قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
و لهذا النظر آثار و نماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملك الأجانب
شيئا من الأراضي و الأموال غير المنقولة من أوطانهم و نحو ذلك.
و لما كان البيت في الروم القديم ذا استقلال و تمام في نفسه كان قد استقر فيه
هذه العادة القديمة المستقرة في الطوائف و الممالك المستقلة.
و كان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنة في بيوت الروم مع سنتهم في التزويج
من منع الازدواج بالمحارم أن القرابة انقسمت عندهم قسمين: أحدهما القرابة
الطبيعية و هي الاشتراك في الدم، و كان لازمها منع الازدواج في المحارم و جوازه
في غيرهم، و الثاني القرابة الرسمية و هي القانونية و لازمها الإرث و عدمه و
النفقة و الولاية و غير ذلك فكان الأبناء أقرباء ذوي قرابة طبيعية و رسمية معا
بالنسبة إلى رب البيت و رئيسه و في ما بينهم، أنفسهم و كانت النساء جميعا ذوات
قرابة طبيعية لا رسمية فكانت المرأة لا ترث والدها و لا ولدها و لا أخاها و لا
بعلها و لا غيرهم.
هذه سنة الروم القديم.
و أما اليونان فكان وضعهم القديم في تشكل البيوت قريبا من وضع الروم القديم، و
كان الميراث فيهم يرثه أرشد الأولاد الذكور، و يحرم النساء جميعا من زوجة و بنت
و أخت، و يحرم صغار الأولاد و غيرهم غير أنهم كالروميين ربما كانوا يحتالون
لإيراث الصغار من أبنائهم و من أحبوها و أشفقوا عليها من زوجاتهم و بناتهم و
أخواتهم بحبل متفرقة تسهل الطريق لامتاعهن بشيء من الميراث قليل أو كثير بوصية
أو نحوها و سيجيء الكلام في أمر الوصية.
و أما الهند و مصر و الصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقا و حرمان
ضعفاء الأولاد أو بقاؤهم تحت الولاية و القيمومة قريبا مما تقدم من سنة الروم و
اليونان.
و أما الفرس فإنهم كانوا يرون نكاح المحارم و تعدد الزوجات كما تقدم و يرون
التبني، و كانت أحب النساء إلى الزوج ربما قامت مقام الابن بالادعاء و ترث كما
يرث الابن و الدعي بالسوية و كانت تحرم بقية الزوجات، و البنت المزوجة لا ترث
حذرا من انتقال المال إلى خارج البيت، و التي لم تزوج بعد ترث نصف سهم الابن،
فكانت الزوجات غير الكبيرة و البنت المزوجة محرومات، و كانت الزوجة الكبيرة و
الابن و الدعي و البنت غير المزوجة بعد مرزوقين.
و أما العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقا و الصغار من البنين و يمتعون أرشد
الأولاد ممن يركب الفرس و يدفع عن الحرمة، فإن لم يكن فالعصبة.
هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الإرث، ذكرها و تعرض لها كثير من تواريخ آداب
الملل و رسومهم و الرحلات و كتب الحقوق و أمثالها من أراد الاطلاع على تفاصيل
القول أمكنه أن يراجعها.
و قد تلخص من جميع ما مر أن السنة كانت قد استقرت في الدنيا يومئذ على حرمان
النساء بعنوان أنهن زوجة أو أم أو بنت أو أخت إلا بعناوين أخرى مختلفة، و على
حرمان الصغار و الأيتام إلا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية و القيمومة
الدائمة غير المنقطعة.
4 - ما ذا صنع الإسلام و الظرف هذا الظرف؟:
قد تقدم مرارا أن الإسلام يرى أن الأساس الحق للأحكام و القوانين الإنسانية هو
الفطرة التي فطر الناس عليها و لا تبديل لخلق الله، و قد بنى الإرث على أساس
الرحم التي هي من الفطرة و الخلقة الثابتة، و قد ألغى إرث الأدعياء حيث يقول
تعالى: و ما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم و الله يقول الحق و هو
يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم
في الدين و مواليكم: "الأحزاب: 5".
ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الإرث و أفردها عنوانا مستقلا يعطى به و يؤخذ و إن
كانوا يسمون التملك من جهة الإيصاء إرثا، و ليس ذلك مجرد اختلاف في التسمية فإن
لكل من الوصية و الإرث ملاكا آخر و أصلا فطريا مستقلا، فملاك الإرث هو الرحم و
لا نفوذ لإرادة المتوفى فيها أصلا، و ملاك الوصية نفوذ إرادة المتوفى بعد وفاته
و إن شئت قل: حين ما يوصي في ما يملكه في حياته و احترام مشيته، فلو أدخلت
الوصية في الإرث لم يكن ذلك إلا مجرد تسمية.
و أما ما كان يسميها الناس كالروم القديم مثلا إرثا فلم يكن لاعتبارهم في سنة
الإرث أحد الأمرين، إما الرحم و إما احترام إرادة الميت بل حقيقة الأمر أنهم
كانوا يبنون الإرث على احترام الإرادة و هي إرادة الميت بقاء المال الموروث في
البيت الذي كان فيه تحت يد رئيس البيت و ربه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى
من يحبه الميت و يشفق عليه فكان الإرث على أي حال يبتني على احترام الإرادة و
لو كان مبتنيا على أصل الرحم و اشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين
منه، و حرم كثير من المرزوقين.
ثم إنه بعد ذلك عمد إلى الإرث و عنده في ذلك أصلان جوهريان: أصل الرحم و هو
العنصر المشترك بين الإنسان و أقربائه لا يختلف فيه الذكور و الإناث و الكبار و
الصغار حتى الأجنة في بطون أمهاتهم و إن كان مختلف الأثر في التقدم و التأخر، و
منع البعض للبعض من جهة قوته و ضعفه بالقرب من الإنسان و البعد منه، و انتفاء
الوسائط و تحققها قليلا أو كثيرا كالولد و الأخ و العم، و هذا الأصل يقضي
باستحقاق أصل الإرث مع حفظ الطبقات المتقدمة و المتأخرة.
و أصل اختلاف الذكر و الأنثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في
تجهيزهما بالتعقل و الإحساسات، فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقل كما أن المرأة
مظهر العواطف و الإحساسات اللطيفة الرقيقة، و هذا الفرق مؤثر في حياتيهما
التأثير البارز في تدبير المال المملوك، و صرفه في الحوائج، و هذا الأصل هو
الموجب للاختلاف في السهام في الرجل و المرأة و إن وقعا في طبقة واحدة كالابن و
البنت، و الأخ و الأخت في الجملة على ما سنبينه.
و استنتج من الأصل الأول ترتب الطبقات بحسب القرب و البعد من الميت لفقدان
الوسائط و قلتها و كثرتها فالطبقة الأولى هي التي تتقرب من الميت بلا واسطة و
هي الابن و البنت و الأب و الأم، و الثانية الأخ و الأخت و الجد و الجدة و هي
تتقرب من الميت بواسطة واحدة و هي الأب أو الأم أو هما معا، و الثالثة العم و
العمة و الخال و الخالة، و هي تتقرب إلى الميت بواسطتين.
و هما أب الميت أو أمه و جده أو جدته، و على هذا القياس، و الأولاد في كل طبقة
يقومون مقام آبائهم و يمنعون الطبقة اللاحقة و روعي حال الزوجين لاختلاط
دمائهما بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة و لا يمنعان طبقة.
ثم استنتج من الأصل الثاني اختلاف الذكر و الأنثى في غير الأم و الكلالة
المتقربة بالأم بأن للذكر مثل حظ الأنثيين.
و السهام الستة المفروضة في الإسلام النصف و الثلثان و الثلث و الربع و السدس و
الثمن و إن اختلفت، و كذا المال الذي ينتهي إلى أحد الوراث و إن تخلف عن فريضته
غالبا بالرد أو النقص الوارد و كذا الأب و الأم و كلالة الأم و إن تخلفت
فرائضهم عن قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" و لذلك يعسر البحث الكلي الجامع في
باب الإرث إلا أن الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للاحق يرجع إلى
استخلاف أحد الزوجين للآخر و استخلاف الطبقة المولدة و هم الآباء و الأمهات
للطبقة المتولدة و هم الأولاد، و الفريضة الإسلامية في كل من القبيلين أعني
الأزواج و الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين.
و ينتج هذا النظر الكلي أن الإسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا
بالثلث و الثلثين فللأنثى ثلث و للذكر ثلثان هذا من حيث التملك لكنه لا يرى
نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة فإنه يرى نفقة الزوجة على الزوج و يأمر بالعدل
المقتضي للتساوي في المصرف و يعطي للمرأة استقلال الإرادة و العمل فيما تملكه
من المال لا مداخلة للرجل فيه، و هذه الجهات الثلاث تنتج أن للمرأة أن تتصرف في
ثلثي ثروة الدنيا الثلث الذي تملكها و نصف الثلثين الذين يملكهما الرجل و ليس
في قبال تصرف الرجل إلا الثلث.
5 - علام استقر حال النساء و اليتامى في الإسلام:
أما اليتامى فهم يرثون كالرجال الأقوياء، و يربون و ينمي أموالهم تحت ولاية
الأولياء كالأب و الجد أو عامة المؤمنين أو الحكومة الإسلامية حتى إذا بلغوا
النكاح و أونس منهم الرشد دفعت إليهم أموالهم و استووا على مستوى الحياة
المستقلة، و هذا أعدل السنن المتصورة في حقهم.
و أما النساء فإنهن بحسب النظر العام يملكن ثلث ثروة الدنيا و يتصرفن في ثلثيها
بما تقدم من البيان، و هن حرات مستقلات فيما يملكن لا يدخلن تحت قيمومة دائمة و
لا موقتة و لا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف.
فالمرأة في الإسلام ذات شخصية تساوي شخصية الرجل في حرية الإرادة و العمل من
جميع الجهات، و لا تفارق حالها حال الرجل إلا في ما تقتضيه صفتها الروحية
الخاصة المخالفة لصفة الرجل الروحية و هي أن لها حياة إحساسية و حياة الرجل
تعقلية فاعتبر للرجل زيادة في الملك العام ليفوق تدبير التعقل في الدنيا على
تدبير الإحساس و العاطفة، و تدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في
التصرف، و شرعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة و تدورك ذلك بالصداق، و
حرمت القضاء و الحكومة و المباشرة للقتال لكونها أمورا يجب بناؤها على التعقل
دون الإحساس، و تدورك ذلك بوجوب حفظ حماهن و الدفاع عن حريمهن على الرجال، و
وضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق و الإنفاق عليها و على الأولاد و على الوالدين
و لها حق حضانة الأولاد من غير إيجاب، و قد عدل جميع هذه الأحكام بأمور أخرى
دعين إليها كالتحجب و قلة مخالطة الرجال و تدبير المنزل و تربية الأولاد.
و قد أوضح معنى امتناع الإسلام عن إعطاء التدابير العامة الاجتماعية كتدبير
الدفاع و القضاء و الحكومة للعاطفة و الإحساس و وضع زمامها في يدها، النتائج
المرة التي يذوقها المجتمع البشري إثر غلبة الإحساس على التعقل في عصرنا
الحاضر، و أنت بالتأمل في الحروب العالمية الكبرى التي هي من هدايا المدنية
الحاضرة، و في الأوضاع العامة الحاكمة على الدنيا، و عرض هذه الحوادث على العقل
و الإحساس العاطفي تقف على تشخيص ما منه الإغراء و ما إليه النصح و الله
الهادي.
على أن الملل المتمدنة من الغربيين لم يألوا جهدا و لم يقصروا حرصا منذ مئات
السنين في تربية البنات مع الأبناء في صف واحد، و إخراج ما فيهن من استعداد
الكمال من القوة إلى الفعل، و أنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة و
رجال القضاء و التقنين و زعماء الحروب و قوادها و هي الخلال الثلاث المذكورة:
الحكومة، القضاء القتال لم تجد فيه شيئا يعتد به من أسماء النساء و لا عددا
يقبل المقايسة إلى المئات و الألوف من الرجال، و هذا في نفسه أصدق شاهد على أن
طباع النساء لا تقبل الرشد و النماء في هذه الخلال التي لا حكومة فيها بحسب
الطبع إلا للتعقل و كلما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبة و خسرانا.
و هذا و أمثاله من أقطع الأجوبة للنظرية المشهورة القائلة إن السبب الوحيد في
تأخر النساء عن الرجال في المجتمع الإنساني هو ضعف التربية الصالحة فيهن منذ
أقدم عهود الإنسانية، و لو دامت عليهن التربية الصالحة الجيدة مع ما فيهن من
الإحساسات و العواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدمن عليهم في جهات الكمال.
و هذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب فإن اختصاصهن بالعواطف
الرقيقة أو زيادتها فيهن هو الموجب لتأخرهن فيما يحتاج من الأمور إلى قوة
التعقل و تسلطه على العواطف الروحية الرقيقة كالحكومة و القضاء، و تقدم من يزيد
عليهن في ذلك و هم الرجال فإن التجارب القطعية تفيد أن من اختص بقوة صفة من
الصفات الروحية فإنما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد و المآرب، و لازمه
أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة و القضاء و يمتازوا عنهن في نيل الكمال
فيها، و أن تنجح تربيتهن فيما يناسب العواطف الرقيقة و يرتبط بها من الأمور
كبعض شعب صناعة الطب و التصوير و الموسيقى و النسج و الطبخ و تربية الأطفال و
تمريض المرضى و أبواب الزينة و نحو ذلك، و يتساوى القبيلان فيما سوى ذلك.
على أن تأخرهن فيما ذكر من الأمور لو كان مستندا إلى الاتفاق و الصدفة كما ذكر
لانتقض في بعض هذه الأزمنة الطويلة التي عاش فيها المجتمع الإنساني و قد خمنوها
بملايين من السنين كما أن تأخر الرجال فيما يختص من الأمور المختصة بالنساء
كذلك و لو صح لنا أن نعد الأمور اللازمة للنوع غير المنفكة عن مجتمعهم و خاصة
إذا ناسبت أمورا داخلية في البنية الإنسانية من الاتفاقيات لم يسع لنا أن نحصل
على خلة طبيعية فطرية من خلال الإنسانية العامة كميل طباعه إلى المدنية و
الحضارة، و حبه للعلم، و بحثه عن أسرار الحوادث و نحو ذلك فإن هذه صفات لازمة
لهذا النوع و في بنية أفراده ما يناسبها من القرائح نعدها لذلك صفات فطرية نظير
ما نعد تقدم النساء في الأمور الكمالية المستظرفة و تأخرهن في الأمور التعقلية
و الأمور الهائلة و الصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهن، و كذلك تقدم الرجال و
تأخرهم في عكس ذلك.
فلا يبقى بعد ذلك كله إلا انقباضهن من نسبة كمال التعقل إلى الرجال و كمال
الإحساس و التعطف إليهن، و ليس في محله فإن التعقل و الإحساس في نظر الإسلام
موهبتان إلهيتان مودعتان في بنية الإنسان لمآرب إلهية حقة في حياته لا مزية
لإحداهما على الأخرى و لا كرامة إلا للتقوى، و أما الكمالات الأخر كائنة ما
كانت فإنما تنمو و تربو إذا وقعت في صراطه و إلا لم تعد إلا أوزارا سيئة.
6 - قوانين الإرث الحديثة:
هذه القوانين و السنن و إن خالفت قانون الإرث الإسلامي كما و كيفا على ما سيمر
بك إجمالها غير أنها استظهرت في ظهورها و استقرارها بالسنة الإسلامية في الإرث
فكم بين موقف الإسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا و بين موقفهن من الفرق.
فقد كان الإسلام يظهر أمرا ما كانت الدنيا تعرفه و لا قرعت أسماع الناس بمثله،
و لا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين و آبائهم الأولين، و أما هذه القوانين
فإنها أبديت و كلف بها أمم حينما كانت استقرت سنة الإسلام في الإرث بين الأمم
الإسلامية في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الأخلاف من
أسلافهم في أكثر من عشرة قرون، و من البديهيات في أبحاث النفس أن وقوع أمر من
الأمور في الخارج ثم ثبوتها و استقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها و كل سنة
سابقة من السنن الاجتماعية مادة فكرية للسنن اللاحقة المجانسة بل الأولى هي
المادة المتحولة إلى الثانية فليس لباحث اجتماعي أن ينكر استظهار القوانين
الجديدة في الإرث بما تقدمها من الإرث الإسلامي و تحوله إليها تحولا عادلا أو
جائرا.
و من أغرب الكلام ما ربما يقال - قاتل الله عصبية الجاهلية الأولى -: أن
القوانين الحديثة إنما استفادت في موادها من قانون الروم القديمة، و أنت قد
عرفت ما كانت عليه سنة الروم القديمة في الإرث، و ما قدمته السنة الإسلامية إلى
المجتمع البشري و أن السنة الإسلامية متوسطة في الظهور و الجريان العملي بين
القوانين الرومية القديمة و بين القوانين الغربية الحديثة و كانت متعرفة متعمقة
في مجتمع الملايين و مئات الملايين من النفوس الإنسانية قرونا متوالية متطاولة،
و من المحال أن تبقى سدى و على جانب من التأثير في أفكار هؤلاء المقننين.
و أغرب منه أن هؤلاء القائلين يذكرون أن الإرث الإسلامي مأخوذ من الإرث الرومي
القديم!.
و بالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربية و إن اختلفت في بعض
الخصوصيات غير أنها كالمطبقة على تساوي الرجال و النساء في سهم الإرث فالبنات و
البنون سواء، و الأمهات و الآباء سواء في السهام و هكذا.
و قد رتبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو: 1 البنون و البنات 2 الآباء و
الأمهات و الإخوة و الأخوات 3 الأجداد و الجدات 4 الأعمام و العمات و الأخوال و
الخالات، و قد أخرجوا علقة الزوجية من هذه الطبقات و بنوها على أساس المحبة و
العلقة القلبية و لا يهمنا التعرض لتفاصيل ذلك و تفاصيل الحال في سائر الطبقات
من أرادها فليرجع إلى محلها.
و الذي يهمنا هو التأمل في نتيجة هذه السنة الجارية و هي اشتراك المرأة مع
الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العام الذي تقدم غير أنهم جعلوا
الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حق لها في تصرف مالي في شيء من أموالها الموروثة
إلا بإذن زوجها، و عاد بذلك المال منصفا بين الرجل و المرأة ملكا، و تحت ولاية
الرجل تدبيرا و إدارة! و هناك جمعيات منتهضة يبذلون مساعيهم لإعطاء النساء
الاستقلال و إخراجهن من تحت قيمومة الرجال في أموالهن و لو وفقوا لما يريدون
كانت الرجال و النساء متساويين من حيث الملك و من حيث ولاية التدبير و التصرف.
7 - مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض:
و نحن بعد ما قدمنا خلاصة السنن الجارية بين الأمم الماضية و قرونها الخالية
إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها إلى البعض و القضاء على كل منها
بالتمام و النقص و نفعه للمجتمع الإنساني و ضرره من حيث وقوعه في صراط السعادة
ثم قياس ما سنه شارع الإسلام إليها و القضاء بما يجب أن يقضى به.
و الفرق الجوهري بين السنة الإسلامية و السنن غيرها في الغاية و الغرض، فغرض
الإسلام أن تنال الدنيا صلاحها، و غرض غيره أن تنال ما تشتهيها، و على هذين
الأصلين يتفرع ما يتفرع من الروع قال تعالى: و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم
و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون: "البقرة: 216"،
و قال تعالى: و عاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا و يجعل الله
فيه خيرا كثيرا: "النساء: 19".
8 - الوصية:
قد تقدم أن الإسلام أخرج الوصية من تحت الوراثة و أفردها عنوانا مستقلا لما
فيها من الملاك المستقل و هو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في
حياته، و قد كانت الوصية بين الأمم المتقدمة من طرق الاحتيال لدفع الموصي ماله
أو بعض ماله إلى غير من تحكم السنة الجارية بإرثه كالأب و رئيس البيت و لذلك
كانوا لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدها و يسد بنحو هذا الطريق المؤدي إلى
إبطال حكم الإرث و لا يزال يجري الأمر في تحديدها هذا المجرى حتى اليوم.
و قد حدها الإسلام بنفوذها إلى ثلث المال فهي غير نافذة في الزائد عليه، و قد
تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة كقانون فرنسا غير أن النظرين مختلفان، و
لذلك كان الإسلام يحث عليها و القوانين تردع عنها أو هي ساكتة.
و الذي يفيده التدبر في آيات الوصية و الصدقات و الزكاة و الخمس و مطلق الإنفاق
أن في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الأموال و الثلثان
من منافعها للخيرات و المبرات و حوائج طبقة الفقراء و المساكين لتقرب بذلك
الطبقات المختلفة في المجتمع، و يرتفع الفواصل البعيدة من بينهم، و تقام به
أصلاب المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفية تصرف المثرين في
ثروتهم من تقريب طبقتهم من طبقة المساكين، و لتفصيل هذا البحث محل آخر سيمر بك
إن شاء الله تعالى.
4 سورة النساء - 15 - 16
وَ الّتى يَأْتِينَ الْفَحِشةَ مِن نِّسائكمْ فَاستَشهِدُوا عَلَيْهِنّ
أَرْبَعَةً مِّنكمْ فَإِن شهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنّ فى الْبُيُوتِ حَتى
يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْت أَوْ يجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سبِيلاً (15) وَ الّذَانِ
يَأْتِيَنِهَا مِنكمْ فَئَاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَ أَصلَحَا فَأَعْرِضوا
عَنْهُمَا إِنّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رّحِيماً (16)
بيان
قوله تعالى: "و اللاتي يأتين الفاحشة" إلى قوله: "منكم" يقال: أتاه و أتى به أي
فعله، و الفاحشة من الفحش و هو الشناعة فهي الطريقة الشنيعة، و قد شاع
استعمالها في الزنا، و قد أطلقت في القرآن على اللواط أو عليه و على السحق معا
في قوله تعالى: إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين:
"العنكبوت: 28".
و الظاهر أن المراد بها هاهنا الزنا على ما ذكره جمهور المفسرين، و رووا: أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر عند نزول آية الجلد أن الجلد هو السبيل
الذي جعله الله لهن إذا زنين، و يشهد بذلك ظهور الآية في أن هذا الحكم سينسخ
حيث يقول تعالى: أو يجعل الله لهن سبيلا، و لم ينقل إن السحق نسخ حده بشيء آخر،
و لا أن هذا الحد أجري على أحد من اللاتي يأتينه و قوله: أربعة منكم، يشهد بأن
العدد من الرجال.
قوله تعالى: "فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت" إلى آخر الآية رتب الإمساك و هو
الحبس المخلد على الشهادة لا على أصل تحقق الفاحشة و إن علم به إذا لم يشهد
عليه الشهود و هو من منن الله سبحانه على الأمة من حيث السماحة و الإغماض.
و الحكم هو الحبس الدائم بقرينة الغاية المذكورة في الكلام أعني قوله: حتى
يتوفاهن الموت، غير أنه لم يعبر عنه بالحبس و السجن بل بالإمساك لهن في البيوت،
و هذا أيضا من واضح التسهيل و السماحة بالإغماض، و قوله: حتى يتوفاهن الموت أو
يجعل الله لهن سبيلا، أي طريقا إلى التخلص من الإمساك الدائم و النجاة منه.
