذا منسوخ ب آية السيف عن قتادة و
قيل معناه فاصفح عن سفههم و لا تقابلهم بمثله . ندبه سبحانه إلى الحلم فلا يكون
منسوخا عن الحسن ثم هددهم سبحانه بقوله « فسوف يعلمون » يعني يوم القيامة إذا
عاينوا ما يحل بهم من العذاب .
مجمع البيان ج : 9 ص : 91
( 44 ) سورة
الدخان مكية و آياتها تسع و خمسون ( 59 ) عدد آيها تسع و خمسون آية
كوفي سبع بصري ست في الباقين .
اختلافها أربع آيات « حم » و « إن هؤلاء
ليقولون » كوفي « شجرة الزقوم » عراقي شامي و المدني الأول « في البطون » عراقي مكي
و المدني الأخير .
فضلها أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)
و من قرأ الدخان في ليلة الجمعة غفر له أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك . و
عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال و من قرأها في ليلة الجمعة أصبح مغفورا
له . أبو أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال و من قرأ سورة الدخان ليلة
الجمعة و يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة . و روى أبو حمزة الثمالي عن أبي
جعفر (عليه السلام) قال من قرأ سورة الدخان في فرائضه و نوافله بعثه الله من
الآمنين يوم القيامة و أظله تحت ظل عرشه و حاسبه حسابا يسيرا و أعطي كتابه بيمينه .
تفسيرها ختم الله سبحانه سورة الزخرف بالوعيد و التهديد و افتتح هذه السورة
أيضا بمثل ذلك في الإنذار بالعذاب الشديد فقال :
مجمع البيان ج : 9 ص : 92
سورة الدخان بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم(1) وَ الْكتَبِ
الْمُبِينِ(2) إِنَّا أَنزَلْنَهُ فى لَيْلَة مُّبَرَكَة إِنَّا كُنَّا
مُنذِرِينَ(3) فِيهَا يُفْرَقُ كلُّ أَمْر حَكِيم(4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا
كُنَّا مُرْسِلِينَ(5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّك إِنَّهُ هُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ(6)
رَب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ(7) لا إِلَهَ
إِلا هُوَ يحْىِ وَ يُمِيت رَبُّكمْ وَ رَب ءَابَائكُمُ الأَوَّلِينَ(8) بَلْ هُمْ
فى شك يَلْعَبُونَ(9) فَارْتَقِب يَوْمَ تَأْتى السمَاءُ بِدُخَان مُّبِين(10)
يَغْشى النَّاس هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(11) إحدى عشرة آية كوفي في غيرهم .
القراءة قرأ أهل الكوفة رب السماوات بالجر و الباقون بالرفع .
الحجة الرفع فيه على أحد أمرين إما أن يكون خبر مبتدإ محذوف أي هو رب
السماوات و إما أن يكون مبتدأ و خبره الجملة التي عاد الذكر منها إليه و هو قوله «
لا إله إلا هو » و يقويه قوله « رب المشرق و المغرب » لا إله إلا هو و من قرأ بالجر
جعله بدلا « من ربك » المتقدم ذكره قال أبو الحسن الرفع أحسن و به يقرأ .
