قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
و كذلك العلوم الطبيعية و سائر الأبحاث العلمية تعلل الحوادث و الأمور المربوطة
بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل، و لا نعني بالعلة إلا أن يكون هناك أمر واحد
أو مجموع أمور إذا تحققت في الطبيعة مثلا تحقق عندها أمر آخر نسميه المعلول بحكم
التجارب كدلالة التجربة على أنه كلما تحقق احتراق لزم أن يتحقق هناك قبله علة موجبة
له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك، و من هنا كانت الكلية و عدم التخلف من
أحكام العلية و المعلولية و لوازمهما.
و تصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه و تكلم فيه من موت و حياة و رزق و
حوادث أخرى علوية سماوية أو سفلية أرضية على أظهر وجه، و إن كان يسندها جميعا
بالآخرة إلى الله سبحانه لفرض التوحيد.
فالقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سببا من الأسباب إذا تحقق مع ما
يلزمه و يكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتبا عليه بإذن
الله سبحانه و إذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة.
2 - إثبات القرآن ما يخرق العادة
ثم إن القرآن يقتص و يخبر عن جملة من الحوادث و الوقائع لا يساعد عليه جريان العادة
المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلة و المعلول الموجود، و هذه الحوادث الخارقة
للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها إلى عدة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح و
هود و صالح و إبراهيم و لوط و داود و سليمان و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم) فإنها أمور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة.
لكن يجب أن يعلم أن هذه الأمور و الحوادث و إن أنكرتها العادة و استبعدتها إلا أنها
ليست أمورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا الإيجاب و
السلب يجتمعان معا و يرتفعان معا من كل جهة و قولنا الشيء يمكن أن يسلب عن نفسه و
قولنا: الواحد ليس نصف الاثنين و أمثال ذلك من الأمور الممتنعة بالذات كيف؟ و عقول
جم غفير من المليين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك و ترتضيه من غير إنكار و رد و لو كانت
المعجزات ممتنعة بالذات لم يقبلها عقل عاقل و لم يستدل بها على شيء و لم ينسبها أحد
إلى أحد.
على أن أصل هذه الأمور أعني المعجزات ليس مما تنكره عادة الطبيعة بل هي مما يتعاوره
نظام المادة كل حين بتبديل الحي إلى ميت و الميت إلى الحي و تحويل صورة إلى صورة و
حادثة إلى حادثة و رخاء إلى بلاء و بلاء إلى رخاء، و إنما الفرق بين صنع العادة و
بين المعجزة الخارقة هو أن الأسباب المادية المشهودة التي بين أيدينا إنما تؤثر
أثرها مع روابط مخصوصة و شرائط زمانية و مكانية خاصة تقضي بالتدريج في التأثير،
مثلا العصا و إن أمكن أن تصير حية تسعى و الجسد البالي و إن أمكن أن يصير إنسانا
حيا لكن ذلك إنما يتحقق في العادة بعلل خاصة و شرائط زمانية و مكانية مخصوصة تنتقل
بها المادة من حال إلى حال و تكتسي صورة بعد صورة حتى تستقر و تحل بها الصورة
الأخيرة المفروضة على ما تصدقه المشاهدة و التجربة لا مع أي شرط اتفق أو من غير علة
أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات و الخوارق التي يقصها القرآن.
و كما أن الحس و التجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك
النظر العلمي الطبيعي، لكونه معتمدا على السطح المشهود من نظام العلة و المعلول
الطبيعيين، أعني به السطح الذي يستقر عليه التجارب العلمي اليوم و الفرضيات المعللة
للحوادث المادية.
إلا أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالا ليس في وسع العلم إنكاره و الستر عليه،
فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة و أهل الارتياض كل يوم تمتلىء
به العيون و تنشره النشريات و يضبطه الصحف و المسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في
وقوعها شك و لا في تحققها ريب.
و هذا هو الذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحية من علماء العصر أن يعللوه بجريان
أمواج مجهولة إلكتريسية مغناطيسية فافترضوا أن الارتياضات الشاقة تعطي للإنسان سلطة
على تصريف أمواج مرموزة قوية تملكه أو تصاحبه إرادة و شعور و بذلك يقدر على ما يأتي
به من حركات و تحريكات و تصرفات عجيبة في المادة خارقة للعادة بطريق القبض و البسط
و نحو ذلك.
و هذه الفرضية لو تمت و اطردت من غير انتقاض لأدت إلى تحقق فرضية جديدة وسيعة تعلل
جميع الحوادث المتفرقة التي كانت تعللها جميعا أو تعلل بعضها الفرضيات القديمة على
محور الحركة و القوة و لساقت جميع الحوادث المادية إلى التعلل و الارتباط بعلة
واحدة طبيعية.
فهذا قولهم و الحق معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعي لا علة طبيعية له مع فرض
كون الرابطة طبيعية محفوظة، و بعبارة أخرى إنا لا نعني بالعلة الطبيعية إلا أن
تجتمع عدة موجودات طبيعية مع نسب و روابط خاصة فيتكون منها عند ذلك موجود طبيعي
جديد حادث متأخر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث و لم
يتحقق وجوده.
و أما القرآن الكريم فإنه و إن لم يشخص هذه العلة الطبيعية الأخيرة التي تعلل جميع
الحوادث المادية العادية و الخارقة للعادة على ما نحسبه بتشخيص اسمه و كيفية تأثيره
لخروجه عن غرضه العام إلا أنه مع ذلك يثبت لكل حادث مادي سببا ماديا بإذن الله
تعالى، و بعبارة أخرى يثبت لكل حادث مادي مستند في وجوده إلى الله سبحانه و الكل
مستند مجرى ماديا و طريقا طبيعيا به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه.
قال تعالى: "و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب، و من يتوكل على
الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا": الطلاق - 3، فإن صدر
الآية يحكم بالإطلاق من غير تقييد أن كل من اتقى الله و توكل عليه و إن كانت
الأسباب العادية المحسوبة عندنا أسبابا تقضي بخلافه و تحكم بعدمه فإن الله سبحانه
حسبه فيه و هو كائن لا محالة، كما يدل عليه أيضا إطلاق قوله تعالى: "و إذا سألك
عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان": البقرة - 186، و قوله تعالى:
"ادعوني أستجب لكم": المؤمن - 60، و قوله تعالى: "أ ليس الله بكاف عبده": الزمر -
36.
ثم الجملة التالية و هي قوله تعالى: "إن الله بالغ أمره": الطلاق - 3، يعلل إطلاق
الصدر، و في هذا المعنى قوله: "و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون":
يوسف - 21، و هذه جملة مطلقة غير مقيدة بشيء البتة فلله سبحانه سبيل إلى كل حادث
تعلقت به مشيته و إرادته و إن كانت السبل العادية و الطرق المألوفة مقطوعة منتفية
هناك.
و هذا يحتمل وجهين: أحدهما أن يتوسل تعالى إليه من غير سبب مادي و علة طبيعية بل
بمجرد الإرادة وحدها، و ثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به
الله سبحانه و يبلغ ما يريده من طريقه إلا أن الجملة التالية من الآية المعللة لما
قبلها أعني قوله تعالى، قد جعل الله لكل شيء قدرا تدل على ثاني الوجهين فإنها تدل
على أن كل شيء من المسببات أعم مما تقتضيه الأسباب العادية أو لا تقتضيه فإن له
قدرا قدره الله سبحانه عليه، و ارتباطات مع غيره من الموجودات، و اتصالات وجودية مع
ما سواه، لله سبحانه أن يتوسل منها إليه و إن كانت الأسباب العادية مقطوعة عنه غير
مرتبطة به إلا أن هذه الاتصالات و الارتباطات ليست مملوكة للأشياء أنفسها حتى تطيع
في حال و تعصي في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.
فالآية تدل على أنه تعالى جعل بين الأشياء جميعها ارتباطات و اتصالات له أن يبلغ
إلى كل ما يريد من أي وجه شاء و ليس هذا نفيا للعلية و السببية بين الأشياء بل
إثبات أنها بيد الله سبحانه يحولها كيف شاء و أراد، ففي الوجود عليه و ارتباط حقيقي
بين كل موجود و ما تقدمه من الموجودات المنتظمة غير أنها ليست على ما نجده بين
ظواهر الموجودات بحسب العادة و لذلك نجد الفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل
جميع الحوادث الوجودية بل على ما يعلمه الله تعالى و ينظمه.
و هذه الحقيقة هي التي تدل عليها آيات القدر كقوله تعالى: "و إن من شيء إلا عندنا
خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر - 21، و قوله تعالى: "إنا كل شيء خلقناه
بقدر": القمر - 49، و قوله تعالى: "و خلق كل شيء فقدره تقديرا": الفرقان - 2، و
قوله تعالى: "الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى": الأعلى - 3.
و كذا قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل
أن نبرأها": الحديد - 22، و قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله و من يؤمن
بالله يهد قلبه و الله بكل شيء عليم": التغابن - 11.
فإن الآية الأولى و كذا بقية الآيات تدل على أن الأشياء تنزل من ساحة الإطلاق إلى
مرحلة التعين و التشخص بتقدير منه تعالى و تحديد يتقدم على الشيء و يصاحبه، و لا
معنى لكون الشيء محدودا مقدرا في وجوده إلا أن يتحدد و يتعين بجميع روابطه التي مع
سائر الموجودات و الموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات المادية الأخرى التي
هي كالقالب الذي يقلب به الشيء و يعين وجوده و يحدده و يقدره فما من موجود مادي إلا
و هو متقدر مرتبط بجميع الموجودات المادية التي تتقدمه و تصاحبه فهو معلول لآخر
مثله لا محالة.
و يمكن أن يستدل أيضا على ما مر بقوله تعالى: "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء": المؤمن
- 62، و قوله تعالى: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم": هود
- 56.
فإن الآيتين بانضمام ما مرت الإشارة إليه من أن الآيات القرآنية تصدق قانون العلية
العام تنتج المطلوب.
و ذلك أن الآية الأولى تعمم الخلقة لكل شيء فما من شيء إلا و هو مخلوق لله عز شأنه،
و الآية الثانية تنطق بكون الخلقة و الإيجاد على وتيرة واحدة و نسق منتظم من غير
اختلاف يؤدي إلى الهرج و الجزاف.
و القرآن كما عرفت يصدق قانون العلية العام في ما بين الموجودات المادية، ينتج أن
نظام الوجود في الموجودات المادية سواء كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط
مستقيم غير متخلف و وتيرة واحدة في إستناد كل حادث فيه إلى العلة المتقدمة عليه
الموجبة له.
