قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
و للكلام ذيل طويل
سنورده في بعض الأبحاث العلمية الآتية إن شاء الله تعالى.
و خامسها: أن مزية أصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، و كذا صراطهم على سبيل
غيرهم، إنما هو بالعلم لا العمل، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم، إذ
قد تبين مما مر: أن العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم، فلا يبقى
لمزيتهم إلا العلم، و أما ما هذا العلم؟ و كيف هو؟ فنبحث عنه إن شاء الله في
قوله تعالى: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها": الرعد - 17.
و يشعر بهذا المعنى قوله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا
العلم درجات": المجادلة - 11، و كذا قوله تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب و
العمل الصالح يرفعه": الملائكة - 10، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب و
هو الاعتقاد و العلم، و أما العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيب و الأمداد دون
الصعود إليه تعالى، و سيجيء تمام البيان في البحث عن الآية.
بحث روائي
في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في معنى العبادة قال: العبادة ثلاثة: قوم
عبدوا الله خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا الله تبارك و تعالى طلب
الثواب، فتلك عبادة الأجراء، و قوم عبدوا الله عز و جل حبا، فتلك عبادة
الأحرار، و هي أفضل العبادة.
و في نهج البلاغة،: إن قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، و إن قوما
عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة
الأحرار.
و في العلل، و المجالس، و الخصال، عن الصادق (عليه السلام): إن الناس يعبدون
الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء و هو
الطمع، و آخرون يعبدونه خوفا من النار فتلك عبادة العبيد، و هي رهبة، و لكني
أعبده حبا له عز و جل فتلك عبادة الكرام، لقوله عز و جل: "و هم من فزع يومئذ
آمنون". و لقوله عز و جل "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، فمن
أحب الله عز و جل أحبه، و من أحبه الله كان من الآمنين، و هذا مقام مكنون لا
يمسه إلا المطهرون.
أقول: و قد تبين معنى الروايات مما مر من البيان، و توصيفهم (عليهم السلام)
عبادة الأحرار تارة بالشكر و تارة بالحب، لكون مرجعهما واحدا، فإن الشكر وضع
الشيء المنعم به في محله، و العبادة شكرها أن تكون لله الذي يستحقها لذاته،
فيعبد الله لأنه الله، أي لأنه مستجمع لجميع صفات الجمال و الجلال بذاته، فهو
الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال و الانجذاب نحوه،
فقولنا فيه تعالى هو معبود لأنه هو، و هو معبود لأنه جميل محبوب، و هو معبود
لأنه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.
و روي بطريق عامي عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: إياك نعبد الآية،
يعني: لا نريد منك غيرك و لا نعبدك بالعوض و البدل: كما يعبدك الجاهلون بك
المغيبون عنك.
أقول: و الرواية تشير إلى ما تقدم، من استلزام معنى العبادة للحضور و للإخلاص
الذي ينافي قصد البدل.
و في تحف العقول، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و من زعم أنه يعبد بالصفة
لا بالإدراك فقد أحال على غائب، و من زعم أنه يعبد الصفة و الموصوف فقد أبطل
التوحيد لأن الصفة غير الموصوف، و من زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر
بالكبير، و ما قدروا الله حق قدره.
الحديث
و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في معنى قوله تعالى: اهدنا الصراط
المستقيم يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، و المبلغ إلى جنتك، و
المانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك و في المعاني، أيضا
عن علي (عليه السلام): في الآية، يعني، أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي
أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.
أقول: و الروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شبهة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال
الهداية للمهدي، فالرواية الأولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقا و
الثانية إلى اتحادها مفهوما.
و في المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن
الغلو، و ارتفع عن التقصير و استقام، و في الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة.
و في المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): في معنى صراط الذين الآية: أي:
قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك و طاعتك، لا بالمال و
الصحة، فإنهم قد يكونون كفارا أو فساقا، قال: و هم الذين قال الله: "و من يطع
الله و الرسول - فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من النبيين و الصديقين و
الشهداء و الصالحين، و حسن أولئك رفيقا".
و في العيون، عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
قال: لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: قال الله عز و جل:
قسمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل،
إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جل جلاله بدأ عبدي باسمي و حق
علي أن أتمم له أموره، و أبارك له في أحواله، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين،
قال الله جل جلاله: حمدني عبدي، و علم أن النعم التي له من عندي، و أن البلايا
التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة و أدفع
عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، و إذا قال الرحمن الرحيم، قال
الله جل جلاله: شهد لي عبدي أني الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفرن من رحمتي حظه و
لأجزلن من عطائي نصيبه فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: أشهدكم، كما
اعترف بأني أنا المالك يوم الدين، لأسهلن يوم الحساب حسابه، و لأتقبلن حسناته و
لأتجاوزن عن سيئاته، فإذا قال: إياك نعبد، قال الله عز و جل: صدق عبدي، إياي
يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا
قال: و إياك نستعين قال الله تعالى: بي استعان عبدي و إلي التجأ، أشهدكم
لأعيننه على أمره، و لأغيثنه في شدائده و لآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال:
اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، قال الله عز و جل: هذا لعبدي و لعبدي ما
سأل، و قد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمل و آمنته مما منه وجل. أقول: و روى
قريبا منه الصدوق في العلل، عن الرضا (عليه السلام)، و الرواية كما ترى تفسر
سورة الفاتحة في الصلاة فهي تؤيد ما مر مرارا أن السورة كلام له سبحانه
بالنيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة و إظهار العبودية من الثناء لربه
و إظهار عبادته، فهي سورة موضوعة للعبادة، و ليس في القرآن سورة تناظرها في
شأنها و أعني بذلك: أولا: أن السورة بتمامها كلام تكلم به الله سبحانه في مقام
النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبية و نصب نفسه في مقام
العبودية.
و ثانيا: أنها مقسمة قسمين، فنصف منها لله و نصف منها للعبد.
و ثالثا: أنها مشتملة على جميع المعارف القرآنية على إيجازها و اختصارها فإن
القرآن على سعته العجيبة في معارفه الأصلية و ما يتفرع عليها من الفروع من
أخلاق و أحكام في العبادات و المعاملات و السياسات و الاجتماعيات و وعد و وعيد
و قصص و عبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد و النبوة و المعاد و فروعاتها، و
إلى هداية العباد إلى ما يصلح به أولاهم و عقباهم، و هذه السورة كما هو واضح
تشتمل على جميعها في أوجز لفظ و أوضح معنى.
و عليك أن تقيس ما يتجلى لك من جمال هذه السورة التي وضعها الله سبحانه في صلاة
المسلمين بما يضعه النصارى في صلاتهم من الكلام الموجود في إنجيل متى: و هو ما
نذكره بلفظة العربي، "أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن
مشيتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم، و اغفر لنا
ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، و لا تدخلنا في تجربة و لكن نجنا من
الشرير آمين".
تأمل في المعاني التي تفيدها ألفاظ هذه الجمل بعنوان أنها معارف سماوية، و ما
يشتمل عليه من الأدب العبودي، أنها تذكر أولا أن أباهم و هو الله تقدس اسمه في
السماوات! ثم تدعو في حق الأب بتقدس اسمه و إتيان ملكوته و نفوذ مشيته في الأرض
كما هي نافذة في السماء، و لكن من الذي يستجيب هذا الدعاء الذي هو بشعارات
الأحزاب السياسية أشبه؟ ثم تسأل الله إعطاء خبز اليوم و مقابلة المغفرة
بالمغفرة، و جعل الإغماض عن الحق في مقابل الإغماض، و ما ذا هو حقهم لو لم يجعل
الله لهم حقا؟ و تسأله أن لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير، و من المحال ذلك،
فالدار دار الامتحان و الاستكمال و ما معنى النجاة لو لا الابتلاء و الامتحان؟
ثم اقض العجب مما ذكره بعض المستشرقين من علماء الغرب و تبعه بعض من المنتحلين:
أن الإسلام لا يربو على غيره في المعارف، فإن جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد
و تصفية النفوس بالخلق الفاضل و العمل الصالح، و إنما تتفاضل الأديان في عراقة
ثمراتها الاجتماعية.
بحث آخر روائي
في الفقيه، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: الصراط المستقيم
أمير المؤمنين (عليه السلام).
و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام) قال: هي الطريق إلى معرفة الله، و هما
صراطان صراط في الدنيا و صراط في الآخرة، فأما الصراط في الدنيا فهو الإمام
المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر
جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه في الآخرة فتردى في نار
جهنم.
و في المعاني، أيضا عن السجاد (عليه السلام) قال: ليس بين الله و بين حجته
حجاب، و لا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله و نحن الصراط المستقيم و نحن عيبة
علمه، و نحن تراجمة وحيه و نحن أركان توحيده و نحن موضع سره.
و عن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجراح عن الثوري عن السدي، عن أسباط و
مجاهد، عن ابن عباس: في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم، قال: قولوا معاشر
العباد: أرشدنا إلى حب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و أهل بيته (عليهم
السلام).
أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و هذه الأخبار من قبيل الجري، و عد المصداق
للآية، و اعلم أن الجري و كثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب اصطلاح مأخوذ من قول
أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
ففي تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه
الرواية ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن و ما فيها حرف إلا و له حد، و
لكل حد مطلع ما يعني بقوله: ظهر و بطن؟ قال؟ ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما
مضى و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر، كلما جاء منه شيء وقع
الحديث.
و في هذا المعنى روايات أخر، و هذه سليقة أئمة أهل البيت فإنهم (عليهم السلام)
يطبقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد و إن كان خارجا
عن مورد النزول، و الاعتبار يساعده، فإن القرآن نزل هدى للعالمين يهديهم إلى
واجب الاعتقاد و واجب الخلق و واجب العمل، و ما بينه من المعارف النظرية حقائق
لا تختص بحال دون حال و لا زمان، دون زمان و ما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعة
من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد و لا عصر دون عصر لعموم التشريع.