الإعراب « إنا كنا منذرين » جواب القسم دون قوله « إنا أنزلناه » لأنك
لا تقسم بالشيء على نفسه فإن القسم تأكيد خبر بخبر آخر فقوله « إنا أنزلناه في ليلة
مباركة » اعتراض بين القسم و جوابه أمرا من عندنا في انتصابه وجهان ( أحدهما ) أن
يكون نصبا على الحال و تقديره إنا أنزلناه آمرين أمرا كما يقال جاء فلان مشيا و
ركضا أي ماشيا و راكضا و على هذا فيكون مصدرا موضوعا موضع الحال و هذا اختيار
الأخفش و يجوز أن يكون تقديره ذا أمر فحذف المضاف كما قال و لكن البر بمعنى ذا البر
( و الثاني ) أن يكون منصوبا على المصدر لأن معنى قوله « فيها يفرق » فيها يؤمر قد
دل يفرق على يؤمر و قوله « رحمة » منصوب على أنه مفعول له أي أنزلناه للرحمة و قال
الأخفش هو منصوب على الحال أي راحمين رحمة . المعنى « حم » مر بيانه «
و الكتاب المبين » أقسم سبحانه بالقرآن الدال على صحة نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و فيه بيان الأحكام و الفصل بين الحلال و الحرام و جواب القسم « إنا
أنزلناه في ليلة مباركة » أي إنا أنزلنا القرآن و الليلة المباركة هي ليلة القدر عن
ابن عباس
مجمع البيان ج : 9 ص : 93
و قتادة و ابن زيد و هو المروي عن أبي
جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل هي ليلة النصف من شعبان عن عكرمة و الأصح
الأول و يدل عليه قوله « إنا أنزلناه في ليلة القدر » و قوله « شهر رمضان الذي أنزل
فيه القرآن » و اختلف في كيفية إنزاله فقيل أنزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر
ثم أنزل نجوما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل أنه كان ينزل جميع ما
يحتاج في كل سنة في تلك الليلة ثم كان ينزلها جبرائيل (عليه السلام) شيئا فشيئا وقت
وقوع الحاجة إليه و قيل كان بدء إنزاله في ليلة القدر و روي عن ابن عباس أنه قال قد
كلم الله جبرائيل في ليلة واحدة و هي ليلة القدر فسمعه جبرائيل و حفظه بقلبه و جاء
به إلى السماء الدنيا إلى الكتبة و كتبوه ثم نزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)
بالنجوم في ثلاث و عشرين سنة و قيل في عشرين سنة و إنما وصف الله سبحانه هذه الليلة
بأنها مباركة لأن فيها يقسم الله نعمة على عباده من السنة إلى السنة فتدوم بركاتها
و البركة نماء الخير و ضدها الشؤم و هو نماء الشر فالليلة التي أنزل فيها كتاب الله
مباركة ينمي الخير فيها على ما دبر الله سبحانه لها من علو مرتبتها و استجابة
الدعاء فيها « إنا كنا منذرين » أي مخوفين بما أنزلناه من تعذيب العصاة و الإنذار
الأعلام بموضع الخوف ليتقى و موضع الأمن ليجتبى فالله عز اسمه قد أنذر عباده بأتم
الإنذار من طريق العقل و السمع « فيها يفرق كل أمر حكيم » أي في هذه الليلة يفصل و
يبين و المعنى يقضى كل أمر محكم لا تلحقه الزيادة و النقصان و هو أنه يقسم فيها
الآجال و الأرزاق و غيرها من أمور السنة إلى مثلها من العام القابل عن ابن عباس و
الحسن و قتادة و عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق و
قد وقع اسمه في الموتى و قال عكرمة هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة و
ينسخ الأحياء من الأموات و يكتب الحاج فلا يزيد فيهم أحد و لا ينقص منهم أحد « أمرا
من عندنا » معناه إنا نأمر ببيان ذلك و نسخه من اللوح المحفوظ « إنا كنا مرسلين »