و من هنا يستنتج أن الأسباب العادية التي ربما يقع التخلف بينها و بين مسبباتها
ليست بأسباب حقيقية بل هناك أسباب حقيقية مطردة غير متخلفة الأحكام و الخواص كما
ربما يؤيده التجارب العلمي في جراثيم الحياة و في خوارق العادة كما مر.
3 - القرآن يسند ما أسند إلى العلة المادية إلى الله تعالى
ثم إن القرآن كما يثبت بين الأشياء العلية و المعلولية و يصدق سببية البعض للبعض
كذلك يسند الأمر في الكل إلى الله سبحانه فيستنتج منه أن الأسباب الوجودية غير
مستقلة في التأثير و المؤثر الحقيقي بتمام معنى الكلمة ليس إلا الله عز سلطانه.
قال تعالى: "ألا له الخلق و الأمر": الأعراف - 53، و قال تعالى "لله ما في السموات
و ما في الأرض": البقرة - 284، و قال تعالى: "له ملك السموات و الأرض": الحديد - 5،
و قال تعالى: "قل كل من عند الله": النساء - 77.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أن كل شيء مملوك محض لله لا يشاركه فيه
أحد، و له أن يتصرف فيها كيف شاء و أراد و ليس لأحد أن يتصرف في شيء منها إلا من
بعد أن يأذن الله لمن شاء و يملكه التصرف من غير استقلال في هذا التمليك أيضا، بل
مجرد إذن لا يستقل به المأذون له دون أن يعتمد على إذن الإذن، قال تعالى: "قل اللهم
مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء": آل عمران - 26، و قال
تعالى: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه - 50، إلى غير ذلك من الآيات، و قال
تعالى أيضا: "له ما في السموات و ما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه":
البقرة - 255، و قال تعالى: "ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد
إذنه": يونس - 3.
فالأسباب تملكت السببية بتمليكه تعالى، و هي غير مستقلة في عين أنها مالكة.
و هذا المعنى هو الذي يعبر سبحانه عنه بالشفاعة و الإذن، فمن المعلوم أن الإذن إنما
يستقيم معناه إذا كان هناك مانع من تصرف المأذون فيه، و المانع أيضا إنما يتصور
فيما كان هناك مقتض موجود يمنع المانع عن تأثيره و يحول بينه و بين تصرفه.
فقد بان أن في كل السبب مبدأ مؤثرا مقتضيا للتأثير به يؤثر في مسببه، و الأمر مع
ذلك لله سبحانه.
4 - القرآن يثبت تأثيرا في نفوس الأنبياء في الخوارق
ثم إنه تعالى قال: "و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله
قضي بالحق و خسر هنالك المبطلون": المؤمن - 78.
فأفاد إناطة إتيان أية آية من أي رسول بإذن الله سبحانه فبين أن إتيان الآيات
المعجزة من الأنبياء و صدورها عنهم إنما هو لمبدإ مؤثر موجود في نفوسهم الشريفة
متوقف في تأثيره على الإذن كما مر في الفصل السابق.
و قال تعالى: "و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان و ما كفر سليمان و لكن
الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر و ما أنزل على الملكين ببابل هاروت و ماروت و ما
يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين
المرء و زوجه و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله": البقرة - 102.
و الآية كما أنها تصدق صحة السحر في الجملة كذلك تدل على أن السحر أيضا كالمعجزة في
كونه عن مبدإ نفساني في الساحر لمكان الإذن.
و بالجملة جميع الأمور الخارقة للعادة سواء سميت معجزة أو سحرا أو غير ذلك ككرامات
الأولياء و سائر الخصال المكتسبة بالارتياضات و المجاهدات جميعها مستندة إلى مباد
نفسانية و مقتضيات إرادية على ما يشير إليه كلامه سبحانه إلا أن كلامه ينص على أن
المبدأ الموجود عند الأنبياء و الرسل و المؤمنين هو الفائق الغالب على كل سبب و في
كل حال، قال تعالى: "و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن
جندنا لهم الغالبون": الصافات - 173، و قال تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا و رسلي":
المجادلة - 21، و قال تعالى: "إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحيوة الدنيا و
يوم يقوم الأشهاد": المؤمن - 51.
و الآيات مطلقة غير مقيدة
و من هنا يمكن أن يستنتج أن هذا المبدأ الموجود المنصور أمر وراء الطبيعة و فوق
المادة.
فإن الأمور المادية مقدرة محدودة مغلوبة لما هو فوقها قدرا و حدا عند التزاحم و
المغالبة، و الأمور المجردة أيضا و إن كانت كذلك إلا أنها لا تزاحم بينها و لا
تمانع إلا أن تتعلق بالمادة.
بعض التعلق و هذا المبدأ النفساني المجرد المنصور بإرادة الله سبحانه إذا قابل
مانعا ماديا أفاض إمدادا على السبب بما لا يقاومه سبب مادي يمنعه فافهم.
5 - القرآن كما يسند الخوارق إلى تأثير النفوس يسندها إلى أمر الله تعالى
ثم إن الجملة الأخيرة من الآية السابقة في الفصل السابق أعني قوله تعالى: "فإذا جاء
أمر الله قضي بالحق الآية، تدل على أن تأثير هذا المقتضي يتوقف على أمر من الله
تعالى يصاحب الإذن الذي كان يتوقف عليه أيضا فتأثير هذا المقتضي يتوقف على مصادفته
الأمر أو اتحاده معه.
و قد فسر الأمر في قوله تعالى "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون": يس -
82، بكلمة الإيجاد و قول: كن و قال تعالى: "إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه
سبيلا و ما تشاءون إلا أن يشاء الله": الدهر - 29، 30 و قال: "إن هو إلا ذكر
للعالمين. لمن شاء منكم أن يستقيم. و ما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين":
التكوير - 27، 28، 29، دلت الآيات على أن الأمر الذي للإنسان إن يريده و بيده زمام
اختياره لا يتحقق موجودا إلا أن يشاء الله ذلك بأن يشاء أن يشاء الإنسان و يريد
إرادة الإنسان فإن الآيات الشريفة في مقام أن أفعال الإنسان الإرادية و إن كانت بيد
الإنسان بإرادته لكن الإرادة و المشية ليست بيد الإنسان بل هي مستندة إلى مشية الله
سبحانه، و ليست في مقام بيان أن كل ما يريده الإنسان فقد أراده الله فإنه خطأ فاحش
و لازمه أن يتخلف الفعل عن إرادة الله سبحانه عند تخلفه عن إرادة الإنسان، تعالى
الله عن ذلك.
مع أنه خلاف ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في هذا المورد كقوله تعالى: "و لو شئنا
لآتينا كل نفس هديها": السجدة - 13.
و قوله تعالى: "و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا": يونس - 99، إلى غير ذلك
فإرادتنا و مشيئتنا إذا تحققت فينا فهي مرادة بإرادة الله و مشيته لها و كذا
أفعالنا مرادة له تعالى من طريق إرادتنا و مشيتنا بالواسطة.
و هما أعني الإرادة و الفعل جميعا متوقفان على أمر الله سبحانه و كلمة كن.
فالأمور جميعا سواء كانت عادية أو خارقة للعادة و سواء كان خارق العادة في جانب
الخير و السعادة كالمعجزة و الكرامة، أو في جانب الشر كالسحر و الكهانة مستندة في
تحققها إلى أسباب طبيعية، و هي مع ذلك متوقفة على إرادة الله، لا توجد إلا بأمر
الله سبحانه أي بأن يصادف السبب أو يتحد مع أمر الله سبحانه.
و جميع الأشياء و إن كانت من حيث استناد وجودها إلى الأمر الإلهي على حد سواء بحيث
إذا تحقق الإذن و الأمر تحققت عن أسبابها، و إذا لم يتحقق الإذن و الأمر لم تتحقق،
أي لم تتم السببية إلا أن قسما منها و هو المعجزة من الأنبياء أو ما سأله عبد ربه
بالدعاء لا يخلو عن إرادة موجبة منه تعالى و أمر عزيمة كما يدل عليه قوله: "كتب
الله لأغلبن أنا و رسلي" الآية: المجادلة - 21.
و قوله تعالى: "أجيب دعوة الداع إذا دعان" الآية: البقرة - 186، و غير ذلك من
الآيات المذكورة في الفصل السابق.
6 - القرآن يسند المعجزة إلى سبب غير مغلوب
فقد تبين من الفصول السابقة من البحث أن المعجزة كسائر الأمور الخارقة للعادة لا
تفارق الأسباب العادية في الاحتياج إلى سبب طبيعي و أن مع الجميع أسبابا باطنية و
أن الفرق بينها أن الأمور العادية ملازمة لأسباب ظاهرية تصاحبها الأسباب الحقيقية
الطبيعية غالبا أو مع الأغلب و مع تلك الأسباب الحقيقية إرادة الله و أمره، و
الأمور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر و الكهانة مستندة إلى أسباب طبيعية مفارقة
للعادة مقارنة للسبب الحقيقي بالإذن و الإرادة كاستجابة الدعاء و نحو ذلك من غير
تحد يبتني عليه ظهور حق الدعوة و أن المعجزة مستندة إلى سبب طبيعي حقيقي بإذن الله
و أمره إذا كان هناك تحد يبتني عليه صحة النبوة و الرسالة و الدعوة إلى الله تعالى
و أن القسمين الآخرين يفارقان سائر الأقسام في أن سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قط
بخلاف سائر المسببات.
فإن قلت: فعلى هذا لو فرضنا الإحاطة و البلوغ إلى السبب الطبيعي الذي للمعجزة كانت
المعجزة ميسورة ممكنة الإتيان لغير النبي أيضا و لم يبق فرق بين المعجزة و غيرها
إلا بحسب النسبة و الإضافة فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة
بالنسبة إلى آخرين، و هم المطلعون على سببها الطبيعي الحقيقي، و في عصر دون عصر، و
هو عصر العلم، فلو ظفر البحث العلمي على الأسباب الحقيقية الطبيعية القصوى لم يبق
مورد للمعجزة و لم تكشف المعجزة عن الحق.
و نتيجة هذا البحث أن المعجزة لا حجية فيها إلا على الجاهل بالسبب فليست حجة في
نفسها.