و ما ورد من شأن النزول و هو الأمر أو الحادثة التي تعقب نزول آية أو آيات في
شخص أو واقعة لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها و يموت
بموتها لأن البيان عام و التعليل مطلق، فإن المدح النازل في حق أفراد من
المؤمنين أو الذم النازل في حق آخرين معللا بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما
على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم و هكذا، و القرآن
أيضا يدل عليه، قال تعالى: "يهدي به الله من اتبع رضوانه": المائدة - 16 و قال:
"و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه": حم سجدة - 42.
و قال تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون": الحجر - 9.
و الروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم (عليهم السلام) أو على أعدائهم
أعني: روايات الجري، كثيرة في الأبواب المختلفة، و ربما تبلغ المئين، و نحن بعد
هذا التنبيه العام نترك إيراد أكثرها في الأبحاث الروائية لخروجها عن الغرض في
الكتاب، إلا ما تعلق بها غرض في البحث فليتذكر.
2 سورة البقرة - 1 - 5
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الم (1) ذَلِك الْكتَب لا رَيْب فِيهِ هُدًى
لِّلْمُتّقِينَ (2) الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصلَوةَ
وَ ممّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بمَا أُنزِلَ
إِلَيْك وَ مَا أُنزِلَ مِن قَبْلِك وَ بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولَئك عَلى هُدًى مِّن رّبِّهِمْ وَ أُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
بيان
لما كانت السورة نازلة نجوما لم يجمعها غرض واحد إلا أن معظمها تنبىء عن غاية
واحدة محصلة و هو بيان أن من حق عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله
بلسان رسله من غير تفرقة بين وحي و وحي، و لا بين رسول و رسول و لا غير ذلك ثم
تقريع الكافرين و المنافقين و ملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرقة في دين
الله و التفريق بين رسله، ثم التخلص إلى بيان عدة من الأحكام كتحويل القبلة و
أحكام الحج و الإرث و الصوم و غير ذلك.
قوله تعالى: الم، سيأتي بعض ما يتعلق من الكلام بالحروف المقطعة التي في أوائل
السور، في أول سورة الشورى إن شاء الله، و كذلك الكلام في معنى هداية القرآن و
معنى كونه كتابا.
و قوله تعالى: هدى للمتقين الذين يؤمنون إلخ، المتقون هم المؤمنون، و ليست
التقوى من الأوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم أعني: لمرتبة من مراتب الإيمان حتى
تكون مقاما من مقاماته نظير الإحسان و الإخبات و الخلوص، بل هي صفة مجامعة
لجميع مراتب الإيمان إذا تلبس الإيمان بلباس التحقق، و الدليل على ذلك أنه
تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم و
درجاتهم و الذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة
التي يبين فيها حال المؤمنين و الكفار و المنافقين خمس صفات، و هي الإيمان
بالغيب، و إقامة الصلاة، و الإنفاق مما رزق الله سبحانه، و الإيمان بما أنزله
على أنبيائه، و الإيقان بالآخرة، و قد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على
أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم
إنما صاروا متقين أولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثم وصف الكتاب بأنه هدى
لهؤلاء المتقين بقوله تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين" فعلمنا بذلك:
أن الهداية غير الهداية، و أن هؤلاء و هم متقون محفوفون بهدايتين، هداية أولى
بها صاروا متقين، و هداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى و بذلك صحت
المقابلة بين المتقين و بين الكفار و المنافقين، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم
بين ضلالين و عمائين، ضلال أول هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر و النفاق،
و ضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول، و يتصفون به بعد تحقق الكفر و النفاق كما
يقوله تعالى في حق الكفار: "ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم
غشاوة": البقرة - 7، فنسب الختم إلى نفسه تعالى و الغشاوة إلى أنفسهم، و كما
يقوله في حق المنافقين: "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا": البقرة - 10 فنسب
المرض الأول إليهم و المرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى:
"يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة - 26، و قوله
تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم": الصف - 5.
و بالجملة المتقون واقعون بين هدايتين، كما أن الكفار و المنافقين واقعون بين
ضلالين.
ثم إن الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الأولى قبل القرآن و بسبب
سلامة الفطرة، فإن الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تتنبه شاهده لفقرها و حاجتها
إلى أمر خارج عنها، و كذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل
إلى أمر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن
الحس منه يبدأ الجميع و إليه ينتهي و يعود، و إنه كما لم يهمل دقيقة من دقائق
ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات
الأعمال و الأخلاق، و هذا هو الإذعان بالتوحيد و النبوة و المعاد و هي أصول
الدين، و يلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيته، و استعمال ما في وسع
الإنسان من مال و جاه و علم و فضيلة لإحياء هذا الأمر و نشره، و هذان هما
الصلاة و الإنفاق.
و من هنا يعلم: أن الذي أخذه سبحانه من أوصافهم هو الذي يقضي به الفطرة إذا
سلمت و أنه سبحانه وعدهم أنه سيفيض عليهم أمرا سماه هداية، فهذه الأعمال
الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة و هداية لاحقة، و بين
الهدايتين يقع صدق الاعتقاد و صلاح العمل، و من الدليل على أن هذه الهداية
الثانية من الله سبحانه فرع الأولى، آيات كثيرة كقوله تعالى: "يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا و في الآخرة": إبراهيم - 27.
و قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من
رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به": الحديد - 28.
و قوله تعالى: "إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم": محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم) - 7.
و قوله تعالى: و الله لا يهدي القوم الظالمين": الصف - 7.
و قوله تعالى: "و الله لا يهدي القوم الفاسقين": الصف - 5.
إلى غير ذلك من الآيات.
و الأمر في ضلال الكفار و المنافقين كما في المتقين على ما سيأتي إن شاء الله.
و في الآيات إشارة إلى حياة أخرى للإنسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحياة
الدنيوية، و هي الحياة التي بها يعيش الإنسان في هذه الدار و بعد الموت و حين
البعث، قال تعالى: "أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس
كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها": الأنعام - 123.
و سيأتي الكلام فيه إن شاء الله.
و قوله سبحانه: يؤمنون، الإيمان تمكن الاعتقاد في القلب مأخوذ من الأمن كأن
المؤمن يعطي لما أمن به الأمن من الريب و الشك و هو آفة الاعتقاد، و الإيمان
كما مر معنى ذو مراتب، إذ الإذعان ربما يتعلق بالشيء نفسه فيترتب عليه أثره
فقط، و ربما يشتد بعض الاشتداد فيتعلق ببعض لوازمه، و ربما يتعلق بجميع لوازمه
فيستنتج منه أن للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الإيمان.
و قوله سبحانه: بالغيب، الغيب خلاف الشهادة و ينطبق على ما لا يقع عليه الحس، و
هو الله سبحانه و آياته الكبرى الغائبة عن حواسنا، و منها الوحي، و هو الذي
أشير إليه بقوله: "و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك" فالمراد
بالإيمان بالغيب في مقابل الإيمان بالوحي و الإيقان بالآخرة، هو الإيمان بالله
تعالى ليتم بذلك الإيمان بالأصول الثلاثة للدين، و القرآن يؤكد القول على عدم
القصر على الحس فقط و يحرص على اتباع سليم العقل و خالص اللب.
و قوله سبحانه: و بالآخرة هم يوقنون، العدول في خصوص الإذعان بالآخرة عن
الإيمان إلى الإيقان، كأنه للإشارة إلى أن التقوى لا تتم إلا مع اليقين بالآخرة
الذي لا يجامع نسيانها، دون الإيمان المجرد، فإن الإنسان ربما يؤمن بشيء و يذهل
عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنه إذا كان على علم و ذكر من يوم يحاسب فيه
على الخطير و اليسير من أعماله لا يقتحم معه الموبقات و لا يحوم حوم محارم الله
سبحانه البتة قال تعالى: "و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون
عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب": ص - 26، فبين تعالى: أن
الضلال عن سبيل الله إنما هو بنسيان يوم الحساب فذكره و اليقين به ينتج التقوى.
و قوله تعالى: أولئك على هدى من ربهم، الهداية كلها من الله سبحانه، لا ينسب
إلى غيره البتة إلا على نحو من المجاز كما سيأتي إن شاء الله، و لما وصفهم الله
سبحانه بالهداية و قد قال في نعتها: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره":
الأنعام - 125، و شرح الصدر سعته و هذا الشرح يدفع عنه كل ضيق و شح، و قد قال
تعالى: "و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون": الحشر - 9، عقب سبحانه هاهنا
أيضا قوله: أولئك على هدى من ربهم بقوله: و أولئك هم المفلحون الآية.
بحث روائي
في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: الذين يؤمنون بالغيب،
قال: من آمن بقيام القائم (عليه السلام) أنه حق.
أقول: و هذا المعنى مروي في غير هذه الرواية و هو من الجري.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: "و مما رزقناهم
ينفقون" قال: و مما علمناهم يبثون.
و في المعاني، عنه (عليه السلام): في الآية: و مما علمناهم يبثون، و ما علمناهم
من القرآن يتلون.
أقول: و الروايتان مبنيتان على حمل الإنفاق على الأعم من إنفاق المال كما
ذكرناه.
بحث فلسفي
هل يجوز التعويل على غير الإدراكات الحسية من المعاني العقلية؟ هذه المسألة من
معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيين و إن كان المعظم من القدماء و حكماء
الإسلام على جواز التعويل على الحس و العقل معا بل ذكروا أن البرهان العلمي لا
يشمل المحسوس من حيث إنه محسوس، لكن الغربيين مع ذلك اختلفوا في ذلك، و المعظم
منهم و خاصة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحس، و قد احتجوا على
ذلك بأن العقليات المحضة يكثر وقوع الخطإ و الغلط فيها مع عدم وجود ما يميز به
الصواب من الخطإ و هو الحس و التجربة المماسان للجزئيات بخلاف الإدراكات الحسية
فإنا إذا أدركنا شيئا بواحد من الحواس أتبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الأمثال، و
لا نزال نكرر حتى نستثبت الخاصة المطلوبة في الخارج ثم لا يقع فيه شك بعد ذلك،
و الحجة باطلة مدخولة.