محمدا إلى عبادنا كمن كان قبله من الأنبياء « رحمة من ربك » أي رأفة منا بخلقنا و
نعمة منا عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل عن ابن عباس « إنه هو السميع » لمن دعاه
من عباده « العليم » بمصالحهم « رب السماوات و الأرض » أي خالقهما و مدبرهما « و ما
بينهما إن كنتم موقنين » بهذا الخبر محققين له و هو أنه « لا إله إلا هو » لا يستحق
العبادة سواه « يحيي » الخلق بعد موتهم « و يميت » أي و يميتهم بعد إحيائهم « ربكم
» الذي خلقكم و دبركم « و رب آبائكم الأولين » الذين سبقوكم ثم ذكر سبحانه الكفار
فقال ليس هؤلاء بموقنين بما قلناه « بل هم في شك » مما أخبرناك به « يلعبون » مع
ذلك و يستهزءؤن بك و بالقرآن إذا قرىء عليهم عن الجبائي و قيل يلعبون أي يشتغلون
بالدنيا و يترددون في أحوالها ثم خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « فارتقب
» أي فانتظر يا محمد « يوم تأتي
مجمع البيان ج : 9 ص : 94
السماء بدخان
مبين » و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) دعا على قومه لما كذبوه فقال
اللهم سنينا كسني يوسف فأجدبت الأرض فأصابت قريشا المجاعة و كان الرجل لما به من
الجوع يرى بينه و بين السماء كالدخان و أكلوا الميتة و العظام ثم جاءوا إلى النبي
(صلى الله عليه وآله وسلّم) و قالوا يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم و قومك قد هلكوا
فسأل الله تعالى لهم بالخصب و السعة فكشف عنهم ثم عادوا إلى الكفر عن ابن مسعود و
الضحاك و قيل إن الدخان آية من أشراط الساعة تدخل في مسامع الكفار و المنافقين و هو
لم يأت بعد و إنه يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماعهم حتى أن رءوسهم تكون كالرأس
الحنيذ و يصيب المؤمن منه مثل الزكمة و تكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص
و يمكث ذلك أربعين يوما عن ابن عباس و ابن عمر و الحسن و الجبائي « يغشى الناس »
يعني أن الدخان يعم جميع الناس و على القول الأول المراد بالناس أهل مكة و هم الذين
يقولون « هذا عذاب أليم » أي موجع مؤلم . رَّبَّنَا اكْشِف عَنَّا الْعَذَاب
إِنَّا مُؤْمِنُونَ(12) أَنى لهَُمُ الذِّكْرَى وَ قَدْ جَاءَهُمْ رَسولٌ
مُّبِينٌ(13) ثمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قَالُوا مُعَلَّمٌ مجْنُونٌ(14) إِنَّا
كاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكمْ عَائدُونَ(15) يَوْمَ نَبْطِش الْبَطشةَ
الْكُبرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ(16) * وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ
فِرْعَوْنَ وَ جَاءَهُمْ رَسولٌ كرِيمٌ(17) أَنْ أَدُّوا إِلىَّ عِبَادَ اللَّهِ
إِنى لَكمْ رَسولٌ أَمِينٌ(18) وَ أَن لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ إِنى ءَاتِيكم
بِسلْطن مُّبِين(19) وَ إِنى عُذْت بِرَبى وَ رَبِّكمْ أَن تَرْجُمُونِ(20) وَ إِن
لَّمْ تُؤْمِنُوا لى فَاعْتزِلُونِ(21)
الإعراب « يوم نبطش » منصوب بقوله «
إنا كاشفوا العذاب قليلا » و يجوز أن
مجمع البيان ج : 9 ص : 95
ينتصب بمضمر
دل عليه منتقمون و لا ينتصب بقوله « منتقمون » لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبله .
المعنى ثم لما أخبر سبحانه أن الدخان يغشى الناس عذابا لهم و أنهم
قالوا و يقولون على ما فيه من الخلاف هذا عذاب أليم حكى عنهم أيضا قولهم « ربنا
اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون » بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و القرآن قال سبحانه
« أنى لهم الذكرى » أي من أين لهم التذكر و الاتعاظ و كيف يتذكرون و يتعظون « و قد
جاءهم رسول مبين » أي و حالهم أنهم قد جاءهم رسول ظاهر الصدق و الدلالة « ثم تولوا
عنه » أي أعرضوا عنه و لم يقبلوا قوله « و قالوا معلم مجنون » أي هو معلم يعلمه بشر
مجنون بادعاء النبوة ثم قال سبحانه « إنا كاشفوا العذاب » أي عذاب الجوع و الدخان «
قليلا » أي زمانا قليلا يسيرا إلى يوم بدر عن مقاتل « إنكم عائدون » في كفركم و
تكذيبكم فلما كشف الله سبحانه ذلك عنهم بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و
استسقائه لهم عادوا إلى تكذيبه هذا على تأويل من قال إن ذلك الدخان كان وقت النبي
(صلى الله عليه وآله وسلّم) فأما على القول الآخر فمعناه أنكم عائدون إلى العذاب
الأكبر و هو عذاب جهنم و القليل مدة ما بين العذابين « يوم نبطش البطشة الكبرى » أي
و اذكر لهم ذلك اليوم يعني يوم بدر على القول الأول قالوا لما كشف عنهم الجوع عادوا
إلى التكذيب فانتقم الله منهم يوم بدر و على القول الآخر البطشة الكبرى تكون يوم
القيامة و البطش هو الأخذ بشدة وقع الألم « إنا منتقمون » منهم ذلك اليوم ثم قال
سبحانه « و لقد فتنا قبلهم » أقسم سبحانه أنه فتن قبل كفار قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) « قوم فرعون » أي اختبرهم و شدد عليهم التكليف لأن الفتنة شدة
التعبد و أصلها الإحراق بالنار لخلاص الذهب من الغش و قيل إن الفتنة معاملة المختبر
ليجازي بما يظهر دون ما يعلم مما لا يظهر « و جاءهم رسول كريم » أي كريم الأخلاق و
الأفعال بالتجاوز و الصفح و الدعاء إلى الصلاح و الرشد و قيل كريم عند الله بما
استحق بطاعته من الإكرام و الإعظام و قيل كريم شريف في قومه من بني إسرائيل « أن
أدوا إلي عباد الله » هذا من قول موسى (عليه السلام) لفرعون و قومه و المعنى أطلقوا
بني إسرائيل من العذاب و التسخير فإنهم أحرار فهو كقوله « فأرسل معي بني إسرائيل »
فيكون عباد الله مفعول أدوا و قال الفراء معناه أدوا إلي ما أمركم به يا عباد الله
« إني لكم رسول أمين » على ما أؤديه و أدعوكم إليه « و أن لا تعلوا على الله » أي
لا تتجبروا على الله بترك طاعته عن الحسن و قيل لا تتكبروا على أولياء الله بالبغي
عليهم و قيل : لا تبغوا عليه بكفران نعمه و افتراء الكذب عليه عن ابن عباس و قتادة
« إني آتيكم بسلطان مبين » أي بحجة واضحة يظهر الحق معها و قيل بمعجز ظاهر
مجمع
البيان ج : 9 ص : 96
يبين صحة نبوتي و صدق مقالتي فلما قال ذلك توعدوه بالقتل و
الرجم فقال « و إني عذت بربي و ربكم » أي لذت بمالكي و مالككم و التجأت إليه « أن
ترجمون » أي من أن ترموني بالحجارة عن قتادة و قيل إن الرجم الذي استعاذ منه موسى
هو الشتم كقولهم هو ساحر كذاب و نحوه عن ابن عباس و أبي صالح « و إن لم تؤمنوا لي
فاعتزلون » أي إن لم تصدقوني فاتركوني لا معي و لا علي و قيل معناه فاعتزلوا أذاي
عن ابن عباس . فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مجْرِمُونَ(22) فَأَسرِ
بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكم مُّتَّبَعُونَ(23) وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً
إِنهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ(24) كمْ تَرَكُوا مِن جَنَّت وَ عُيُون(25) وَ زُرُوع
وَ مَقَام كَرِيم(26) وَ نَعْمَة كانُوا فِيهَا فَكِهِينَ(27) كَذَلِك وَ
أَوْرَثْنَهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ(28) فَمَا بَكَت عَلَيهِمُ السمَاءُ وَ الأَرْض
وَ مَا كانُوا مُنظرِينَ(29)
اللغة الرهو السهل الساكن يقال عيش رآه أي
خافض وادع قال الشاعر : يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة و لا الصدور على
الأعجاز تتكل و قيل الرهو الدمث ليس برمل و لا حزن عن الأزهري يقال جاءت الخيل رهوا
أي مسابقة قال ابن الأعرابي الرهو من الطير و الخيل السراع قال الشاعر : طيرا
رأت بازيا نضخ الدماء به و أمه خرجت رهوا إلى عيد . الإعراب رهوا
نصب على الحال من البحر و يكون حالا بعد الفراغ من الفعل كقولهم قطعت الثوب قباء و
هذا يدل على أن البحر كان قبل تركه و بعد تركه رهوا و كم في
مجمع البيان ج : 9
ص : 97
قوله « كم تركوا » في موضع نصب بأنه صفة موصوف محذوف و هو مفعول تركوا و
تقديره شيئا كثيرا تركوا كذلك خبر مبتدإ محذوف أي الأمر كذلك .