و في الترديد إشعار بأن من المرجو أن ينسخ هذا الحكم، و هكذا كان فإن حكم الجلد
نسخه فإن من الضروري أن الحكم الجاري على الزانيات في أواخر عهد النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) و المعمول به بعده بين المسلمين هو الجلد دون الإمساك في
البيوت فالآية على تقدير دلالتها على حكم الزانيات منسوخة بآية الجلد و السبيل
المذكور فيها هو الجلد بلا ريب.
قوله تعالى: "و اللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، الآيتان متناسبتان مضمونا و
الضمير في قوله: يأتيانها، راجع إلى الفاحشة قطعا، و هذا يؤيد كون الآيتين
جميعا مسوقتين لبيان حكم الزنا، و على ذلك فالآية الثانية متممة الحكم في
الأولى فإن الأولى لم تتعرض إلا لما للنساء من الحكم، و الثانية تبين الحكم
فيهما معا و هو الإيذاء فيتحصل من مجموع الآيتين حكم الزاني و الزانية معا و هو
إيذاؤهما و إمساك النساء في البيوت.
لكن لا يلائم ذلك قوله تعالى بعد: فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما، فإنه لا
يلائم الحبس المخلد فلا بد أن يقال: إن المراد بالإعراض الإعراض عن الإيذاء دون
الحبس فهو بحاله.
و لهذا ربما قيل تبعا لما ورد في بعض الروايات و سننقلها إن الآية الأولى لبيان
حكم الزنا في الثيب، و الثانية مسوقة لحكم الأبكار و أن المراد بالإيذاء هو
الحبس في الأبكار ثم تخلية سبيلهن مع التوبة و الإصلاح، لكن يبقى أولا الوجه في
تخصيص الأولى بالثيبات و الثانية بالأبكار من غير دليل يدل عليه من جهة اللفظ،
و ثانيا وجه تخصيص الزانية بالذكر في الآية الأولى، و ذكرهما معا في الآية
الثانية: "و اللذان يأتيانها منكم".
و قد عزي إلى أبي مسلم المفسر أن الآية الأولى لبيان حكم السحق بين النساء، و
الآية الثانية تبين حكم اللواط بين الرجال، و الآيتان غير منسوختين.
و فساده ظاهر: أما في الآية الأولى فلما ذكرناه في الكلام على قوله: و اللاتي
يأتين الفاحشة من نسائكم، و أما في الآية الثانية فلما ثبت في السنة من أن الحد
في اللواط القتل، و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: من عمل
منكم عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول، و هذا إما حكم ابتدائي غير منسوخ،
و إما حكم ناسخ لحكم الآية، و على أي حال يبطل قوله.
و من الممكن: أن يقال في معنى الآيتين نظرا إلى الظاهر السابق إلى الذهن من
الآيتين، و القرائن المحفوف بها الكلام، و ما تقدم من الإشكال فيما ذكروه من
المعنى - و الله أعلم -: إن الآية متضمنة لبيان حكم زنا المحصنات ذوات الأزواج،
و يدل عليه تخصيص الآية النساء بالذكر دون الرجال، و إطلاق النساء على الأزواج
شائع في اللسان و خاصة إذا أضيفت إلى الرجال كما في قوله: نسائكم، قال تعالى: و
آتوا النساء صدقاتهن نحلة: "النساء: 4" و قال تعالى: من نسائكم اللاتي دخلتم
بهن: "النساء: 23".
و على هذا فقد كان الحكم الأولي المؤجل لهن الإمساك في البيوت ثم شرع لهن
الرجم، و ليس نسخا للكتاب بالسنة على ما استدل به الجبائي فإن السنخ إنما هو
رفع الحكم الظاهر بحسب الدليل في التأبيد، و هذا حكم مقرون بما يشعر بأنه مؤجل
سينقطع بانقطاعه و هو قوله: أو يجعل الله لهن سبيلا لظهوره في أن هناك حكما
سيطلع عليهن، و لو سمي هذا نسخا لم يكن به بأس فإنه غير متضمن لما يلزم نسخ
الكتاب بالسنة من الفساد فإن القرآن نفسه مشعر بأن الحكم سيرتفع بانقطاع أمده،
و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبين لمرادات القرآن الكريم.
و الآية الثانية متضمنة لحكم الزنا من غير إحصان و هو الإيذاء سواء كان المراد
به الحبس أو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول أو غير ذلك، و الآية على هذا
منسوخة بآية الجلد من سورة النور، و أما ما ورد من الرواية في كون الآية متضمنة
لحكم الأبكار فمن الآحاد و هي مع ذلك مرسلة ضعيفة بالإرسال، و الله أعلم هذا و
لا يخلو مع ذلك من وهن.
قوله تعالى: "فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما" "إلخ" تقييد التوبة بالإصلاح
لتحقيق حقيقة التوبة، و تبيين أنها ليست مجرد لفظ أو حالة مندفعة.
بحث روايي
في الصافي، عن تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و
اللاتي يأتين الفاحشة الآية هي منسوخة، و السبيل هي الحدود.
و فيه، عن الباقر (عليه السلام): سئل عن هذه الآية فقال: هي منسوخة، قيل: كيف
كانت؟ قال: كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود أدخلت بيتا و لم تحدث،
و لم تكلم، و لم تجالس، و أوتيت بطعامها و شرابها حتى تموت أو يجعل الله لهن
سبيلا، قال: جعل السبيل الجلد و الرجم. قيل: قوله: و اللذان يأتيانها منكم؟
قال: يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب، فآذوهما؟ قال تحبس.
الحديث.
أقول: القصة أعني كون الحكم المجرى عليهن في صدر الإسلام الإمساك في البيوت حتى
الوفاة مما رويت بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس و قتادة و مجاهد و غيرهم، و
نقل عن السدي أن الحبس في البيوت كان حكما للثيبات، و الإيذاء الواقع في الآية
الثانية كان حكما للجواري و الفتيان الذين لم ينكحوا، و قد عرفت ما ينبغي أن
يقال في المقام
4 سورة النساء - 17 - 18
إِنّمَا التّوْبَةُ عَلى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السوءَ بجَهَلَةٍ ثُمّ
يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئك يَتُوب اللّهُ عَلَيهِمْ وَ كانَ اللّهُ
عَلِيماً حَكيماً (17) وَ لَيْستِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ
السيِّئَاتِ حَتى إِذَا حَضرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْت قَالَ إِنى تُبْت الْئََنَ
وَ لا الّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كفّارٌ أُولَئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً
أَلِيماً (18)
بيان
مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدمهما من الآيتين فإنه ما قد اختتمتا
بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك، و هاتان الآيتان مع ذلك
متضمنتان لمعنى مستقل في نفسه، و هو إحدى الحقائق العالية الإسلامية و التعاليم
الراقية القرآنية، و هي حقيقة التوبة و شأنها و حكمها.
قوله تعالى: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من
قريب" التوبة هي الرجوع، و هي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة و
الانصراف عن الإعراض عن العبودية، و رجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه
للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه، و قد مر مرارا أن توبة واحدة من العبد محفوفة
بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم.
و ذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة و الحسنات من الله، و القوة لله
جميعا فمن الله توفيق الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة و يتمشى له الانصراف
عن التوغل في غمرات البعد و الرجوع إلى ربه ثم إذا وفق للتوبة و الرجوع احتاج
في التطهر من هذه الألواث، و زوال هذه القذارات، و الورود و الاستقرار في ساحة
القرب إلى رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة و الحنان و العفو و المغفرة.
و هذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد و رجوعه قال
تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا: "التوبة: 118" و هذه هي التوبة الأولى، و قال
تعالى: فأولئك أتوب عليهم: "البقرة: 160" و هذه هي التوبة الثانية، و بين
التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت.
و أما قوله: على الله للذين، لفظة على و اللام تفيدان معنى النفع و الضرر كما
في قولنا: دارت الدائرة لزيد على عمرو، و كان السباق لفلان على فلان، و وجه
إفادة على و اللام معنى الضرر و النفع أن على تفيد معنى الاستعلاء، و اللام
معنى الملك و الاستحقاق، و لازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها
أحدهما و يتضرر بها الآخر كالحرب و القتال و النزاع و نحوها فيكون أحدهما
الغالب و الآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك و على المغلوب معنى
الاستعلاء، و كذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثر و المؤثر، و معنى
العهد و الوعد بين المتعهد و المتعهد له، و الواعد و الموعود له و هكذا، فظهر
أن كون على و اللام لمعنى الضرر و النفع إنما هو أمر طار من ناحية مورد
الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ.
و لما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه
لهم قال هاهنا: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة فيجب عليه
تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئا أو يكلفه
بتكليف سواء سمي ذلك الغير بالعقل أو نفس الأمر أو الواقع أو الحق أو شيئا آخر،
تعالى عن ذلك و تقدس بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم و هو
لا يخلف الميعاد، فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب، و هو أيضا
معنى وجوب كل ما يجب على الله من الفعل.
و ظاهر الآية أولا أنها لبيان أمر التوبة التي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة
إلى عبده دون توبة العبد و إن تبين بذلك أمر توبة العبد بطريق اللزوم فإن توبة
الله سبحانه إذا تمت شرائطها لم ينفك ذلك من تمام شرائط توبة العبد، و هذا أعني
كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح.
و ثانيا: أنها تبين أمر التوبة أعم مما إذا تاب العبد من الشرك و الكفر
بالإيمان أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الإيمان فإن القرآن يسمي الأمرين
جميعا بالتوبة قال تعالى: الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و
يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما فاغفر للذين
تابوا و اتبعوا سبيلك: "المؤمن: 7" يريد: للذين آمنوا بقرينة أول الكلام فسمى
الإيمان توبة، و قال تعالى: ثم تاب عليهم: "التوبة: 118".
و الدليل على أن المراد هي التوبة أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم
الموجود في الآية التالية: و ليست التوبة "إلخ" فإنها تتعرض لحال الكافر و
المؤمن معا، و على هذا فالمراد بقوله: يعملون السوء ما يعم حال المؤمن و الكافر
معا فالكافر كالمؤمن الفاسق ممن يعمل السوء بجهالة إما لأن الكفر من عمل القلب،
و العمل أعم من عمل القلب و الجوارح، أو لأن الكفر لا يخلو من أعمال سيئة من
الجوارح فالمراد من الذين يعملون السوء بجهالة الكافر و الفاسق إذا لم يكونا
معاندين في الكفر و المعصية.
و أما قوله تعالى: بجهالة فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أن الناس لما
شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلا من أعمالهم الجارية عن علم و إرادة، و أن
الإرادة إنما تكون عن حب ما و شوق ما سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب
نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميز في المجتمع
عندهم لا يقدم على السيئة المذمومة عند العقلاء فأذعنوا بأن من اقترف هذه
السيئات المذمومة لهوى نفساني و داعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم، و
غاب عنه عقله المميز الحاكم في الحسن و القبيح و الممدوح و المذموم، و ظهر عليه
الهوى و عندئذ يسمى حاله في علمه و إرادته "جهالة" في عرفهم و إن كان بالنظر
الدقيق نوعا من العلم لكن لما لم يؤثر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل و ذمه
في ردعه عن الوقوع في القبح و الشناعة ألحق بالعدم فكان هو جاهلا عندهم حتى
إنهم يسمون الإنسان الشاب الحدث السن قليل التجربة جاهلا لغلبة الهوى و ظهور
العواطف و الإحساسات النيئة على نفسه، و لذلك أيضا تراهم لا يسمون حال مقترف
السيئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيئة عن الهوى و العاطفة جهالة بل يسمونها
عنادا و عمدا و غير ذلك.
فتبين بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى و ظهور الشهوة و
الغضب من غير عناد مع الحق، و من خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت
ثورة القوى و خمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو بمرور
زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم و زالت الجهالة، و بانت
الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد و تعمد و نحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن
طغيان شيء من القوى و العواطف و الأميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث
الذات و رداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى و الأميال سريعا أو بطيئا بل
دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله.
نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده و لجاجه و استعلائه على الحق
فيتواضع للحق و يدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة،
و في الحقيقة كل معصية جهالة من الإنسان، و على هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا
من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة و العافية.
و من هنا يظهر معنى قوله تعالى: ثم يتوبون من قريب أي إن عامل السوء بجهالة لا
يقيم عاكفا على طريقته ملازما لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى و
العمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد
بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب و هو قبل ظهور آيات الآخرة و قدوم
الموت.
و كل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله و وبال فعله ألزمته
نفسه على الندامة و التبري من فعله لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه و
هداية فطرته بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل، و
الدليل عليه أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه
من سيئات الأعمال قال تعالى: و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون:
"الأنعام: 28".
و الدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى
في الآية التالية: و ليست التوبة إلى قوله: قال إني تبت الآن.
و على هذا يكون قوله: ثم يتوبون من قريب كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت
الفرصة.
و يتبين مما مر أن القيدين جميعا أعني قوله: بجهالة، و قوله: ثم يتوبون من قريب
احترازيان يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد و استعلاء على الله، و
بالثاني منهما أن لا يؤخر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلا و توانيا و مماطلة
إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضا
قبول هذا الرجوع، و لا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف
الاختيار و موطن الطاعة و المعصية، و مع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه
طاعة أو معصية، قال تعالى: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن
آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: "الأنعام 158" و قال تعالى: فلما رأوا
بأسنا قالوا آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم
لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده و خسر هنالك الكافرون: "المؤمن:
85" إلى غير ذلك من الآيات.
و بالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم
يقترف المعصية استكبارا على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع و التذلل لله، و لم
يتساهل و يتسامح في أمر التوبة تساهلا يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.
و يمكن أن يكون قوله: بجهالة قيدا توضيحيا، و يكون المعنى: للذين يعملون السوء
و لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم فإنه مخاطرة بالنفس و تعرض لعذاب أليم، أو لا
يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية و ما يترتب عليها من المحذور، و لازمه
كون قوله: ثم يتوبون من قريب إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في
أمر التوبة فإن من يأتي بالمعصية استكبارا و لا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على
هذا الفرض بقوله: ثم يتوبون من قريب لا بقوله: بجهالة و على هذا لا يمكن
الكناية بقوله: ثم يتوبون عن التساهل و التواني فافهم ذلك، و لعل الوجه الأول
أوفق لظاهر الآية.
و قد ذكر بعضهم: أن المراد بقوله: ثم يتوبون من قريب أن تتحقق التوبة في زمان
قريب من وقت وقوع المعصية عرفا كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد عرفا
متصلا به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر.
و هو فاسد لإفساده معنى الآية التالية فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي لتوبة
الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله: إنما
التوبة على الله للذين إلخ و الآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها
التوبة، و لم يذكر في الآية إلا موردان هما التوبة للمسيء المتسامح في التوبة
إلى حين حضور الموت، و التوبة للكافر بعد الموت، و لو كان المقبول من التوبة هو
ما يعد عرفا قريبا متصلا بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق أخر لم
تذكر في الآية.
قوله تعالى: "فأولئك يتوب الله عليهم و كان الله عليما حكيما" الآيتان باسم
الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم و تعظيم أمرهم كما
يدل قوله: يعملون السوء بجهالة على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في
الآية الثانية: و ليست التوبة للذين يعملون السيئات إلخ.
و قد اختير لختم الكلام قوله: و كان الله عليما حكيما دون أن يقال: و كان الله
غفورا رحيما للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد و
ما يؤديهم إليه ضعفهم و جهالتهم، و لحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان
النظام و إصلاح الأمور و هو تعالى لعلمه و حكمته لا يغره ظواهر الأحوال بل
يختبر القلوب، و لا يستزله مكر و لا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق
التوبة حتى يجيبه الله حق الإجابة.
قوله تعالى: "و ليست التوبة للذين يعملون السيئات" إلخ في عدم إعادة قوله: على
الله مع كونه مقصودا ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصة و العناية
الإلهية عنهم كما أن إيراد السيئات بلفظ الجمع يدل على العناية بإحصاء سيئاتهم
و حفظها عليهم كما تقدمت الإشارة إليه.
و تقييد قوله: يعملون السيئات بقوله: حتى إذا حضر أحدهم الموت المفيد لاستمرار
الفعل إما لأن المساهلة في المبادرة إلى التوبة و تسويفها في نفسه معصية مستمرة
متكررة، أو لأنه بمنزلة المداومة على الفعل، أو لأن المساهلة في أمر التوبة لا
تخلو غالبا عن تكرر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها.
و في قوله: حتى إذا حضر أحدهم الموت دون أن يقال: حتى إذا جاءهم الموت دلالة
على الاستهانة بالأمر و الاستحقار له أي حتى يكون أمر التوبة هينا هذا الهوان
سهلا هذه السهولة حتى يعمل الناس ما يهوونه و يختاروا ما يشاءونه و لا يبالون و
كلما عرض لأحدهم عارض الموت قال: إني تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب و مهلكة
مخالفة الأمر الإلهي بمجرد لفظ يردده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر
الأمر.
و من هنا يظهر معنى تقييد قوله: قال إني تبت بقوله: الآن فإنه يفيد أن حضور
الموت و مشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت سواء ذكره
أو لم يذكره فالمعنى: إني تائب لما شاهدت الموت الحق و الجزاء الحق، و قد قال
تعالى في نظيره حاكيا عن المجرمين يوم القيامة: و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا
رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون: "السجدة:
12".
فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لأن اليأس من الحياة الدنيا و هول المطلع هما
اللذان أجبراه على أن يندم على فعله و يعزم على الرجوع إلى ربه و لات حين رجوع
حيث لا حياة دنيوية و لا خيرة عملية.
قوله تعالى: "و لا الذين يموتون و هم كفار" هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة و
هو الإنسان يتمادى في الكفر ثم يموت و هو كافر فإن الله لا يتوب عليه فإن
إيمانه و هو توبته لا ينفعه يومئذ، و قد تكرر في القرآن الكريم أن الكفر لا
نجاة معه بعد الموت، و أنهم لا يجابون و إن سألوا، قال تعالى: إلا الذين تابوا
و أصلحوا و بينوا فأولئك أتوب عليهم و أنا التواب الرحيم إن الذين كفروا و
ماتوا و هم كفار أولئك عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين خالدين فيها
لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون: البقرة: 162، و قال تعالى: إن الذين كفروا
و ماتوا و هم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا و لو افتدى به أولئك لهم
عذاب أليم و ما لهم من ناصرين: - آل عمران: 91، و نفي الناصرين نفي للشفاعة في
حقهم كما تقدم في الكلام على الآية في الجزء الثالث من الكتاب.
و تقييد الجملة بقوله: و هم كفار يدل على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على
المعصية من غير استكبار و لا تساهل فإن التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبودية
اختيارية و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدم لكن التوبة منه تعالى بمعنى
الرجوع بالمغفرة و الرحمة يمكن أن يتحقق بعد الموت لشفاعة الشافعين، و هذا في
نفسه من الشواهد على أن المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا
بيان حال توبة العبد إلى الله إلا بالتبع.
قوله تعالى: "أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما" اسم الإشارة يدل على بعدهم من ساحة
القرب و التشريف، و الإعتاد: و الإعداد أو الوعد.
كلام في التوبة
التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا
الكتاب السماوي فإن التوبة بمعنى الإيمان عن كفر و شرك و إن كانت دائرة في سائر
الأديان الإلهية كدين موسى و عيسى (عليهما السلام) لكن لا من جهة تحليل حقيقة
التوبة، و تسريتها إلى الإيمان بل باسم أن ذلك إيمان.
حتى أنه يلوح من الأصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع
التوبة و استحالة أن يستفيد منها الإنسان كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب و
الفداء، و قد تقدم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا
الكتاب.
هذا و قد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع
أوراق المغفرة و تتجر بها، و كان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما
اعترفوا به عندهم! لكن القرآن حلل حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه و تعلق
الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال و الكرامة و السعادة الواجبة له في حياته
الأخروية عند الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيرا
كل الفقر في ذاته صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء
إلى الله و الله هو الغني: - فاطر: 15، و قال: و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا
نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا: - الفرقان: 3.
فهو واقع في مهبط الشقاء و منحط البعد و منعزل المسكنة كما يشير إليه قوله
تعالى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين: - التين: 5، و
قوله: و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا و نذر
الظالمين فيها جثيا: - مريم: 72، و قوله: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى: - طه
117.
و إذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة و استقراره في مستقر السعادة يتوقف على
انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء و منحط البعد و انقلاعه عنه برجوعه إلى ربه،
و هو توبته إليه في أصل السعادة و هو الإيمان، و في كل سعادة فرعية و هي كل عمل
صالح أعني التوبة و الرجوع عن أصل الشقاء و هو الشرك بالله سبحانه، و عن فروعات
الشقاء و هي سيئات الأعمال بعد الشرك، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله و
الانخلاع عن ألواث البعد و الشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة
بالإيمان، و التنعم بأقسام نعم الطاعات و القربات، و بعبارة أخرى يتوقف القرب
من الله و دار كرامته على التوبة من الشرك و من كل معصية، قال تعالى: و توبوا
إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون: - النور: 31، فالتوبة بمعنى الرجوع
إلى الله تعم التوبتين جميعا بل تعمهما و غيرهما على ما سيجيء إن شاء الله.
ثم إن الإنسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا و لا سعادة قط إلا
بربه كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره، و إعانة منه له في
شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية و المسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق
و الإعانة، و هو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما
قال تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا: - التوبة: 118، و كذلك الرجوع إلى الله
سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب و تطهيره من القذارات و ألواث البعد، و
هذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال
تعالى: فأولئك يتوب الله عليهم الآية.
و إذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث
قياسها إلى توبة العبد، و إلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده
بالرحمة، و يكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها و بعدها، و ربما كان مع
عدم توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله: و لا الذين يموتون و هم كفار،
و أن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة و من هذا
الباب قوله تعالى: "و الله يريد أن يتوب عليكم و يريد الذين يتبعون الشهوات أن
تميلوا ميلا عظيما".
و كذلك القرب و البعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة
بعض مواقفه و مراحله إلى بعض، و يصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين
من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه و أقرب إلى ربه،
كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء و هم معصومون بنص كلامه كقوله
تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه: - البقرة: 37، و قوله تعالى: و إذ
يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل - إلى قوله -: و تب علينا إنك أنت
التواب الرحيم: - البقرة: 128، و قوله تعالى: حكاية عن موسى (عليه السلام):
سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين: - الأعراف: 143، و قوله تعالى خطابا لنبيه
(صلى الله عليه وآله وسلم): فاصبر إن وعد الله حق و استغفر لذنبك و سبح بحمد
ربك بالعشي و الإبكار: - المؤمن: 55، و قوله تعالى: لقد تاب الله على النبي و
المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة: - التوبة: 117.
و هذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التي يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من
كلامه تعالى كقوله تعالى: غافر الذنب و قابل التوب: - المؤمن: 3، و قوله تعالى:
يقبل التوبة عن عباده: - الشورى: 25، إلى غير ذلك.