قلت: كلا فليست المعجزة معجزة من حيث إنها مستندة إلى سبب طبيعي مجهول حتى تنسلخ عن
اسمها عند ارتفاع الجهل و تسقط عن الحجية، و لا أنها معجزة من حيث استنادها إلى سبب
مفارق للعادة، بل هي معجزة من حيث إنها مستندة إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب
السبب قاهرة العلة البتة، و ذلك كما أن الأمر الحادث من جهة استجابة الدعاء كرامة
من حيث استنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنه يمكن أن يحدث من غير جهته
كجهة العلاج بالدواء غير أنه حينئذ أمر عادي يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب
آخر أقوى منه.
7 - القرآن يعد المعجزة برهانا على صحة الرسالة لا دليلا عاميا
و هاهنا سؤال و هو أنه ما هي الرابطة بين المعجزة و بين حقية دعوى الرسالة مع أن
العقل لا يرى تلازما بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه و بين صدور أمر خارق
للعادة عن الرسول على أن الظاهر من القرآن الشريف، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدة
من الأنبياء كهود و صالح و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنهم على
ما يقصه القرآن حينما بثوا دعوتهم سئلوا عن آية تدل على حقية دعوتهم فأجابوهم فيما
سئلوا و جاءوا بالآيات.
و ربما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئا من ذلك كما قال تعالى
في موسى (عليه السلام) و هارون: "اذهب أنت و أخوك بآياتي و لا تنيا في ذكري": طه -
42، و قال تعالى في عيسى (عليه السلام): "و رسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم
بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله و
أبرىء الأكمه و الأبرص و أحيي الموتى بإذن الله و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون في
بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين": آل عمران - 49، و كذا إعطاء القرآن
معجزة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و بالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقية ما أتى به الأنبياء و الرسل من
معارف المبدإ و المعاد و بين صدور أمر يخرق العادة عنهم.
مضافا إلى أن قيام البراهين الساطعة على هذه الأصول الحقة يغني العالم البصير بها
عن النظر في أمر الإعجاز، و لذا قيل إن المعجزات لإقناع نفوس العامة لقصور عقولهم
عن إدراك الحقائق العقلية و أما الخاصة فإنهم في غنى عن ذلك.
و الجواب عن هذا السؤال أن الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) لم يأتوا بالآيات
المعجزة لإثبات شيء من معارف المبدإ و المعاد مما يناله العقل كالتوحيد و البعث و
أمثالها و إنما اكتفوا في ذلك بحجة للعقل و المخاطبة من طريق النظر و الاستدلال
كقوله تعالى: "قالت رسلهم أ في الله شك فاطر السموات و الأرض": إبراهيم - 10 في
الإحتجاج على التوحيد قوله تعالى: "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا
ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا و عملوا
الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار": ص - 28 في الإحتجاج على
البعث.
و إنما سئل الرسل المعجزة و أتوا بها لإثبات رسالتهم و تحقيق دعويها.
و ذلك أنهم ادعوا الرسالة من الله بالوحي و أنه بتكليم إلهي أو نزول ملك و نحو ذلك
و هذا شيء خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الإدراكات الظاهرة و الباطنة التي يعرفها
عامة الناس و يجدونها من أنفسهم، بل إدراك مستور عن عامة النفوس لو صح وجوده لكان
تصرفا خاصا من ما وراء الطبيعة في نفوس الأنبياء فقط، مع أن الأنبياء كغيرهم من
أفراد الناس في البشرية و قواها، و لذلك صادفوا إنكارا شديدا من الناس و مقاومة
عنيفة في رده على أحد وجهين: فتارة حاول الناس إبطال دعويهم بالحجة كقوله تعالى:
"قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آبائنا": إبراهيم -
10، استدلوا فيها على بطلان دعويهم الرسالة بأنهم مثل سائر الناس و الناس لا يجدون
شيئا مما يدعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة، و لو كان لكان في الجميع أو جاز
للجميع هذا، و لهذا أجاب الرسل عن حجتهم بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: "قالت لهم
رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم و لكن الله يمن على من يشاء من عباده": إبراهيم - 13،
فردوا عليهم بتسليم المماثلة و أن الرسالة من منن الله الخاصة، و الاختصاص ببعض
النعم الخاصة لا ينافي المماثلة، فللناس اختصاصات، نعم لو شاء أن يمتن على من يشاء
منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوة مختصة بالبعض و إن جاز على الكل.
و نظير هذا الاحتجاج قولهم في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما حكاه الله
تعالى: "أ أنزل عليه الذكر من بيننا": ص - 8، و قولهم كما حكاه الله: "لو لا أنزل
هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم": الزخرف - 31.
و نظير هذا الاحتجاج أو قريب منه ما في قوله تعالى: "و قالوا ما لهذا الرسول يأكل
الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو
تكون له جنة يأكل منها": الفرقان - 8، و وجه الاستدلال أن دعوى الرسالة توجب أن لا
يكون بشرا مثلنا لكونه ذا أحوال من الوحي و غيره ليس فينا فلم يأكل الطعام و يمشي
في الأسواق لاكتساب المعيشة؟ بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الإنذار أو يلقى
إليه كنز فلا يحتاج إلى مشي الأسواق للكسب أو تكون له جنة فيأكل منها لا مما نأكل
منه من طعام، فرد الله تعالى عليهم بقوله: "انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا
يستطيعون سبيلا" إلى أن قال "و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام
و يمشون في الأسواق و جعلنا بعضكم لبعض فتنة أ تصبرون و كان ربك بصيرا": الفرقان -
20، و رد تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للإنذار بقوله: "و لو جعلناه
ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون": الأنعام - 9.
و قريب من ذلك الاحتجاج أيضا ما في قوله تعالى: "و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا
أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا":
الفرقان - 21، فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو
رؤية الرب سبحانه لمكان المماثلة مع النبي، فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله: "يوم
يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين و يقولون حجرا محجورا": الفرقان - 22، فذكر
أنهم و الحال حالهم لا يرون الملائكة إلا مع حال الموت كما ذكره في موضع آخر بقوله
تعالى: "و قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن
كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين": الحجر - 8، و
يشتمل هذه الآيات الأخيرة على زيادة في وجه الاستدلال، و هو تسليم صدق النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) في دعواه إلا أنه مجنون و ما يحكيه و يخبر به أمر يسوله له
الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله: "و قالوا مجنون و ازدجر": القمر
- 9.
و بالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجة على إبطال دعوى النبوة من
طريق المماثلة.
و تارة أخرى أقاموا أنفسهم مقام الإنكار و سؤال الحجة و البينة على صدق الدعوة
لاشتمالها على ما تنكره النفوس و لا تعرفه العقول على طريقة المنع مع السند باصطلاح
فن المناظرة و هذه البينة هي المعجزة، بيان ذلك أن دعوى النبوة و الرسالة من كل نبي
و رسول على ما يقصه القرآن إنما كانت بدعوى الوحي و التكليم الإلهي بلا واسطة أو
بواسطة نزول الملك، و هذا أمر لا يساعد عليه الحس و لا تؤيده التجربة فيتوجه عليه
الإشكال من جهتين: إحداهما من جهة عدم الدليل عليه، و الثانية من جهة الدليل على
عدمه، فإن الوحي و التكليم الإلهي و ما يتلوه من التشريع و التربية الدينية مما لا
يشاهده البشر من أنفسهم، و العادة الجارية في الأسباب و المسببات تنكره فهو أمر
خارق للعادة، و قانون العلية العامة لا يجوزه، فلو كان النبي صادقا في دعواه النبوة
و الوحي كان لازمه أنه متصل بما وراء الطبيعة، مؤيد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة
و أن الله سبحانه يريد بنبوته و الوحي إليه خرق العادة، فلو كان هذا حقا و لا فرق
بين خارق و خارق كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع و أن
يخرق الله العادة بأمر آخر يصدق النبوة و الوحي من غير مانع عنه فإن حكم الأمثال
واحد فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة و هو طريق النبوة و الوحي
فليؤيدها و ليصدقها بخارق آخر و هو المعجزة.
و هذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة كلما جاءهم رسول من
أنفسهم بعثا بالفطرة و الغريزة و كان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة و تصديقها لا
للدلالة على صدق المعارف الحقة التي كان الأنبياء يدعون إليها مما يمكن أن يناله
البرهان كالتوحيد و المعاد، و نظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل
سيدهم الحاكم عليهم و معه أوامر و نواه يدعيها للسيد فإن بيانه لهذه الأحكام و
إقامته البرهان على أن هذه الأحكام مشتملة على مصلحة القوم و هم يعلمون أن سيدهم لا
يريد إلا صلاح شأنهم، إنما يكفي في كون الأحكام التي جاء بها حقة صالحة للعمل، و لا
تكفي البراهين و الأدلة المذكورة في صدق رسالته و أن سيدهم أراد منهم بإرساله إليهم
ما جاء به من الأحكام بل يطالبونه ببينة أو علامة تدل على صدقه في دعواه ككتاب بخطه
و خاتمه يقرءونه، أو علامة يعرفونها، كما قال المشركون للنبي: "حتى تنزل علينا
كتابا نقرؤه": إسراء - 93.
فقد تبين بما ذكرناه أولا: التلازم بين صدق دعوى الرسالة و بين المعجزة و أنها
الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصة و العامة في دلالتها و إثباتها،
و ثانيا أن ما يجده الرسول و النبي من الوحي و يدركه منه من غير سنخ ما نجده
بحواسنا و عقولنا النظرية الفكرية، فالوحي غير الفكر الصائب و هذا المعنى في كتاب
الله تعالى من الوضوح و السطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم و أقل إنصاف.
و قد انحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهية و
الحقائق الدينية على ما وصفه العلوم الطبيعية من أصالة المادة المتحولة المتكاملة
فقد رأوا أن الإدراكات الإنسانية خواص مادية مترشحة من الدماغ و أن الغايات
الوجودية و جميع الكمالات الحقيقية استكمالات فردية أو اجتماعية مادية.
فذكروا أن النبوة نوع نبوغ فكري و صفاء ذهني يستحضر به الإنسان المسمى نبيا كمال
قومه الاجتماعي و يريد به أن يخلصهم من ورطة الوحشية و البربرية إلى ساحة الحضارة و
المدنية فيستحضر ما ورثه من العقائد و الآراء و يطبقها على مقتضيات عصره و محيط
حياته، فيقنن لهم أصولا اجتماعية و كليات عملية يستصلح بها أفعالهم الحيوية ثم يتمم
ذلك بأحكام و أمور عبادية ليستحفظ بها خواصهم الروحية لافتقار الجامعة الصالحة و
المدنية الفاضلة إلى ذلك و يتفرع على هذا الافتراض: أولا: أن النبي إنسان متفكر
نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعي.