المعنى
ثم ذكر سبحانه تمام قصة موسى بأن قال « فدعا ربه » أي فدعا موسى ربه حين يئس من
قومه أن يؤمنوا به فقال « أن هؤلاء قوم مجرمون » أي مشركون لا يؤمنون عن الكلبي و
مقاتل فكأنه قال اللهم عجل لهم مما يستحقونه بكفرهم ما يكونون به نكالا لمن بعدهم و
ما دعا عليهم إلا بعد أن أذن له في ذلك و قوله « فأسر بعبادي ليلا » الفاء وقعت
موقع الجواب و التقدير فأجيب بأن قيل له فأسر بعبادي أمره سبحانه أن يسير بأهله و
بالمؤمنين به ليلا حتى لا يردهم فرعون إذا خرجوا نهارا و أعلمه بأنه سيتبعهم فرعون
بجنوده بقوله « إنكم متبعون و اترك البحر رهوا » أي ساكنا على ما هو به إذا قطعته و
عبرته و كان قد ضربه بالعصا فانفلق لبني إسرائيل فأمره الله سبحانه أن يتركه كما هو
ليغرق فرعون و قومه عن ابن عباس و مجاهد و قيل رهوا أي منفتحا منكشفا حتى يطمع
فرعون في دخوله عن أبي مسلم قال قتادة لما قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه
ليلتئم و خاف أن يتبعه فرعون و جنوده فقيل له و اترك البحر رهوا أي كما هو طريقا
يابسا « إنهم جند مغرقون » سيغرقهم الله تعالى ثم أخبر سبحانه عن حالهم بعد إهلاكهم
فقال « كم تركوا من جنات » رائعة « و عيون » جارية « و زروع » كثيرة « و مقام كريم
» أي مجالس شريفة و منازل خطيرة و قيل هي المناظر الحسنة و مجالس الملوك عن مجاهد و
قيل منابر الخطباء عن ابن عباس و قيل المقام الكريم الذي يعطي اللذة كما يعطي الرجل
الكريم الصلة عن علي بن عيسى « و نعمة كانوا فيها فاكهين » أي و تنعم وسعة في العيش
كانوا ناعمين متمتعين كما يتمتع الآكل بأنواع الفواكه « كذلك » قال الكلبي معناه
كذلك أفعل بمن عصاني « و أورثناها قوما آخرين » إيراث النعمة تصييرها إلى الثاني
بعد الأول بغير مشقة كما يصير الميراث إلى أهله على تلك الصفة فلما كانت نعمة قوم
فرعون وصلت بعد هلاكهم إلى غيرهم كان ذلك إيراثا من الله لهم و أراد بقوم آخرين بني
إسرائيل لأنهم رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون « فما بكت عليهم السماء و الأرض »
اختلف في معناه على وجوه ( أحدها ) أن معناه لم تبك عليهم أهل السماء و الأرض
لكونهم مسخوطا عليهم عن الحسن فيكون مثل قوله حتى تضع الحرب أوزارها أي أصحاب الحرب
و نحوه قول الحطيئة : و شر المنايا ميت وسط أهله كهلك الفتى قد أسلم الحي
حاضرة مجمع البيان ج : 9 ص : 98 أي و شر المنايا ميتة ميت و قال ذو الرمة :
لهم مجلس صهب السبال أذلة سواسية أحرارها و عبيدها أي لهم أهل مجلس ( و
ثانيها ) أنه سبحانه أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر فإن العرب إذا أخبرت عن
عظم المصاب بالهالك قالت بكاه السماء و الأرض و أظلم لفقده الشمس و القمر قال جرير
يرثي عمر بن عبد العزيز : الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل و
القمرا أي ليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل و القمر لأن عظم المصيبة قد سلبها ضوءها