أولا: بأن جميع المقدمات المأخوذة فيها عقلية غير حسية فهي حجة على بطلان
الاعتماد على المقدمات العقلية بمقدمات عقلية فيلزم من صحة الحجة فسادها.
و ثانيا: بأن الغلط في الحواس لا يقصر عددا من الخطإ و الغلط في العقليات، كما
يرشد إليه الأبحاث التي أوردوها في المبصرات و سائر المحسوسات، فلو كان مجرد
وقوع الخطإ في باب موجبا لسده و سقوط الاعتماد عليه لكان سد باب الحس أوجب و
ألزم.
و ثالثا: أن التميز بين الخطإ و الصواب مما لا بد منه في جميع المدركات غير أن
التجربة و هو تكرر الحس ليست آلة لذلك التميز بل القضية التجربية تصير إحدى
المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب، فإنا إذا أدركنا بالحس خاصة من الخواص
ثم أتبعناه بالتجربة بتكرار الأمثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل:
إن هذه الخاصة دائمي الوجود أو أكثري الوجود لهذا الموضوع، و لو كانت خاصة لغير
هذا الموضوع لم يكن بدائمي أو أكثري، لكنه دائمي أو أكثري و هذا القياس كما ترى
يشتمل على مقدمات عقلية غير حسية و لا تجريبية.
و رابعا: هب أن جميع العلوم الحسية مؤيدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح
أن نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة أخرى و هكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحته
من طريق غير طريق الحس، فالاعتماد على الحس و التجربة اعتماد على العلم العقلي
اضطرارا.
و خامسا: أن الحس لا ينال غير الجزئي المتغير و العلوم لا تستنتج و لا تستعمل
غير القضايا الكلية و هي غير محسوسة و لا مجربة، فإن التشريح مثلا إنما ينال من
الإنسان مثلا أفرادا معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحس فيها مشاهدة أن لهذا
الإنسان قلبا و كبدا مثلا، و يحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقل أو يكثر و
ذلك غير الحكم الكلي في قولنا: كل إنسان فله قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في
الاعتماد و التعويل على ما يستفاد من الحس و التجربة فحسب من غير ركون على
العقليات من رأس لم يتم لنا إدراك كلي و لا فكر نظري و لا بحث علمي، فكما يمكن
التعويل أو يلزم على الحس في مورد يخص به كذلك التعويل فيما يخص بالقوة
العقلية، و مرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلية و المدرك لهذه
الأحكام العامة، و لا ريب أن الإنسان معه شيء شأنه هذا الشأن، و كيف يتصور أن
يوجد و يحصل بالصنع و التكوين شيء شأنه الخطأ في فعله رأسا؟ أو يمكن أن يخطىء
في فعله الذي خصه به التكوين؟ و التكوين إنما يخص موجودا من الموجودات بفعل من
الأفعال بعد تثبت الرابطة الخارجية بينهما، و كيف يثبت رابطة بين موجود و ما
ليس بموجود أي خطأ و غلط؟ و أما وقوع الخطإ في العلوم أو الحواس فلبيان حقيقة
الأمر فيه محل آخر ينبغي الرجوع إليه و الله الهادي.
بحث آخر فلسفي
الإنسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحياة لا يرى من نفسه إلا أنه
ينال من الأشياء أعيانها الخارجية من غير أن يتنبه أنه يوسط بينه و بينها وصف
العلم، و لا يزال على هذا الحال حتى يصادف في بعض مواقفه الشك أو الظن، و عند
ذلك يتنبه: أنه لا ينفك في سيره الحيوي و معاشه الدنيوي عن استعمال العلم لا
سيما و هو ربما يخطىء و يغلط في تميزاته، و لا سبيل للخطإ و الغلط إلى خارج
الأعيان، فيتيقن عند ذلك بوجود صفة العلم و هو الإدراك المانع من النقيض فيه.
ثم البحث البالغ يوصلنا أيضا إلى هذه النتيجة، فإن إدراكاتنا التصديقية تحلل
إلى قضية أول الأوائل و هي أن الإيجاب و السلب لا يجتمعان معا و لا يرتفعان معا
فما من قضية بديهية أو نظرية إلا و هي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضية
البديهية الأولية، حتى إنا لو فرضنا من أنفسنا الشك فيها وجدنا الشك المفروض لا
يجامع بطلان نفسه و هو مفروض، و إذا ثبتت هذه القضية على بداهتها ثبت جم غفير
من التصديقات العلمية على حسب مساس الحاجة إلى إثباتها، و عليها معول الإنسان
في أنظاره و أعماله.
فما من موقف علمي و لا واقعة عملية إلا و معول الإنسان فيه على العلم، حتى أنه
إنما يشخص شكه بعلمه أنه شك، و كذا ظنه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنه ظن أو وهم
أو جهل هذا.
و لقد نشأ في عصر اليونانيين جماعة كانوا يسمون بالسوفسطائيين نفوا وجود العلم،
و كانوا يبدون في كل شيء الشك حتى في أنفسهم و في شكهم، و تبعهم آخرون يسمون
بالشكاكين قريبو المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم و أفكارهم
إدراكاتهم و ربما لفقوا لذلك وجوها من الاستدلال.
منها: أن أقوى العلوم و الإدراكات و هي الحاصلة لنا من طرق الحواس مملوءة خطأ و
غلطا فكيف بغيرها؟ و مع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شيء من العلوم و
التصديقات المتعلقة بالخارج منا؟ و منها: أنا كلما قصدنا نيل شيء من الأشياء
الخارجية لم ننل عند ذلك إلا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشيء من
الأشياء؟ إلى غير ذلك من الوجوه.
و الجواب عن الأول: أن هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شيء
من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافا
إلى أن الاعتراف بوجود الخطإ و كثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو
يزيد عليه، مضافا إلى أن القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصديق بل إنما
يدعيه في الجملة، و بعبارة أخرى يدعي الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي و
الحجة لا تفي بنفي ذلك.
و الجواب عن الثاني: أن محل النزاع و هو العلم حقيقته الكشف عن ما وراءه فإذا
فرضنا أنا كلما قصدنا شيئا من الأشياء الخارجية وجدنا العلم بذلك اعترفنا بأنا
كشفنا عنه حينئذ، و نحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة، و لم يدع أحد في
باب وجود العلم: أنا نجد نفس الواقع و ننال عين الخارج دون كشفه، و هؤلاء
محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريا في أفعال الحياة الاختيارية و
غيرها، فإنهم يتحركون إلى الغذاء و الماء عند إحساس ألم الجوع و العطش، و كذا
إلى كل مطلوب عند طلبه لا عند تصوره الخالي، و يهربون عن كل محذور مهروب عنه
عند العلم بوجوده لا عند مجرد تصوره، و بالجملة كل حاجة نفسانية ألهمتها إليهم
إحساساتهم أوجدوا حركة خارجية لرفعها و لكنهم عند تصور تلك الحاجة من غير حاجة
الطبيعة إليها لا يتحركون نحو رفعها، و بين التصورين فرق لا محالة، و هو أن أحد
العلمين يوجده الإنسان باختياره و من عند نفسه و الآخر إنما يوجد في الإنسان
بإيجاد أمر خارج عنه مؤثر فيه، و هو الذي يكشف عنه العلم، فإذن العلم موجود و
ذلك ما أردناه.
و اعلم: أن في وجود العلم شكا قويا من وجه آخر و هو الذي وضع عليه أساس العلوم
المادية اليوم من نفي العلم الثابت و كل علم ثابت، بيانه: أن البحث العلمي يثبت
في عالم الطبيعة نظام التحول و التكامل، فكل جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقع في
مسير الحركة و متوجه إلى الكمال، فما من شيء إلا و هو في الآن الثاني من وجوده
غيره و هو في الآن الأول من وجوده، و لا شك أن الفكر و الإدراك من خواص الدماغ
فهي خاصة مادية لمركب مادي، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحول و التكامل،
فهذه الإدراكات و منها الإدراك المسمى بالعلم واقعة في التغير و التحول فلا
معنى لوجود علم ثابت باق و إنما هو نسبي، فبعض التصديقات أدوم بقاء و أطول عمرا
أو أخفى نقيضا و نقضا من بعض آخر و هو المسمى بالعلم فيما وجد.
و الجواب عنه: أن الحجة مبنية على كون العلم ماديا غير مجرد في وجوده و ليس ذلك
بينا و لا مبينا بل الحق أن العلم ليس بمادي البتة، و ذلك لعدم انطباق صفات
المادة و خواصها عليه.
1 فإن الماديات مشتركة في قبول الانقسام و ليس يقبل العلم بما أنه علم الانقسام
البتة.
2 و الماديات مكانية زمانية و العلم بما أنه علم لا يقبل مكانا و لا زمانا، و
الدليل عليه إمكان تعقل الحادثة الجزئية الواقعة في مكان معين و زمان معين في
كل مكان و كل زمان مع حفظ العينية.
3 و الماديات بأجمعها واقعة تحت سيطرة الحركة العمومية فالتغير خاصة عمومية
فيها مع أن العلم بما أنه علم لا يتغير، فإن حيثية العلم بالذات تنافي حيثية
التغير و التبدل و هو ظاهر عند المتأمل.
4 و لو كان العلم مما يتغير بحسب ذاته كالماديات لم يمكن تعقل شيء واحد و لا
حادثة واحدة في وقتين مختلفين معا و لا تذكر شيء أو حادثة سابقة في زمان لاحق،
فإن الشيء المتغير و هو في الآن الثاني غيره في الآن الأول، فهذه الوجوه و
نظائرها دالة على أن العلم بما أنه علم ليس بمادي البتة، و أما ما يحصل في
العضو الحساس أو الدماغ من تحقق عمل طبيعي فليس بحثنا فيه أصلا و لا دليل على
أنه هو العلم، و مجرد تحقق عمل عند تحقق أمر من الأمور لا يدل على كونهما أمرا
واحدا، و الزائد على هذا المقدار من البحث ينبغي أن يطلب من محل آخر.