فتلخص مما مر أولا أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه، و
إزالة ظلمة المعاصي عن قلبه - سواء في ذلك الشرك و ما دونه - توبة منه تعالى
لعبده و أن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه و إزالة معاصيه - سواء في ذلك
الشرك و غيره - توبة منه إلى ربه.
و يتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل
الشرك، و تندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك و التوبة عن المعاصي.
و ثانيا: أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة و اللاحقة فضل منه
كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام و إيجاب يرد عليه تعالى من غيره،
و ليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله
تعالى: و قابل التوب: "غافر: 3" و قوله: و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون:
"النور: 31" و قوله: إن الله يحب التوابين الآية: "البقرة: 222" و قوله:
"فأولئك يتوب الله عليهم" الآية من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول
التوبة، و النادبة إلى التوبة، الداعية إلى الاستغفار و الإنابة و غيرها
المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام، و الله سبحانه لا يخلف
الميعاد.
و من هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير
استثناء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد
و يرد ما يرد منها كما هو ظاهر قوله تعالى: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم
ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم : "آل عمران: 90" و يمكن أن يكون من هذا الباب
قوله تعالى: إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن
الله ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا: "النساء: 137".
و من عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصة غرق فرعون و
توبته، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل
و أنا من المسلمين الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين: "يونس: 91".
قال ما محصله: أن الآية لا تدل على رد توبته، و ليس في القرآن أيضا ما يدل على
هلاكه الأبدي، و أنه من المستبعد عند من يتأمل سعة رحمة الله و سبقتها غضبه أن
يجوز عليه تعالى أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته و كرامته متذللا مستكينا
بالخيبة و اليأس، و الواحد منا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانية الفطرية من الكرم و
الجود و الرحمة ليرحم أمثال هذا الإنسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال
فكيف بمن هو أرحم الراحمين و أكرم الأكرمين و غياث المستغيثين.
و هو مدفوع بقوله تعالى: "و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر
أحدهم الموت قال إني تبت الآن" الآية، و قد تقدم أن الندامة حينئذ ندم كاذب
يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب و نزول البلاء.
و لو كان كل ندم توبة و كل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال
المجرمين يوم القيامة: و أسروا الندامة لما رأوا العذاب: "سبأ: 33" إلى غير ذلك
من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا و سؤالهم الرجوع إلى الدنيا
ليعملوا صالحا، و الرد عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم
لكاذبون.
و إياك أن تتوهم أن الذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم
توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق، و ذلك أن البحث في باب السعادة و
الشقاء و الصلاح و الطلاح الإنسانيين لا ينتج غير ذلك فإنا إذا اعتبرنا حال
الإنسان العادي في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم و التربية في الإنسان
وجدناه خاليا في نفسه عن الصلاح و الطلاح الاجتماعيين قابلا للأمرين جميعا ثم
إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح، و يتلبس بلباس التقوى الاجتماعي لم يمكن له
ذلك إلا بتوافق الأسباب على خروجه من الحال الذي فيه، و ذلك يحاذي التوبة
الأولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية ثم انتزاعه و انصراف نفسه عما
هو فيه من رثاث الحال و قيد التثبط و الإهمال و هو توبة بمنزلة التوبة من العبد
فيما نحن فيه ثم زوال هيئة الفساد و وصف الرذالة المستولية على قلبه حتى يستقر
فيه وصف الكمال و نور الصلاح فإن القلب لا يسع الصلاح و الطلاح معا، و هذا
يحاذي قبول التوبة و المغفرة فيما نحن فيه و كذلك يجري في مرحلة الصلاح
الاجتماعي الذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من
الأحكام و الآثار جريا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
و ثالثا: أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة و غيرها
إنما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الإنسانية من حيث إصلاحها و إعدادها للصلاح
الإنساني الذي فيه سعادة دنياه و آخرته و بعبارة أخرى التوبة إنما تنفع - إذا
نفعت - في إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته
الأولى و الأخرى و تمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة، و أما الأحكام
الشرعية و القوانين الدينية فهي بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه
بمعصية.
نعم ربما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل، و هذا غير
كون التوبة رافعة لحكم من الأحكام قال تعالى: و اللذان يأتيانها منكم فآذوهما
فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما: "النساء: 16"، و قال
تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا
أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في
الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم،
فاعلموا أن الله غفور رحيم: "المائدة: 34" إلى غير ذلك.
و رابعا: أن الملاك الذي شرعت لأجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من
هلاك الذنب و بوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح و مقدمة الفوز بالسعادة كما
يشير إليه قوله تعالى: و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون:
"النور: 31"، و من فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد
و الركود فإن الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلا بالخوف و الرجاء المتعادلين
حتى يندفع عما يضره و ينجذب إلى ما ينفعه، و لو لا ذلك لهلك، قال تعالى: قل يا
عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب
جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم: "الزمر: 54"، و لا يزال الإنسان
على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة و جد في العزيمة و السعي ما
لم تخسر صفقته في متجر الحياة، و إذا بدا له ما يخسر عمله و يخيب سعيه و يبطل
أمنيته استولى عليه اليأس و انسلت به أركان عمله و ربما انصرف بوجهه عن مسيره
آيسا من النجاح خائبا من الفوز و الفلاح، و التوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج
داءه، و يحيي به قلبه و قد أشرف على الهلكة و الردى.
و من هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة و الدعوة إليها إغراء
بالمعصية، و تحريصا على ترك الطاعة، فإن الإنسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته
إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا، دون أن تزيد جرأته
على هتك حرمات الله و الانغمار في لجج المعاصي و الذنوب، فيدق باب كل معصية
قاصدا أن يذنب ثم يتوب.
وجه سقوطه: أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلي بالكرامات على غفران
الذنوب: للتحفظ على صفة الرجاء و تأثيره حسن أثره، و أما ما ذكر من استلزامه أن
يقصد الإنسان كل معصية بنية أن يعصي ثم يتوب، فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا
يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية، و لا انقلاع في هذا الذي
يأتي به، و الدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية و مع المعصية و بعد
المعصية، و لا معنى للندامة أعني التوبة قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل و
التوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصودا بقصد واحد مكرا و خديعة
يخدع بها رب العالمين، و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله.
و خامسا: أن المعصية و هي الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سيىء في حياته لا
يتاب منها و لا يرجع عنها إلا مع العلم و الإيقان بمساءتها، و لا ينفك ذلك عن
الندم على وقوعها أولا، و الندم تأثر خاص باطني من فعل السيىء.
و يتوقف على استقرار هذا، الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيئة
الدالة على الرجوع و التوبة ثانيا.
و إلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم و الاستغفار و التلبس
بالعمل الصالح، و الانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الأخبار، و تعرض
له كتب الأخلاق.
و سادسا: أن التوبة و هي الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة و العبودية
إنما تتحقق في ظرف الاختيار و هو الحياة الدنيا التي هي مستوى الاختيار، و أما
فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح و الطلاح و السعادة و
الشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه، و قد تقدم ما يتضح به ذلك.
و من هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق
الله سبحانه، و أما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى
رضاهم فلا يتدارك بها البتة لأن الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في
أموالهم و أعراضهم و نفوسهم، و عد التعدي إلى أحدهم في شيء من ذلك ظلما و
عدوانا، و حاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم، فيأتي هو
نفسه بما ينهى عنه و يظلمهم بذلك، و قد قال عز من قائل: إن الله لا يظلم الناس
شيئا: "يونس: 44".
إلا أن الإسلام و هو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة و تبعة ماضية متعلقة
بالفروع كما يدل عليه قوله (عليه السلام): الإسلام يجب ما قبله، و به تفسر
الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعا كقوله تعالى: قل يا عبادي الذين
أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو
الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له: - الزمر: 54.
و من هذا الباب أيضا توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق و قد وردت
أخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق
في أمثال هذه الموارد لأن العاصي أحدث فيها حدثا له آثار يبقى ببقائها، و لا
يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه و بين ربه عز
اسمه.
و سابعا: أن التوبة و إن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله
تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف و أمره إلى الله: - البقرة:
275. على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب، بل ظاهر قوله
تعالى: إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات و
كان الله غفورا رحيما و من تاب و عمل عملا صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا: -
الفرقان: 71، و خاصة بملاحظة الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان
و العمل الصالح توجب تبدل السيئات حسنات إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها
ثم إمحائها بالتوبة فإن الله سبحانه أوضح في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما
تنتهي إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء ثم عبر عن المخلصين المعصومين عن زلة
المعاصي و عثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم قال تعالى: قال رب
بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين
قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الآيات: - الحجر: 42، و
قال تعالى حكاية عن إبليس أيضا في القصة: و لا تجد أكثرهم شاكرين: - الأعراف:
17.
فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصا لا يشاركهم فيه غيرهم
من الصالحين التائبين.
بحث روايي
في الفقيه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر خطبة خطبها: من تاب
قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال: إن السنة لكثيرة و من تاب قبل موته بشهر
تاب الله عليه، ثم قال: و إن الشهر لكثير و من تاب قبل موته بيوم تاب الله
عليه، ثم قال: و إن اليوم لكثير و من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثم
قال: و إن الساعة لكثيرة من تاب و قد بلغت نفسه هذه و أهوى بيده إلى حلقه تاب
الله عليه.
: و سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل "و ليست التوبة للذين يعملون
السيئات - حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن" قال: ذلك إذا عاين أمر
الآخرة.
أقول: الرواية الأولى رواها في الكافي مسندا عن الصادق (عليه السلام)، و هي
مروية من طرق أهل السنة و في معناها روايات أخر.
و الرواية الثانية تفسر الآية و تفسر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند
حضور الموت بأن المراد من حضور الموت العلم به و مشاهدة آيات الآخرة و لا توبة
عندئذ، و أما الجاهل بالأمر فلا مانع من قبول توبته، و نظيرها بعض ما يأتي من
الروايات.
و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا بلغت النفس
هذه - و أهوى بيده إلى حنجرته لم يكن للعالم توبة، و كانت للجاهل توبة.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري في التاريخ و الحاكم و ابن مردويه عن
أبي ذر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله يقبل توبة عبده
أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل و ما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس و هي
مشركة.
و فيه، أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال: إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال: و عزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه
الروح فقال الله تبارك و تعالى: و عزتي لا أحول بينه و بين التوبة ما دام الروح
فيه.
و في الكافي، عن علي الأحمسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و الله ما ينجو من
الذنوب إلا من أقر بها، قال: و قال أبو جعفر (عليه السلام): كفى بالندم توبة.
و فيه، بطريقين عن ابن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا تاب
العبد توبة نصوحا أحبه الله تعالى فستر عليه فقلت: و كيف يستر عليه؟ قال، ينسي
ملكيه ما كانا يكتبان عليه ثم يوحي الله إلى جوارحه و إلى بقاع الأرض: أن اكتمي
عليه ذنوبه فيلقى الله حين يلقاه و ليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب.
و فيه، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا محمد بن مسلم ذنوب
المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة
أما و الله إنها ليست إلا لأهل الإيمان. قلت: فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار
في الذنوب و عاد في التوبة؟ فقال يا محمد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على
ذنبه فيستغفر الله منه و يتوب ثم لا يقبل الله توبته؟ قلت: فإن فعل ذلك مرارا
يذنب ثم يتوب و يستغفر؟ فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد الله
تعالى عليه بالمغفرة، و إن الله غفور رحيم يقبل التوبة، و يعفو عن السيئات
فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله.
و في تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في
قوله تعالى: و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى قال: لهذه الآية
تفسير يدل على ذلك التفسير أن الله لا يقبل من عبد عملا إلا لمن لقيه بالوفاء
منه بذلك التفسير، و ما اشترط فيه على المؤمنين و قال: إنما التوبة على الله
للذين يعملون السوء بجهالة يعني كل ذنب عمله العبد و إن كان به عالما فهو جاهل
حين خاطر بنفسه في معصية ربه، و قد قال في ذلك يحكي قول يوسف لإخوته "هل علمتم
ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون" فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في
معصية الله.
أقول: و الرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن و الظاهر أن المراد بالصدر أن
العمل إنما يقبل إذا وفى به العبد و لم ينقضه فالتوبة إنما تقبل إذا كانت زاجرة
ناهية على الذنب و لو حينا.
و قوله: و قال: إنما التوبة "إلخ" كلام مستأنف أراد به بيان أن قوله: "بجهالة"
قيد توضيحي، و أن في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما
تقدم، و قد روي هذا الذيل في المجمع أيضا عنه (عليه السلام).
4 سورة النساء - 19 - 22
يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا يحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً
وَ لا تَعْضلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنّ إِلا أَن
يَأْتِينَ بِفَحِشةٍ مّبَيِّنَةٍ وَ عَاشرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن
كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسى أَن تَكْرَهُوا شيْئاً وَ يجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيراً
كثِيراً (19) وَ إِنْ أَرَدتّمُ استِبْدَالَ زَوْجٍ مّكانَ زَوْجٍ وَ
ءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شيْئاً أَ
تَأْخُذُونَهُ بُهْتَناً وَ إِثْماً مّبِيناً (20) وَ كَيْف تَأْخُذُونَهُ وَ
قَدْ أَفْضى بَعْضكمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنكم مِّيثَقاً غَلِيظاً (21)
وَ لا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكم مِّنَ النِّساءِ إِلا مَا قَدْ سلَف
إِنّهُ كانَ فَحِشةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سبِيلاً (22)
بيان
رجوع إلى أمر النساء بذكر بعض آخر مما يتعلق بهن و الآيات مع ذلك مشتملة على
قوله: و عاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه
خيرا كثيرا فإنه أصل قرآني لحياة المرأة الاجتماعية.
قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم" إلى قوله: "كرها" كان أهل
الجاهلية - على ما في التاريخ و الرواية - يعدون نساء الموتى من التركة - إذا
لم تكن المرأة أما للوارث - فيرثونهن مع التركة فكان أحد الوراث يلقي ثوبا على
زوجة الميت و يرثها فإن شاء تزوج بها من غير مهر بل بالوراثة و إن كره نكاحها
حبسها عنده فإن شاء زوجها من غيره فانتفع بمهرها، و إن شاء عضلها و منعها
النكاح و حبسها حتى تموت فيرثها إن كان لها مال.
و الآية و إن كان ظاهرها أنها تنهى عن سنة دائرة بينهم، و هي التي ذكرناها من
إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنة السيئة على ما ذكره بعض المفسرين
إلا أن قوله في ذيل الجملة: "كرها" لا يلائم ذلك سواء أخذ قيدا توضيحيا أو
احترازيا.
فإنه لو كان قيدا توضيحيا أفاد أن هذه الوراثة تقع دائما على كره من النساء و
ليس كذلك، و هو ظاهر، و لو كان قيدا احترازيا أفاد أن النهي إنما هو إذا كانت
الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضى منهن، و ليس كذلك.
نعم الكره أمر متحقق في العضل عن الازدواج طمعا في ميراثهن دائما أو غالبا بعد
القبض عليهن بالإرث فالظاهر أن الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره و أما
نكاحهن بالإرث فالمتعرض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي: و لا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء الآية و أما تزويجهن من الغير و الذهاب بمهرهن فينهى عنه مثل
قوله تعالى: و للنساء نصيب مما اكتسبن: "النساء: 32" و يدل على الجميع قوله
تعالى: فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف: "البقرة: 234".
و أما قوله بعد: و لا تعضلوهن لتذهبوا "إلخ" فهو غير هذا العضل عن الازدواج
للذهاب بالمال إرثا لما في تذييله بقوله: لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من الدلالة
على أن المراد به الذهاب ببعض المهر الذي آتاه الزوج العاضل دون المال الذي
امتلكته من غير طريق هذا المهر.
و بالجملة الآية تنهى عن وراثة أموال النساء كرها منهن دون وراثة أنفسهن فإضافة
الإرث إلى النساء إنما هي بتقدير الأموال أو يكون مجازا عقليا.
قوله تعالى: "و لا تعضلوهن لتذهبوا" إلى قوله: "مبينة" إما معطوف على قوله:
ترثوا و التقدير: و لا أن تعضلوهن و إما نهي معطوف على قوله: لا يحل لكم لكونه
في معنى النهي.
و العضل هو المنع و التضييق و التشديد.
و الفاحشة الطريقة الشنيعة كثر استعمالها في الزنا.
و المبينة المتبينة، و قد نقل عن سيبويه أن أبان و استبان و بين و تبين بمعنى
واحد، تتعدى و لا تتعدى يقال: أبان الشيء و استبان و بين و تبين و يقال: أبنت
الشيء و استبنته و بينته و تبينته.
و الآية تنهى عن التضييق عليهن بشيء من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل شيء من
الصداق لفك عقدة النكاح و التخلص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد محرم على
الزوج إلا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبينة فله حينئذ أن يعضلها و يضيق عليها
لتفارقه بالبذل، و الآية لا تنافي الآية الأخرى في باب البذل: و لا يحل لكم أن
تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما
حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به: "البقرة: 229" و إنما هو التخصيص.
تخصص هذه الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة، و أما البذل الذي في آية
البقرة فإنما هو واقع على تراض منهما فلا تخصص بها هذه الآية.
قوله تعالى: "و عاشروهن بالمعروف" إلى آخر الآية المعروف هو الأمر الذي يعرفه
الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه و يجهلوه، و حيث قيد به الأمر بالمعاشرة كان
المعنى الأمر بمعاشرتهن المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين.
و المعاشرة التي يعرفها الرجال و يتعارفونها بينهم أن الواحد منهم جزء مقوم
للمجتمع يساوي سائر الأجزاء في تكوينه المجتمع الإنساني لغرض التعاون و التعاضد
العمومي النوعي فيتوجه على كل منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي
فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتني ما ينتفع به فيعطي ما يستغني عنه و يأخذ ما
يحتاج إليه فلو عومل واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة و ليس إلا أن
يضطهد بإبطال استقلاله في الجزئية فيؤخذ تابعا ينتفع به و لا ينتفع هو بشيء
يحاذيه، و هذا هو الاستثناء.
و قد بين الله تعالى في كتابه إن الناس جميعا - رجالا و نساء - فروع أصل واحد
إنساني، و أجزاء و أبعاض لطبيعة واحدة بشرية، و المجتمع في تكونه محتاج إلى
هؤلاء كما هو محتاج إلى أولئك على حد سواء كما قال تعالى: بعضكم من بعض:
النساء: 25".
و لا ينافي ذلك اختصاص كل من الطائفتين بخصلة تختص به كاختصاص الرجال بالشدة و
القوة نوعا، و اختصاص النساء بالرقة و العاطفة طبعا فإن الطبيعة الإنسانية في
حياتها التكوينية و الاجتماعية جميعا تحتاج إلى بروز الشدة و ظهور القوة كما
تحتاج إلى سريان المودة و الرحمة، و الخصلتان جميعا مظهرا الجذب و الدفع
العامين في المجتمع الإنساني.
فالطائفتان متعادلتان وزنا و أثرا كما أن أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن
و التأثير في هذه البنية المكونة مع اختلافهم في شئونهم الطبيعية و الاجتماعية
من قوة و ضعف، و علم و جهل، و كياسة و بلادة، و صغر و كبر، و رئاسة و مرءوسية،
و مخدومية و خادمية، و شرف و خسة و غير ذلك.
فهذا هو الحكم الذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسط الجاري على سنة الفطرة من غير
انحراف، و قد قوم الإسلام أود الاجتماع الإنساني و أقام عوجه فلا مناص من أن
يجري فيه حكم التسوية في المعاشرة و هو الذي نعبر عنه بالحرية الاجتماعية، و
حرية النساء كالرجال، و حقيقتها أن الإنسان بما هو إنسان ذو فكر و إرادة له أن
يختار ما ينفعه على ما يضره مستقلا في اختياره ثم إذا ورد المجتمع كان له أن
يختار ما يختار - ما لم يزاحم سعادة المجتمع الإنساني - مستقلا في ذلك من غير
أن يمنع عنه أو يتبع غيره من غير اختيار.
و هذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الأفراد من طبقة واحدة
بمزايا أو محروميته عن مزايا كاختصاص الرجال في الإسلام بالقضاء و الحكومة و
الجهاد و وجوب نفقتهن على الرجال و غير ذلك، و كحرمان الصبيان غير البالغين عن
نفوذ الإقرار و المعاملات و عدم توجه التكاليف إليهم و نحو ذلك فجميع ذلك
خصوصيات أحكام تعرض الطبقات و أشخاص المجتمع من حيث اختلاف أوزانهم في المجتمع
بعد اشتراكهم جميعا في أصل الوزن الإنساني الاجتماعي الذي ملاكه أن الجميع
إنسان ذو فكر و إرادة.
و لا تختص هذه المختصات بشريعة الإسلام المقدسة بل توجد في جميع القوانين
المدنية بل في جميع السنن الإنسانية حتى الهمجية قليلا أو كثيرا على اختلافها،
و الكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى: و عاشروهن بالمعروف على ما
تبين.
و أما قوله تعالى: "فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا
كثيرا" فهو من قبيل إظهار الأمر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتقاء من تيقظ
غريزة التعصب في المخاطب نظير قوله تعالى: قل من يرزقكم من السموات و الأرض قل
الله و إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا و لا
نسأل عما تعملون: "سبأ: 25".
فقد كان المجتمع الإنساني يومئذ عصر نزول القرآن لا يوقف النساء في موقفها
الإنساني الواقعي، و يكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوم بل المجتمعات
القائمة على ساقها يومئذ بين ما يعدهن طفيليات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها، و ما
يعدهن إنسانا ناقصا في الإنسانية كالصبيان و المجانين إلا أنهن لا يبلغن
الإنسانية أبدا فيجب أن يعشن تحت الإتباع و الاستيلاء دائما، و لعل قوله تعالى:
فإن كرهتموهن، حيث نسب الكراهة إلى أنفسهن دون نكاحهن إشارة إلى ذلك.
قوله تعالى: "و إن أردتم استبدال زوج مكان زوج" إلى آخر الآية، الاستبدال
استفعال بمعنى طلب البدل، و كأنه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل
التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام أخرى بالاستبدال، و لذلك جمع بين قوله، أردتم و
بين قوله: استبدال إلخ مع كون الاستبدال مشتملا على معنى الإرادة و الطلب، و
على هذا فالمعنى: و إن أردتم أن تقيموا زوجا مقام أخرى بالاستبدال.
و البهتان ما بهت الإنسان أي جعله متحيرا، و يغلب استعماله في الكذب من القول و
هو في الأصل مصدر، و قد استعمل في الآية في الفعل الذي هو الأخذ من المهر، و هو
في الآية حال من الأخذ و كذا قوله: إثما، و الاستفهام إنكاري.
و المعنى: إن أردتم أن تطلقوا بعض أزواجكم و تتزوجوا بأخرى مكانها فلا تأخذوا
من الصداق الذي آتيتموها شيئا و إن كان ما آتيتموها مالا كثيرا، و ما تأخذونه
قليلا جدا.