و ثانيا: أن الوحي هو انتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.
و ثالثا: أن الكتاب السماوي مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزهة عن التهوسات
النفسانية و الأغراض النفسانية الشخصية.
و رابعا: أن الملائكة التي أخبر بها النبي قوى طبيعية تدبر أمور الطبيعة أو قوى
نفسانية تفيض كمالات النفوس عليها، و أن روح القدس مرتبة من الروح الطبيعية المادية
تترشح منها هذه الأفكار المقدسة، و أن الشيطان مرتبة من الروح تترشح منها الأفكار
الردية و تدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع، و على هذا الأسلوب فسروا
الحقائق التي أخبر بها الأنبياء كاللوح و القلم و العرش و الكرسي و الكتاب و الحساب
و الجنة و النار بما يلائم الأصول المذكورة.
و خامسا: أن الأديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحول بتحولها.
و سادسا: أن المعجزات المنقولة عن الأنبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث
محرفة لنفع الدين و حفظ عقائد العامة عن التبدل بتحول الأعصار أو لحفظ مواقع أئمة
الدين و رؤساء المذهب عن السقوط و الاضمحلال إلى غير ذلك مما أبدعه قوم و تبعهم
آخرون.
هذه جمل ما ذكروه و النبوة بهذا المعنى لأن تسمى لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى
نبوة إلهية، و الكلام التفصيلي في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا
المقام.
و الذي يمكن أن يقال فيه هاهنا أن الكتب السماوية و البيانات النبوية المأثورة على
ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير و لا تناسبه أدنى مناسبة، و إنما دعاهم إلى هذا
النوع من التفسير إخلادهم إلى الأرض و ركونهم إلى مباحث المادة فاستلزموا إنكار ما
وراء الطبيعة و تفسير الحقائق المتعالية عن المادة بما يسلخها عن شأنها و تعيدها
إلى المادة الجامدة.
و ما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسرون
جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادة غير أنهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن
الحس كالعرش و الكرسي و اللوح و القلم و الملائكة و نحوها من غير مساعدة الحس و
التجربة على شيء من ذلك، ثم لما اتسع نطاق العلوم الطبيعية و جرى البحث على أساس
الحس و التجربة لزم الباحثين على ذلك الأسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها
المادية الخارجة عن الحس أو البعيدة عنه و أن يفسروها بما تعيدها إلى الوجود المادي
المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم و يستحفظ بذلك عن السقوط.
فهاتان الطائفتان بين باغ و عاد، أما القدماء من المتكلمين فقد فهموا من البيانات
الدينية مقاصدها حق الفهم من غير مجاز غير أنهم رأوا أن مصاديقها جميعا أمور مادية
محضة لكنها غائبة عن الحس غير محكومة بحكم المادة أصلا و الواقع خلافه، و أما
المتأخرون من باحثي هذا العصر ففسروا البيانات الدينية بما أخرجوها به عن مقاصدها
البينة الواضحة، و طبقوها على حقائق مادية ينالها الحس و تصدقها التجربة مع أنها
ليست بمقصوده، و لا البيانات اللفظية تنطبق على شيء منها.
و البحث الصحيح يوجب أن تفسر هذه البيانات اللفظية على ما يعطيها اللفظ في العرف و
اللغة ثم يعتمد في أمر المصداق على ما يفسر به بعض الكلام بعضا ثم ينظر، هل الأنظار
العلمية تنافيها أو تبطلها؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شيء خارج عن المادة و حكمها
فإنما الطريق إليه إثباتا أو نفيا طور آخر من البحث غير البحث الطبيعي الذي تتكفله
العلوم الطبيعية، فما للعلم الباحث عن الطبيعة و للأمر الخارج عنها؟ فإن العلم
الباحث عن المادة و خواصها ليس من وظيفته أن يتعرض لغير المادة و خواصها لا إثباتا
و لا نفيا.
و لو فعل شيئا منه باحث من بحاثه كان ذلك منه شططا من القول، نظير ما لو أراد
الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفيا أو إثباتا، و لنرجع إلى بقية
الآيات.
و قوله تعالى: فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة.
سوق الآيات من أول السورة و إن كانت لبيان حال المتقين و الكافرين و المنافقين
الطوائف الثلاث جميعا لكنه سبحانه حيث جمعهم طرا في قوله: يا أيها الناس اعبدوا
ربكم، و دعاهم إلى عبادته تقسموا لا محالة إلى مؤمن و غيره فإن هذه الدعوة لا تحتمل
من حيث إجابتها و عدمها غير القسمين: المؤمن و الكافر و أما المنافق فإنما يتحقق
بضم الظاهر إلى الباطن، و اللسان إلى القلب فكان هناك من جمع بين اللسان و القلب
إيمانا أو كفرا و من اختلف لسانه و قلبه و هو المنافق، فلما ذكرنا لعله أسقط
المنافقون من الذكر، و خص بالمؤمنين و الكافرين و وضع الإيمان مكان التقوى.
ثم إن الوقود ما توقد به النار و قد نصت الآية على أنه نفس الإنسان، فالإنسان وقود
و موقود عليه، كما في قوله تعالى أيضا: "ثم في النار يسجرون": المؤمن - 72 و قوله
تعالى: "نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة": اللمزة - 7، فالإنسان معذب بنار
توقده نفسه، و هذه الجملة نظيره قوله تعالى: "كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا
هذا الذي رزقنا من قبل و أتوا به متشابها": البقرة - 25، ظاهرة في أنه ليس للإنسان
هناك إلا ما هيأه من هاهنا، كما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "كما تعيشون
تموتون و كما تموتون تبعثون" الحديث.
و إن كان بين الفريقين فرق من حيث إن لأهل الجنة مزيدا عند ربهم.
قال تعالى: "لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد": ق - 35.
و المراد بالحجارة في قوله: وقودها الناس و الحجارة، الأصنام التي كانوا يعبدونها،
و يشهد به قوله تعالى: "إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم" الآية: الأنبياء -
98، و الحصب هو الوقود.
و قوله تعالى: لهم فيها أزواج مطهرة، قرينة الأزواج تدل على أن المراد بالطهارة هي
الطهارة من أنواع الأقذار و المكاره التي تمنع من تمام الالتيام و الألفة و الأنس
من الأقذار و المكاره الخلقية و الخلقية.
بحث روائي
روى الصدوق، قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن الآية فقال: الأزواج المطهرة اللاتي
لا يحضن و لا يحدثن.
أقول: و في بعض الروايات تعميم الطهارة للبراءة عن جميع العيوب و المكاره.
2 سورة البقرة - 26 - 27
إِنّ اللّهَ لا يَستَحْىِ أَن يَضرِب مَثَلاً مّا بَعُوضةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا
الّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبِّهِمْ وَ أَمّا الّذِينَ
كفَرُوا فَيَقُولُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كثِيراً
وَ يَهْدِى بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلّ بِهِ إِلا الْفَسِقِينَ (26) الّذِينَ
يَنقُضونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ وَ يَقْطعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ
بِهِ أَن يُوصلَ وَ يُفْسِدُونَ فى الأَرْضِ أُولَئك هُمُ الْخَسِرُونَ (27)
.
بيان
قوله تعالى: إن الله لا يستحيي أن يضرب، البعوضة الحيوان المعروف و هو من أصغر
الحيوانات المحسوسة و هذه الآية و التي بعدها نظيرة ما في سورة الرعد "أ فمن يعلم
أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب. الذين يوفون
بعهد الله و لا ينقضون الميثاق. و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل": الرعد -
19، 20، 21.
و كيف كان فالآية تشهد على أن من الضلال و العمى ما يلحق الإنسان عقيب أعماله
السيئة غير الضلال و العمى الذي له في نفسه و من نفسه حيث يقول تعالى: و ما يضل به
إلا الفاسقين، فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدما عليه هذا.
ثم إن الهداية و الإضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة و الخذلان التي ترد
منه تعالى على عباده السعداء و الأشقياء، فإن الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء
من عباده بأنه يحييهم حياة طيبة، و يؤيدهم بروح الإيمان، و يخرجهم من الظلمات إلى
النور و يجعل لهم نورا يمشون به، و هو وليهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و هو
معهم يستجيب لهم إذا دعوه و يذكرهم إذا ذكروه، و الملائكة تنزل عليهم بالبشرى و
السلام إلى غير ذلك.
و وصف حال الأشقياء من عباده بأنه يضلهم و يخرجهم من النور إلى الظلمات و يختم على
قلوبهم، و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة، و يطمس وجوههم على أدبارهم و يجعل في
أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، و يجعل من بين أيديهم سدا و من خلفهم
سدا فيغشيهم فهم لا يبصرون، و يقيض لهم شياطين قرناء يضلونهم عن السبيل و يحسبون
أنهم مهتدون، و يزينون لهم أعمالهم، و هم أولياؤهم، و يستدرجهم الله من حيث لا
يشعرون، و يملي لهم إن كيده متين، و يمكر بهم و يمدهم في طغيانهم يعمهون.
فهذه نبذة مما ذكره سبحانه من حال الفريقين و ظاهرها أن للإنسان في الدنيا وراء
الحياة التي يعيش بها فيها حياة أخرى سعيدة أو شقية ذات أصول و أعراق يعيش بها
فيها، و سيطلع و يقف عليها عند انقطاع الأسباب و ارتفاع الحجاب، و يظهر من كلامه
تعالى أيضا أن للإنسان حياة أخرى سابقة على حياته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو
حياته الدنيا فيما يتلوها.
و بعبارة أخرى إن للإنسان حياة قبل هذه الحياة الدنيا و حياة بعدها، و الحياة
الثالثة تتبع حكم الثانية و الثانية حكم الأولى، فالإنسان و هو في الدنيا واقع بين
حياتين: سابقة و لاحقة، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن.
لكن الجمهور من المفسرين حملوا القسم الأول من الآيات و هي الواصفة للحياة السابقة
على ضرب من لسان الحال و اقتضاء الاستعداد، و القسم الثاني منها و هي الواصفة
للحياة اللاحقة على ضروب المجاز و الاستعارة هذا، إلا أن ظواهر كثير من الآيات يدفع
ذلك.