2 سورة البقرة - 6 - 7
إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا سوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَ أَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى
سمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصرِهِمْ غِشوَةٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
بيان
قوله تعالى: إن الذين كفروا، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر و تمكن الجحود من
قلوبهم، و يدل عليه وصف حالهم بمساواة الإنذار و عدمه فيهم، و لا يبعد أن يكون
المراد من هؤلاء الذين كفروا هم الكفار من صناديد قريش و كبراء مكة الذين
عاندوا و لجوا في أمر الدين و لم يألوا جهدا في ذلك و لم يؤمنوا حتى أفناهم
الله عن آخرهم في بدر و غيره، و يؤيده أن هذا التعبير و هو قوله: سواء عليهم، أ
أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، لا يمكن استطراده في حق جميع الكفار و إلا
انسد باب الهداية و القرآن ينادي على خلافه، و أيضا هذا التعبير إنما وقع في
سورة يس و هي مكية و في هذه السورة و هي سورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة
نزلت و لم تقع غزوة بدر بعد، فالأشبه أن يكون المراد من الذين كفروا، هاهنا و
في سائر الموارد من كلامه تعالى: كفار مكة في أول البعثة إلا أن تقوم قرينة على
خلافه، نظير ما سيأتي أن المراد من قوله تعالى: الذين آمنوا، فيما أطلق في
القرآن من غير قرينة هم السابقون الأولون من المسلمين، خصوا بهذا الخطاب
تشريفا.
و قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم و على سمعهم "إلخ" يشعر تغيير السياق: حيث
نسب الختم إلى نفسه تعالى و الغشاوة إليهم أنفسهم بأن فيهم حجابا دون الحق في
أنفسهم و حجابا من الله تعالى عقيب كفرهم و فسوقهم، فأعمالهم متوسطة بين
حجابين: من ذاتهم و من الله تعالى، و سيأتي بعض ما يتعلق بالمقام في قوله
تعالى: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا".
و اعلم أن الكفر كالإيمان وصف قابل للشدة و الضعف فله مراتب مختلفة الآثار
كالإيمان.
بحث روائي
في الكافي، عن الزبيري عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن وجوه
الكفر في كتاب الله عز و جل، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر
الجحود، و الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر الله، و كفر البراءة، و كفر
النعم. فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية و هو قول من يقول: لا رب و لا جنة
و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية و هم الذين يقولون و ما
يهلكنا إلا الدهر و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم و لا تحقيق لشيء مما
يقولون: قال عز و جل: إن هم إلا يظنون، أن ذلك كما يقولون، و قال: إن الذين
كفروا - سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، يعني بتوحيد الله، فهذا
أحد وجوه الكفر. و أما الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة، و هو أن يجحد الجاحد
و هو يعلم أنه حق قد استقر عنده، و قد قال الله عز و جل: "و جحدوا بها و
استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا"، و قال الله عز و جل: و كانوا من قبل يستفتحون
على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به - فلعنة الله على الكافرين،
فهذا تفسير وجهي الجحود، و الوجه الثالث من الكفر كفر النعم و ذلك قوله سبحانه
يحكي قول سليمان: هذا من فضل ربي ليبلوني أ أشكر أم أكفر - و من شكر فإنما يشكر
لنفسه - و من كفر فإن ربي غني كريم، و قال: لئن شكرتم لأزيدنكم - و لئن كفرتم
إن عذابي لشديد، و قال: فاذكروني أذكركم و اشكروا لي و لا تكفرون. و الوجه
الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز و جل به، و هو قول عز و جل: "و إذ أخذنا
ميثاقكم لا تسفكون دماءكم - و لا تخرجون أنفسكم من دياركم - ثم أقررتم و أنتم
تشهدون - ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم - و تخرجون فريقا منكم من ديارهم -
تظاهرون عليهم بالإثم و العدوان - و إن يأتوكم أسارى تفادوهم - و هو محرم عليكم
إخراجهم - أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض"، فكفرهم بترك ما أمر الله عز و
جل به و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال: فما جزاء من
يفعل ذلك منكم - إلا خزي في الحيوة الدنيا و يوم القيمة يردون إلى أشد العذاب -
و ما الله بغافل عما تعملون. و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة و ذلك قول
الله عز و جل يحكي قول إبراهيم: كفرنا بكم و بدا بيننا و بينكم العداوة و
البغضاء أبدا - حتى تؤمنوا بالله وحده، يعني تبرأنا منكم، و قال: يذكر إبليس و
تبريه من أوليائه من الإنس يوم القيامة إني كفرت بما أشركتمون من قبل، و قال:
إنما اتخذتم من دون الله أوثانا - مودة بينكم في الحيوة الدنيا - ثم يوم القيمة
يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا، يعني يتبرأ بعضكم من بعض.
أقول: و هي في بيان قبول الكفر الشدة و الضعف كما مر
2 سورة البقرة - 8 - 20
وَ مِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَ مَا
هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يخَدِعُونَ اللّهَ وَ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ مَا
يخْدَعُونَ إِلا أَنفُسهُمْ وَ مَا يَشعُرُونَ (9) فى قُلُوبِهِم مّرَضٌ
فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كانُوا
يَكْذِبُونَ (10) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فى الأَرْضِ قَالُوا
إِنّمَا نحْنُ مُصلِحُونَ (11) أَلا إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لَكِن لا
يَشعُرُونَ (12) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا كَمَا ءَامَنَ النّاس قَالُوا
أَ نُؤْمِنُ كَمَا ءَامَنَ السفَهَاءُ أَلا إِنّهُمْ هُمُ السفَهَاءُ وَ لَكِن
لا يَعْلَمُونَ (13) وَ إِذَا لَقُوا الّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنّا وَ
إِذَا خَلَوْا إِلى شيَطِينِهِمْ قَالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنّمَا نحْنُ
مُستهْزِءُونَ (14) اللّهُ يَستهْزِئُ بهِمْ وَ يَمُدّهُمْ فى طغْيَنِهِمْ
يَعْمَهُونَ (15) أُولَئك الّذِينَ اشترَوُا الضلَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبحَت
تجَرَتُهُمْ وَ مَا كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِى
استَوْقَدَ نَاراً فَلَمّا أَضاءَت مَا حَوْلَهُ ذَهَب اللّهُ بِنُورِهِمْ وَ
تَرَكَهُمْ فى ظلُمَتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صمّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا
يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصيِّبٍ مِّنَ السمَاءِ فِيهِ ظلُمَتٌ وَ رَعْدٌ وَ
بَرْقٌ يجْعَلُونَ أَصبِعَهُمْ فى ءَاذَانهِم مِّنَ الصوَعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ
وَ اللّهُ محِيط بِالْكَفِرِينَ (19) يَكادُ الْبرْقُ يخْطف أَبْصرَهُمْ كلّمَا
أَضاءَ لَهُم مّشوْا فِيهِ وَ إِذَا أَظلَمَ عَلَيهِمْ قَامُوا وَ لَوْ شاءَ
اللّهُ لَذَهَب بِسمْعِهِمْ وَ أَبْصرِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلى كلِّ شىْءٍ
قَدِيرٌ (20)
بيان
قوله تعالى: و من الناس من يقول إلى آخر الآيات، الخدعة نوع من المكر، و
الشيطان هو الشرير و لذلك سمي إبليس شيطانا.
و في الآيات بيان حال المنافقين، و سيجيء إن شاء الله تفصيل القول فيهم في سورة
المنافقين و غيرها.
و قوله تعالى: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا "إلخ" مثل يمثل به حالهم، أنهم
كالذي وقع في ظلمة عمياء لا يتميز فيها خير من شر و لا نافع من ضار فتسبب
لرفعها بسبب من أسباب الاستضاءة كنار يوقدها فيبصر بها ما حولها فلما توقدت و
أضاءت ما حولها أخمدها الله بسبب من الأسباب كريح أو مطر أو نحوهما فبقي فيما
كان عليه من الظلمة و تورط بين ظلمتين: ظلمة كان فيها و ظلمة الحيرة و بطلان
السبب.
و هذه حال المنافق، يظهر الإيمان فيستفيد بعض فوائد الدين باشتراكه مع المؤمنين
في مواريثهم و مناكحهم و غيرهما حتى إذا حان حين الموت و هو الحين الذي فيه
تمام الاستفادة من الإيمان ذهب الله بنوره و أبطل ما عمله و تركه في ظلمة لا
يدرك فيها شيئا و يقع بين الظلمة الأصلية و ما أوجده من الظلمة بفعاله.
و قوله تعالى: أو كصيب من السماء إلخ، الصيب هو المطر الغزير، و البرق معروف، و
الرعد هو الصوت الحادث من السحاب عند الإبراق، و الصاعقة هي النازلة من البروق.
و هذا مثل ثان يمثل به حال المنافقين في إظهارهم الإيمان، أنهم كالذي أخذه صيب
السماء و معه ظلمة تسلب عنه الأبصار و التمييز، فالصيب يضطره إلى الفرار و
التخلص، و الظلمة تمنعه ذلك، و المهولات من الرعد و الصاعقة محيطة به فلا يجد
مناصا من أن يستفيد بالبرق و ضوئه و هو غير دائم و لا باق متصل كلما أضاء له
مشى و إذا أظلم عليه قام.