قوله تعالى: "و كيف تأخذونه و قد أفضى بعضكم إلى بعض" إلى آخر الآية، الاستفهام
للتعجيب، و الإفضاء هو الاتصال بالمماسة، و أصله الفضاء بمعنى السعة.
و لما كان هذا الأخذ إنما هو بالبغي و الظلم، و مورده مورد الاتصال و الاتحاد
أوجب ذلك صحة التعجب حيث إن الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من الإفضاء
و الاقتراب كشخص واحد، و من العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه و يؤذيها أو يؤذي بعض
أجزائه بعضا.
و أما قوله: "و أخذن منكم ميثاقا غليظا" فالظاهر أن المراد بالميثاق الغليظ هو
العلقة التي أبرمها الرجل بالعقد و نحوه، و من لوازمها الصداق الذي يسمى عند
النكاح و تستحقه المرأة من الرجل.
و ربما قيل: إن المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان على ما ذكره الله تعالى، و ربما قيل: إن المراد به حكم
الحلية المجعول شرعا في النكاح، و لا يخفى بعد الوجهين جميعا بالنسبة إلى لفظ
الآية.
بحث روايي
في تفسير العياشي، عن هاشم بن عبد الله عن السري البجلي قال: سألته عن قوله: و
لا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن قال: فحكى كلاما ثم قال: كما يقول النبطية
إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره، و كان هذا في الجاهلية.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله
تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، فإنه كان في
الجاهلية في أول ما أسلموا من قبائل العرب إذا مات حميم الرجل و له امرأة ألقى
الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث
ماله، فلما مات أبو قيس بن الأسلت ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه، و
هي كبيشة بنت معمر بن معبد فورث نكاحها، ثم تركها لا يدخل بها و لا ينفق عليها،
فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله مات أبو قيس بن
الأسلت فورث محصن ابنه نكاحي فلا يدخل علي، و لا ينفق علي، و لا يخلي سبيلي
فألحق بأهلي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ارجعي إلى بيتك فإن
يحدث الله في شأنك شيئا أعلمتك فنزل: و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا
ما قد سلف - إنه كان فاحشة و مقتا و ساء سبيلا، فلحقت بأهلها، و كانت نساء في
المدينة قد ورث نكاحهن كما ورث نكاح كبيشة غير أنه ورثهن من الأبناء فأنزل
الله: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها.
أقول: آخر الرواية لا يخلو عن اضطراب في المعنى و قد وردت هذه القصة و نزول
الآيات فيها في عدة من روايات أهل السنة أيضا، غير أن الروايات أو معظمها تذكر
نزول قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا الآية في القصة، و
قد عرفت في البيان السابق عدم مساعدة السياق على ذلك.
و مع ذلك فتحقق القصة و ارتباط الآيات بوجه بها و بالعادة الجارية فيما بينهم
عند النزول في الجملة لا ريب فيه، فالمعول في ذلك ما قدمناه في البيان السابق.
و في المجمع،: في قوله تعالى: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة الآية قال: الأولى حمل
الآية على كل معصية، قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في تفسير البرهان، عن الشيباني: الفاحشة يعني الزنا، و ذلك إذا اطلع الرجل
منها على فاحشة فله أخذ الفدية و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن جابر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال: اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، و استحللتم
فروجهن بكلمة الله، و إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن
ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف.
و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
يا أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله، و استحللتم فروجهن
بكلمة الله، و لكم عليهن حق، و من حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا، و لا
يعصينكم في معروف و إذا فعلن ذلك فلهن رزقهن و كسوتهن بالمعروف.
أقول: و قد تقدم ما يتبين به معنى هذه الروايات.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: و
أخذن منكم ميثاقا غليظا قال: الميثاق الكلمة التي عقد بها النكاح الرواية.
و في المجمع، قال: الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد من
إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
أقول: و هذا المعنى منقول عن عدة من مفسري السلف كابن عباس و قتادة و أبي
مليكة، و الآية لا تأباه بالنظر إلى أن ذلك حكم يصدق عليه أنه ميثاق مأخوذ على
الرجال للنساء، و إن كان الأظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج.
و في الدر المنثور، أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عبد الله بن مصعب قال:
قال عمر: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألقيت الزيادة في
بيت المال، فقالت امرأة: ما ذاك لك قال: و لم؟ قالت: لأن الله يقول: و آتيتم
إحداهن قنطارا الآية، فقال عمر: امرأة أصابت و رجل أخطأ: أقول: و رواه أيضا عن
عبد الرزاق و ابن المنذر عن عبد الرحمن السلمي، و أيضا عن سعيد بن منصور و أبي
يعلى بسند جيد عن مسروق، و فيه أربعمائة درهم مكان أربعين أوقية، و أيضا عن
سعيد بن منصور و عبد بن حميد عن بكر بن عبد الله المزني، و الروايات متقاربة
المعنى.
و فيه، أخرج ابن جرير عن عكرمة: في قوله: و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء،
قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد بنت ضمرة كانت تحت الأسلت
أبيه، و في الأسود بن خلف و كان خلف على بنت أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن
عبد الدار و كانت عند أبيه خلف، و في فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت
عند أمية بن خلف فخلف عليها صفوان بن أمية، و في منظور بن رباب و كان خلف على
مليكة ابنة خارجة و كانت عند أبيه رباب بن سيار.
و فيه، أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان الرجل إذا توفي عن امرأة
كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه أو ينكحها من شاء، فلما مات
أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته و لم ينفق عليها و لم يورثها
من المال شيئا فأتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت ذلك له، فقال: ارجعي
لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت: و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية، و
نزلت: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها.
أقول: و قد تقدم ما يدل على ذلك من روايات الشيعة.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون
ما حرم الله إلا امرأة الأب و الجمع بين الأختين فأنزل الله: و لا تنكحوا ما
نكح آباؤكم من النساء و أن تجمعوا بين الأختين: أقول: و في معناه أخبار أخر.
4 سورة النساء - 23 - 28
حُرِّمَت عَلَيْكمْ أُمّهَتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ وَ أَخَوَتُكمْ وَ عَمّتُكُمْ
وَ خَلَتُكُمْ وَ بَنَات الأَخ وَ بَنَات الأُخْتِ وَ أُمّهَتُكمُ الّتى
أَرْضعْنَكُمْ وَ أَخَوَتُكم مِّنَ الرّضعَةِ وَ أُمّهَت نِسائكمْ وَ
رَبَئبُكمُ الّتى فى حُجُورِكم مِّن نِّسائكُمُ الّتى دَخَلْتُم بِهِنّ فَإِن
لّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكمْ وَ حَلَئلُ
أَبْنَائكمُ الّذِينَ مِنْ أَصلَبِكمْ وَ أَن تَجْمَعُوا بَينَ الأُخْتَينِ
إِلا مَا قَدْ سلَف إِنّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رّحِيماً (23) * وَ الْمُحْصنَت
مِنَ النِّساءِ إِلا مَا مَلَكَت أَيْمَنُكمْ كِتَب اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ
أُحِلّ لَكُم مّا وَرَاءَ ذَلِكمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَلِكُم محْصِنِينَ
غَيرَ مُسفِحِينَ فَمَا استَمْتَعْتُم بِهِ مِنهُنّ فَئَاتُوهُنّ أُجُورَهُنّ
فَرِيضةً وَ لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَضيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ
الْفَرِيضةِ إِنّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَ مَن لّمْ يَستَطِعْ
مِنكُمْ طوْلاً أَن يَنكحَ الْمُحْصنَتِ الْمُؤْمِنَتِ فَمِن مّا مَلَكَت
أَيْمَنُكُم مِّن فَتَيَتِكُمُ الْمُؤْمِنَتِ وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَنِكُم
بَعْضكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أهْلِهِنّ وَ ءَاتُوهُنّ
أُجُورَهُنّ بِالْمَعْرُوفِ محْصنَتٍ غَيرَ مُسفِحَتٍ وَ لا مُتّخِذَتِ
أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَينَ بِفَحِشةٍ فَعَلَيهِنّ نِصف مَا
عَلى الْمُحْصنَتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِك لِمَنْ خَشىَ الْعَنَت مِنكُمْ وَ أَن
تَصبرُوا خَيرٌ لّكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللّهُ
لِيُبَينَ لَكُمْ وَ يهْدِيَكمْ سنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكمْ وَ يَتُوب
عَلَيْكُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوب
عَلَيْكمْ وَ يُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشهَوَتِ أَن تمِيلُوا مَيْلاً
عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللّهُ أَن يخَفِّف عَنكُمْ وَ خُلِقَ الانسنُ ضعِيفاً
(28)
بيان
آيات محكمة تعد محرمات النكاح و ما أحل من نكاح النساء، و الآية السابقة عليها
المبينة لحرمة نكاح ما نكح الآباء و إن كانت بحسب المضمون من جملتها إلا أن
ظاهر سياقها لما كان من تتمة السياق السابق أوردناها في جملة الآيات السابقة مع
كونها بحسب المعنى ملحقة بها.
و بالجملة جملة الآيات متضمنة لبيان كل محرم نكاحي من غير تخصيص أو تقييد، و هو
الظاهر من قوله تعالى بعد تعداد المحرمات: و أحل لكم ما وراء ذلكم الآية، و
لذلك لم يختلف أهل العلم في الاستدلال بالآية على حرمة بنت الابن و البنت و أم
الأب أو الأم و كذا على حرمة زوجة الجد بقوله تعالى: و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم
الآية، و به يستفاد نظر القرآن في تشخيص الأبناء و البنات بحسب التشريع على ما
سيجيء إن شاء الله.
قوله تعالى: "حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم و أخواتكم و عماتكم و خالاتكم و بنات
الأخ و بنات الأخت" هؤلاء هن المحرمات بحسب النسب و هي سبعة أصناف، و الأم من
اتصل إليها نسب الإنسان بالولادة كمن ولدته من غير واسطة أو بواسطة، كوالدة
الأب أو الأم فصاعدة، و البنت من اتصل نسبها بالإنسان بسبب ولادتها منه
كالمولودة من صلبه بلا واسطة، و كبنت الابن و البنت فنازلة و الأخت من اتصل
نسبها بالإنسان من جهة ولادتهما معا من الأب أو الأم أو منهما جميعا بلا واسطة،
و العمة أخت الأب و كذا أخت الجد من جهة الأب أو الأم، و الخالة أخت الأم، و
كذا أخت الجدة من جهة الأب أو الأم.
و المراد بتحريم الأمهات و ما يتلوها من الأصناف حرمة نكاحهن على ما يفيده
الإطلاق من مناسبة الحكم و الموضوع، كما في قوله تعالى: حرمت عليكم الميتة و
الدم: "المائدة: 3" أي أكلهما، و قوله تعالى: فإنها محرمة عليهم: "المائدة: 26"
أي سكنى الأرض، و هذا مجاز عقلي شائع، هذا.
و لكنه لا يلائم ما سيأتي من قوله تعالى: "إلا ما ملكت أيمانكم" فإنه استثناء
من الوطء دون علقة النكاح على ما سيجيء، و كذا قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم
محصنين غير مسافحين على ما سيجيء، فالحق أن المقدر هو ما يفيد معنى الوطء دون
علقة النكاح، و إنما لم يصرح تأدبا و صونا للسان على ما هو دأب كلامه تعالى.
و اختصاص الخطاب بالرجال دون أن يقال: حرم عليهن أبناؤهن "إلخ"، أو يقال مثلا:
لا نكاح بين المرأة و ولدها "إلخ"، لما أن الطلب و الخطبة بحسب الطبع إنما يقع
من جانب الرجال فحسب.
و توجيه الخطاب إلى الجمع مع تعليق الحرمة بالجمع كالأمهات و البنات "إلخ"،
تفيد الاستغراق في التوزيع، أي حرمت على كل رجل منكم أمه و بنته، إذ لا معنى
لتحريم المجموع على المجموع، و لا لتحريم كل أم و بنت لكل رجل مثلا على كل رجل
لأوله إلى تحريم أصل النكاح، فمآل الآية إلى أن كل رجل يحرم عليه نكاح أمه و
بنته و أخته "إلخ".
قوله تعالى: "و أمهاتكم اللاتي أرضعنكم و أخواتكم من الرضاعة" شروع في بيان
المحرمات بالسبب، و هي سبع ست منها ما في هذه الآية، و سابعتها ما يتضمنه قوله:
و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية.
و الآية بسياقها تدل على جعل الأمومة و البنوة بين المرأة و من أرضعته و كذا
الإخوة بين الرجل و أخته من الرضاعة حيث أرسل الكلام فيها إرسال المسلم
فالرضاعة تكون الروابط النسبية بحسب التشريع، و هذا مما يختص بالشريعة
الإسلامية على ما ستجيء الإشارة إليه.
و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه الفريقان أنه قال: إن
الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب و لازمه أن تنتشر الحرمة بالرضاع فيما
يحاذي محرمات النسب من الأصناف، و هي الأم و البنت و الأخت و العمة و الخالة و
بنت الأخ و بنت الأخت، سبعة أصناف.
و أما ما به يتحقق الرضاع و ما له في نشره الحرمة من الشرائط من حيث الكم و
الكيف و المدة و ما يلحق بها من الأحكام فهو مما يتبين في الفقه، و البحث فيه
خارج عن وضع هذا الكتاب، و أما قوله: و أخواتكم من الرضاعة فالمراد به الأخوات
الملحقة بالرجل من جهة إرضاع أمه إياها بلبن أبيه و هكذا.
قوله تعالى: "و أمهات نسائكم" سواء كانت النساء أي الأزواج مدخولا بهن أو غير
مدخول بهن فإن النساء إذا أضيفت إلى الرجال دلت على مطلق الأزواج، و الدليل على
ذلك التقييد الآتي في قوله تعالى: من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا
دخلتم بهن الآية.
قوله تعالى: "و ربائبكم اللاتي في حجوركم" إلى قوله: "فلا جناح عليكم" الربائب
جمع الربيبة و هي بنت زوجة الرجل من غيره لأن تدبير أمر من مع المرأة من الولد
إلى زوجها فهو الذي يربها و يربيها في العادة الغالبة و إن لم يكن كذلك دائما.
و كذلك كون الربيبة في حجر الزوج أمر مبني على الغالب و إن لم يجر الأمر عليه
دائما، و لذلك قيل: إن قوله: اللاتي في حجوركم قيد مبني على الغالب فالربيبة
محرمة سواء كانت في حجر زوج أمها أو لم يكن، فالقيد توضيحي لا احترازي.
و من الممكن أن يقال: إن قوله: اللاتي في حجوركم، إشارة إلى ما يستفاد من حكمة
تشريع الحرمة في محرمات النسب و السبب على ما سيجيء البحث عنه، و هو الاختلاط
الواقع المستقر بين الرجل و بين هؤلاء الأصناف من النساء و المصاحبة الغالبة
بين هؤلاء في المنازل و البيوت فلو لا حكم الحرمة المؤبدة لم يمكن الاحتراز من
وقوع الفحشاء بمجرد تحريم الزنا على ما سيجيء بيانه.
فيكون قوله: "اللاتي في حجوركم" مشيرا إلى أن الربائب لكونهن غالبا في حجوركم و
في صحابتكم تشارك سائر الأصناف في الاشتمال على ملاك التحريم و حكمته.
و كيفما كان ليس قوله: اللاتي في حجوركم قيدا احترازيا يتقيد به التحريم حتى
تحل الربيبة لرابها إذا لم تكن في حجره كالبنت الكبيرة يتزوج الرجل بأمها، و
الدليل على ذلك المفهوم المصرح به في قوله تعالى: "فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا
جناح عليكم" حيث ذكر فيه ارتفاع قيد الدخول لكون الدخول دخيلا في التحريم، و لو
كان الكون في الحجور مثله لكان من اللازم ذكره، و هو ظاهر.
و قوله: فلا جناح عليكم أي في أن تنكحوهن حذف إيثارا للاختصار لدلالة السياق
عليه.
قوله تعالى: "و حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم" الحلائل جمع حليلة قال في
المجمع: و الحلائل جمع الحليلة، و هي بمعنى محللة مشتقة من الحلال و الذكر
حليل، و جمعه أحلة كعزيز و أعزة سميا بذلك لأن كل واحدة منهما يحل له مباشرة
صاحبه، و قيل هو من الحلول لأن كل واحد منهما يحال صاحبه أي يحل معه في الفراش،
انتهى.
و المراد بالأبناء من اتصل بالإنسان بولادة سواء كان ذلك بلا واسطة أو بواسطة
ابن أو بنت، و تقييده بقوله: "الذين من أصلابكم" احتراز عن حليلة من يدعى ابنا
بالتبني دون الولادة.
قوله تعالى: "و أن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" المراد به بيان تحريم
نكاح أخت الزوجة ما دامت الزوجة حية باقية تحت حبالة الزوجية فهو أوجز عبارة و
أحسنها في تأدية المراد، و إطلاق الكلام ينصرف إلى الجمع بينهما في النكاح في
زمان واحد، فلا مانع من أن ينكح الرجل إحدى الأختين ثم يتزوج بالأخرى بعد طلاق
الأولي أو موتها و من الدليل عليه السيرة القطعية بين المسلمين المتصلة بزمان
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أما قوله: "إلا ما قد سلف" فهو كنظيره المتقدم في قوله: "و لا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" ناظر إلى ما كان معمولا به بين عرب الجاهلية
من الجمع بين الأختين، و المراد به بيان العفو عما سلف من عملهم بالجمع بين
الأختين قبل نزول هذه الآية دون ما لو كان شيء من ذلك في زمان النزول بنكاح
سابق فإن الآية تدل على منعه لأنه جمع بين الأختين بالفعل كما يدل عليه أيضا ما
تقدم نقله من أسباب نزول قوله: "و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم" الآية حيث فرق
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول الآية بين الأبناء و بين نساء آبائهم
مع كون النكاح قبل نزول الآية.
و رفع التحريم - و هو الجواز - عن نكاح سالف لا يبتلى به بالفعل، و العفو عنه
من حيث نفس العمل المنقضي و إن كان لغوا لا أثر له لكنه لا يخلو عن الفائدة من
حيث آثار العمل الباقية بعده كطهارة المولد و اعتبار القرابة مع الاستيلاد و
نحو ذلك.
و بعبارة أخرى لا معنى لتوجيه الحرمة أو الإباحة إلى نكاح سابق قد جمع بين
الأختين إذا ماتتا مثلا أو ماتت إحداهما أو حل الطلاق بهما أو بإحداهما لكن يصح
رفع الإلغاء و التحريم عن مثل هذا النكاح باعتبار ما استتبعه من الأولاد من حيث
الحكم بطهارة مولدهم، و وجود القرابة بينهم و بين آبائهم المولدين لهم و سائر
قرابات الآباء، المؤثر ذلك في الإرث و النكاح و غير ذلك.
و على هذا فقوله: "إلا ما قد سلف" استثناء من الحكم باعتبار آثاره الشرعية لا
باعتبار أصل تعلقه بعمل قد انقضى قبل التشريع و من هنا يظهر أن الاستثناء متصل
لا منقطع كما ذكره المفسرون.
و يمكن أن يرجع الاستثناء إلى جميع الفقرات المذكورة في الآية من غير أن يختص
بقوله: "و أن تجمعوا بين الأختين" فإن العرب و إن كانت لا ترتكب من هذه
المحرمات إلا الجمع بين الأختين، و لم تكن تقترف نكاح الأمهات و البنات و سائر
ما ذكرت في الآية إلا أن هناك أمما كانت تنكح أقسام المحارم كالفرس و الروم و
سائر الأمم المتمدنة و غير المتمدنة يوم نزول الآيات على اختلافهم فيه، و
الإسلام يعتبر صحة نكاح الأمم غير المسلمة الدائر بينهم على مذاهبهم فيحكم
بطهارة مولدهم، و يعتبر صحة قرابتهم بعد الدخول في دين الحق، هذا، لكن الوجه
الأول أظهر.
قوله تعالى: "إن الله كان غفورا رحيما" تعليل راجع إلى الاستثناء، و هو من
الموارد التي تعلقت فيها المغفرة بآثار الأعمال في الخارج دون الذنوب و
المعاصي.
قوله تعالى: "و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" المحصنات بفتح الصاد
اسم مفعول من الإحصان و هو المنع، و منه الحصن الحصين أي المنيع يقال: أحصنت
المرأة إذا عفت فحفظت نفسها و امتنعت عن الفجور، قال تعالى: التي أحصنت فرجها:
"التحريم: 12" أي عفت و يقال: أحصنت المرأة - بالبناء للفاعل و المفعول - إذا
تزوجت فأحصن زوجها أو التزوج إياها من غير زوجها، و يقال: أحصنت المرأة إذا
كانت حرة فمنعها ذلك من أن يمتلك الغير بضعها أو منعها ذلك من الزنا لأن ذلك
كان فاشيا في الإماء.
و الظاهر أن المراد بالمحصنات في الآية هو المعنى الثاني أي المتزوجات دون
الأول و الثالث لأن الممنوع المحرم في غير الأصناف الأربعة عشر المعدودة في
الآيتين هو نكاح المزوجات فحسب فلا منع من غيرها من النساء سواء كانت عفيفة أو
غيرها، و سواء كانت حرة أو مملوكة فلا وجه لأن يراد بالمحصنات في الآية العفائف
مع عدم اختصاص حكم المنع بالعفائف ثم يرتكب تقييد الآية بالتزويج، أو حمل اللفظ
على إرادة الحرائر مع كون الحكم في الإماء أيضا مثلهن ثم ارتكاب التقييد
بالتزويج فإن ذلك أمر لا يرتضيه الطبع السليم.
فالمراد بالمحصنات من النساء المزوجات و هي التي تحت حبالة التزويج، و هو عطف
على موضع أمهاتكم، و المعنى: و حرمت عليكم كل مزوجة من النساء ما دامت مزوجة
ذات بعل.
و على هذا يكون قوله: "إلا ما ملكت أيمانكم" رفعا لحكم المنع عن محصنات الإماء
على ما ورد في السنة أن لمولى الأمة المزوجة أن يحول بين مملوكته و زوجها ثم
ينالها عن استبراء ثم يردها إلى زوجها.
و أما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله: "إلا ما ملكت أيمانكم" إلا ما
ملكت أيمانكم بالنكاح أو بملك الرقبة من العفائف فالمراد بالملك ملك الاستمتاع
و التسلط على المباشرة ففيه أولا أنه يتوقف على أن يراد بالمحصنات العفائف دون
المزوجات و قد عرفت ما فيه، و ثانيا أن المعهود من القرآن إطلاق هذه العبارة
على غير هذا المعنى، و هو ملك الرقبة دون التسلط على الانتفاع و نحوه.
و كذا ما ذكره بعض آخر أن المراد بما ملكته الأيمان الجواري المسبيات إذا كن
ذوات أزواج من الكفار، و أيد ذلك بما روي عن أبي سعيد الخدري: أن الآية نزلت في
سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء المشركين، و كانت لهن أزواج في دار الحرب
فلما نزلت نادى منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا لا توطأ
الحبالى حتى يضعن و لا غير الحبالى حتى يستبرأن.