أما القسم الأول و هي آيات الذر و الميثاق فستأتي في مواردها، و أما القسم الثاني
فكثير من الآيات دالة على أن الجزاء يوم الجزاء بنفس الأعمال و عينها كقوله تعالى:
"لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون": التحريم - 7، و قوله تعالى: "ثم
توفى كل نفس ما كسبت" الآية: البقرة - 281، و قوله تعالى: "فاتقوا النار التي
وقودها الناس و الحجارة": البقرة - 24، و قوله تعالى: "فليدع نادية سندع الزبانية":
العلق - 18، و قوله تعالى: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من
سوء": آل عمران - 30، و قوله تعالى: "ما يأكلون في بطونهم إلا النار": البقرة -
174، و قوله: "إنما يأكلون في بطونهم نارا": النساء - 10، إلى غير ذلك من الآيات.
و لعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى إلا قوله: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا
عنك غطائك فبصرك اليوم حديد": ق - 22، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلا عن
معلوم حاضر، و كشف الغطاء لا يستقيم إلا عن مغطى موجود فلو لم يكن ما يشاهده
الإنسان يوم القيامة موجودا حاضرا من قبل لما كان يصح أن يقال للإنسان إن هذه أمور
كانت مغفولة لك، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة.
و لعمري إنك لو سألت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز
لما أجابتك إلا بنفس هذه البيانات و الأوصاف التي نزل بها القرآن الكريم.
و محصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين: أحدهما: وجه المجازاة بالثواب و
العقاب، و عليه عدد جم من الآيات، تفيد: أن ما سيستقبل الإنسان من خير أو شر كجنة
أو نار إنما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل.
و ثانيهما: وجه تجسم الأعمال و عليه عدة أخرى من الآيات، و هي تدل على أن الأعمال
تهيىء بأنفسها أو باستلزامها و تأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا
هي التي سيطلع عليه الإنسان يوم يكشف عن ساق.
و إياك أن تتوهم أن الوجهين متنافيان فإن الحقائق إنما تقرب إلى الأفهام بالأمثال
المضروبة، كما ينص على ذلك القرآن.
و قوله تعالى: إلا الفاسقين، الفسق كما قيل من الألفاظ التي أبدع القرآن استعمالها
في معناها المعروف، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها و جلدها و لذلك فسر
بعده بقوله تعالى: "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" الآية، و النقض إنما يكون
عن إبرام، و لذلك أيضا وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين و الإنسان إنما يخسر
فيما ملكه بوجه، قال تعالى: "إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم
القيامة": الشورى - 45، و إياك أن تتلقى هذه الصفات التي أثبتها سبحانه في كتابه
للسعداء من عباده أو الأشقياء مثل المقربين و المخلصين و المخبتين و الصالحين و
المطهرين و غيرهم، و مثل الظالمين و الفاسقين و الخاسرين و الغاوين و الضالين و
أمثالها أوصافا مبتذلة أو مأخوذة لمجرد تزيين اللفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم
كلامه تعالى فتعطف الجميع على واد واحد، و تأخذها هجاء عاميا و حديثا ساذجا سوقيا
بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحية و مقامات معنوية في صراطي السعادة و الشقاوة، كل
واحد منها في نفسه مبدأ لآثار خاصة و منشأ لأحكام مخصوصة معينة، كما أن مراتب السن
و خصوصيات القوى و أوضاع الخلقة في الإنسان كل منها منشأ لأحكام و آثار مخصوصة لا
يمكننا أن نطلب واحدا منها من غير منشئه و محتده، و لئن تدبرت في مواردها من كلامه
تعالى و أمعنت فيها وجدت صدق ما ادعيناه.
بحث الجبر و التفويض
و اعلم: أن بيانه تعالى أن الإضلال إنما يتعلق بالفاسقين يشرح كيفية تأثيره تعالى
في أعمال العباد و نتائجها و هو الذي يراد حله في بحث الجبر و التفويض.
بيان ذلك: أنه تعالى قال: "لله ما في السموات و ما في الأرض":، البقرة - 284، و
قال: "له ملك السموات و الأرض": الحديد - 5، و قال: "له الملك و له الحمد: التغابن
- 1، فأثبت فيها و في نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنه تعالى
مالك على الإطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه و لا يملك على بعض الوجوه، كما أن
الفرد من الإنسان يملك عبدا أو شيئا آخر فيما يوافق تصرفاته أنظار العقلاء، و أما
التصرفات السفهية فلا يملكها، و كذا العالم مملوك لله تعالى مملوكية على الإطلاق،
لا مثل مملوكية بعض أجزاء العالم لنا حيث إن ملكنا ناقص إنما يصحح بعض التصرفات لا
جميعها، فإن الإنسان المالك لحمار مثلا إنما يملك منه أن يتصرف فيه بالحمل و الركوب
مثلا و أما أن يقتله عطشا أو جوعا أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا
يرون له ذلك، أي كل مالكية في هذا الاجتماع الإنساني مالكية ضعيفة إنما تصحح بعض
التصرفات المتصورة في العين المملوكة لا كل تصرف ممكن، و هذا بخلاف ملكه تعالى
للأشياء فإنها ليس لها من دون الله تعالى من رب يملكها و هي لا تملك لنفسها نفعا و
لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا فكل تصرف متصور فيها فهو له تعالى، فأي تصرف
تصرف به في عباده و خلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحا و لا ذما و لا لوما في ذلك،
إذ التصرف من بين التصرفات إنما يستقبح و يذم عليه فيما لا يملك المتصرف ذلك لأن
العقلاء لا يرون له ذلك، فملك هذا المتصرف محدود مصروف إلى التصرفات الجائزة عند
العقل، و أما هو تعالى فكل تصرف تصرف به فهو تصرف من مالك و تصرف في مملوك فلا قبح
و لا ذم و لا غير ذلك، و قد أيد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أي تصرف في ملكه إلا ما
يشاؤه أو يأذن فيه و هو السائل المحاسب دون المسئول المأخوذ، فقال تعالى: "من ذا
الذي يشفع عنده إلا بإذنه": البقرة - 255، و قال تعالى: "ما من شفيع إلا من بعد
إذنه": يونس - 3، و قال تعالى: "و لو شاء الله لهدى الناس جميعا": الرعد - 33، و
قال: "يضل من يشاء و يهدي من يشاء": النحل - 93، و قال تعالى: "و ما تشاءون إلا أن
يشاء الله": الدهر - 30، و قال تعالى: "لا يسأل عما يفعل و هم يسألون": الأنبياء -
23، فالله هو المتصرف الفاعل في ملكه و ليس لشيء غيره شيء من ذلك إلا بإذنه و
مشيته، فهذا ما يقتضيه ربوبيته.
ثم إنا نرى أنه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع و جرى في ذلك على ما يجري عليه
العقلاء في المجتمع الإنساني، من استحسان الحسن و المدح و الشكر عليه و استقباح
القبيح و الذم عليه كما قال تعالى: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي": البقرة - 271، و
قال: "بئس الاسم الفسوق": الحجرات - 11، و ذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح
الإنسان و مفاسده مرعي فيها أصلح ما يعالج به نقص الإنسان فقال تعالى: "إذا دعاكم
لما يحييكم": الأنفال - 24، و قال تعالى: "ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون": الصف -
11، و قال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل و الإحسان إلى أن قال و ينهى عن الفحشاء و
المنكر و البغي": النحل - 90، و قال تعالى: "إن الله لا يأمر بالفحشاء": الأعراف -
28، و الآيات في ذلك كثيرة، و في ذلك إمضاء لطريقة العقلاء في المجتمع، بمعنى أن
هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن و قبح و مصلحة و مفسدة و أمر و نهي و ثواب
و عقاب أو مدح و ذم و غير ذلك و الأحكام المتعلقة بها كقولهم: الخير يجب أن يؤثر و
الحسن يجب أن يفعل، و القبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك، كما أنها هي الأساس
للأحكام العامة العقلائية كذلك الأحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده مرعي
فيها ذلك، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معللة بأغراض و مصالح
عقلائية، و من جملة أفعالهم تشريعاتهم و جعلهم للأحكام و القوانين، و منها جعل
الجزاء و مجازاة الإحسان بالإحسان و الإساءة بالإساءة إن شاءوا فهذه كلها معللة
بالمصالح و الأغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الأوامر العقلائية
ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، و كل
المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء و أصل العمل في الخيرية و الشرية و بمقدار
يناسب و كيف يناسب، و من أحكامهم أن الأمر و النهي و كل حكم تشريعي لا يتوجه إلا
إلى المختار دون المضطر و المجبر على الفعل و أيضا إن الجزاء الحسن أو السيىء أعني
الثواب و العقاب لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري اللهم إلا فيما كان الخروج عن
الاختيار و الوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار
المخالفة فإن العقلاء لا يرون عقابه قبيحا، و لا يبالون بقصة اضطراره.
فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزاء المطيع بالجنة و
العاصي بالنار إلا جزافا في مورد المطيع، و ظلما في مورد العاصي، و الجزاف و الظلم
قبيحان عند العقلاء و لزم الترجيح من غير مرجح و هو قبيح عندهم أيضا و لا حجة في
قبيح و قد قال تعالى: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل": النساء - 165، و
قال تعالى "ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة": الأنفال - 44، فقد اتضح
بالبيان السابق أمور: أحدها: أن التشريع ليس مبنيا على أساس الإجبار في الأفعال،
فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم و معادهم أولا، و هي متوجهة إلى
العباد من حيث إنهم مختارون في الفعل و الترك ثانيا، و المكلفون إنما يثابون أو
يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختيارا.
ثانيها: أن ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الإضلال و الخدعة و المكر و الإمداد في
الطغيان و تسليط الشيطان و توليته على الإنسان و تقييض القرين و نظائر ذلك جميعها
منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه و نزاهته تعالى عن ألواث النقص و القبح و
المنكر، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الإضلال و شعبه و أنواعه، و ليس كل
إضلال حتى الإضلال البدوي و على سبيل الإغفال بمنسوب إليه و لا لائق بجنابه، بل
الثابت له الإضلال مجازاة و خذلانا لمن يستقبل بسوء اختياره ذلك كما قال تعالى:
"يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين" الآية: البقرة - 26، و
قال: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم": الصف - 5، و قال تعالى: "كذلك يضل الله من هو
مسرف مرتاب": المؤمن - 34.
ثالثها: أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث إنها منسوبة إلى الفاعلين
بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي، و سيجيء لهذا القول زيادة توضيح في التذييل
الآتي و في الكلام على القضاء و القدر إن شاء الله تعالى.