و هذه حال المنافق فهو لا يحب الإيمان و لا يجد بدا من إظهاره، و لعدم المواطاة
بين قلبه و لسانه لا يستضيء له طريقه تمام الاستضاءة، فلا يزال يخبط خبطا بعد
خبط و يعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلا و يقف قليلا و يفضحه الله بذلك و لو شاء
الله لذهب بسمعه و بصره فيفتضح من أول يوم
2 سورة البقرة - 21 - 25
يَأَيهَا النّاس اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِى خَلَقَكُمْ وَ الّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ (21) الّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْض فِرَشاً وَ
السمَاءَ بِنَاءً وَ أَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثّمَرَتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلا تجْعَلُوا للّهِ أَندَاداً وَ أَنتُمْ
تَعْلَمُونَ (22) وَ إِن كنتُمْ فى رَيْبٍ مِّمّا نَزّلْنَا عَلى عَبْدِنَا
فَأْتُوا بِسورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَ ادْعُوا شهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللّهِ
إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (23) فَإِن لّمْ تَفْعَلُوا وَ لَن تَفْعَلُوا فَاتّقُوا
النّارَ الّتى وَقُودُهَا النّاس وَ الحِْجَارَةُ أُعِدّت لِلْكَفِرِينَ (24)
وَ بَشرِ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ أَنّ لهَُمْ جَنّتٍ تجْرِى
مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ كلّمَا رُزِقُوا مِنهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُوا
هَذَا الّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشبِهاً وَ لَهُمْ فِيهَا
أَزْوَجٌ مّطهّرَةٌ وَ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (25)
بيان
قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا "إلخ"، لما بين سبحانه: حال الفرق الثلاث:
المتقين و الكافرين، و المنافقين، و أن المتقين على هدى من ربهم و القرآن هدى
لهم، و أن الكافرين مختوم على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة، و أن
المنافقين مرضى و زادهم الله مرضا و هم صم بكم عمي و ذلك في تمام تسع عشرة آية
فرع تعالى على ذلك أن دعى الناس إلى عبادته و أن يلتحقوا بالمتقين دون الكافرين
و المنافقين بهذه الآيات الخمس إلى قوله: خالدون.
و هذا السياق يعطي كون قوله: لعلكم تتقون متعلقا بقوله: اعبدوا، دون قوله خلقكم
و إن كان المعنى صحيحا على كلا التقديرين.
و قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا و أنتم تعلمون، الأنداد جمع ند كمثل، وزنا
و معنى و عدم تقييد قوله تعالى: و أنتم تعلمون بقيد خاص و جعله حالا من قوله
تعالى فلا تجعلوا، يفيد التأكيد البالغ في النهي بأن الإنسان و له علم ما كيفما
كان لا يجوز له أن يتخذ لله سبحانه أندادا و الحال أنه سبحانه هو الذي خلقهم و
الذين من قبلهم ثم نظم النظام الكوني لرزقهم و بقائهم.
و قوله تعالى: فأتوا بسورة من مثله أمر تعجيزي لإبانة إعجاز القرآن، و أنه كتاب
منزل من عند الله لا ريب فيه، إعجازا باقيا بمر الدهور و توالي القرون و قد
تكرر في كلامه تعالى: "هذا التعجيز كقوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على
أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا": الإسراء
- 88، و قوله تعالى: "أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا
من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين": هود - 13.
و على هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى: مما نزلنا، و يكون تعجيزا
بالقرآن نفسه و بداعة أسلوبه و بيانه.
و يمكن أن يكون الضمير راجعا إلى قوله: عبدنا، فيكون تعجيزا بالقرآن من حيث إن
الذي جاء به رجل أمي لم يتعلم من معلم و لم يتلق شيئا من هذه المعارف الغالية
العالية و البيانات البديعة المتقنة من أحد من الناس فيكون الآية في مساق قوله
تعالى: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من
قبله أ فلا تعقلون": يونس - 16، و قد ورد التفسيران معا في بعض الأخبار.
و اعلم: أن هذه الآية كنظائرها تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر و
سورة العصر مثلا، و ما ربما يحتمل من رجوع ضمير مثله إلى نفس السورة كسورة
البقرة أو سورة يونس مثلا يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام إذ من يرمي
القرآن بأنه افتراء على الله تعالى إنما يرميه جميعا و لا يخصص قوله ذاك بسورة
دون سورة، فلا معنى لرده بالتحدي بسورة البقرة أو بسورة يونس لرجوع المعنى
حينئذ إلى مثل قولنا: و إن كنتم في ريب من سورة الكوثر أو الإخلاص مثلا فأتوا
بسورة مثل سورة يونس و هو بين الاستهجان هذا.
الإعجاز و ماهيته
اعلم: أن دعوى القرآن أنها آية معجزة بهذا التحدي الذي أبدتها هذه الآية تنحل
بحسب الحقيقة إلى دعويين، و هما دعوى ثبوت أصل الإعجاز و خرق العادة الجارية و
دعوى أن القرآن مصداق من مصاديق الإعجاز و معلوم أن الدعوى الثانية تثبت
بثبوتها الدعوى الأولى، و القرآن أيضا يكتفي بهذا النمط من البيان و يتحدى
بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنه يبقى الكلام على كيفية تحقق الإعجاز
مع اشتماله على ما لا تصدقه العادة الجارية في الطبيعة من استناد المسببات إلى
أسبابها المعهودة المشخصة من غير استثناء في حكم السببية أو تخلف و اختلاف في
قانون العلية، و القرآن يبين حقيقة الأمر و يزيل الشبهة فيه.
فالقرآن يشدق في بيان الأمر من جهتين.
الأولى: أن الإعجاز ثابت و من مصاديقه القرآن المثبت لأصل الإعجاز و لكونه منه
بالتحدي.
الثانية: أنه ما هو حقيقة الإعجاز و كيف يقع في الطبيعة أمر يخرق عادتها و ينقض
كليتها.
إعجاز القرآن
لا ريب في أن القرآن يتحدى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكية و مدنية تدل
جميعها على أن القرآن آية معجزة خارقة حتى أن الآية السابقة أعني قوله تعالى:
"و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله" الآية، أي من مثل
النبي " (صلى الله عليه وآله وسلم)" استدلال على كون القرآن معجزة بالتحدي على
إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا أنه استدلال
على النبوة مستقيما و بلا واسطة، و الدليل عليه قوله تعالى في أولها: "و إن
كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا" و لم يقل و إن كنتم في ريب من رسالة عبدنا،
فجميع التحديات الواقعة في القرآن نحو استدلال على كون القرآن معجزة خارقة من
عند الله، و الآيات المشتملة على التحدي مختلفة في العموم و الخصوص و من أعمها
تحديا قوله تعالى: "قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن
لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا": الإسراء - 88، و الآية مكية و فيها
من عموم التحدي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة.
فلو كان التحدي ببلاغة بيان القرآن و جزالة أسلوبه فقط لم يتعد التحدي قوما
خاصا و هم العرب العرباء من الجاهليين و المخضرمين قبل اختلاط اللسان و فساده،
و قد قرع بالآية أسماع الإنس و الجن.
و كذا غير البلاغة و الجزالة من كل صفة خاصة اشتمل عليها القرآن كالمعارف
الحقيقية و الأخلاق الفاضلة و الأحكام التشريعية و الأخبار المغيبة و معارف
أخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك، كل واحد منها مما
يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم، فإطلاق التحدي على الثقلين ليس إلا في جميع ما
يمكن فيه التفاضل في الصفات.
فالقرآن آية للبليغ في بلاغته و فصاحته، و للحكيم في حكمته، و للعالم في علمه و
للاجتماعي في اجتماعه، و للمقننين في تقنينهم و للسياسيين في سياستهم، و للحكام
في حكومتهم، و لجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعا كالغيب و الاختلاف في
الحكم و العلم، و البيان.
و من هنا يظهر أن القرآن يدعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه إعجازا
لكل فرد من الإنس و الجن من عامة أو خاصة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو
فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لب يشعر بالقول، فإن الإنسان مفطور على
الشعور بالفضيلة و إدراك الزيادة و النقيصة فيها، فلكل إنسان أن يتأمل ما يعرفه
من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثم يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل
عليه القرآن فيقضي بالحق و النصفة، فهل يتأتى القوة البشرية أن يختلق معارف
إلهية مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن و تماثله في الحقيقة؟ و هل يمكنها أن تأتي
بأخلاق مبنية على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء و الفضيلة؟ و
هل يمكنها أن يشرع أحكاما تامة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدي
إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد و كلمة التقوى في كل حكم و نتيجته، و سريان
الطهارة في أصله و فرعه؟ و هل يمكن أن يصدر هذا الإحصاء العجيب و الإتقان
الغريب من رجل أمي لم يترب إلا في حجر قوم حظهم من الإنسانية على مزاياها التي
لا تحصى و كمالاتها التي لا تغيا أن يرتزقوا بالغارات و الغزوات و نهب الأموال
و أن يئدوا البنات و يقتلوا الأولاد خشية إملاق و يفتخروا بالآباء و ينكحوا
الأمهات و يتباهوا بالفجور و يذموا العلم و يتظاهروا بالجهل و هم على أنفتهم و
حميتهم الكاذبة أذلاء لكل مستذل و خطفة لكل خاطف فيوما لليمن و يوما للحبشة و
يوما للروم و يوما للفرس؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهلية.
و هل يجتري عاقل على أن يأتي بكتاب يدعيه هدى للعالمين ثم يودعه أخبارا في
الغيب مما مضى و يستقبل و فيمن خلت من الأمم و فيمن سيقدم منهم لا بالواحد و
الاثنين في أبواب مختلفة من القصص و الملاحم و المغيبات المستقبلة ثم لا يتخلف
شيء منها عن صراط الصدق؟.
و هل يتمكن إنسان و هو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادية و الدار دار التحول و
التكامل أن يداخل في كل شأن من شئون العالم الإنساني و يلقي إلى الدنيا معارف و
علوما و قوانين و حكما و مواعظ و أمثالا و قصصا في كل ما دق و جل ثم لا يختلف
حاله في شيء منها في الكمال و النقص و هي متدرجة الوجود متفرقة الإلقاء و فيها
ما ظهر ثم تكرر و فيها فروع متفرعة على أصولها؟ هذا مع ما نراه أن كل إنسان لا
يبقى من حيث كمال العمل و نقصه على حال واحدة.