و فيه مضافا إلى ضعف الرواية أن ذلك تخصيص للآية من غير مخصص، فالمصير إلى ما
ذكرناه.
قوله تعالى: "كتاب الله عليكم" أي الزموا حكم الله المكتوب المقضي عليكم و قد
ذكر المفسرون أن قوله: "كتاب الله عليكم" منصوب مفعولا مطلقا لفعل مقدر، و
التقدير: كتب الله كتابا عليكم ثم حذف الفعل و أضيف المصدر إلى فاعله و أقيم
مقامه، و لم يأخذوا لفظ عليكم اسم فعل لما ذكره النحويون أنه ضعيف العمل لا
يتقدم معموله عليه، هذا.
قوله تعالى: "و أحل لكم ما وراء ذلكم" ظاهر التعبير بما الظاهرة في غير أولي
العقل، و كذا الإشارة بذلكم الدال على المفرد المذكر، و كذا قوله بعده: أن
تبتغوا بأموالكم، أن يكون المراد بالموصول و اسم الإشارة هو المقدر في قوله:
حرمت عليكم أمهاتكم، المتعلق به التحريم من الوطء و النيل أو ما هو من هذا
القبيل، و المعنى: و أحل لكم من نيلهن ما هو غير ما ذكر لكم، و هو النيل
بالنكاح في غير من عد من الأصناف الخمسة عشر أو بملك اليمين، و حينئذ يستقيم
بدلية قوله: أن تبتغوا بأموالكم، من قوله: و أحل لكم ما وراء ذلكم كل
الاستقامة.
و قد ورد عن المفسرين في هذه الجملة من الآية تفاسير عجيبة كقول بعضهم: إن معنى
قوله: "و أحل لكم ما وراء ذلكم": أحل لكم ما وراء ذات المحارم من أقاربكم، و
قول بعض آخر: إن المراد: أحل لكم ما دون الخمس و هي الأربع فما دونها أن تبتغوا
بأموالكم على وجه النكاح، و قول بعض آخر: إن المعنى أحل لكم ما وراء ذلكم مما
ملكت أيمانكم، و قول بعض آخر: معناها أحل لكم ما وراء ذات المحارم و الزيادة
على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين.
و هذه وجوه سخيفة لا دليل على شيء منها من قبل اللفظ في الآية، على أنها تشترك
في حمل لفظة ما في الآية على أولي العقل، و لا موجب له كما عرفت آنفا، على أن
الآية في مقام بيان المحرم من نيل النساء من حيث أصناف النساء لا من حيث عدد
الأزواج فلا وجه لتحميل إرادة العدد على الآية، فالحق أن الجملة في مقام بيان
جواز نيل النساء فيما سوى الأصناف المعدودة منهن في الآيتين السابقتين بالنكاح
أو بملك اليمين.
قوله تعالى: "أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين" بدل أو عطف بيان من قوله:
"ما وراء ذلكم" يتبين به الطريق المشروع في نيل النساء و مباشرتهن، و ذلك أن
الذي يشمله قوله: "و أحل لكم ما وراء ذلكم" من المصداق ثلاثة: النكاح و ملك
اليمين و السفاح و هو الزنا فبين بقوله: "أن تبتغوا بأموالكم" إلخ، المنع عن
السفاح و قصر الحل في النكاح و ملك اليمين ثم اعتبر الابتغاء بالأموال و هو في
النكاح المهر و الأجرة - ركن من أركانه - و في ملك اليمين الثمن - و هو الطريق
الغالب في تملك الإماء - فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا: أحل لكم فيما سوى
الأصناف المعدودة أن تطلبوا مباشرة النساء و نيلهن بإنفاق أموالكم في أجرة
المنكوحات من النساء نكاحا من غير سفاح أو إنفاقها في ثمن الجواري و الإماء.
و من هنا يظهر أن المراد بالإحصان في قوله: "محصنين غير مسافحين" إحصان العفة
دون إحصان التزوج و إحصان الحرية فإن المراد بابتغاء الأموال في الآية أعم مما
يتعلق بالنكاح أو بملك اليمين و لا دليل على قصرها في النكاح حتى يحمل الإحصان
على إحصان التزوج، و ليس المراد بإحصان العفة الاحتراز عن مباشرة النساء حتى
ينافي المورد بل ما يقابل السفاح أعني التعدي إلى الفحشاء بأي وجه كان بقصر
النفس في ما أحل الله، و كفها عما حرم الله من الطرق العادية في التمتع
المباشري الذي أودع النزوع إليه في جبلة الإنسان و فطرته.
و بما قدمناه يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن قوله "أن تبتغوا بأموالكم"، بتقدير
لام الغاية أو ما يؤدي معناها، و التقدير لتبتغوا، أو إرادة أن تبتغوا.
و ذلك أن مضمون قوله: أن تبتغوا، بوجه عين ما أريد بقوله: "ما وراء ذلكم" لا
أنه أمر مترتب عليه مقصود لأجله، و هو ظاهر.
و كذا ما يظهر من كلام بعضهم: أن المراد بالمسافحة مطلق سفح الماء و صبه من غير
أن يقصد به الغاية التي وضع الله سبحانه هذه الداعية الشهوية الفطرية في
الإنسان لأجلها، و هي غرض تكوين البيت و إيجاد النسل و الولد، و بالمقابلة يكون
الإحصان هو الازدواج الدائم الذي يكون الغرض منه التوالد و التناسل، هذا.
و إني لست أرى هذا القائل إلا أنه اختلط عليه طريق البحث فخلط البحث في ملاك
الحكم المسمى بحكمة التشريع بالبحث عن نفس الحكم فلزمه ما لا يسعه الالتزام به
من اللوازم.
و أحد البحثين و هو البحث عن الملاك عقلي، و الآخر و هو البحث عن الحكم الشرعي
و ما له من الموضوع و المتعلق و الشرائط و الموانع لفظي يتبع في السعة و الضيق
البيان اللفظي من الشارع، و إنا لا نشك أن جميع الأحكام المشرعة تتبع مصالح و
ملاكات حقيقية، و حكم النكاح الذي هو أيضا أحدها يتبع في تشريعه مصلحة واقعية و
ملاكا حقيقيا، و هو التوالد و التناسل، و نعلم أن نظام الصنع و الإيجاد أراد من
النوع الإنساني البقاء النوعي ببقاء الأفراد ما شاء الله، ثم احتيل إلى هذا
الغرض بتجهيز البنية الإنسانية بجهاز التناسل الذي يفصل أجزاء منه فيربيه و
يكونه إنسانا جديدا يخلف الإنسان القديم فتمتد به سلسلة النوع من غير انقطاع، و
احتيل إلى تسخير هذا الجهاز للعمل و الإنتاج بإيداع القوة الشهوانية التي يحن
بها أحد القبيلين - الذكر و الأنثى - من الأفراد إلى الآخر، و ينجذب بها كل إلى
صاحبه بالوقوع عليه و النيل، ثم كمل ذلك بالعقل الذي يمنع من إفساد هذا السبيل
الذي يندب إليه نظام الخلقة.
و في عين أن نظام الخلقة بالغ أمره و واجد غرضه الذي هو بقاء النوع لسنا نجد
أفراد هذه الاتصالات المباشرية بين الذكر و الأنثى و لا أصنافها موصلة إلى غرض
الخلقة دائما بل إنما هي مقدمة غالبية، فليس كل ازدواج مؤديا إلى ظهور الولد، و
لا كل عمل تناسلي كذلك، و لا كل ميل إلى هذا العمل يؤثر هذا الأثر، و لا كل رجل
أو كل امرأة، و لا كل ازدواج يهدي هداية اضطرارية إلى الذواق فالاستيلاد،
فالجميع أمور غالبية.
فالتجهز التكويني يدعو الإنسان إلى الازدواج طلبا للنسل من طريق الشهوة، و
العقل المودوع فيه يضيف إلى ذلك التحرز و حفظ النفس عن الفحشاء المفسد لسعادة
العيش، الهادم لأساس البيوت، القاطع للنسل.
و هذه المصلحة المركبة أعني مصلحة الاستيلاد و الأمن من دبيب الفحشاء هي الملاك
الغالبي الذي بني عليه تشريع النكاح في الإسلام غير أن الأغلبية من أحكام
الملاك، و أما الأحكام المشرعة لموضوعاتها فهي لا تقبل إلا الدوام.
فليس من الجائز أن يقال: إن النكاح أو المباشرة يتبعان في جوازهما الغرض و
الملاك المذكور وجودا و عدما فلا يجوز نكاح إلا بنية التوالد، و لا يجوز نكاح
العقيم و لا نكاح العجوز التي لا ترى الحمرة، و لا يجوز نكاح الصغيرة، و لا
يجوز نكاح الزاني و لا يجوز مباشرة الحامل، و لا مباشرة من غير إنزال، و لا
نكاح من غير تأسيس بيت، و لا يجوز... و لا يجوز... بل النكاح سنة مشروعة بين
قبيلي الذكر و الأنثى لها أحكام دائمية، و قد أريد بهذه السنة المشروعة حفظ
مصلحة عامة غالبية كما عرفت فلا معنى لجعل سنة مشروعة تابعة لتحقق الملاك وجودا
و عدما، و المنع عما لا يتحقق به الملاك من أفراده أو أحكامه.
قوله تعالى: "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة" كان الضمير في قوله:
"به" راجع إلى ما يدل عليه قوله: و أحل لكم ما وراء ذلكم "و هو النيل أو ما
يؤدي معناه، فيكون "ما" للتوقيت، و قوله "منهن" متعلقا بقوله: "استمتعتم" و
المعنى: مهما استمتعتم بالنيل منهن فآتوهن أجورهن فريضة.
و يمكن أن يكون ما موصولة، و استمتعتم صلة لها، و ضمير به راجعا إلى الموصول و
قوله "منهن" بيانا للموصول، و المعنى: و من استمتعتم به من النساء "إلخ".
و الجملة أعني قوله: فما استمتعتم "إلخ" تفريع لما تقدمها من الكلام - لمكان
الفاء - تفريع البعض على الكل أو تفريع الجزئي على الكلي بلا شك فإن ما تقدم من
الكلام أعني قوله "أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين" كما تقدم بيانه شامل
لما في النكاح و ملك اليمين، فتفريع قوله: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن
عليه يكون من تفريع الجزء على الكل أو تفريع بعض الأقسام الجزئية على المقسم
الكلي.
و هذا النوع من التفريع كثير الورود في كلامه تعالى كقوله عز من قائل: أياما
معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر الآية: "البقرة: 184" و قوله: فإذا
أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية: "البقرة: 196" و قوله لا إكراه في
الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله الآية: "البقرة:
256" إلى غير ذلك.
و المراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك فإن الآية مدنية
نازلة في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها، و هذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت
دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك - و قد أطبقت
الأخبار على تسلم ذلك - سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن فأصل وجوده
بينهم بمرأى من النبي و مسمع منه لا شك فيه، و كان اسمه هذا الاسم و لا يعبر
عنه إلا بهذا اللفظ فلا مناص من كون قوله: "فما استمتعتم به منهن" محمولا عليه
مفهوما منه هذا المعنى كما أن سائر السنن و العادات و الرسوم الدائرة بينهم في
عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشيء
من تلك الأسماء بإمضاء أو رد أو أمر أو نهي لم يكن بد من حمل الأسماء الواردة
فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الأصلية.
و ذلك كالحج و البيع و الربا و الربح و الغنيمة و سائر ما هو من هذا القبيل فلم
يمكن لأحد أن يدعي أن المراد بحج البيت قصده، و هكذا، و كذلك ما أتى به النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) من الموضوعات الشرعية ثم شاع الاستعمال حتى عرفت
بأساميها الشرعية كالصلاة و الصوم و الزكاة و حج التمتع و غير ذلك لا مجال بعد
تحقق التسمية لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللغوية
الأصلية بعد تحقق الحقيقة الشرعية أو المتشرعية فيها.
فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا
الاسم عندهم يوم نزول الآية سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة
أو لم نقل فإنما هو أمر آخر.
و جملة الأمر أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة، و هو المنقول عن القدماء من
مفسري الصحابة و التابعين كابن عباس و ابن مسعود و أبي بن كعب و قتادة و مجاهد
و السدي و ابن جبير و الحسن و غيرهم، و هو مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و منه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية أن المراد بالاستمتاع هو النكاح
فإن إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها هذا، و ربما ذكر بعضهم أن السين و التاء
في استمتعتم للتأكيد، و المعنى: تمتعتم.
و ذلك لأن تداول نكاح المتعة بهذا الاسم و معروفيته بينهم لا يدع مجالا لخطور
هذا المعنى اللغوي بذهن المستمعين.
على أن هذا المعنى على تقدير صحته و انطباق معنى الطلب على المورد أو كون
استمتعتم بمعنى تمتعتم، لا يلائم الجزاء المترتب عليه أعني قوله: "فآتوهن
أجورهن"، فإن المهر يجب بمجرد العقد، و لا يتوقف على نفس التمتع و لا على طلب
التمتع الصادق على الخطبة و إجراء العقد و الملاعبة و المباشرة و غير ذلك، بل
يجب نصفه بالعقد و نصفه الآخر بالدخول.
على أن الآيات النازلة قبل هذه الآية قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على جميع
تقاديره، فلا وجه لتكرار بيان الوجوب، و ذلك كقوله تعالى: و آتوا النساء
صدقاتهن نحلة الآية: "النساء 4"، و قوله تعالى: و إن أردتم استبدال زوج مكان
زوج و آتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا، الآيتان: "النساء: 20"، و قوله
تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة و
متعوهن على الموسع قدره و على المقتر قدره - إلى أن قال -: و إن طلقتموهن من
قبل أن تمسوهن و قد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم الآيتان: "البقرة: 237".
و ما احتمله بعضهم أن الآية أعني قوله: "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن
فريضة" مسوقة للتأكيد يرد عليه أن سياق ما نقل من الآيات و خاصة سياق ذيل قوله:
"و إن أردتم استبدال" الآيتين أشد و آكد لحنا من هذه الآية فلا وجه لكون هذه
مؤكدة لتلك.
و أما النسخ فقد قيل: إن الآية منسوخة بآية المؤمنون: و الذين هم لفروجهم
حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء
ذلك فأولئك هم العادون: "المؤمنون: 7"، و قيل منسوخة بآية العدة: يا أيها النبي
إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن: "الطلاق: 1"، و المطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء الآية: "البقرة: 228"، حيث إن انفصال الزوجين إنما هو بطلاق و عدة و
ليسا في نكاح المتعة، و قيل: منسوخة بآيات الميراث: و لكم نصف ما ترك أزواجكم
الآية: "النساء: 12"، حيث لا إرث في نكاح المتعة، و قيل منسوخة بآية التحريم:
"حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم" الآية، فإنها في النكاح، و قيل: منسوخة بآية
العدد: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع الآية: "النساء: 3"، و
قيل: منسوخة بالسنة نسخها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام خيبر، و
قيل: عام الفتح، و قيل: في حجة الوداع، و قيل: أبيحت متعة النساء ثم حرمت مرتين
أو ثلاثا، و آخر ما وقع و استقر عليه من الحكم الحرمة.
أما النسخ بآية المؤمنون، ففيه أنها لا تصلح للنسخ، فإنها مكية و آية المتعة
مدنية، و لا تصلح المكية لنسخ المدنية، على أن عدم كون المتعة نكاحا و المتمتع
بها زوجة ممنوع، و ناهيك في ذلك ما وقع في الأخبار النبوية، و في كلمات السلف
من الصحابة و التابعين من تسميتها نكاحا، و الإشكال عليه بلزوم التوارث و
الطلاق و غير ذلك سيأتي الجواب عنه.
و أما النسخ بسائر الآيات كآية الميراث و آية الطلاق و آية العدد ففيه أن
النسبة بينها و بين آية المتعة ليست نسبة الناسخ و المنسوخ، بل نسبة العام و
المخصص أو المطلق و المقيد، فإن آية الميراث مثلا تعم الأزواج جميعا من كل دائم
و منقطع و السنة تخصصها بإخراج بعض أفرادها، و هو المنقطع من تحت عمومها، و
كذلك القول في آية الطلاق و آية العدد، و هو ظاهر، و لعل القول بالنسخ ناش من
عدم التمييز بين النسبتين.
نعم ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الإثبات و النفي
إلى أن العام ناسخ للخاص.
لكن هذا مع ضعفه على ما بين في محله غير منطبق على مورد الكلام، و ذلك لوقوع
آيات الطلاق و هي العام في سورة البقرة، و هي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة
النساء المشتملة على آية المتعة، و كذلك آية العدد واقعة في سورة النساء متقدمة
على آية المتعة، و كذلك آية الميراث واقعة قبل آية المتعة في سياق واحد متصل في
سورة واحدة فالخاص أعني آية المتعة متأخر عن العام على أي حال.
و أما النسخ بآية العدة فبطلانه أوضح فإن حكم العدة جار في المنقطعة كالدائمة و
إن اختلفتا مدة فيئول إلى التخصيص أيضا دون النسخ.
و أما النسخ بآية التحريم فهو من أعجب ما قيل في هذا المقام أما أولا فلأن
مجموع الكلام الدال على التحريم و الدال على حكم نكاح المتعة كلام واحد مسرود
متسق الأجزاء متصل الأبعاض فكيف يمكن تصور تقدم ما يدل على المتعة ثم نسخ ما في
صدر الكلام لذيله؟، و أما ثانيا فلأن الآية غير صريحة و لا ظاهرة في النهي عن
الزوجية غير الدائمة بوجه من الوجوه، و إنما هي في مقام بيان أصناف النساء
المحرمة على الرجال ثم بيان جواز نيل غيرها بنكاح أو بملك يمين، و نكاح المتعة
نكاح على ما تقدم، فلا نسبة بين الأمرين بالمباينة حتى يئول إلى النسخ.
نعم ربما قيل: إن قوله تعالى: "و أحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم
محصنين غير مسافحين" حيث قيد حلية النساء بالمهر و بالإحصان من غير سفاح، و لا
إحصان في النكاح المنقطع - و لذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا لعدم كونه
محصنا - يدفع كون المتعة مراده بالآية.
لكن يرد عليه ما تقدم أن المراد بالإحصان في قوله "محصنين غير مسافحين" هو
إحصان العفة دون إحصان التزوج لكون الكلام بعينه شاملا لملك اليمين كشموله
النكاح، و لو سلم أن المراد بالإحصان هو إحصان التزوج عاد الأمر إلى تخصيص
الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتع المحصن بحسب السنة دون الكتاب فإن حكم الرجم
غير مذكور في الكتاب من أصله.
و أما النسخ بالسنة ففيه - مضافا إلى بطلان هذا القسم من النسخ من أصله لكونه
مخالفا للأخبار المتواترة الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب و طرح ما خالفه، و
الرجوع إلى الكتاب - ما سيأتي في البحث الروائي.
قوله تعالى: "و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات "، الطول
الغنى و الزيادة في القدرة، و كلا المعنيين يلائمان الآية، و المراد بالمحصنات
الحرائر بقرينة مقابلته بالفتيات، و هذا بعينه يشهد على أن ليس المراد بها
العفائف، و إلا لم تقابل بالفتيات بل بها و بغير العفائف، و ليس المراد بها
ذوات الأزواج إذ لا يقع عليها العقد و لا المسلمات و إلا لاستغنى عن التقييد
بالمؤمنات.
و المراد بقوله "فمما ملكت أيمانكم" ما ملكته أيمان المؤمنين غير من يريد
الازدواج و إلا فتزوج الإنسان بملك يمين نفسه باطل غير مشروع، و قد نسب ملك
اليمين إلى المؤمنين و فيهم المريد للتزوج بعد الجميع واحدا غير مختلف لاتحادهم
في الدين، و اتحاد مصالحهم و منافعهم كأنهم شخص واحد.
و في تقييد المحصنات و كذا الفتيات بالمؤمنات إشارة إلى عدم جواز تزوج غير
المؤمنات من كتابية و مشركة، و لهذا الكلام تتمة ستمر بك إن شاء الله العزيز في
أوائل سورة المائدة.
و محصل معنى الآية أن من لم يقدر منكم على أن ينكح الحرائر المؤمنات لعدم قدرته
على تحمل أثقال المهر و النفقة فله أن ينكح من الفتيات المؤمنات من غير أن
يتحرج من فقدان القدرة على الحرائر، و يعرض نفسه على خطرات الفحشاء و معترض
الشقاء.
فالمراد بهذا النكاح هو النكاح الدائم، و الآية في سياق التنزل أي إن لم يمكنكم
كذا فيمكنكم كذا، و إنما قصر الكلام في صورة التنزل على بعض أفراد المنزل عنه
أعني على النكاح الدائم الذي هو بعض أفراد النكاح الجائز لكون النكاح الدائم هو
المتعارف المتعين بالطبع في نظر الإنسان المريد تأسيس البيت و إيجاد النسل و
تخليف الولد، و نكاح المتعة تسهيل ديني خفف الله به عن عباده لمصلحة سد طريق
الفحشاء، و قطع منابت الفساد.
و سوق الكلام على الجهة الغالبة أو المعروفة السابقة إلى الذهن و خاصة في مقام
تشريع الأحكام و القوانين كثير شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى: فمن شهد
منكم الشهر فليصمه، و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر: "البقرة:
185"، مع أن العذر لا ينحصر في المرض و السفر، و قوله تعالى: و إن كنتم مرضى أو
على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدا طيبا: "النساء: 43"، و الأعذار و قيود الكلام كما ترى مبنية على الغالب
المعروف، إلى غير ذلك من الآيات.
هذا على ما ذكروه من حمل الآية على النكاح الدائم، و لا يوجب ذلك من حيث
اشتماله على معنى التنزل و التوسعة اختصاص الآية السابقة بالنكاح الدائم، و كون
قوله: فما استمتعتم به منهن، غير مسوق لبيان حكم نكاح المتعة كما توهمه بعضهم،
لأن هذا التنزل و التوسعة واقع بطرفيه المنزل عنه و المنزل إليه في نفس هذه
الآية أعني قوله: فمن لم يستطع منكم طولا "إلخ".
على أن الآية بلفظها لا تأبى عن الحمل على مطلق النكاح الشامل للدائم و المنقطع
كما سيتضح بالكلام على بقية فقراتها.
قوله تعالى: "و الله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض" لما كان الإيمان المأخوذ في
متعلق الحكم أمرا قلبيا لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الأسباب، و ربما أوهم
تعليقا بالمتعذر أو المتعسر، و أوجب تحرج المكلفين منه، بين تعالى أنه هو
العالم بإيمان عباده المؤمنين و هو كناية عن أنهم إنما كلفوا الجري على الأسباب
الظاهرية الدالة على الإيمان كالشهادتين و الدخول في جماعة المسلمين و الإتيان
بالوظائف العامة الدينية، فظاهر الإيمان هو الملاك دون باطنه.
و في هداية هؤلاء المكلفين غير المستطيعين إلى الازدواج بالإماء نقص و قصور آخر
في الوقوع موقع التأثير و القبول، و هو أن عامة الناس يرون لطبقة المملوكين من
العبيد و الإماء هوانا في الأمر و خسة في الشأن و نوع ذلة و انكسار فيوجب ذلك
انقباضهم و جماح نفوسهم من الاختلاط بهم و المعاشرة معهم و خاصة بالازدواج الذي
هو اشتراك حيوي و امتزاج باللحم و الدم.