و قال النابغة : تبدو كواكبه و الشمس طالعة لا النور نور و لا الإظلام
إظلام و ثالثها أن يكون ذلك كناية عن أنه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها
إلى السماء و قد روي عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقيل و هل يبكيان على أحد
قال نعم مصلاة في الأرض و مصعد عمله في السماء و روى أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ما من مؤمن إلا و له باب يصعد منه عمله و باب ينزل منه رزقه
فإذا مات بكيا عليه فعلى هذا يكون معنى البكاء الإخبار عن الاختلال بعده كما قال
مزاحم العقيلي : بكت دارهم من أجلهم فتهللت دموعي فأي الجازعين ألوم أ
مستعبرا يبكي من الهون و البلى أم آخر يبكي شجوه و يهيم و قال السدي لما قتل
الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) بكت السماء عليه و بكاؤها حمرة أطرافها و
روى زرارة بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال بكت السماء على يحيى
مجمع البيان ج : 9 ص : 99
بن زكريا و على الحسين بن علي (عليهماالسلام)
أربعين صباحا و لم تبك إلا عليهما قلت و ما بكاؤها قال كانت تطلع حمراء و تغيب
حمراء « و ما كانوا منظرين » أي عوجلوا بالعقوبة و لم يمهلوا . وَ لَقَدْ
نجَّيْنَا بَنى إِسرءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ(30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ
كانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسرِفِينَ(31) وَ لَقَدِ اخْترْنَهُمْ عَلى عِلْم عَلى
الْعَلَمِينَ(32) وَ ءَاتَيْنَهُم مِّنَ الاَيَتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌا مُّبِينٌ(33)
إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ(34) إِنْ هِىَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولى وَ مَا نحْنُ
بِمُنشرِينَ(35) فَأْتُوا بِئَابَائنَا إِن كُنتُمْ صدِقِينَ(36) أَ هُمْ خَيرٌ
أَمْ قَوْمُ تُبَّع وَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَهُمْ إِنهُمْ كانُوا
مجْرِمِينَ(37) وَ مَا خَلَقْنَا السمَوَتِ وَ الأَرْض وَ مَا بَيْنهُمَا
لَعِبِينَ(38) مَا خَلَقْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَ لَكِنَّ أَكثرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ(39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصلِ مِيقَتُهُمْ أَجْمَعِينَ(40)
الإعراب
« من فرعون » أي من عذاب فرعون فحذف المضاف و يجوز أن يكون حالا من العذاب
المهين أي ثابتا من فرعون فلا يكون على حذف المضاف . « أ هم خير أم قوم تبع و
الذين من قبلهم » يجوز أن يكون الذين من قبلهم مبتدأ و أهلكناهم خبره و يجوز أن
يكون منتصبا بفعل مضمر دل عليه أهلكناهم و يجوز أن يكون رفعا بالعطف على قوم تبع
فعلى هذا تقف على قبلهم و يكون أهلكناهم في تقدير و أهلكناهم أي و المهلكون من
قبلهم . المعنى ثم أقسم سبحانه بقوله « و لقد نجينا بني إسرائيل »