فالإنسان اللبيب القادر على تعقل هذه المعاني لا يشك في أن هذه المزايا الكلية
و غيرها مما يشتمل عليه القرآن الشريف كلها فوق القوة البشرية و وراء الوسائل
الطبيعية المادية و إن لم يقدر على ذلك فلم يضل في إنسانيته و لم ينس ما يحكم
به وجدانه الفطري أن يراجع فيما لا يحسن اختباره و يجهل مأخذه إلى أهل الخبرة
به.
فإن قلت: ما الفائدة في توسعة التحدي إلى العامة و التعدي عن حومة الخاصة فإن
العامة سريعة الانفعال للدعوة و الإجابة لكل صنيعة و قد خضعوا لأمثال الباب و
البهاء و القادياني و المسيلمة على أن ما أتوا به و استدلوا عليه أشبه بالهجر و
الهذيان منه بالكلام.
قلت: هذا هو السبيل في عموم الإعجاز و الطريق الممكن في تمييز الكمال و التقدم
في أمر يقع فيه التفاضل و السباق، فإن أفهام الناس مختلفة اختلافا ضروريا و
الكمالات كذلك، و النتيجة الضرورية لهاتين المقدمتين أن يدرك صاحب الفهم العالي
و النظر الصائب و يرجع من هو دون ذلك فهما و نظرا إلى صاحبه، و الفطرة حاكمة و
الغريزة قاضية.
و لا يقبل شيء مما يناله الإنسان بقواه المدركة و يبلغه فهمه العموم و الشمول
لكل فرد في كل زمان و مكان بالوصول و البلوغ و البقاء إلا ما هو من سنخ العلم و
المعرفة على الطريقة المذكورة، فإن كل ما فرض آية معجزة غير العلم و المعرفة
فإنما هو موجود طبيعي أو حادث حسي محكوم بقوانين المادة محدود بالزمان و المكان
فليس بمشهود إلا لبعض أفراد الإنسان دون بعض و لو فرض محالا أو كالمحال عمومه
لكل فرد منه فإنما يمكن في مكان دون جميع الأمكنة، و لو فرض اتساعه لكل مكان لم
يمكن اتساعه لجميع الأزمنة و الأوقات.
فهذا ما تحدى به القرآن تحديا عاما لكل فرد في كل مكان في كل زمان.
تحديه بالعلم
و قد تحدى بالعلم و المعرفة خاصة بقوله تعالى: "و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل
شيء": النحل - 89، و قوله: "و لا رطب و لا يابس إلا في كتاب مبين": الأنعام -
59، إلى غير ذلك من الآيات، فإن الإسلام كما يعلمه و يعرفه كل من سار في متن
تعليماته من كلياته التي أعطاها القرآن و جزئياته التي أرجعها إلى النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بنحو قوله: "ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه
فانتهوا": الحشر - 7، و قوله تعالى: "لتحكم بين الناس بما أريك الله": النساء -
104، و غير ذلك متعرض للجليل و الدقيق من المعارف الإلهية "الفلسفية" و الأخلاق
الفاضلة و القوانين الدينية الفرعية من عبادات و معاملات و سياسات و اجتماعيات
و كل ما يمسه فعل الإنسان و عمله، كل ذلك على أساس الفطرة و أصل التوحيد بحيث
ترجع التفاصيل إلى أصل التوحيد بالتحليل، و يرجع الأصل إلى التفاصيل بالتركيب.
و قد بين بقاؤها جميعا و انطباقها على صلاح الإنسان بمرور الدهور و كرورها
بقوله تعالى: "و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه
تنزيل من حكيم حميد": حم سجدة - 42.
و قوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون": الحجر - 9، فهو كتاب لا
يحكم عليه حاكم النسخ و لا يقضي عليه قانون التحول و التكامل.
فإن قلت: قد استقرت أنظار الباحثين عن الاجتماع و علماء التقنين اليوم على وجوب
تحول القوانين الوضعية الاجتماعية بتحول الاجتماع و اختلافها باختلاف الأزمنة و
الأوقات و تقدم المدنية و الحضارة.
قلت: سيجيء البحث عن هذا الشأن و الجواب عن الشبهة في تفسير قوله تعالى "كان
الناس أمة واحدة." الآية: البقرة - 213.
و جملة القول و ملخصه أن القرآن يبني أساس التشريع على التوحيد الفطري و
الأخلاق الفاضلة الغريزية و يدعي أن التشريع يجب أن ينمو من بذر التكوين و
الوجود.
و هؤلاء الباحثون يبنون نظرهم على تحول الاجتماع مع إلغاء المعنويات من معارف
التوحيد و فضائل الأخلاق، فكلمتهم جامدة على سير التكامل الاجتماعي المادي
العادم لفضيلة الروح، و كلمة الله هي العليا.
التحدي بمن أنزل عليه القرآن
و قد تحدى بالنبي الأمي الذي جاء بالقرآن المعجز في لفظه و معناه، و لم يتعلم
عند معلم و لم يترب عند مرب بقوله تعالى: "قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا
أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أ فلا تعقلون": يونس - 16، فقد كان (صلى
الله عليه وآله وسلم) بينهم و هو أحدهم لا يتسامى في فضل و لا ينطق بعلم حتى لم
يأت بشيء من شعر أو نثر نحوا من أربعين سنة و هو ثلثا عمره لا يحوز تقدما و لا
يرد عظيمة من عظائم المعالي ثم أتى بما أتى به دفعة فأتى بما عجزت عنه فحولهم و
كلت دونه ألسنة بلغائهم، ثم بثه في أقطار الأرض فلم يجترىء على معارضته معارض
من عالم أو فاضل أو ذي لب و فطانة.
و غاية ما أخذوه عليه: أنه سافر إلى الشام للتجارة فتعلم هذه القصص ممن هناك من
الرهبان و لم يكن أسفاره إلى الشام إلا مع عمه أبي طالب قبل بلوغه و إلا مع
ميسرة مولى خديجة و سنه يومئذ خمسة و عشرون و هو مع من يلازمه في ليله و نهاره،
و لو فرض محالا ذلك فما هذه المعارف و العلوم؟ و من أين هذه الحكم و الحقائق؟ و
ممن هذه البلاغة في البيان الذي خضعت له الرقاب و كلت دونه الألسن الفصاح؟.
و ما أخذوه عليه أنه كان يقف على قين بمكة من أهل الروم كان يعمل السيوف و
يبيعها فأنزل الله سبحانه: "و لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي
يلحدون إليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين": النحل - 103.
و ما قالوا عليه أنه يتعلم بعض ما يتعلم من سلمان الفارسي و هو من علماء الفرس
عالم بالمذاهب و الأديان مع أن سلمان إنما آمن به في المدينة، و قد نزل أكثر
القرآن بمكة و فيها من جميع المعارف الكلية و القصص ما نزلت منها بمدينة بل
أزيد، فما الذي زاده إيمان سلمان و صحابته؟.
على أن من قرأ العهدين و تأمل ما فيهما ثم رجع إلى ما قصه القرآن من تواريخ
الأنبياء السالفين و أممهم رأى أن التاريخ غير التاريخ و القصة غير القصة،
ففيهما عثرات و خطايا لأنبياء الله الصالحين تنبو الفطرة و تتنفر من أن تنسبها
إلى المتعارف من صلحاء الناس و عقلائهم، و القرآن يبرئهم منها، و فيها أمور
أخرى لا يتعلق بها معرفة حقيقية و لا فضيلة خلقية و لم يذكر القرآن منها إلا ما
ينفع الناس في معارفهم و أخلاقهم و ترك الباقي و هو الأكثر.
تحدي القرآن بالإخبار عن الغيب
و قد تحدى بالإخبار عن الغيب بآيات كثيرة، منها إخباره بقصص الأنبياء السالفين
و أممهم كقوله تعالى: "تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا
قومك من قبل هذا" الآية: هود - 49، و قوله تعالى بعد قصة يوسف: "ذلك من أنباء
الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون": يوسف - 102 و
قوله تعالى في قصة مريم: "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ
يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون": آل عمران - 44 و
قوله تعالى: "ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون": مريم - 34 إلى غير
ذلك من الآيات.
و منها الإخبار عن الحوادث المستقبلة كقوله تعالى: "غلبت الروم في أدنى الأرض و
هم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين": الروم - 2، 3، و قوله تعالى في رجوع
النبي إلى مكة بعد الهجرة: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد": القصص -
85، و قوله تعالى "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم و
مقصرين لا تخافون" الآية: الفتح - 27، و قوله تعالى: "سيقول المخلفون إذا
انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم": الفتح - 15، و قوله تعالى: "و الله
يعصمك من الناس": المائدة - 70، و قوله تعالى "إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له
لحافظون": الحجر - 9، و آيات أخر كثيرة في وعد المؤمنين و وعيد كفار مكة و
مشركيها.
و من هذا الباب آيات أخر في الملاحم نظير قوله تعالى: "و حرام على قرية
أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج و مأجوج و هم من كل حدب ينسلون و
اقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من
هذا بل كنا ظالمين": الأنبياء - 95، 97، و قوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا
منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض": النور - 55، و قوله تعالى: "قل هو
القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم": الأنعام - 65، و من هذا الباب قوله
تعالى: "و أرسلنا الرياح لواقح": الحجر - 22، و قوله تعالى "و أنبتنا فيها من
كل شيء موزون": الحجر - 19، و قوله تعالى: "و الجبال أوتادا": النبأ - 7، مما
يبتني حقيقة القول فيها على حقائق علمية مجهولة عند النزول حتى اكتشف الغطاء عن
وجهها بالأبحاث العلمية التي وفق الإنسان لها في هذه الأعصار.