فأشار سبحانه بقوله: "بعضكم من بعض" إلى حقيقة صريحة يندفع بالتأمل فيها هذا
التوهم الفاسد فالرقيق إنسان كما أن الحر إنسان لا يتميزان في ما به يصير
الإنسان واجدا لشئون الإنسانية، و إنما يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم
بها المجتمع الإنساني في إنتاجه سعادة الناس، و لا عبرة بهذه التميزات عند
الله، و الذي به العبرة هو التقوى الذي به الكرامة عند الله، فلا ينبغي
للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال هذه الخطرات الوهمية التي تبعدهم عن حقائق
المعارف المتضمنة سعادتهم و فلاحهم، فإن الخروج عن مستوى الطريق المستقيم، و إن
كان حقيرا في بادي أمره لكنه لا يزال يبعد الإنسان من صراط الهداية حتى يورده
أودية الهلكة.
و من هنا يظهر أن الترتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط و التنزل، أعني
قوله: "و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم"،
إنما هو جرى في الكلام على مجرى الطبع و العادة، و ليس إلزاما للمؤمنين على
الترتيب بمعنى أن يتوقف جواز نكاح الأمة على فقدان الاستطاعة على نكاح الحرة بل
لكون الناس بحسب طباعهم سالكين هذا المسلك خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح
الحرائر فلهم أن يقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض، و نبه مع ذلك على أن
الحر و الرق من نوع واحد بعض أفراده يرجع إلى بعض.
و من هنا يظهر أيضا فساد ما ذكره بعضهم في قوله تعالى في ذيل الآية: "و أن
تصبروا خير لكم" أن المعنى و صبركم عن نكاح الإماء مع العفة خير لكم من نكاحهن
لما فيه من الذل و المهانة و الابتذال، هذا، فإن قوله: "بعضكم من بعض" ينافي
ذلك قطعا.
قوله تعالى: "فانكحوهن بإذن أهلهن" إلى قوله: "أخدان" المراد بالمحصنات العفائف
فإن ذوات البعولة لا يقع عليهن نكاح، و المراد بالمسافحات ما يقابل متخذات
الأخدان، الأخدان جمع خدن بكسر الخاء و هو الصديق، يستوي فيه المذكر و المؤنث و
المفرد و الجمع، و إنما أتى به بصيغة الجمع للدلالة على الكثرة نصا، فمن يأخذ
صديقا للفحشاء لا يقنع بالواحد و الاثنين فيه لأن النفس لا تقف على حد إذا
أطيعت فيما تهواه.
و بالنظر إلى هذه المقابلة قال من قال: إن المراد بالسفاح الزنا جهرا و باتخاذ
الخدن الزنا سرا، و قد كان اتخاذ الخدن متداولا عند العرب حتى عند الأحرار و
الحرائر لا يعاب به مع ذمهم زنا العلن لغير الإماء.
فقوله "فانكحوهن بإذن أهلهن" إرشاد إلى نكاح الفتيات مشروطا بأن يكون بإذن
مواليهن فإن زمام أمرهن إنما هو بيد الموالي لا غير، و إنما عبر عنهم بقوله
"أهلهن" جريا على ما يقتضيه قوله قبل: "بعضكم من بعض" فالفتاة واحدة من أهل بيت
مولاها و مولاها أهلها.
و المراد بإتيانهن أجورهن بالمعروف توفيتهن مهور نكاحهن و إتيان الأجور إياهن
إعطاؤها مواليهن، و قد أرشد إلى الإعطاء بالمعروف عن غير بخس و مماطلة و إيذاء.
قوله تعالى: "فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب"
قرىء أحصن بضم الهمزة بالبناء للمفعول و بفتح الهمزة بالبناء للفاعل، و هو
الأرجح.
الإحصان في الآية إن كان هو إحصان الازدواج كان أخذه في الشرط المجرد كون مورد
الكلام في ما تقدم ازدواجهن، و ذلك أن الأمة تعذب نصف عذاب الحرة إذا زنت سواء
كانت محصنة بالازدواج أو لا من غير أن يؤثر الإحصان فيها شيئا زائدا.
و أما إذا كان إحصان الإسلام كما قيل - و يؤيده قراءة فتح الهمزة - تم المعنى
من غير مئونة زائدة، و كان عليهن إذا زنين نصف عذاب الحرائر سواء كن ذوات بعولة
أو لا.
و المراد بالعذاب هو الجلد دون الرجم لأن الرجم لا يقبل الانتصاف و هو الشاهد
على أن المراد بالمحصنات الحرائر غير ذوات الأزواج المذكورة في صدر الآية.
و اللام للعهد فمعنى الآية بالجملة أن الفتيات المؤمنات إذا أتين بفاحشة و هو
الزنا فعليهن نصف حد المحصنات غير ذوات الأزواج، و هو جلد خمسين سوطا.
و من الممكن أن يكون المراد بالإحصان إحصان العفة، و تقريره أن الجواري يومئذ
لم يكن لهن الاشتغال بكل ما تهواه أنفسهن من الأعمال بما لهن من اتباع أوامر
مواليهن و خاصة في الفاحشة و الفجور و كانت الفاحشة فيهن - لو اتفقت - بأمر من
مواليهن في سبيل الاستغلال بهن و الاستدرار من عرضهن كما يشعر به النهي الوارد
في قوله تعالى: و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا: "النور: 33"
فالتماسهن الفجور و اشتغالهن بالفحشاء باتخاذها عادة و مكسبا كان فيما كان بأمر
مواليهن من دون أن يسع لهن الاستنكاف و التمرد، و إذا لم يكرههن الموالي على
الفجور فالمؤمنات منهن على ظاهر تقوى الإسلام، و عفة الإيمان، و حينئذ إن أتين
بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، و هو قوله تعالى: فإذا أحصن فإن
أتين بفاحشة "إلخ".
و من هنا يظهر أن لا مفهوم لهذه الشرطية على هذا المعنى و ذلك أنهن إذا لم يحصن
و لم يعففن كن مكرهات من قبل مواليهن مؤتمرات لأمرهم كما لا مفهوم لقوله تعالى:
و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا: "النور: - 33" حيث إنهن إن لم
يردن التحصن لم يكن موضوع لإكراههن من قبل الموالي لرضاهن بذلك فافهم.
قوله تعالى: "ذلك لمن خشي العنت منكم" العنت الجهد و الشدة و الهلاك، و كان
المراد به الزنا الذي هو نتيجة وقوع الإنسان في مشقة الشبق و جهد شهوة النكاح و
فيه هلاك الإنسان.
و الإشارة على ما قيل: إلى نكاح الجواري المذكور في الآية، و عليه فمعنى قوله
"و أن تصبروا خير لكم" أن تصبروا عن نكاح الإماء أو عن الزنا خير لكم.
و يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى وجوب نكاح الإماء أو وجوب مطلق النكاح لو استفيد
شيء منهما من سابق سياق الآية و الله أعلم.
و كيف كان فكون الصبر خيرا إن كان المراد هو الصبر عن نكاح الإماء إنما هو لما
فيه من حقوق مواليهن و في أولادهن على ما فصل في الفقه، و إن كان المراد الصبر
عن الزنا إنما هو لما في الصبر من تهذيب النفس و تهيئة ملكة التقوى فيها بترك
اتباع هواها في الزنا من غير ازدواج أو معه، و الله غفور رحيم يمحو بمغفرته
آثار خطرات السوء عن نفوس المتقين من عباده و يرحمهم برحمته.
قوله تعالى: "يريد الله ليبين لكم" إلى آخر الآية، بيان و إشارة إلى غاية تشريع
ما سبق من الأحكام في الآيات الثلاث و المصالح التي تترتب عليها إذا عمل بها
فقوله: يريد الله ليبين لكم أي أحكام دينه مما فيه صلاح دنياكم و عقباكم، و ما
في ذلك من المعارف و الحكم و على هذا فمعمول قوله: يبين محذوف للدلالة على
فخامة أمره و عظم شأنه، و يمكن أن يكون قوله: يبين لكم، و قوله: و يهديكم
متنازعين في قوله، سنن الذين.
قوله تعالى: "و يهديكم سنن الذين من قبلكم" أي طرق حياة السابقين من الأنبياء و
الأمم الصالحة، الجارين في الحياة الدنيا على مرضاة الله، الحائزين به سعادة
الدنيا و الآخرة، و المراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة لا سننهم
بتفاصيلها و جميع خصوصياتها فلا يرد عليه أن من أحكامهم ما تنسخه هذه الآيات
بعينها كازدواج الإخوة بالأخوات في سنة آدم، و الجمع بين الأختين: في سنة يعقوب
(عليه السلام)، و قد جمع (عليه السلام) بين الأختين ليا أم يهودا و راحيل أم
يوسف على ما في بعض الأخبار، هذا.
و هنا معنى آخر قيل به، و هو أن المراد الهداية إلى سنن جميع السابقين سواء
كانوا على الحق أو على الباطل، يعني أنا بينا لكم جميع السنن السابقة من حق و
باطل لتكونوا على بصيرة فتأخذوا بالحق منها و تدعوا الباطل.
و هذا معنى لا بأس به غير أن الهداية في القرآن غير مستعملة في هذا المعنى، و
إنما استعمل فيما استعمل في الإيصال إلى الحق أو إرادة الحق كقوله: إنك لا تهدي
من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء: "القصص: 56" و قوله: إنا هديناه السبيل إما
شاكرا و إما كفورا: "الإنسان: 3" و الأوفق بمذاق القرآن أن يعبر عن أمثال هذه
المعاني بلفظ التبيين و القصص و نحو ذلك.
نعم لو جعل قوله يبين و قوله: و يهديكم متنازعين في قوله: "سنن الذين من قبلكم"
و قوله: و يتوب عليكم أيضا راجعا إليه، و آل المعنى إلى أن الله يبين لكم سنن
الذين من قبلكم، و يهديكم إلى الحق منها، و يتوب عليكم فيما ابتليتم به من
باطلها كان له وجه فإن الآيات السابقة فيها ذكر من سنن السابقين و الحق و
الباطل منها، و التوبة على ما قد سلف من السنن الباطلة.
قوله تعالى: "و يتوب عليكم و الله عليم حكيم" التوبة المذكورة هو رجوعه إلى
عبده بالنعمة و الرحمة، و تشريع الشريعة، و بيان الحقيقة، و الهداية إلى طريق
الاستقامة كل ذلك توبة منه سبحانه كما أن قبول توبة العبد و رفع آثار المعصية
توبة.
و تذييل الكلام بقوله: و الله عليم حكيم ليكون راجعا إلى جميع فقرات الآية، و
لو كان المراد رجوعه إلى آخر الفقرات لكان الأنسب ظاهرا أن يقال: و الله غفور
رحيم.
قوله تعالى: "و الله يريد أن يتوب عليكم و يريد الذين" إلخ، كان تكرار ذكر
توبته للمؤمنين للدلالة على أن قوله: "و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا
ميلا عظيما" إنما يقابل من الفقرات الثلاث في الآية السابقة الفقرة الأخيرة
فقط، إذ لو ضم قوله: و يريد الذين "إلخ" إلى الآية السابقة من غير تكرار قوله:
و الله يريد "إلخ" أفاد المقابلة في معنى جميع الفقرات و لغا المعنى قطعا.
و المراد بالميل العظيم هتك هذه الحدود الإلهية المذكورة في الآيات بإتيان
المحارم، و إلغاء تأثير الأنساب و الأسباب، و استباحة الزنا و المنع عن الأخذ
بما سنة الله من السنة القويمة.
قوله تعالى: "يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفا" كون الإنسان ضعيفا
لما ركب الله فيه القوى الشهوية التي لا تزال تنازعه في ما تتعلق به من
المشتهيات، و تبعثه إلى غشيانها فمن الله عليهم بتشريع حلية ما تنكسر به سورة
شهوتهم بتجويز النكاح بما يرتفع به غائلة الحرج حيث قال: "و أحل لكم ما وراء
ذلكم" و هو النكاح و ملك اليمين فهداهم بذلك سنن الذين من قبلهم، و زادهم
تخفيفا منه لهم لتشريع نكاح المتعة إذ ليس معه كلفة النكاح و ما يستتبعه من
أثقال الوظائف من صداق و نفقة و غير ذلك.
و ربما قيل: إن المراد به إباحة نكاح الإماء عند الضرورة تخفيفا.
و فيه: أن نكاح الإماء عند الضرورة كان معمولا به بينهم قبل الإسلام على كراهة
و ذم، و الذي ابتدعته هذه الآيات هو التسبب إلى نفي هذه الكراهة و النفرة ببيان
أن الأمة كالحرة إنسان لا تفاوت بينهما، و أن الرقية لا توجب سقوط صاحبها عن
لياقة المصاحبة و المعاشرة.
و ظاهر الآيات - بما لا ينكر - أن الخطاب فيها متوجه إلى المؤمنين من هذه الأمة
فالتخفيف المذكور في الآية تخفيف على هذه الأمة، و المراد به ما ذكرناه.
و على هذا فتعليل التخفيف بقوله: "و خلق الإنسان ضعيفا" مع كونه وصفا مشتركا
بين جميع الأمم - هذه الأمة و الذين من قبلهم - و كون التخفيف مخصوصا بهذه
الأمة إنما هو من قبيل ذكر المقتضي العام و السكوت عما يتم به في تأثيره فكأنه
قيل: إنا خففنا عنكم لكون الضعف العام في نوع الإنسان سببا مقتضيا للتخفيف لو
لا المانع لكن لم تزل الموانع تمنع عن فعلية التخفيف و انبساط الرحمة في سائر
الأمم حتى وصلت النوبة إليكم فعمتكم الرحمة، و ظهرت فيكم آثاره فبرز حكم السبب
المذكور و شرع فيكم حكم التخفيف و قد حرمت الأمم السابقة من ذلك كما يدل عليه
قوله: ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا: "البقرة: 286"،
و قوله: هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج: "الحج: 78".
و من هنا يظهر أن النكتة في هذا التعليل العام بيان ظهور تمام النعم الإنسانية
في هذه الأمة.
بحث روايي
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب،
و عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): الرضاع لحمة كلحمة النسب.
و في الدر المنثور، أخرج مالك و عبد الرزاق عن عائشة قالت: كان فيما أنزل من
القرآن عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) و هن فيما يقرأ من القرآن.
أقول: و روي فيه عنها ما يقرب منه بطرق أخرى، و هي من روايات التحريف مطروحة
بمخالفة الكتاب.
و فيه أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و البيهقي في
سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال: إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالإبنة أو لم
يدخل، و إذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة.
أقول: و هذا المعنى مروي من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و هو
مذهبهم و هو المستفاد من الكتاب كما مر في البيان المتقدم و قد روي من طرق أهل
السنة عن علي (عليه السلام): أن أم الزوجة لا بأس بنكاحها قبل الدخول بالبنت، و
أنها بمنزلة الربيبة، و أن الربيبة إذا لم تكن في حجر زوج أمها لم يحرم عليه
نكاحها، و هذه أمور يدفعها المروي عنهم (عليهم السلام) من طرق الشيعة.
و في الكافي، بإسناده عن منصور بن حازم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه
السلام) فأتاه رجل فسأله عن رجل تزوج امرأة فماتت قبل أن يدخل بها أ يتزوج
بأمها؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): قد فعله رجل منا فلم ير به بأسا، فقلت
جعلت فداك ما تفتخر الشيعة إلا بقضاء علي (عليه السلام) في هذا في المشيخة التي
أفتاه ابن مسعود أنه لا بأس به بذلك. ثم أتى عليا (عليه السلام) فسأله فقال له
علي (عليه السلام): من أين يأخذها؟ فقال من قول الله عز و جل: و ربائبكم اللاتي
في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح
عليكم، فقال علي (عليه السلام): إن هذه مستثناة و هذه مرسلة، فقال أبو عبد الله
(عليه السلام) للرجل: أما تسمع ما يروي هذا عن علي (عليه السلام)؟. فلما قمت
ندمت و قلت: أي شيء صنعت؟ يقول: قد فعله رجل منا و لم ير به بأسا، و أقول أنا:
قضى علي (عليه السلام) فيها! فلقيته بعد ذلك و قلت: جعلت فداك مسألة الرجل إنما
كان الذي قلت كان زلة مني فما تقول فيها؟ فقال: يا شيخ تخبرني أن عليا (عليه
السلام) قضى فيها، و تسألني ما تقول فيها؟.
أقول: و قصة قضائه (عليه السلام) في فتوى ابن مسعود على ما رواه في الدر
المنثور، عن سنن البيهقي و غيره: أن رجلا من بني شمخ تزوج امرأة و لم يدخل بها
ثم رأى أمها فأعجبته فاستفتى ابن مسعود فأمره أن يفارقها ثم يتزوج أمها ففعل و
ولدت له أولادا، ثم أتى ابن مسعود المدينة فقيل له لا تصلح فلما رجع إلى الكوفة
قال للرجل: أنها عليك حرام ففارقها.
لكن لم ينسب القول فيه إلى علي (عليه السلام) بل ذكر: أنه سأل عنه أصحاب النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)، و في لفظ: أنه سأل عنه عمر و في بعض الروايات:
فأخبر أنه ليس كما قال، و أن الشرط في الربائب.
و في الإستبصار، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه: أن عليا (عليه
السلام) كان يقول: الربائب عليكم حرام مع الأمهات اللاتي دخلتم بهن في الحجور و
غير الحجور سواء، و الأمهات مبهمات دخل بالبنات أم لم يدخل، فحرموا و أبهموا ما
أبهم الله.
أقول: و قد عزي إليه (عليه السلام) في بعض الروايات من طرق أهل السنة اشتراط
الحجور في حرمة الربائب لكن الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) تدفعه، و هو الموافق لما يستفاد من الآية كما تقدم.
و المبهمات من البهمة و هي كون الشيء ذا لون واحد لا يختلط به لون آخر و لا
يختلف في لونه سمي به من طبقات النساء المحرمة من كانت حرمة نكاحها مرسلة غير
مشروطة، و هي الأمهات و البنات و الأخوات و العمات و الخالات و بنات الأخ و
بنات الأخت و ما كان من الرضاعة، و أمهات النساء، و حلائل الأبناء.
و فيه، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل تكون
له الجارية فيصيب منها، أ له أن ينكح ابنتها؟ قال: لا هي كما قال الله تعالى: و
ربائبكم اللاتي في حجوركم.
و في تفسير العياشي، عن أبي عون قال سمعت أبا صالح الحنفي قال: قال علي (عليه
السلام) ذات يوم: سلوني، فقال ابن الكوا أخبرني عن بنت الأخت من الرضاعة، و عن
المملوكتين الأختين، فقال: إنك لذاهب في التيه سل عما يعنيك أو ينفعك، فقال ابن
الكوا إنما نسألك عما لا نعلم و أما ما نعلم فلا نسألك عنه، ثم قال: أما
الأختان المملوكتان أحلتهما آية و حرمتهما آية، و لا أحله و لا أحرمه، و لا
أفعله أنا و لا واحد من أهل بيتي.
و في التهذيب، بإسناده عن معمر بن يحيى بن سالم قال: سألنا أبا جعفر (عليه
السلام) عما يروي الناس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أشياء لم يكن يأمر
بها و لا ينهى إلا نفسه و ولده فقلت: كيف يكون ذلك؟ قال: قد أحلتها آية و
حرمتها آية أخرى، فقلنا: الأول أن يكون إحداهما نسخت الأخرى أم هما محكمتان
ينبغي أن يعمل بهما؟ فقال: قد بين لهم إذ نهى نفسه و ولده، قلنا: ما منعه أن
يبين ذلك للناس؟ قال: خشي أن لا يطاع، فلو أن أمير المؤمنين ثبتت قدماه أقام
كتاب الله كله و الحق كله.
أقول: و الرواية المنقولة عنه (عليه السلام) هي التي نقلت عنه (عليه السلام) من
طرق أهل السنة كما رواه في الدر المنثور، عن البيهقي و غيره عن علي بن أبي طالب
قال في الأختين المملوكتين، أحلتهما آية، و حرمتهما آية، و لا آمر و لا أنهى، و
لا أحل و لا أحرم، و لا أفعله أنا و لا أهل بيتي.
و روي فيه، أيضا عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلا سأله (عليه السلام) عن ذلك فقال: لو
كان إلي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا.
و في التهذيب، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه
السلام) يقول: إذا كانت عند الإنسان الأختان المملوكتان فنكح إحداهما ثم بدا له
في الثانية فليس ينبغي له أن ينكح الأخرى حتى تخرج الأولى من ملكه يهبها أو
يبيعها، فإن وهبها لولده يجزيه.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه
السلام) عن قوله عز و جل: و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال: هو أن
يأمر الرجل عبده و تحته أمته فيقول له: اعتزل امرأتك و لا تقربها ثم يحبسها عنه
حتى تحيض ثم يمسها فإذا حاضت بعد مسه إياها ردها عليه بغير نكاح.
و في تفسير العياشي، عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام): في
قول الله: و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال: هن ذوات الأزواج إلا
ما ملكت أيمانكم إن كنت زوجت أمتك غلامك نزعتها منه إذا شئت، فقلت أ رأيت إن
زوج غير غلامه؟ قال ليس له أن ينزع حتى تباع، فإن باعها صار بضعها في يد غيره
فإن شاء المشتري فرق، و إن شاء أقر.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود و الترمذي و حسنه و ابن ماجة عن فيروز
الديلمي: أنه أدركه الإسلام و تحته أختان، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): طلق أيتهما شئت.
و فيه، أخرج ابن عبد البر في الإستذكار عن إياس بن عامر قال: سألت علي بن أبي
طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني اتخذت إحداهما سرية و ولدت لي أولادا ثم
رغبت في الأخرى فما أصنع؟ قال: تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى. ثم قال: إنه
يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلا العدد أو
قال: إلا الأربع، و يحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب:
أقول: و رواه بطرق أخر غير هذا الطريق عنه.
و في صحيحي البخاري و مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): لا يجمع بين المرأة و عمتها، و لا بين المرأة و خالتها.
أقول: و هذا المعنى مروي بغير الطريقين من طرق أهل السنة، لكن المروي من طرق
أئمة أهل البيت خلاف ذلك، و الكتاب يساعده.
و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و عبد الرزاق و الفريابي و ابن أبي شيبة و
أحمد و عبد بن حميد و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و أبو يعلى و ابن
جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطحاوي و ابن حيان و البيهقي في سننه عن
أبي سعيد الخدري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث يوم حنين جيشا
إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم و أصابوا لهم سبايا فكأن ناسا من
أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن
من المشركين فأنزل الله في ذلك: "و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم"
يقول: إلا ما أفاء الله عليكم، فاستحللنا بذلك فروجهن: أقول: و روي ذلك عن
الطبراني عن ابن عباس.