رابعها: أن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للأمر و
النهي المولويين فيما لا يملك المولى منه شيئا، مضافا إلى أن التفويض لا يتم إلا مع
سلب إطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.
بحث روائي
استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم قالوا: لا جبر و لا تفويض
بل أمر بين أمرين الحديث.
و في العيون، بعدة طرق: لما انصرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من
صفين قام إليه شيخ ممن شهد الواقعة معه فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا
أ بقضاء من الله و قدر، فقال له أمير المؤمنين: أجل يا شيخ فوالله ما علوتم تلعة و
لا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله و قدر، فقال الشيخ عند الله أحتسب عنائي يا
أمير المؤمنين فقال: مهلا يا شيخ لعلك تظن قضاء حتما و قدرا لازما، لو كان كذلك
لبطل الثواب و العقاب و الأمر و النهي و الزجر، و لسقط معنى الوعد و الوعيد، و لم
تكن على مسيء لائمة و لا لمحسن محمدة، و لكان المحسن أولى باللائمة من المذنب و
المذنب أولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان و خصماء الرحمن و قدرية
هذه الأمة و مجوسها. يا شيخ إن الله كلف تخييرا و نهى تحذيرا، و أعطى على القليل
كثيرا و لم يعص مغلوبا، و لم يطع مكروها و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما
باطلا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار الحديث.
أقول: قوله: بقضاء من الله و قدر إلى قوله: عند الله أحتسب عنائي.
ليعلم أن من أقدم المباحث التي وقعت في الإسلام موردا للنقض و الإبرام، و تشاغبت
فيه الأنظار مسألة الكلام و مسألة القضاء و القدر و إذ صوروا معنى القضاء و القدر و
استنتجوا نتيجته فإذا هي أن الإرادة الإلهية الأزلية تعلقت بكل شيء من العالم فلا
شيء من العالم موجودا على وصف الإمكان، بل إن كان موجودا فبالضرورة، لتعلق الإرادة
بها و استحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته، و إن كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلق
الإرادة بها و إلا لكانت موجودة، و إذا اطردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الإشكال
في الأفعال الاختيارية الصادرة منا فإنا نرى في بادي النظر أن نسبة هذه الأفعال
وجودا و عدما إلينا متساوية، و إنما يتعين واحد من الجانبين بتعلق الإرادة به بعد
اختيار ذلك الجانب فأفعالنا اختيارية، و الإرادة مؤثرة في تحققه سبب في إيجاده، و
لكن، فرض تعلق الإرادة الإلهية الأزلية المستحيلة التخلف بالفعل يبطل اختيارية
الفعل أولا، و تأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانيا و حينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل
الفعل على الفعل، و لا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل و خاصة في صورة الخلاف و
التمرد فيكون تكليفا بما لا يطاق، و لا معنى لإثابة المطيع بالجبر لأنه جزاف قبيح،
و لا معنى لعقاب العاصي بالجبر لأنه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللوازم، و قد التزم
الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل، و الحسن و القبح أمران
غير واقعيين لا يلزم تقيد أفعاله تعالى بهما بل كل ما يفعله فهو حسن و لا يتصف فعله
تعالى بالقبح، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجح، و لا من الإرادة الجزافية، و لا
من التكليف بما لا يطاق، و لا من عقاب العاصي و إن لم يكن النقصان من قبله إلى غير
ذلك من التوالي تعالى عن ذلك.
و بالجملة كان القول بالقضاء و القدر في الصدر الأول مساوقا لارتفاع الحسن و القبح
و الجزاء بالاستحقاق و لذلك لما سمع الشيخ منه (عليه السلام) كون المسير بقضاء و
قدر قال و هو في مقام التأثر و اليأس: عند الله أحتسب عنائي أي إن مسيري و إرادتي
فاقدة الجدوى من حيث تعلق الإرادة الإلهية بها فلم يبق لي إلا العناء و التعب من
الفعل فأحتسبه عند ربي فهو الذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الإمام (عليه السلام) بقوله:
لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب إلخ، و هو أخذ بالأصول العقلائية التي أساس
التشريع مبني عليها و استدل في آخر كلامه (عليه السلام) بقوله: و لم يخلق السماوات
و الأرض و ما بينهما باطلا إلخ، و ذلك لأن صحة الإرادة الجزافية التي هي من لوازم
ارتفاع الاختيار يوجب إمكان تحقق الفعل من غير غاية و غرض و هو يوجب إمكان ارتفاع
الغاية عن الخلقة و الإيجاد، و هذا الإمكان يساوق الوجوب، فلا غاية على هذا التقدير
للخلقة و الإيجاد، و ذلك خلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا، و فيه بطلان
المعاد و فيه كل محذور، و قوله و لم يعص مغلوبا و لم يطع مكروها كان المراد لم يعص
و الحال أن عاصيه مغلوب بالجبر و لم يطع و الحال أن طوعه مكروه للمطيع.
و في التوحيد، و العيون، عن الرضا (عليه السلام) قال: ذكر عنده الجبر و التفويض
فقال: أ لا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه و لا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه؟
قلنا إن رأيت ذلك، فقال إن الله عز و جل لم يطع بإكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل
العباد في ملكه، هو المالك لما ملكهم، و القادر على ما أقدرهم عليه فإن ائتمر
العباد بطاعته لم يكن الله منها صادا، و لا منها مانعا و إن ائتمروا بمعصيته فشاء
أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و إن لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال
(عليه السلام) من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.
أقول: قد عرفت أن الذي ألزم المجبرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء و القدر
و استنتاج الحتم و اللزوم فيهما و هذا البحث صحيح و كذلك النتيجة أيضا نتيجة صحيحة
غير أنهم أخطئوا في تطبيقها، و اشتبه عليهم أمر الحقائق و الاعتباريات، و اختلط
عليهم الوجوب و الإمكان، توضيح ذلك أن القضاء و القدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أن
الأشياء في نظام الإيجاد و الخلقة على صفة الوجوب و اللزوم فكل موجود من الموجودات
و كل حال من أحوال الموجود مقدرة محدودة عند الله سبحانه، معين له جميع ما هو معه
من الوجود و أطواره و أحواله لا يتخلف عنه و لا يختلف، و من الواضح أن الضرورة و
الوجوب من شئون العلة فإن العلة التامة هي التي إذا قيس إليها الشيء صار متصفا بصفة
الوجوب و إذا قيس إلى غيرها أي شيء كان لم يصر إلا متصفا بالإمكان، فانبساط القدر و
القضاء في العالم هو سريان العلية التامة و المعلولية في العالم بتمامه و جميعه، و
ذلك لا ينافي سريان حكم القوة و الإمكان في العام من جهة أخرى و بنظر آخر، فالفعل
الاختياري الصادر عن الإنسان بإرادته إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في
وجوده من علم و إرادة و أدوات صحيحة و مادة يتعلق بها الفعل و سائر الشرائط
الزمانية و المكانية كان ضروري الوجود، و هو الذي تعلقت به الإرادة الإلهية الأزلية
لكن كون الفعل ضروريا بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة و من جهتها لا يوجب كونه
ضروريا إذا قيس إلى بعض أجزاء علته التامة، كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقية
أجزاء علته التامة فإنه لا يتجاوز حد الإمكان، و لا يبلغ البتة حد الوجوب فلا معنى
لما زعموه أن عموم القضاء و تعلق الإرادة الإلهية بالفعل يوجب زوال القدرة و ارتفاع
الاختيار، بل الإرادة الإلهية إنما تعلقت بالفعل بجميع شئونه و خصوصياته الوجودية و
منها ارتباطاته بعلله و شرائط وجوده، و بعبارة أخرى تعلقت الإرادة الإلهية بالفعل
الصادر من زيد مثلا لا مطلقا بل من حيث إنه فعل اختياري صادر من فاعل كذا في زمان
كذا و مكان كذا فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب كون الفعل اختياريا و إلا
تخلف متعلق الإرادة الإلهية عنها فإذن تأثير الإرادة الإلهية في صيرورة الفعل
ضروريا يوجب كون الفعل اختياريا أي كون الفعل ضروريا بالنسبة إلى الإرادة الإلهية
ممكنا اختياريا بالنسبة إلى الإرادة الإنسانية الفاعلية، فالإرادة في طول الإرادة و
ليست في عرضها حتى تتزاحما، و يلزم من تأثير الإرادة الإلهية بطلان تأثير الإرادة
الإنسانية فظهر أن ملاك خطإ المجبرة فيما أخطئوا فيه عدم تمييزهم كيفية تعلق
الإرادة الإلهية بالفعل، و عدم فرقهم بين الإرادتين الطوليتين و بين الإرادتين
العرضيتين و حكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلق إرادة الله تعالى به.
و المعتزلة و إن خالفت المجبرة في اختيارية أفعال العبد و سائر اللوازم إلا أنهم
سلكوا في إثباته مسلكا لا يقصر من قول المجبرة فسادا، و هو أنهم سلموا للمجبرة أن
تعلق إرادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار، و من جهة أخرى أصروا على اختيارية
الأفعال الاختيارية فنفوا بالآخرة تعلق الإرادة الإلهية بالأفعال فلزمهم إثبات خالق
آخر للأفعال و هو الإنسان، كما أن خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنوية،
ثم وقعوا في محاذير أخرى أشد مما وقعت فيه المجبرة كما قال (عليه السلام): مساكين
القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته و سلطانه الحديث.
فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفية يختار عبدا من عبيده و يزوجه إحدى فتياته
ثم يقطع له قطيعة و يخصه بدار و أثاث و غير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته
إلى حين محدود و أجل مسمى، فإن قلنا إن المولى و إن أعطى لعبده ما أعطى و ملكه ما
ملك فإنه لا يملك و أين العبد من الملك كان ذلك قول المجبرة، و إن قلنا إن للمولى
بإعطائه المال لعبده و تمليكه جعله مالكا و انعزل هو عن المالكية و كان المالك هو
العبد كان ذلك قول المعتزلة، و لو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين و قلنا: إن
المولى مقامه في المولوية و للعبد مقامه في الرقية و إن العبد إنما يملك في ملك
المولى، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحق
الذي رآه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قام عليه البرهان هذا.
و في الإحتجاج،: فيما سأله عباية بن ربعي الأسدي عن أمير المؤمنين علي (عليه
السلام) في معنى الاستطاعة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): تملكها من دون الله
أو مع الله؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له قل يا عباية، قال: و ما أقول يا أمير
المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه
و إن سلبكها كان ذلك من بلائه و هو المالك لما ملكك و القادر على ما عليه أقدرك
الحديث.