و من هذا الباب و هو من مختصات هذا التفسير الباحث عن آيات القرآن باستنطاق
بعضها ببعض و استشهاد بعضها على بعض ما في سورة المائدة من قوله تعالى: "يا
أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه،"
الآية: المائدة - 54 و ما في سورة يونس من قوله تعالى: "و لكل أمة رسول فإذا
جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط إلى آخر الآيات": يونس - 47، و ما في سورة الروم
من قوله تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها" الآية:
الروم - 30، إلى غير ذلك من الآيات التي تنبىء عن الحوادث العظيمة التي تستقبل
الأمة الإسلامية أو الدنيا عامة بعد عهد نزول القرآن، و سنورد إن شاء الله
تعالى طرفا منها في البحث عن سورة الإسراء.
تحدى القرآن بعدم الاختلاف فيه
و قد تحدى أيضا بعدم وجود الاختلاف فيه، قال تعالى: "أ فلا يتدبرون القرآن و لو
كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا": النساء - 82، فإن من الضروري
أن النشأة نشأة المادة و القانون الحاكم فيها قانون التحول و التكامل فما من
موجود من الموجودات التي هي أجزاء هذا العالم إلا و هو متدرج الوجود متوجه من
الضعف إلى القوة و من النقص إلى الكمال في ذاته و جميع توابع ذاته و لواحقه من
الأفعال و الآثار و من جملتها الإنسان الذي لا يزال يتحول و يتكامل في وجوده و
أفعاله و آثاره التي منها آثاره التي يتوسل إليها بالفكر و الإدراك، فما من
واحد منا إلا و هو يرى نفسه كل يوم أكمل من أمس و لا يزال يعثر في الحين الثاني
على سقطات في أفعاله و عثرات في أقواله الصادرة منه في الحين الأول، هذا أمر لا
ينكره من نفسه إنسان ذو شعور.
و هذا الكتاب جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوما و قرأه على الناس
قطعا قطعا في مدة ثلاث و عشرين سنة في أحوال مختلفة و شرائط متفاوتة في مكة و
المدينة في الليل و النهار و الحضر و السفر و الحرب و السلم في يوم العسرة و في
يوم الغلبة و يوم الأمن و يوم الخوف، و لإلقاء المعارف الإلهية و تعليم الأخلاق
الفاضلة و تقنين الأحكام الدينية في جميع أبواب الحاجة، و لا يوجد فيه أدنى
اختلاف في النظم المتشابه كتابا متشابها مثاني، و لم يقع في المعارف التي
ألقاها و الأصول التي أعطاها اختلاف يتناقض بعضها مع بعض و تنافي شيء منها مع
آخر، فالآية تفسر الآية و البعض يبين البعض و الجملة تصدق الجملة كما قال علي
(عليه السلام): ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض: "نهج البلاغة".
و لو كان من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن و البهاء و القول في الشداقة و
البلاغة و المعنى من حيث الفساد و الصحة و من حيث الإتقان و المتانة.
فإن قلت: هذه مجرد دعوى لا تتكي على دليل و قد أخذ على القرآن مناقضات و
إشكالات جمة ربما ألف فيه التأليفات، و هي إشكالات لفظية ترجع إلى قصوره في
جهات البلاغة و مناقضات معنوية تعود إلى خطئه في آرائه و أنظاره و تعليماته، و
قد أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلا إلى التأويلات التي يحترزها
الكلام الجاري على سنن الاستقامة و ارتضاء الفطرة السليمة.
قلت: ما أشير إليه من المناقضات و الإشكالات موجودة في كتب التفسير و غيرها مع
أجوبتها و منها هذا الكتاب، فالإشكال أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان.
و لا تكاد تجد في هذه المؤلفات التي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة
أخذوها إلا و هي مذكورة في مسفورات المفسرين مع أجوبتها فأخذوا الإشكالات و
جمعوها و رتبوها و تركوا الأجوبة و أهملوها، و نعم ما قيل: لو كانت عين الحب
متهمة فعين البغض أولى بالتهمة.
فإن قلت: فما تقول: في النسخ الواقع في القرآن و قد نص عليه القرآن نفسه في
قوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها": البقرة - 106 و قوله: "و إذا
بدلنا آية مكان آية و الله أعلم بما ينزل": النحل - 101، و هل النسخ إلا اختلاف
في النظر لو سلمنا أنه ليس من قبيل المناقضة في القول؟.
قلت: النسخ كما أنه ليس من المناقضة في القول و هو ظاهر كذلك ليس من قبيل
الاختلاف في النظر و الحكم و إنما هو ناش من الاختلاف في المصداق من حيث قبوله
انطباق الحكم يوما لوجود مصلحته فيه و عدم قبوله الانطباق يوما آخر لتبدل
المصلحة من مصلحة أخرى توجب حكما آخر، و من أوضع الشهود على هذا أن الآيات
المنسوخة الأحكام في القرآن مقترنة بقرائن لفظية تومىء إلى أن الحكم المذكور في
الآية سينسخ كقوله تعالى: "و اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن
أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن
سبيلا": النساء - 14، انظر إلى التلويح الذي تعطيه الجملة الأخيرة، و كقوله
تعالى: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا" إلى أن قال
"فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره": البقرة - 109 حيث تمم الكلام بما يشعر
بأن الحكم مؤجل.
التحدي بالبلاغة
و قد تحدى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى: "أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور
مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا
لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله و أن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون": هود،
13، 14.
و الآية مكية، و قوله تعالى: "أم يقولون افتريه قل فأتوا بسورة مثله و ادعوا من
استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم
تأويله": يونس - 38، 39.
و الآية أيضا مكية و فيها التحدي بالنظم و البلاغة فإن ذلك هو الشأن الظاهر من
شئون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ، فالتاريخ لا يرتاب أن العرب العرباء بلغت
من البلاغة في الكلام مبلغا لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدمة عليهم و
المتأخرة عنهم و وطئوا موطئا لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان و جزالة النظم
و وفاء اللفظ و رعاية المقام و سهولة المنطق.
و قد تحدى عليهم القرآن بكل تحد ممكن مما يثير الحمية و يوقد نار الأنفة و
العصبية.
و حالهم في الغرور ببضاعتهم و الاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم مما لا
يرتاب فيه، و قد طالت مدة التحدي و تمادى زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلا
بالتجافي و لم يزدهم إلا العجز و لم يكن منهم إلا الاستخفاء و الفرار، كما قال
تعالى: "ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما
يسرون و ما يعلنون": هود - 5.
و قد مضى من القرون و الأحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرنا و لم يأت بما يناظره آت و
لم يعارضه أحد بشيء إلا أخزى نفسه و افتضح في أمره.
و قد ضبط النقل بعض هذه المعارضات و المناقشات، فهذا مسيلمة عارض سورة الفيل
بقوله: "الفيل ما الفيل و ما أدريك ما الفيل له ذنب وبيل و خرطوم طويل" و في
كلام له في الوحي يخاطب السجاح النبية "فنولجه فيكن إيلاجا، و نخرجه منكن
إخراجا" فانظر إلى هذه الهذيانات و اعتبر، و هذه سورة عارض بها الفاتحة بعض
النصارى "الحمد للرحمن.
رب الأكوان الملك الديان.
لك العبادة و بك المستعان اهدنا صراط الإيمان" إلى غير ذلك من التقولات.
فإن قلت: ما معنى كون التأليف الكلامي بالغا إلى مرتبة معجزة للإنسان و وضع
الكلام مما سمحت به قريحة الإنسان؟ فكيف يمكن أن يترشح من القريحة ما لا تحيط
به و الفاعل أقوى من فعله و منشأ الأثر محيط بأثره؟ و بتقريب آخر الإنسان هو
الذي جعل اللفظ علامة دالة على المعنى لضرورة الحاجة الاجتماعية إلى تفهيم
الإنسان ما في ضميره لغيره فخاصة الكشف عن المعنى في اللفظ خاصة وضعية اعتبارية
مجعولة للإنسان، و من المحال أن يتجاوز هذه الخاصة المترشحة عن قريحة الإنسان
حد قريحته فتبلغ مبلغا لا تسعه طاقة القريحة، فمن المحال حينئذ أن يتحقق في
اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة و إلا كانت غير الدلالة الوضعية
الاعتبارية، مضافا إلى أن التراكيب الكلامية لو فرض أن بينها تركيبا بالغا حد
الإعجاز كان معناه أن كل معنى من المعاني المقصودة ذو تراكيب كلامية مختلفة في
النقص و الكمال و البلاغة و غيرها، و بين تلك التراكيب تركيب هو أرقاها و
أبلغها لا تسعها طاقة البشر، و هو التركيب المعجز، و لازمه أن يكون في كل معنى
مطلوب تركيب واحد إعجازي، مع أن القرآن كثيرا ما يورد في المعنى الواحد بيانات
مختلفة و تراكيب متفرقة، و هو في القصص واضح لا ينكر، و لو كانت تراكيبه معجزة
لم يوجد منها في كل معنى مقصود إلا واحد لا غير.
قلت: هاتان الشبهتان و ما شاكلهما هي الموجبة لجمع من الباحثين في إعجاز القرآن
في بلاغته أن يقولوا بالصرف، و معنى الصرف أن الإتيان بمثل القرآن أو سور أو
سورة واحدة منه محال على البشر لمكان آيات التحدي و ظهور العجز من أعداء القرآن
منذ قرون، و لكن لا لكون التأليفات الكلامية التي فيها في نفسها خارجة عن طاقة
الإنسان و فائقة على القوة البشرية، مع كون التأليفات جميعا أمثالا لنوع النظم
الممكن للإنسان، بل لأن الله سبحانه يصرف الإنسان عن معارضتها و الإتيان بمثلها
بالإرادة الإلهية الحاكمة على إرادة الإنسان حفظا لآية النبوة و وقاية لحمى
الرسالة.