و فيه، أخرج عبد بن حميد عن عكرمة: أن هذه الآية التي في سورة النساء: "و
المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم" نزلت في امرأة يقال لها معاذة، و كانت
تحت شيخ من بني سدوس يقال له: شجاع بن الحارث، و كان معها ضرة لها قد ولدت
لشجاع أولادا رجالا، و أن شجاعا انطلق يمير أهله من هجر، فمر بمعاذة ابن عم لها
فقالت له: احملني إلى أهلي فإنه ليس عند هذا الشيخ خير، فاحتملها فانطلق بها
فوافق ذلك جيئة الشيخ، فانطلق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
يا رسول الله و أفضل العرب، إني خرجت أبغيها الطعام في رجب، فتولت و ألطت
بالذنب، و هي شر غالب لمن غلب، رأت غلاما واركا على قتب، لها و له أرب، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): علي علي، فإن كان الرجل كشف بها ثوبا
فارجموها، و إلا فردوا إلى الشيخ امرأته، فانطلق مالك بن شجاع و ابن ضرتها
فطلبها فجاء بها، و نزلت بيتها.
أقول: و قد مر مرارا أن أمثال هذه الأسباب المروية للنزول و خاصة فيما كانت
متعلقة بأبعاض الآيات و أجزائها تطبيقات من الرواة و ليست بأسباب حقيقية.
في الفقيه، سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: و المحصنات من
النساء قال: هن ذوات الأزواج، فقيل: و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم، قال هن العفائف: أقول: و رواه العياشي أيضا عنه (عليه السلام).
و في المجمع، في قوله تعالى: و من لم يستطع منكم طولا أي من لم يجد منكم غنى
قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام): و في الكافي، عن الصادق (عليه
السلام) قال: لا ينبغي أن يتزوج الحر المملوكة اليوم، إنما كان ذلك حيث قال
الله عز و جل: و من لم يستطع منكم طولا، و الطول المهر، و مهر الحرة اليوم مهر
الأمة أو أقل.
أقول: الغنى أحد مصاديق الطول كما تقدم، و الرواية لا تدل على أزيد من الكراهة.
و في التهذيب، بإسناده عن أبي العباس البقباق قال: قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): يتزوج الرجل الأمة بغير علم أهلها؟ قال: هو زنا، إن الله تعالى يقول:
فانكحوهن بإذن أهلهن.
و فيه، بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت الرضا (عليه السلام)
يتمتع بالأمة بإذن أهلها؟ قال: نعم إن الله عز و جل يقول: فانكحوهن بإذن أهلهن.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن
قول الله في الإماء "فإذا أحصن" ما إحصانهن؟ قال: يدخل بهن، قلت: فإن لم يدخل
بهن ما عليهن حد؟ قال: بلى.
و فيه، عن حريز قال: سألته عن المحصن فقال: الذي عنده ما يغنيه.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير
المؤمنين (عليه السلام) في العبيد و الإماء إذا زنا أحدهم أن يجلد خمسين جلدة
إن كان مسلما أو كافرا أو نصرانيا، و لا يرجم و لا ينفى.
و فيه، بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن عبد مملوك
قذف حرا قال: يجلد ثمانين، هذا من حقوق الناس، فأما ما كان من حقوق الله عز و
جل فإنه يضرب نصف الحد. قلت: الذي من حقوق الله عز و جل ما هو؟ قال: إذا زنا أو
شرب خمرا، فهذا من الحقوق التي يضرب عليها نصف الحد.
و في التهذيب، بإسناده عن بريد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام): في الأمة
تزني قال: تجلد نصف الحد كان لها زوج أو لم يكن.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: المسافحات المعلنات بالزنا
المتخذات أخدان ذات الخليل الواحد، قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من
الزنا و يستحلون ما خفي، يقولون: أما ما ظهر منه فهو لؤم، و أما ما خفي فلا بأس
بذلك، فأنزل الله: و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن.
أقول: و الروايات فيما تقدم من المعاني كثيرة اقتصرنا منها على أنموذج يسير.
بحث آخر روائي
في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المتعة،
فقال: نزلت في القرآن: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة - و لا جناح
عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة.
و فيه، بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
إنما نزلت: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة: أقول: و
روى هذه القراءة العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام)، و رواها الجمهور بطرق
عديدة عن أبي بن كعب و عبد الله بن عباس كما سيأتي: و لعل المراد بأمثال هذه
الروايات الدلالة على المعنى المراد من الآية دون النزول اللفظي.
و فيه، بإسناده عن زرارة قال: جاء عبد الله بن عمير الليثي إلى أبي جعفر (عليه
السلام) فقال له: ما تقول في متعة النساء؟ فقال: أحلها الله في كتابه و على
لسان نبيه فهي حلال إلى يوم القيامة، فقال: يا أبا جعفر مثلك يقول هذا و قد
حرمها عمر و نهى عنها؟ فقال: و إن كان فعل. فقال: إني أعيذك بالله من ذلك أن
تحل شيئا حرمه عمر. قال: فقال له: فأنت على قول صاحبك، و أنا على قول رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهلم ألاعنك أن القول ما قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم)، و أن الباطل ما قال صاحبك، فأقبل عبد الله بن عمير فقال: أ
يسرك أن نساءك و بناتك و أخواتك و بنات عمك يفعلن؟ قال: فأعرض عنه أبو جعفر
(عليه السلام) حين ذكر نساءه و بنات عمه.
و فيه، بإسناده عن أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المتعة نزل بها
القرآن و جرت بها السنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا حنيفة يسأل أبا
عبد الله (عليه السلام) عن المتعة. فقال: أي المتعتين تسأل؟ قال: سألتك عن متعة
الحج فأنبئني عن متعة النساء أ حق هي؟ فقال: سبحان الله أ ما قرأت كتاب الله عز
و جل: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة فقال: و الله كأنها آية لم
أقرأها قط.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال جابر
بن عبد الله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم غزوا معه فأحل لهم
المتعة و لم يحرمها، و كان علي يقول: لو لا ما سبقني به ابن الخطاب يعني عمر ما
زنى إلا شقي. و كان ابن عباس يقول: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن
أجورهن فريضة، و هؤلاء يكفرون بها، و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أحلها و لم يحرمها.
و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في المتعة قال: نزلت هذه الآية:
فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة - و لا جناح عليكم فيما تراضيتم به
من بعد الفريضة. قال: لا بأس بأن تزيدها و تزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما،
يقول: استحللتك بأجل آخر برضى منها. و لا تحل لغيرك حتى تنقضي عدتها، و عدتها
حيضتان.
و عن الشيباني، في قوله تعالى: "و لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد
الفريضة": عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: هو أن يزيدها
في الأجرة، و تزيده في الأجل.
أقول: و الروايات في المعاني السابقة مستفيضة أو متواترة عن أئمة أهل البيت
(عليهم السلام)، و إنما أوردنا طرفا منها، و على من يريد الاطلاع عليها جميعا
أن يراجع جوامع الحديث.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان متعة النساء في أول
الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته، و لا يحفظ متاعه
فيتزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته فتنظر له متاعه، و تصلح له
ضيعته، و كان يقرأ: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى" نسختها: محصنين غير
مسافحين، و كان الإحصان بيد الرجل يمسك متى شاء، و يطلق متى شاء.
و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن أبي نضرة قال: قرأت على ابن عباس: فما استمتعتم
به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، قال ابن عباس: فما استمتعتم به منهن إلى أجل
مسمى، فقلت: ما نقرؤها كذلك فقال ابن عباس: و الله لأنزلها الله كذلك: أقول: و
رواه في الدر المنثور، عنه و عن عبد بن حميد و ابن جرير و ابن الأنباري في
المصاحف.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة قال: في قراءة أبي بن
كعب: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى.
و في صحيح الترمذي، عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: إنما كانت المتعة في أول
الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه
يقيم فيحفظ له متاعه و يصلح له شيئه حتى إذا نزلت الآية: "إلا على أزواجهم أو
ما ملكت أيمانهم" قال ابن عباس فكل فرج سوى هذين فهو حرام.
أقول: و لازم الخبر أنها نسخت بمكة لأن الآية مكية.
و في مستدرك الحاكم، عن عبد الله بن أبي مليكة: سألت عائشة رضي الله عنها عن
متعة النساء فقالت: بيني و بينكم كتاب الله. قال: و قرأت هذه الآية: و الذين هم
لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم - أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن
ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا.
و في الدر المنثور، أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و النحاس من طريق عطاء
عن ابن عباس: في قوله: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة قال: نسختها:
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن و المطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء و اللائي يئسن من المحيض من نسائكم - إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر.
و فيه، أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و النحاس و البيهقي عن سعيد بن
المسيب قال: نسخت آية الميراث المتعة.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و البيهقي عن ابن مسعود قال: المتعة
منسوخة نسخها الطلاق و الصدقة و العدة و الميراث.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر عن علي قال: نسخ رمضان كل صوم، و نسخت
الزكاة كل صدقة، و نسخ المتعة الطلاق و العدة و الميراث، و نسخت الضحية كل
ذبيحة.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و أحمد و مسلم عن سبرة الجهني قال: أذن لنا رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) عام فتح مكة في متعة النساء فخرجت أنا و رجل من
قومي، و لي عليه فضل في الجمال، و هو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد، إما
بردي فخلق، و إما برد ابن عمي فبرد جديد غض حتى إذا كنا بأعلى مكة تلقتنا فتاة
مثل البكرة العنطنطة فقلنا: هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ قالت: و ما تبذلان؟
فنشر كل واحد منا برده فجعلت تنظر إلى الرجلين، فإذا رآها صاحبي قال: إن برد
هذا خلق، و بردي جديد غض فتقول: و برد هذا لا بأس به، ثم استمتعت منها، فلم
نخرج حتى حرمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، أخرج مالك و عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و الترمذي و
النسائي و ابن ماجة عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) نهى عن متعة النساء يوم خيبر، و عن أكل لحوم الحمر الإنسية.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم عن سلمة بن الأكوع قال رخص لنا رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى
عنها بعدها.
و في شرح ابن العربي، لصحيح الترمذي، عن إسماعيل عن أبيه عن الزهري: أن سبرة
روى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عنها في حجة الوداع، خرجه أبو داود
قال: و قد رواه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه:
فذكر فيه: أنه كان في حجة الوداع بعد الإحلال، و أنه كان بأجل معلوم، و قد قال
الحسن: إنها في عمرة القضاء.
و فيه، عن الزهري: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع المتعة في غزوة
تبوك.
أقول: و الروايات كما ترى تختلف في تشخيص زمان نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم)
بين قائلة أنه كان قبل الهجرة، و قائلة بأنه بعد الهجرة بنزول آيات النكاح و
الطلاق و العدة و الميراث أو بنهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عام خيبر أو
زمن عمرة القضاء أو عام أوطاس أو عام الفتح أو عام تبوك أو بعد حجة الوداع، و
لذا حمل على تكرر النهي عنها مرات عديدة، و إن كلا من الروايات تحدث عن مرة
منها لكن جلالة بعض رواتها كعلي و جابر و ابن مسعود مع ملازمتهم للنبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) و خبرتهم بالخطير و اليسير من سيرته تأبى أن يخفى عليهم
نواهيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، أخرج البيهقي عن علي قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) عن المتعة و إنما كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح و الطلاق و العدة
و الميراث بين الزوج و المرأة نسخت.
و فيه، أخرج النحاس عن علي بن أبي طالب: أنه قال لابن عباس: إنك رجل تائه إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن المتعة.
و فيه، أخرج البيهقي عن أبي ذر قال: إنما أحلت لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في صحيح البخاري، عن أبي جمرة قال: سئل ابن عباس عن متعة النساء فرخص فيها
فقال له مولى له: إنما كان ذلك و في النساء قلة و الحال شديد، فقال ابن عباس
نعم.
و في الدر المنثور، أخرج البيهقي عن عمر: أنه خطب فقال: ما بال رجال ينكحون هذه
المتعة، و قد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها لا أوتي بأحد نكحها
إلا رجمته.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم عن سبرة قال: رأيت رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) قائما بين الركن و الباب و هو يقول: يا أيها الناس إني كنت
أذنت لكم في الاستمتاع ألا و إن الله حرمها إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن
شيء فليخل سبيلها، و لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: و الله ما كانت المتعة إلا ثلاثة أيام
أذن لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها، ما كانت قبل ذلك و لا بعد.
و في تفسير الطبري، عن مجاهد: فما استمتعتم به منهن قال: يعني نكاح المتعة.
و فيه، عن السدي: في الآية قال: هذه المتعة، الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل
مسمى فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، و هي منه بريئة، و عليها أن تستبرىء
ما في رحمها، و ليس بينهما ميراث، ليس يرث واحد منهما صاحبه.
و في صحيحي البخاري و مسلم، و رواه في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن أبي
شيبة عن ابن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ليس
معنا نساؤنا، فقلنا: أ لا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، و رخص لنا أن نتزوج المرأة
بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل
الله لكم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن نافع: أن ابن عمر سئل عن المتعة فقال:
حرام فقيل له: إن ابن عباس يفتي بها، قال فهلا ترمرم بها في زمان عمر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و الطبراني و البيهقي من طريق سعيد بن جبير
قال: قلت لابن عباس: ما ذا صنعت؟ ذهب الركاب بفتياك، و قالت فيه الشعراء، قال:
و ما قالوا: قلت: قالوا: أقول للشيخ لما طال مجلسه. يا صاح هل لك في فتيا ابن
عباس؟. هل لك في رخصة الأطراف آنسة. تكون مثواك حتى مصدر الناس؟. فقال: إنا لله
و إنا إليه راجعون، لا و الله ما بهذا أفتيت، و لا هذا أردت، و لا أحللتها إلا
للمضطر، و لا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة و الدم و لحم الخنزير.
و فيه، أخرج ابن المنذر من طريق عمار مولى الشريد قال: سألت ابن عباس عن المتعة
أ سفاح هي أم نكاح؟ فقال: لا سفاح و لا نكاح، قلت: فما هي؟ قال: هي المتعة كما
قال الله، قلت: هل لها من عدة؟ قال: عدتها حيضة، قلت: هل يتوارثان قال: لا.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر، من طريق عطاء عن ابن عباس قال: يرحم الله
عمر ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمد، و لو لا نهيه عنها ما
احتاج إلى الزنا إلا شقي، قال: و هي التي في سورة النساء: فما استمتعتم به منهن
إلى كذا و كذا من الأجل على كذا و كذا، قال: و ليس بينهما وراثة، فإن بدا لهما
أن يتراضيا بعد الأجل فنعم، و إن تفرقا فنعم و ليس بينهما نكاح، و أخبر: أنه
سمع ابن عباس: أنه يراها الآن حلالا.
و في تفسير الطبري، و رواه في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و أبي داود في ناسخه
عن الحكم: أنه سئل عن هذه الآية أ منسوخة؟ قال: لا، و قال علي: لو لا أن عمر
نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي.
و في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر و
الدقيق الأيام على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبي بكر حتى نهى
عنه عمر في شأن عمرو بن حريث: أقول: و نقل عن جامع الأصول، لابن الأثير و زاد
المعاد لابن القيم و فتح الباري لابن حجر و كنز العمال،.
و في الدر المنثور، أخرج مالك و عبد الرزاق عن عروة بن الزبير أن خولة بنت حكيم
دخلت على عمر بن الخطاب، فقالت: إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت
منه، فخرج عمر بن الخطاب يجر رداءه فزعا، فقال: هذه المتعة، و لو كنت تقدمت
فيها لرجمت: أقول: و نقل عن الشافعي في كتاب الأم و البيهقي في السنن الكبرى.
و عن كنز العمال، عن سليمان بن يسار عن أم عبد الله ابنة أبي خيثمة: أن رجلا
قدم من الشام فنزل عليها، فقال: إن العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع
معها، قالت: فدللته على امرأة فشارطها و أشهدوا على ذلك عدولا، فمكث معها ما
شاء الله أن يمكث، ثم إنه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب، فأرسل إلي فسألني أ
حق ما حدثت؟ قلت: نعم قال: فإذا قدم فآذنيني، فلما قدم أخبرته فأرسل إليه فقال:
ما حملك على الذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم
لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم معك
فلم تحدث لنا فيه نهيا، فقال عمر: أما و الذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي
لرجمتك، بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح.
و في صحيح مسلم، و مسند أحمد، عن عطاء: قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه في
منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة فقال: استمتعنا على عهد رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) و أبي بكر و عمر، و في لفظ أحمد: حتى إذا كان في آخر
خلافة عمر رضي الله عنه.
و عن سنن البيهقي، عن نافع عن عبد الله بن عمر: أنه سئل عن متعة النساء فقال:
حرام أما إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أخذ فيها أحدا لرجمه بالحجارة.
و عن مرآة الزمان، لابن الجوزي: كان عمر رضي الله عنه يقول: و الله لا أوتي
برجل أباح المتعة إلا رجمته.
و في بداية المجتهد، لابن رشد عن جابر بن عبد الله: تمتعنا على عهد رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) و أبي بكر و نصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر
الناس.
و في الإصابة، أخرج ابن الكلبي: أن سلمة بن أمية بن خلف الجمحي استمتع من سلمى
مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي فولدت له فجحد ولدها، فبلغ ذلك عمر فنهى
عن المتعة.
و عن زاد المعاد، عن أيوب: قال عروة لابن عباس: أ لا تتقي الله ترخص في المتعة؟
فقال ابن عباس: سل أمك يا عرية فقال عروة: أما أبو بكر و عمر فلم يفعلا، فقال
ابن عباس: و الله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، نحدثكم عن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)، و تحدثونا عن أبي بكر و عمر.
أقول: و أم عروة أسماء بنت أبي بكر تمتع منها الزبير بن العوام فولدت له عبد
الله بن الزبير، و عروة.
و في المحاضرات، للراغب: عير عبد الله بن الزبير عبد الله بن عباس بتحليله
المتعة فقال له: سل أمك كيف سطعت المجامر بينها و بين أبيك؟ فسألها فقالت: ما
ولدتك إلا في المتعة.
و في صحيح مسلم، عن مسلم القري قال: سألت ابن عباس عن المتعة فرخص فيها، و كان
ابن الزبير ينهى عنها، فقال: هذه أم ابن الزبير تحدث أن رسول الله رخص فيها
فادخلوا عليها فاسألوها، قال: فدخلنا عليها فإذا امرأة ضخمة عمياء فقالت: قد
رخص رسول الله فيها.
أقول: و شاهد الحال المحكي يشهد أن السؤال عنها كان في متعة النساء و تفسره
الروايات الأخر أيضا.
و في صحيح مسلم، عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: ابن
عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم)، ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما: أقول: و رواه البيهقي
في السنن، على ما نقل، و روي هذا المعنى في صحيح مسلم، في مواضع ثلاث بألفاظ
مختلفة، و في بعضها قال جابر: فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء
بما شاء، فأتموا الحج و العمرة كما أمر الله، و انتهوا عن نكاح هذه النساء، لا
أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته.
و روى هذا المعنى البيهقي في سننه و في أحكام القرآن، للجصاص و في كنز العمال،
و في الدر المنثور، و في تفسير الرازي، و مسند الطيالسي، و في تفسير القرطبي،
عن عمر: أنه قال في خطبة: متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما: متعة الحج و متعة النساء.
أقول: و خطبته هذه مما تسالم عليه أهل النقل، و أرسلوه إرسال المسلمات كما عن
تفسير الرازي، و البيان و التبيين، و زاد المعاد، و أحكام القرآن، و الطبري، و
ابن عساكر و غيرهم.
و عن المستبين، للطبري عن عمر: أنه قال: ثلاث كن على عهد رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) أنا محرمهن و معاقب عليهن: متعة الحج، و متعة النساء، و حي على
خير العمل في الأذان.
و في تاريخ الطبري، عن عمران بن سوادة قال: صليت الصبح مع عمر فقرأ سبحان و
سورة معها، ثم انصرف و قمت معه، فقال: أ حاجة؟ قلت: حاجة، قال: فالحق، قال:
فلحقت فلما دخل أذن لي فإذا هو على سرير ليس فوقه شيء، فقلت: نصيحة، فقال:
مرحبا بالناصح غدوا و عشيا، قلت، عابت أمتك أربعا، قال: فوضع رأس درته في ذقنه،
و وضع أسفلها في فخذه، ثم قال: هات، قلت: ذكروا أنك حرمت العمرة في أشهر الحج و
لم يفعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا أبو بكر رضي الله عنه،
و هي حلال، قال: هي حلال؟ لو أنهم اعتمروا في أشهر الحج رأوها مجزية من حجهم
فكانت قائبة قوب عامها فقرع حجهم، و هو بهاء من بهاء الله، و قد أصبت. قلت: و
ذكروا أنك حرمت متعة النساء، و قد كانت رخصة من الله، نستمتع بقبضة و نفارق عن
ثلاث، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحلها في زمان ضرورة ثم رجع
الناس إلى السعة، ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها و لا عاد إليها فالآن من
شاء نكح بقبضة، و فارق عن ثلاث بطلاق. و قد أصبت. قال: قلت: و أعتقت الأمة إن
وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها، قال: ألحقت حرمة بحرمة، و ما أردت إلا الخير،
و أستغفر الله، قلت: و تشكو منك نهر الرعية، و عنف السياق، قال: فشرع الدرة ثم
مسحها حتى أتى على آخرها، ثم قال: أنا زميل محمد و كان زامله في غزوة قرقرة
الكدر فوالله إني لأرتع فأشبع، و أسقي فأروي، و أنهز اللفوث، و أزجر العروض، و
أذب قدري، و أسوق خطوي، و أضم العنود، و ألحق القطوف، و أكثر الزجر، و أقل
الضرب، و أشهر العصا، و أدفع باليد لو لا ذلك لأعذرت. قال: فبلغ ذلك معاوية
فقال: كان و الله عالما برعيتهم: أقول: و نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج
البلاغة، عن ابن قتيبة.
هذه عدة من الروايات الواردة في أمر متعة النساء، و الناظر المتأمل الباحث يرى
ما فيها من التباين و التضارب، و لا يتحصل للباحث في مضامينها غير أن عمر بن
الخطاب أيام خلافته حرمها و نهى عنها لرأي رآه في قصص عمرو بن حريث، و ربيعة بن
أمية بن خلف الجمحي، و أما حديث النسخ بالكتاب أو السنة فقد عرفت عدم رجوعه إلى
محصل، على أن بعض الروايات يدفع البعض في جميع مضامينها إلا في أن عمر بن
الخطاب هو الناهي عنها المجري للمنع، المقرر حرمة العمل و حد الرجم لمن فعل -
هذا أولا -.
و أنها كانت سنة معمولا بها في زمن النبي في الجملة بتجويز منه (صلى الله عليه
وآله وسلم): إما إمضاء و إما تأسيسا، و قد عمل بها من أصحابه من لا يتوهم في
حقه السفاح كجابر بن عبد الله، و عبد الله بن مسعود، و الزبير بن العوام، و
أسماء بنت أبي بكر، و قد ولدت بها عبد الله بن الزبير - و هذا ثانيا -.
و إن في الصحابة و التابعين من كان يرى إباحتها كابن مسعود و جابر و عمرو بن
حريث و غيرهم، و مجاهد و السدي و سعيد بن جبير و غيرهم - و هذا ثالثا -.