أقول: و معنى الرواية واضح مما بيناه آنفا.
و في شرح العقائد، للمفيد قال: و قد روي عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أنه سئل
عن أفعال العباد أ هي مخلوقة لله تعالى؟ فقال (عليه السلام): لو كان خالقا لها لما
تبرأ منها و قد قال سبحانه: إن الله بريء من المشركين و لم يرد البراءة من خلق
ذواتهم و إنما تبرأ من شركهم و قبائحهم.
أقول للأفعال جهتان: جهة ثبوت و وجود، و جهة الانتساب إلى الفاعل، و هذه الجهة
الثانية هي التي تتصف بها الأفعال بأنها طاعة أو معصية أو حسنة أو سيئة، فإن النكاح
و الزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت و التحقق، و إنما الفرق الفارق هو أن النكاح
موافق لأمر الله تعالى، و الزنا فاقد للموافقة المذكورة، و كذا قتل النفس بالنفس و
قتل النفس بغير نفس، و ضرب اليتيم تأديبا و ضربه ظلما، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات
الصلاح أو لموافقة الأمر أو الغاية الاجتماعية بخلاف غيرها، و قد قال تعالى: "الله
خالق كل شيء": الزمر - 62، و الفعل شيء بثبوته و وجوده، و قد قال (عليه السلام):
"كل ما وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله الحديث" ثم قال تعالى: "الذي أحسن
كل شيء خلقه": السجدة - 7، فتبين أن كل شيء كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق، حسن
فالخلقة و الحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلا، ثم إنه تعالى سمى
بعض الأفعال سيئة فقال: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جاء بالسيئة فلا يجزى
إلا مثلها": الأنعام - 160، و هي المعاصي التي يفعلها الإنسان بدليل المجازاة، و
علمنا بذلك أنها من حيث إنها معاص عدمية غير مخلوقة و إلا كانت حسنة، و قال تعالى:
"ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها": الحديد
- 22، و قال: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله و من يؤمن بالله يهد قلبه": التغابن
- 11، و قال: "ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير": الشورى - 30،
و قال: "ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك": النساء - 79، و
قال: "و إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك،
قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا": النساء - 78، علمنا
بذلك أن هذه المصائب إنما هي سيئات نسبية بمعنى أن الإنسان المنعم بنعمة من نعم
الله كالأمن و السلامة و الصحة و الغنى يعد واجدا فإذا فقدها لنزول نازلة و إصابة
مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيئة لأنها مقارنة لفقد ما و عدم ما، فكل نازلة
فهي من الله و ليست من هذه الجهة سيئة و إنما هي سيئة نسبية بالنسبة إلى الإنسان و
هو واجد، فكل سيئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله سبحانه البتة و إن
كانت من جهة أخرى منسوبة إليه تعالى بالإذن فيه و نحو ذلك.
و في قرب الإسناد، عن البزنطي، قال: قلت: للرضا (عليه السلام) إن أصحابنا بعضهم
يقول: بالجبر، و بعضهم بالاستطاعة فقال لي: اكتب، قال الله تبارك و تعالى يا بن آدم
بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء و بقوتي أديت إلي فرائضي و بنعمتي قويت على
معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، و ما أصابك من سيئة فمن
نفسك، و ذلك أني أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني، و ذلك أني لا أسأل عما
أفعل و هم يسألون، فقد نظمت لك كل شيء تريد الحديث و هو أو ما يقربه مروي بطرق
عامية و خاصية أخرى و بالجملة فالذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الأفعال هي المعاصي
من جهة أنها معاص خاصة، و بذلك يعلم معنى قوله (عليه السلام) في الرواية السابقة لو
كان خالقا لها لما تبرأ منها إلى قوله و إنما تبرأ من شركهم و قبائحهم الحديث.
و في التوحيد، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) "قالا: إن الله عز و جل
أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، و الله أعز من أن يريد
أمرا فلا يكون" قال: فسئلا (عليهما السلام) هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة؟ قالا
نعم أوسع مما بين السماء و الأرض.
و في التوحيد، عن محمد بن عجلان، قال قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام) فوض الله
الأمر إلى العباد؟ قال: "الله أكرم من أن يفوض إليهم" قلت: فأجبر الله العباد على
أفعالهم فقال: "الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه".
و في التوحيد، أيضا عن مهزم، قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): أخبرني عما اختلف
فيه من خلفك من موالينا، قال: قلت: في الجبر و التفويض؟ قال: فاسألني قلت: أجبر
الله العباد على المعاصي؟ قال: "الله أقهر لهم من ذلك" قلت: ففوض إليهم؟ قال: الله
أقدر عليهم من ذلك، قال قلت فأي شيء هذا، أصلحك الله؟ قال: فقلب يده مرتين أو ثلاثا
ثم قال: "لو أجبتك فيه لكفرت".
أقول: قوله (عليه السلام): الله أقهر لهم من ذلك، معناه أن الجبر إنما هو لقهر من
المجبر يبطل به مقاومة القوة الفاعلة، و أقهر منه و أقوى أن يريد المريد وقوع الفعل
الاختياري من فاعله من مجرى اختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته و اختياره أو
ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر.
و في التوحيد، أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال: "رسول الله: من زعم أن الله
يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على الله" و من زعم أن الخير و الشر بغير مشية الله
فقد أخرج الله من سلطانه".
و في الطرائف،: روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري و إلى عمرو بن عبيد و
إلى واصل بن عطاء و إلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم و ما وصل إليهم في القضاء و
القدر، فكتب إليه الحسن البصري إن أحسن ما انتهى إلي ما سمعت أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب (عليه السلام)، أنه قال: "أ تظن أن الذي نهاك دهاك؟ و إنما دهاك أسفلك و
أعلاك، و الله بريء من ذاك". و كتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء و
القدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) "لو كان الزور في الأصل
محتوما لكان المزور في القصاص مظلوما". و كتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في
القضاء و القدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) "أ يدلك على
الطريق و يأخذ عليك المضيق؟" و كتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء و القدر قول
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) "كلما استغفرت الله منه فهو منك، و
كلما حمدت الله عليه فهو منه" فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج و وقف عليها قال لقد
أخذوها من عين صافية و في الطرائف، أيضا روي: أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق
(عليه السلام) عن القضاء و القدر فقال: "ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، و
ما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله" يقول الله للعبد: لم عصيت، لم
فسقت، لم شربت الخمر، لم زنيت؟ فهذا فعل العبد، و لا يقول له لم مرضت، لم قصرت، لم
ابيضضت، لم اسوددت؟ لأنه من فعل الله تعالى.
و في النهج،: سئل (عليه السلام) عن التوحيد و العدل فقال: "التوحيد أن لا تتوهمه، و
العدل أن لا تتهمه".
أقول: و الأخبار فيما مر متكاثرة جدا غير أن الذي نقلناه حاو لمعاني ما تركناه و
لئن تدبرت فيما تقدم من الأخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصة عديدة من الاستدلال.
منها: الاستدلال بنفس الأمر و النهي و العقاب و الثواب و أمثالها على تحقق الاختيار
من غير جبر و لا تفويض، كما في الخبر المنقول عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)
فيما أجاب به الشيخ، و هو قريب المأخذ مما استفدناه من كلامه تعالى.
و منها: الاستدلال بوقوع أمور في القرآن لا تصدق لو صدق جبر أو تفويض، كقوله تعالى:
"لله ملك السموات و الأرض"، و قوله: "و ما ربك بظلام للعبيد"، و قوله تعالى: "قل إن
الله لا يأمر بالفحشاء" الآية، و يمكن أن يناقش فيه بأن الفعل إنما هو فاحشة أو ظلم
بالنسبة إلينا و أما إذا نسب إليه تعالى فلا يسمى فاحشة و لا ظلما فلا يقع منه
تعالى فاحشة و لا ظلم، و لكن صدر الآية بمدلولها الخاص يدفعها فإنه تعالى يقول: "و
إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آبائنا و الله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر
بالفحشاء" الآية، فالإشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللاحق متوجها إليه سواء
سمي فحشاء أو لم يسم.
و منها: الاستدلال من جهة الصفات و هو أن الله تسمى بأسماء حسني و اتصف بصفات عليا
لا تصدق و لا تصح ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فإنه تعالى قهار قادر كريم رحيم، و
هذه صفات لا تستقر معانيها إلا عند ما يكون وجود كل شيء منه تعالى و نقص كل شيء و
فساده غير راجع إلى ساحة قدسه كما في الروايات التي نقلناها عن التوحيد.
و منها: الاستدلال بمثل الاستغفار و عروض اللوم فإن الذنب لو لم يكن من العبد لم
يكن معنى لاستغفاره و لو كان الفعل كله من الله لم يكن فرق بين فعل و فعل في عروض
اللوم على بعضها و عدم عروضه على بعض آخر.
و هاهنا روايات أخر مروية فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الإضلال و الطبع و الإغواء
و غير ذلك.
ففي العيون، عن الرضا (عليه السلام): في قوله تعالى: "و تركهم في ظلمات لا يبصرون"
قال (عليه السلام) "إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم أنهم لا
يرجعون عن الكفر و الضلال منعهم المعاونة و اللطف و خلى بينهم و بين اختيارهم".
و في العيون، أيضا عنه (عليه السلام): في قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم، قال:
الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال الله تعالى: بل طبع الله
عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام): في قوله
تعالى: إن الله لا يستحيي الآية، هذا القول من الله رد على من زعم أن الله تبارك و
تعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم الحديث، أقول: قد مر بيان معناها.
بحث فلسفي
لا ريب أن الأمور التي نسميها أنواعا في الخارج هي التي تفعل الأفاعيل النوعية، و
هي موضوعاتها، فإنا إنما أثبتنا وجود هذه الأنواع و نوعيتها الممتازة عن غيرها من
طريق الآثار و الأفاعيل، بأن شاهدنا من طرق الحواس أفاعيل متنوعة و آثارا مختلفة من
غير أن تنال الحواس في إحساسها أمرا وراء الآثار العرضية، ثم أثبتنا من طريق القياس
و البرهان علة فاعلة لها و موضوعا يقومها ثم حكمنا باختلاف هذه الموضوعات أعني
الأنواع لاختلاف الآثار و الأفاعيل المشهودة لنا، فالاختلاف المشهود في آثار
الإنسان و سائر الأنواع الحيوانية مثلا هو الموجب للحكم بأن هناك أنواعا مختلفة
تسمى بكذا و كذا و لها آثار و أفاعيل كذا و كذا، و كذا الاختلافات بين الأعراض و
الأفاعيل إنما نثبتها و نحكم بها من ناحية موضوعاتها أو خواصها.