الذين آمنوا بموسى « من العذاب المهين » يعني قتل الأبناء و استخدام النساء و
الاستعباد و تكليف المشاق « من فرعون إنه كان عاليا » أي متجبرا متكبرا متغلبا « من
المسرفين » أي المجاوزين الحد في الطغيان وصفه بأنه عال و إن جاز أن يكون عال صفة
مدح لأنه قيده بأنه عال في الإسراف
مجمع البيان ج : 9 ص : 100
لأن العالي
في الإحسان ممدوح و العالي في الإساءة مذموم « و لقد اخترناهم » أي اخترنا موسى و
قومه بني إسرائيل و فضلناهم بالتوراة و كثرة الأنبياء منهم « على علم » أي على
بصيرة منا باستحقاقهم التفضيل و الاختيار « على العالمين » أي على عالمي زمانهم عن
قتادة و الحسن و مجاهد و يدل عليه قوله تعالى لأمة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم)
كنتم خير أمة أخرجت للناس و قيل فضلناهم على جميع العالمين في أمر كانوا مخصوصين به
و هو كثرة الأنبياء منهم « و آتيناهم » أي و أعطيناهم « من الآيات » يعني الدلالات
و المعجزات مثل فلق البحر و تظليل الغمام و إنزال المن و السلوى « ما فيه بلاء مبين
» أي ما فيه النعمة الظاهرة عن الحسن و قيل ما فيه شدة و امتحان مثل العصا و اليد
البيضاء فالبلاء يكون بالشدة و الرخاء عن ابن زيد فيكون في الآيات نعمة على
الأنبياء و قومهم و شدة على الكفار المكذبين بهم ثم أخبر سبحانه عن كفار قوم نبينا
(صلى الله عليه وآله وسلّم) الذين ذكرهم في أول السورة فقال « إن هؤلاء ليقولون إن هي
إلا موتتنا الأولى » أي ما الموتة إلا موتة نموتها في الدنيا ثم لا نبعث بعدها و هو
قوله « و ما نحن بمنشرين » أي بمبعوثين و لا معادين « فأتوا ب آبائنا » الذين ماتوا
قبلنا و أعيدوهم « إن كنتم صادقين » في أن الله تعالى يقدر على إعادة الأموات و
إحيائهم و قيل إن قائل هذا أبو جهل بن هشام قال إن كنت صادقا فابعث جدك قصي بن كلاب
فإنه كان رجلا صادقا لنسأله عما يكون بعد الموت و هذا القول جهل من أبي جهل من
وجهين ( أحدهما ) أن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف و ليست هذه الدار بدار جزاء
و لكنها دار تكليف فكأنه قال : إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف ( و
الثاني ) أن الإحياء في دار الدنيا إنما يكون للمصلحة فلا يقف ذلك على اقتراحهم
لأنه ربما تعلق بذلك مفسدة و لما تركوا الحجة و عدلوا إلى الشبهة جهلا عدل سبحانه
في إجابتهم إلى الوعيد و الوعظ فقال « أ هم خير أم قوم تبع » أي أ مشركو قريش أظهر
نعمة و أكثر أموالا و أعز في القوة و القدرة أم قوم تبع الحميري الذي سار بالجيوش
حتى حير الحيرة ثم أتى سمرقند فهدمها ثم بناها و كان إذا كتب كتب باسم الذي ملك برا
و بحرا و ضحا و ريحا عن قتادة و سمي تبعا لكثرة أتباعه من الناس و قيل سمي تبعا
لأنه تبع من قبله من ملوك اليمن و التبابعة اسم ملوك اليمن فتبع لقب له كما يقال
خاقان لملك الترك و قيصر لملك الروم و اسمه أسعد أبو كرب و روى سهل بن سعد عن النبي
|