و هذا قول فاسد لا ينطبق على ما يدل عليه آيات التحدي بظاهرها كقوله "قل فأتوا
بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم
يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله" الآية: هود - 13 14، فإن الجملة
الأخيرة ظاهرة في أن الاستدلال بالتحدي إنما هو على كون القرآن نازلا لا كلاما
تقوله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن نزوله إنما هو بعلم الله لا
بإنزال الشياطين كما قال تعالى "أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث
مثله إن كانوا صادقين": الطور - 34، و قوله تعالى: "و ما تنزلت به الشياطين و
ما ينبغي لهم و ما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون": الشعراء - 212، و الصرف
الذي يقولون به إنما يدل على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف، لا على كون
القرآن كلاما لله نازلا من عنده، و نظير هذه الآية الآية الأخرى، و هي قوله:
"قل فأتوا بسورة مثله و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا
بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله" الآية: يونس - 39، فإنها ظاهرة في أن
الذي يوجب استحالة إتيان البشر بمثل القرآن و ضعف قواهم و قوى كل من يعينهم على
ذلك من تحمل هذا الشأن هو أن للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه فكذبوه، و لا يحيط
به علما إلا الله فهو الذي يمنع المعارض عن أن يعارضه، لا أن الله سبحانه
يصرفهم عن ذلك مع تمكنهم منه لو لا الصرف بإرادة من الله تعالى.
و كذا قوله تعالى: "أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا" الآية: النساء - 82، فإنه ظاهر في أن الذي يعجز الناس عن
الإتيان بمثل القرآن إنما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظا و معنى و
لا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف، لا أن الله صرفهم عن
مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه هذا، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف
كلام لا ينبغي الركون إليه.
و أما الإشكال باستلزام الإعجاز من حيث البلاغة المحال، بتقريب أن البلاغة من
صفات الكلام الموضوع و وضع الكلام من آثار القريحة الإنسانية فلا يمكن أن يبلغ
من الكمال حدا لا تسعه طاقة القريحة و هو مع ذلك معلول لها لا لغيرها، فالجواب
عنه أن الذي يستند من الكلام إلى قريحة الإنسان إنما هو كشف اللفظ المفرد عن
معناه، و أما سرد الكلام و نضد الجمل بحيث يحاكي جمال المعنى المؤلف و هيئته
على ما هو عليه في الذهن بطبعه حكاية تامة أو ناقصة و إراءة واضحة أو خفية، و
كذا تنظيم الصورة العلمية في الذهن بحيث يوافق الواقع في جميع روابطه و مقدماته
و مقارناته و لواحقه أو في كثير منها أو في بعضها دون بعض فإنما هو أمر لا يرجع
إلى وضع الألفاظ بل إلى نوع مهارة في صناعة البيان و فن البلاغة تسمح به
القريحة في سرد الألفاظ و نظم الأدوات اللفظية و نوع لطف في الذهن يحيط به
القوة الذاهنة على الواقعة المحكية بأطرافها و لوازمها و متعلقاتها.
فهاهنا جهات ثلاث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربما أحاط إنسان بلغة من
اللغات فلا يشذ عن علمه لفظ لكنه لا يقدر على التهجي و التكلم، و ربما تمهر
الإنسان في البيان و سرد الكلام لكن لا علم له بالمعارف و المطالب فيعجز عن
التكلم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته التي هو عليها في نفسه، و
ربما تبحر الإنسان في سلسلة من المعارف و المعلومات و لطفت قريحته و رقت فطرته
لكن لا يقدر على الإفصاح عن ما في ضميره، و عي عن حكاية ما يشاهده من جمال
المعنى و منظره البهيج.
فهذه أمور ثلاثة: أولها راجع إلى وضع الإنسان بقريحته الاجتماعية، و الثاني و
الثالث راجعان إلى نوع من لطف القوة المدركة، و من البين أن إدراك القوى
المدركة منا محدودة مقدرة لا نقدر على الإحاطة بتفاصيل الحوادث الخارجية و
الأمور الواقعية بجميع روابطها، فلسنا على أمن من الخطإ قط في وقت من الأوقات،
و مع ذلك فالاستكمال التدريجي الذي في وجودنا أيضا يوجب الاختلاف التدريجي في
معلوماتنا أخذا من النقص إلى الكمال، فأي خطيب أشدق و أي شاعر مفلق فرضته لم
يكن ما يأتيه في أول أمره موازنا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره؟ فلو فرضنا
كلاما إنسانيا أي كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطإ لفرض عدم اطلاع متكلمه
بجميع أجزاء الواقع و شرائطه أولا و لم يكن على حد كلامه السابق و لا على زنة
كلامه اللاحق بل و لا أوله يساوي آخره و إن لم نشعر بذلك لدقة الأمر، لكن حكم
التحول و التكامل عام ثانيا، و على هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه و جد
الهزل هو القول بغير علم محيط و لا اختلاف يعتريه لم يكن كلاما بشريا، و هو
الذي يفيده القرآن بقوله: "أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" الآية: النساء - 82، و قوله تعالى: "و السماء ذات
الرجع و الأرض ذات الصدع إنه لقول فصل و ما هو بالهزل:" الطارق - 14. انظر إلى
موضع القسم بالسماء و الأرض المتغيرتين و المعنى المقسم به في عدم تغيره و
اتكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله و سيأتي ما يراد في القرآن من لفظ التأويل، و
قوله تعالى: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ": البروج - 22، و قوله تعالى: "و
الكتاب المبين، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، و إنه في أم الكتاب لدينا
لعلي حكيم": الزخرف - 4.
و قوله تعالى: "فلا أقسم بمواقع النجوم و إنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن
كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون": الواقعة - 79، فهذه الآيات و
نظائرها تحكي عن اتكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيرة و لا متغير
ما يتكي عليها.
إذا عرفت ما مر علمت أن استناد وضع اللغة إلى الإنسان لا يقتضي أن لا يوجد
تأليف كلامي فوق ما يقدر عليه الإنسان الواضع به، و ليس ذلك إلا كالقول بأن
القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع من يستعملها و واضع النرد و الشطرنج يجب
أن يكون أمهر من يلعب بهما و مخترع العود يجب أن يكون أقوى من يضرب بها.
فقد تبين من ذلك كله أن البلاغة التامة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع
من جهة مطابقة اللفظ للمعنى و من جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي يحكيه
الصورة الذهنية.
أما اللفظ فأن يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقا للترتيب
الذي بين أجزاء المعنى المعبر عنه باللفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما
قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز.
و أما المعنى فأن يكون في صحته و صدقه معتمدا على الخارج الواقع بحيث لا يزول
عما هو عليه من الحقيقة، و هذه المرتبة هي التي يتكي عليها المرتبة السابقة،
فكم من هزل بليغ في هزليته لكنه لا يقاوم الجد، و كم من كلام بليغ مبني على
الجهالة لكنه لا يعارض و لا يسعه أن يعارض الحكمة، و الكلام الجامع بين عذوبة
اللفظ و جزالة الأسلوب و بلاغة المعنى و حقيقة الواقع هو أرقى الكلام.
و إذا كان الكلام قائما على أساس الحقيقة و منطبق المعنى عليها تمام الانطباق
لم يكذب الحقائق الآخر و لم تكذبه فإن الحق مؤتلف الأجزاء و متحد الأركان، لا
يبطل حق حقا، و لا يكذب صدق صدقا، و الباطل هو الذي ينافي الباطل و ينافي الحق،
انظر إلى مغزى قوله سبحانه و تعالى: "فما ذا بعد الحق إلا الضلال": يونس - 32،
فقد جعل الحق واحدا لا تفرق فيه و لا تشتت.
و انظر إلى قوله تعالى: "و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم": الأنعام - 153.
فقد جعل الباطل متشتتا و مشتتا و متفرقا و مفرقا.
و إذا كان الأمر كذلك فلا يقع بين أجزاء الحق اختلاف بل نهاية الايتلاف، يجر
بعضه إلى بعض، و ينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض و يحكي بعضه البعض.
و هذا من عجيب أمر القرآن فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة و لا
تعقم عن الإنتاج، كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثم
الآية الثالثة تصدقها و تشهد بها، هذا شأنه و خاصته، و سترى في خلال البيانات
في هذا الكتاب نبذا من ذلك، على أن الطريق متروك غير مسلوك و لو أن المفسرين
ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة و خزائن من أثقاله
النفيسة.
فقد اتضح بطلان الإشكال من الجهتين جميعا فإن أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار
اللفظ حتى يقال إن الإنسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على أبلغ الكلام و
أفصحه و هو واضح أو يقال إن أبلغ التركيبات المتصورة تركيب واحد من بينها فكيف
يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعددة مختلفة السياق و الجميع فائقة قدرة
البشر بالغة حد الإعجاز بل المدار هو المعنى المحافظ لجميع جهات الذهن و
الخارج.
معنى الآية المعجزة في القرآن و ما يفسر به حقيقتها
و لا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة و تحققها بمعنى الأمر الخارق
للعادة الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة و نشأة المادة لا بمعنى
الأمر المبطل لضرورة العقل.
و ما تمحله بعض المنتسبين إلى العلم من تأويل الآيات الدالة على ذلك توفيقا
بينها و بين ما يتراءى من ظواهر الأبحاث الطبيعية "العلمية" اليوم تكلف مردود
إليه.
و الذي يفيده القرآن الشريف في معنى خارق العادة و إعطاء حقيقته نذكره في فصول
من الكلام.
1 - تصديق القرآن لقانون العلية العامة
إن القرآن يثبت للحوادث الطبيعية أسبابا و يصدق قانون العلية العامة كما يثبته
ضرورة العقل و تعتمد عليه الأبحاث العلمية و الأنظار الاستدلالية، فإن الإنسان
مفطور على أن يعتقد لكل حادث مادي علة موجبة من غير تردد و ارتياب.
|