و كيف كان فالأفاعيل بالنسبة إلى موضوعاتها تنقسم بانقسام أولي إلى قسمين: الأول:
الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء و النمو و التغذي
للنبات و الحركات للأجسام، و من هذا القبيل الصحة و المرض و أمثال ذلك فإنها و إن
كانت معلومة لنا و قائمة بنا إلا أن تعلق العلم بها لا يؤثر في وجودها و صدورها
شيئا و إنما هي مستندة تمام الاستناد إلى فاعلها الطبيعي، و الثاني: الفعل الصادر
عن الفاعل من حيث إنه معلوم تعلق به العلم كما في الأفعال الإرادية للإنسان و سائر
ذوات الشعور من الحيوان، فهذا القسم من الفعل إنما يفعله فاعله من حيث تعلق العلم
به و تشخيصه و تمييزه، فالعلم فيه إنما يفيد تعيينه و تمييزه من غيره و هذا التمييز
و التعيين إنما يتحقق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالا للفاعل انطباقا بواسطة العلم،
فإن الفاعل أي فاعل كان إنما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله و تمام وجوده
فالفعل الصادر عن العلم إنما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميز عند الفاعل ما هو
كمال له عن ما ليس بكمال له.
و من هنا ما نرى أن الأفعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظمة عن
الإنسان المتكلم، و كذا الأفعال الصادرة عنها مع اقتضاء ما و مداخلة من الطبيعة
كصدور التنفس عن الإنسان، و كذا الأفعال الصادرة عن الإنسان بغلبة الحزن أو الخوف
أو غير ذلك كل ذلك لا يحتاج إلى ترو من الفاعل، إذ ليس هناك إلا صورة علمية واحدة
منطبقة على الفعل و الفاعل لا حالة منتظرة لفعله، فيفعل البتة، و أما الأفعال التي
لها صور علمية متعددة تكون هي من جهة بعضها مصداق كمال الإنسان حقيقة أو تخيلا، و
من جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقي أو التخيلي كما أن الخبز بالنسبة إلى زيد
الجائع كذلك فإنه مشبع رافع لجوعه و يمكن أن يكون مال الغير و يمكن أن يكون مسموما
و يمكن أن يكون قذرا يتنفر عنه الطبع، و هكذا و الإنسان إنما يتروى فيما يتروى
لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلا، فإذا تعين أحد العناوين و سقطت
بقيتها و صار مصداقا لكمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلا، و القسم الأول:
نسميه فعلا اضطراريا كالتأثيرات الطبيعية.
و القسم الثاني: نسميه فعلا إراديا كالمشي و التكلم
و الفعل الإرادي: الصادر عن علم و إرادة ينقسم ثانيا إلى قسمين: فإن ترجيح أحد
جانبي الفعل و الترك إما مستند إلى نفس الفاعل من غير أن يتأثر عن آخر كالجائع الذي
يتروى في أكل خبز موجود عنده حتى رجح أن يبقيه و لا يأكله لأنه كان مال الغير من
غير إذن منه في التصرف فانتخب الحفظ و اختاره أو رجح الأكل فأكله اختيارا، و إما أن
يكون الترجيح و التعيين مستندا إلى تأثير الغير كمن يجبره جبار على فعل بتهديده
بقتل أو نحوه ففعله إجبارا من غير أن يكون متعينا بانتخابه و اختياره و القسم
الأول.
يسمى فعلا اختياريا، و الثاني فعلا إجباريا هذا، و أنت تجد بجودة التأمل أن الفعل
الإجباري و إن أسندناه إلى إجبار المجبر و أنه هو الذي يجعل أحد الطرفين محالا و
ممتنعا بواسطة الإجبار فلا يبقى للفاعل إلا طرف واحد، لكن الفعل الإجباري أيضا
كالاختياري لا يقع إلا بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك و إن كان
الذي يجبره هو المتسبب إلى الفعل بوجه، لكن الفعل ما لم يترجح بنظر الفاعل و إن كان
نظره مستندا بوجه إلى إجبار المجبر و تهديده لم يقع، و الوجدان الصحيح شاهد على
ذلك، و من هنا يظهر أن تقسيم الأفعال الإرادية إلى اختيارية و جبرية ليس تقسيما
حقيقيا ينوع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات و الآثار، فإن الفعل الإرادي إنما
يحتاج إلى تعيين و ترجيح علمي يعين للفاعل مجرى فعله، و هو في الفعل الاختياري و
الجبري على حد سواء، و أما أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند إلى رسله و في آخر إلى
آخر فلا يوجب اختلافا نوعيا يؤدي إلى اختلاف الآثار.
أ لا ترى أن المستظل تحت حائط إذا شاهد أن الحائط يريد أن ينقض، فخرج خائفا عد فعله
هذا اختياريا؟ و أما إذا هدده جبار بأنه لو لم يقم لهدم الحائط عليه، فخرج خائفا عد
فعله هذا إجباريا من غير فرق بين الفعلين و الترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين
مستند إلى إرادة الجبار.
فإن قلت: كفى فرقا بين الفعلين أن الفعل الاختياري يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل
و هو فعل يترتب عليه المدح و الذم و يتبعه الثواب و العقاب إلى غير ذلك من الآثار،
و هذا بخلاف الفعل الإجباري فإنه لا يترتب عليه شيء من ذلك.
قلت: الأمر على ما ذكر، غير أن هذه الآثار إنما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما
يوافق الكمال الأخير الاجتماعي، فهي آثار اعتبارية غير حقيقية، فليس البحث عن الجبر
و الاختيار بحثا فلسفيا لأن البحث الفلسفي إنما ينال الموجودات الخارجية و آثارها
العينية، و أما الأمور المنتهية إلى أنحاء الاعتبارات العقلائية، فلا ينالها بحث
فلسفي و لا يشملها برهان البتة، و إن كانت معتبرة في بابها، مؤثرة أثرها، فالواجب
أن نرد البحث المزبور من طريق آخر، فنقول: لا شك أن كل ممكن حادث مفتقر إلى علة، و
الحكم ثابت من طريق البرهان، و لا شك أيضا أن الشيء ما لم يجب لم يوجد إذ الشيء ما
لم يتعين طرف وجوده بمعين كان نسبته إلى الوجود و العدم بالسوية، و لو وجد الشيء و
هو كذلك لم يكن مفتقرا إلى علة و هذا خلف، فإذا فرض وجود الشيء كان متصفا بالضرورة
ما دام موجودا، و هذه الضرورة إنما اكتسبها من ناحية العلة، فإذا أخذنا دار الوجود
بأجمعها كانت كسلسلة مؤلفة من حلقات مترتبة متوالية كلها واجبة الوجود، و لا موقع
لأمر ممكن الوجود في هذه السلسلة.
ثم نقول: هذه النسبة الوجوبية إنما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علتها التامة البسيطة
أو المركبة من أمور كثيرة كالعلل الأربع و الشرائط و المعدات و أما إذا نسب المعلول
المذكور إلى بعض أجزاء العلة أو إلى شيء آخر لو فرض كانت النسبة نسبة الإمكان
بالضرورة، بداهة أنه لو كانت بالضرورة كانت العلة التامة وجودها مستغنى عنه و هي
علة تامة هذا خلف، ففي عالمنا الطبيعي نظامان: نظام الضرورة و نظام الإمكان، فنظام
الضرورة منبسط على العلل التامة و معلولاتها و لا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر
إمكاني البتة لا ذات و لا فعل ذات، و نظام الإمكان منبسط على المادة و الصور التي
في قوة المادة التلبس بها و الآثار التي يمكنها أن تقبلها، فإذا فرضت فعلا من أفعال
الإنسان الاختيارية و نسبتها إلى تمام علتها، و هي الإنسان و العلم و الإرادة و
وجود المادة القابلة و تحقق الشرائط المكانية و الزمانية و ارتفاع الموانع، و
بالجملة كل ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجبا ضروريا، و إذا نسب إلى
الإنسان فقط، و من المعلوم أنه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة بالإمكان.
ثم نقول: سبب الاحتياج و الفقر إلى العلة كما بين في محلة كون الوجود و هو مناط
الجعل وجودا إمكانيا، أي رابطا بحسب الحقيقة غير مستقل بنفسه، فما لم ينته سلسلة
الربط إلى مستقل بالذات لم ينقطع سلسلة الفقر و الفاقة.
و من هنا يستنتج أولا: أن المعلول لا ينقطع بواسطة استناده إلى علته عن الاحتياج
إلى العلة الواجبة التي إليها تنتهي سلسلة الإمكان.
و ثانيا: أن هذا الاحتياج حيث كان من حيث الوجود كان الاحتياج في الوجود مع حفظ
جميع خصوصياته الوجودية و ارتباطاته بعلله و شرائطه الزمانية و المكانية إلى غير
ذلك.
فقد تبين بهذا أمران: الأول: أن الإنسان كما أنه مستند الوجود إلى الإرادة الإلهية
على حد سائر الذوات الطبيعية و أفعالها الطبيعية فكذلك أفعال الإنسان مستندة الوجود
إلى الإرادة الإلهية، فما ذكره المعتزلة من كون الأفعال الإنسانية غير مرتبطة
الوجود بالله سبحانه و إنكار القدر ساقط من أصله، و هذا الاستناد حيث إنه استناد
وجودي فالخصوصيات الوجودية الموجودة في المعلول دخيلة فيه، فكل معلول مستند إلى
علته بحده الوجودي الذي له، فكما أن الفرد من الإنسان إنما يستند إلى العلة الأولى
بجميع حدوده الوجودية من أب و أم و زمان و مكان و شكل و كم و كيف و عوامل أخر
مادية، فكذلك فعل الإنسان إنما يستند إلى العلة الأولى مأخوذا بجميع خصوصياته
الوجودية، فهذا الفعل إذا انتسب إلى العلة الأولى و الإرادة الواجبة مثلا لا يخرجه
ذلك عما هو عليه و لا يوجب بطلان الإرادة الإنسانية مثلا في التأثير، فإن الإرادة
الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الإنسان عن إرادة و اختيار، فلو كان هذا
الفعل
|