و هذا الاختلاف الفاحش بين الروايات هو المفضي للعلماء من الجمهور بعد الخلاف
فيها من حيث أصل الجواز و الحرمة أولا، إلى الخلاف في نحو حرمتها و كيفية منعها
ثانيا و ذهابهم فيها إلى أقوال مختلفة عجيبة ربما أنهي إلى خمسة عشر قولا.
و إن للمسألة جهات من البحث لا يهمنا إلا الورود من بعضها، فهناك بحث كلامي
دائر بين الطائفتين: أهل السنة و الشيعة، و بحث آخر فقهي فرعي ينظر فيها إلى
حكم المسألة من حيث الجواز و الحرمة، و بحث آخر تفسيري من حيث النظر في قوله
تعالى: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة الآية: هل مفاده تشريع نكاح
المتعة؟ و هل هو بعد الفراغ عن دلالته على ذلك منسوخ بشيء من الآيات كآية
المؤمنون أو آيات النكاح و التحريم و الطلاق و العدة و الميراث؟ و هل هو منسوخ
بسنة نبوية؟ و هل هو على تقدير تشريعه يشرع حكما ابتدائيا أو حكما إمضائيا؟ إلى
غير ذلك.
و هذا النحو الثالث من البحث هو الذي نعقبه في هذا الكتاب، و قد تقدم خلاصة
القول في ذلك فيما تقدم من البيان، و نزيده الآن توضيحا بإلفات النظر إلى بعض
ما قيل في المقام على دلالة الآية على نكاح المتعة و تسنينها، ذلك بما ينافي ما
مر في البيان المتقدم.
قال بعضهم بعد إصراره على أن الآية إنما سيقت لبيان إيفاء المهر في النكاح
الدائم: و ذهبت الشيعة إلى أن المراد بالآية نكاح المتعة، و هو نكاح المرأة إلى
أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر مثلا، و استدلوا على ذلك بقراءة شاذة رويت عن
أبي و ابن مسعود و ابن عباس رضي الله عنهم، و بالأخبار و الآثار التي رويت في
المتعة.
قال: فأما القراءة فهي شاذة لم تثبت قرآنا، و قد تقدم أن ما صحت فيه الرواية من
مثل هذا آحادا فالزيادة فيه من قبيل التفسير، و هو فهم لصاحبه، و فهم الصحابي
ليس حجة في الدين لا سيما إذا كان النظم و الأسلوب يأباه كما هنا، فإن المتمتع
بالنكاح الموقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده الأول المسافحة، فإن
كان هناك نوع ما من إحصان نفسه و منعها من التنقل في زمن الزنا، فإنه لا يكون
فيه شيء ما من إحصان المرأة التي توجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما
قيل: كرة حذفت بصوالجة.
فتلقاها رجل رجل.
أقول: أما قوله: إنهم استدلوا على ذلك بقراءة ابن مسعود و غيره فكل مراجع يراجع
كلامهم يرى أنهم لم يستدلوا بها استدلالهم بحجة معتبرة قاطعة كيف و هم لا يرون
حجية القراءات الشاذة حتى الشواذ المنقولة عن أئمتهم، فكيف يمكن أن يستدلوا بما
لا يرونه حجة على من لا يراه حجة؟ فهل هذا إلا أضحوكة؟!.
بل إنما هو استدلال بقول من قرأ بها من الصحابة بما أنه قول منهم بكون المراد
بالآية ذلك، سواء كان ذلك منهم قراءة مصطلحة، أو تفسيرا دالا على أنهم فهموا من
لفظ الآية ذلك.
و ذلك ينفعهم من جهتين: إحداهما: أن عدة من الصحابة قالوا بما قال به هؤلاء
المستدلون، و قد قال به - على ما نقل - جم غفير من صحابة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و التابعين، و يمكن المراجع في الحصول على صحة ذلك أن يراجع مظانه.
و الثانية: أن الآية دالة على ذلك و يدل على ذلك قراءة هؤلاء من الصحابة كما
يدل ما ورد عنهم في نسخ الآية أيضا أنهم تسلموا دلالتها على نكاح المتعة حتى
رأوا نسخها أو رووا نسخها، و هي روايات كثيرة تقدمت عدة منها، فالشيعة يستفيدون
من روايات النسخ كما يستفيدون من القراءة الشاذة المذكورة على حد سواء من دون
أن يقولوا بحجية القراءة الشاذة كما لا يلزمهم القول بوقوع النسخ، و إنما
يستفيدون من الجميع من جهة الدلالة على أن هؤلاء القراء و الرواة كانوا يرون
دلالة الآية على نكاح المتعة.
و أما قوله: لا سيما إذا كان النظم و الأسلوب يأباه كما هنا، فكلامه يعطي أنه
جعل المراد من المسافحة مجرد سفح الماء و صبه - أخذا بالأصل اللغوي المشتق منه
- ثم جعله أمرا منوطا بالقصد، و لزمه أن الازدواج الموقت بقصد قضاء الشهوة و صب
الماء سفاح لا نكاح، و قد غفل عن أن الأصل اللغوي في النكاح أيضا هو الوقاع،
ففي لسان العرب: قال الأزهري: أصل النكاح في كلام العرب الوطء و لازم ما سلكه
أن يكون النكاح أيضا سفاحا، و يختل به المقابلة بين النكاح و السفاح.
على أن لازم القول بأن قصد صب الماء يجعل الازدواج الموقت سفاحا أن يكون النكاح
الدائم بقصد قضاء الشهوة و صب الماء سفاحا، و هل يرضى رجل مسلم أن يفتي بذلك؟
فإن قال: بين النكاح الدائم و المؤجل في ذلك فرق، فإن النكاح الدائم موضوع
بطبعه على قصد الإحصان بالازدواج و إيجاد النسل، و تشكيل البيت بخلاف النكاح
المؤجل.
فهذا منه مكابرة، فإن جميع ما يترتب على النكاح الدائم من الفوائد كصون النفس
عن الزنا، و التوقي عن اختلال الأنساب، و إيجاد النسل و الولد، و تأسيس البيت
يمكن أن يترتب على النكاح المؤجل، و يختص بأن فيه نوع تسهيل و تخفيف على هذه
الأمة، يصون به نفسه من لا يقدر على النكاح الدائم لفقره أو لعدم قدرته على
نفقة الزوجة، أو لغربة، أو لعوامل مختلفة أخر تمنعه عن النكاح الدائم.
و كذا كل ما يترتب على النكاح المؤجل - مما عده ملاكا للسفاح - كقصد صب الماء و
قضاء الشهوة فإنه جائز الترتب على النكاح الدائم، و دعوى أن النكاح الدائم
بالطبع موضوع للفوائد السابقة، و نكاح المتعة موضوع بالطبع لهذه المضار اللاحقة
- على أن تكون مضارا - دعوى واضحة الفساد.
و إن قال: إن نكاح المتعة لما كان سفاحا كان زنا يقابل النكاح رد عليه: بأن
السفاح الذي فسره بصب الماء أعم من الزنا، و ربما شمل النكاح الدائم و لا سيما
إذا كان بقصد صب الماء.
و أما قوله: فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه إلخ، فمن عجيب الكلام، و ليت
شعري ما الفرق الفارق بين الرجل و المرأة في ذلك حتى يكون الرجل المتمتع يمكنه
أن يحصن نفسه بنكاح المتعة من الزنا، و تكون المرأة لا يصح منها هذا القصد؟ و
هل هذا إلا مجازفة.
و أما ما أنشده من الشعر في بحث حقيقي يتعرض لكشف حقيقة من الحقائق الدينية
التي تتفرع عليها آثار هامة حيوية دنيوية و أخروية لا يستهان بها - سواء كان
نكاح المتعة محرما أو مباحا -.
فما ذا ينفع الشعر و هو نسيج خيالي، الباطل أعرف عنده من الحق، و الغواية أمس
به من الهداية.
و هلا أنشده في ذيل ما مر من الروايات، و لا سيما في ذيل قول عمر في رواية
الطبري المتقدم: "فالآن من شاء نكح بقبضة و فارق عن ثلاث بطلاق".
و هل لهذا الطعن غرض يتوجه إليه إلا الله و رسوله في أصل تشريع هذا النوع من
النكاح تأسيسا أو إمضاء و قد كان دائرا بين المسلمين في أول الإسلام بمرأى من
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و مسمع بلا شك؟.
فإن قال: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما أذن فيه لقيام الضرورة عليه من
شمول الفقر و إكباب الفاقة على عامة المسلمين، و عروض الغزوات كما يظهر من بعض
الروايات المتقدمة.
قلنا: مع فرض تداوله في أول الإسلام بين الناس و شهرته باسم نكاح المتعة و
الاستمتاع لا مناص من الاعتراف بدلالة الآية على جوازه مع إطلاقها، و عدم
صلاحية شيء من الآيات و الروايات على نسخها فالقول بارتفاع إباحته تأول في
دلالة الآية من غير دليل.
سلمنا أن إباحته كانت بإذن من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمصلحة الضرورة
لكنا نسأل أن هذه الضرورة هل كانت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشد
و أعظم منها بعده، و لا سيما في زمن الراشدين، و قد كان يسير جيوش المسلمين إلى
مشارق الأرض و مغاربها بالألوف بعد الألوف من الغزاة؟ و أي فرق بين أوائل خلافة
عمر و أواخرها من حيث تحول هذه الضرورة من فقر و غزوة و اغتراب في الأرض و غير
ذلك؟ و ما هو الفرق بين الضرورة و الضرورة؟.
و هل الضرورة المبيحة اليوم و في جو الإسلام الحاضر أشد و أعظم أو في زمن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) و النصف الأول من عهد الراشدين؟ و قد أظل الفقر
العام على بلاد المسلمين، و قد مصت حكومات الاستعمار و الدول القاهرة المستعلية
و الفراعنة من أولياء أمور المسلمين كل لبن في ضرعهم، و حصدوا الرطب من زرعهم و
اليابس.
و قد ظهرت الشهوات في مظاهرها، و ازينت بأحسن زينتها و أجملها، و دعت إلى
اقترافها بأبلغ دعوتها و لا يزال الأمر يشتد، و البلية تعم البلاد و النفوس، و
شاعت الفحشاء بين طبقات الشبان من المتعلمين و الجنديين و عملة المعامل، و هم
الذين يكونون المعظم من سواد الإنسانية، و نفوس المعمورة.
و لا يشك شاك و لن يشك في أن الضرورة الموقعة لهم في فحشاء الزنا و اللواط و كل
انخلاع شهواني عمدتها العجز من تهيئة نفقة البيت، و المشاغل الموقتة المؤجلة
المانعة من اتخاذ المنزل و النكاح الدائم بغربة أو خدمة أو دراسة و نحو ذلك.
فما بال هذه الضرورات تبيح في صدر الإسلام - و هي أقل و أهون عند القياس - نكاح
المتعة لكنها لا تقوم للإباحة في غير ذلك العهد و قد أحاطت البلية و عظمت
الفتنة؟.
ثم قال: ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا كقوله عز و جل في صفة
المؤمنين: و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم
غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون: "المؤمنون: 7" أي المتجاوزون
ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم، و هذه الآيات لا تعارض الآية التي نفسرها
يعني قوله: فما استمتعتم به الآية، بل هي بمعناها فلا نسخ، و المرأة المتمتع
بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف، كما قال الله
تعالى: و قد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة و لوازمها، فلا
يعدونها من الأربع اللواتي يحل للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور بل
يجوزون للرجل أن يتمتع بالكثير من النساء، و لا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ
لا يعدونه محصنا، و ذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين:
"محصنين غير مسافحين" و هذا تناقض صريح منهم.
و نقل عنهم بعض المفسرين: أن المرأة المتمتع بها ليس لها إرث و لا نفقة و لا
طلاق و لا عدة، و الحاصل أن القرآن بعيد من هذا القول، و لا دليل في هذه الآية
و لا شبه دليل عليه البتة.
أقول: أما قوله: ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا "إلخ"، محصله: أن
آيات المؤمنون: و الذين هم لفروجهم حافظون الآيات تقصر الحل في الأزواج، و
المتمتع بها ليست زوجة، فالآيات مانعة من حلية المتعة، أولا و مانعة من شمول
قوله: فما استمتعتم به منهن الآية لها ثانيا.
فأما أن الآيات تحرم المتعة، فقد أغمض فيه عن كون الآيات مكية، و المتعة كانت
دائرة بعد الهجرة في الجملة، فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبيح
ما حرمه القرآن بإجازته المتعة؟ و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة بنص
القرآن فيعود ذلك إلى التناقض في نفس القرآن، أو أن إباحته كانت ناسخة لآيات
الحرمة: "و الذين هم" الآيات، ثم منع عنها القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فحييت بذلك الآيات بعد موتها، و استحكمت بعد نسخها؟ و هذا أمر لا يقول
به، و لا قال به أحد من المسلمين، و لا يمكن أن يقال به.
و هذا في نفسه نعم الشاهد على أن المتمتع بها زوجة، و أن المتعة نكاح، و أن هذه
الآيات تدل على كون التمتع تزوجا، و إلا لزم أن تنتسخ بترخيص النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)، فالآيات حجة على جواز التمتع دون حرمته.
و بتقرير آخر: آيات المؤمنون و المعارج: و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على
أزواجهم الآيات، أقوى دلالة على حلية المتعة من سائر الآيات، فمن المتفق عليه
بينهم أن هذه الآيات محكمة غير منسوخة و هي مكية، و من الضروري بحسب النقل أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رخص في المتعة، و لو لا كون المتمتع بها زوجة
كان الترخيص بالضرورة ناسخا للآيات و هي غير منسوخة، فالتمتع زوجية مشرعة فإذا
تمت دلالة الآيات على تشريعه فما يدعى من نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
عنها فاسد أيضا لمنافاته الآيات، و استلزامه نسخها، و قد عرفت أنها غير منسوخة
بالاتفاق.
و كيف كان فالمتمتع بها على خلاف ما ذكره زوجة و المتعة نكاح، و ناهيك في ذلك
ما وقع فيما نقلناه من الروايات من تسميته في لسان الصحابة و التابعين بنكاح
المتعة حتى في لسان عمر بن الخطاب في الروايات المشتملة على نهيه كرواية
البيهقي عن عمر في خطبته، و رواية مسلم عن أبي نضرة، حتى ما وقع من لفظه في
رواية كنز العمال عن سليمان بن يسار: "بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح" فإن
معناه أن المتعة نكاح لا يتبين من السفاح، و أنه يجب عليكم أن تبينوه منه فأتوا
بنكاح يبين و يتميز منه، و الدليل على ذلك قوله: بينوا.
و بالجملة كون المتعة نكاحا و كون المتمتع بها زوجة في عرف القرآن و لسان السلف
من الصحابة و من تلاهم من التابعين مما لا ينبغي الارتياب فيه، و إنما تعين
اللفظان النكاح و التزويج في النكاح الدائم بعد نهي عمر، و انتساخ العمل به بين
الناس فلم يبق مورد لصدق اللفظين إلا النكاح الدائم، فصار هو المتبادر من اللفظ
إلى الذهن كسائر الحقائق المتشرعة.
و من هنا يظهر سقوط ما ذكره بعد ذلك فإن قوله: و قد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم
لا يعطونها أحكام الزوجة و لوازمها "إلخ"، يسأل عنه فيه: ما هو المراد بالزوجة؟
أما الزوجة في عرف القرآن فإنهم يعطونها أحكامها من غير استثناء، و أما الزوجة
في عرف المتشرعة - كما ذكر - المعروفة في الفقه فإنهم لا يعطونها أحكامها و لا
محذور.
و أما قوله: و ذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه أي على الزاني المتمتع قوله
تعالى: "محصنين غير مسافحين" و هذا تناقض صريح منهم، ففيه أنا ذكرنا في ذيل
الآية فيما تقدم أن ظاهرها من جهة شمولها ملك اليمين أن المراد بالإحصان إحصان
التعفف دون الازدواج، و لو سلم أن المراد بالإحصان إحصان الازدواج فالآية شاملة
لنكاح المتعة، و أما عدم رجم الزاني المتمتع مع أن الرجم ليس حكما قرآنيا فإنما
هو لبيان أو لتخصيص من السنة كسائر أحكام الزوجية من الميراث و النفقة و الطلاق
و العدد.
و توضيح ذلك أن آيات الأحكام إن كانت مسوقة على الإهمال لكونها واردة مورد أصل
التشريع فما يطرأ عليها من القيود بيانات من غير تخصيص و لا تقييد، و إن كانت
عمومات أو إطلاقات كانت البيانات الواردة في السنة مخصصات أو مقيدات من غير
محذور التناقض و المرجع في ذلك علم أصول الفقه.
و هذه الآيات أعني آيات الإرث و الطلاق و النفقة كسائر الآيات لا تخلو من
التخصيص و التقييد كالإرث و الطلاق في المرتدة و الطلاق عند ظهور العيوب
المجوزة لفسخ العقد و النفقة عند النشوز فلتخصص بالمتعة، فالبيانات المخرجة
للمتعة عن حكم الميراث و الطلاق و النفقة مخصصات أو مقيدات، و تعين ألفاظ
التزويج و النكاح و الإحصان و نحو ذلك في الدوام من جهة الحقيقة المتشرعة دون
الحقيقة الشرعية فلا محذور أصلا كما توهمه فإذا قال الفقيه مثلا: الزاني المحصن
يجب رجمه، و لا رجم في الزاني المتمتع لعدم إحصانه فإنما ذلك لكونه يصطلح
بالإحصان على دوام النكاح ذي الآثار الكذائية، و لا ينافي ذلك كون الإحصان في
عرف القرآن موجودا في الدائمة و المنقطعة معا، و له في كل منهما آثار خاصة.
و أما نقله عن بعضهم أن الشيعة لا تقول في المتعة بالعدة ففرية بينة فهذه جوامع
الشيعة، و هذه كتبهم الفقهية مملوءة بأن عدة المتمتع بها حيضتان، و قد تقدم بعض
الروايات في ذلك بطرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
ثم قال: و أما الأحاديث و الآثار المروية في ذلك فمجموعها يدل على أن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرخص لأصحابه فيها في بعض الغزوات ثم نهاهم عنها
ثم رخص فيها مرة أو مرتين ثم نهاهم عنها نهيا مؤبدا.
و أن الرخصة كانت للعلم بمشقة اجتناب الزنا مع البعد من نسائهم فكانت من قبيل
ارتكاب أخف الضررين فإن الرجل إذا عقد على امرأة خلية نكاحا موقتا، و أقام معها
ذلك الزمن الذي عينه فذلك أهون من تصديه للزنا بأية امرأة يمكنه أن يستميلها.
أقول: ما ذكره أن مجموع الروايات تدل على الترخيص في بعض الغزوات ثم النهي ثم
الترخيص فيها مرة أو مرتين ثم النهي المؤبد لا ينطبق على ما تقدم من الروايات
على ما فيها من التدافع و التطارد فعليك بالرجوع إليها و قد تقدم أكثرها حتى
ترى أن مجموعها يكذب ما ذكره من وجه الجمع حرفا حرفا.
ثم قال: و يرى أهل السنة أن الرخصة في المتعة مرة أو مرتين يقرب من التدريج في
منع الزنا منعا باتا كما وقع التدريج في تحريم الخمر، و كلتا الفاحشتين كانتا
فاشيتين في الجاهلية، و لكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر.
أقول: أما قوله: إن الرخصة في المتعة نوع من التدرج في منع الزنا فمحصله أن
المتعة كانت عندهم من أنواع الزنا، و قد كانت كسائر الزنا فاشية في الجاهلية
فتدرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنع عن الزنا بالرفق ليقع موقع
القبول من الناس فمنع عن غير المتعة من أقسامه، و أبقى زنا المتعة فرخص فيه ثم
منع ثم رخص حتى تمكن من المنع البات فمنعه منعا مؤبدا.
و لعمري أنه من فضيح اللعب بالتشريعات الدينية الطاهرة التي لم يرد الله بها
إلا تطهير هذه الأمة، و إتمام النعمة عليهم.
ففيه أولا: ما تقدم أن نسبة المنع ثم الترخيص ثم المنع ثم الترخيص في المتعة
إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع فرض دلالة آيات سورتي المعارج و
المؤمنون: "و الذين هم لفروجهم حافظون" الآيات - و هي مكية - على حرمة المتعة
على ما أصر عليه هذا القائل ليس إلا نسبة نسخ الآيات إلى النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بالترخيص ثم نسخ هذا النسخ و أحكام الآيات ثم نسخ الآيات ثم إحكامها
و هكذا، و هل هذا إلا نسبة اللعب بكتاب الله إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و ثانيا: أن الآيات الناهية عن الزنا في كتاب الله تعالى هي قوله في سورة
الإسراء: و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا: "الإسراء: 32" و أي
لسان أصرح من هذا اللسان، و الآية مكية واقعة بين آيات المناهي، و كذا قوله: قل
تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم - إلى أن قال: و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و
ما بطن: "الأنعام: 151"، كلمة الفواحش جمع محلى باللام واقعة في سياق النهي
مفيدة لاستغراق النهي كل فاحشة و زنا، و الآية مكية، و كذا قوله: قل إنما حرم
ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن: - الأعراف: 33"، و الآية أيضا مكية، و كذا
قوله: و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير
ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون: - المؤمنون: 7، المعارج: 31، و
السورتان مكيتان، و الآيات تحرم المتعة على قول هذا القائل كما تحرم سائر أقسام
الزنا.
فهذه جل الآيات الناهية عن الزنا المحرمة للفاحشة، و جميعها مكية صريحة في
التحريم فأين ما ذكره من التدرج في التحريم و المنع؟ أو أنه يقول - كما هو
اللازم الصريح لقوله بدلالة آيات المؤمنون على الحرمة -: إن الله سبحانه حرمها
تحريما باتا، ثم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدرج في المنع عملا بالرخصة
بعد الرخصة مداهنة لمصلحة الإيقاع موقع القبول، و قد شدد الله تعالى على نبيه
(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الخلة بعينها، قال تعالى: و إن كادوا
ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره و إذا لاتخذوك خليلا و لو لا
أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات
ثم لا تجد لك علينا نصيرا: "الإسراء: 75".
و ثالثا: أن هذا الترخيص المنسوب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة بعد
مرة إن كان ترخيصا من غير تشريع للحل، و الفرض كون المتعة زنا و فاحشة كان ذلك
مخالفة صريحة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) لربه لو كان من عند نفسه، و هو
معصوم بعصمة الله تعالى، و لو كان من عند ربه كان ذلك أمرا منه تعالى بالفحشاء،
و قد رده تعالى بصريح قوله خطابا لنبيه: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء الآية:
"الأعراف: 28".
و إن كان ترخيصا مع تشريع للحل لم تكن زنا و فاحشة فإنها سنة مشروعة محدودة
بحدود محكمة لا تجامع الطبقات المحرمة كالنكاح الدائم و معها فريضة المهر
كالنكاح الدائم، و العدة المانعة عن اختلاط المياه و اختلال الأنساب، و معها
ضرورة حاجة الناس إليها فما معنى كونها فاحشة و ليست الفاحشة إلا العمل المنكر
الذي يستقبحه المجتمع لخلاعته من الحدود و إخلاله بالمصلحة العامة و منعه عن
القيام بحاجة المجتمع الضرورية في حياتهم.
و رابعا: أن القول بكون التمتع من أنواع الزنا الدائرة في الجاهلية اختلاق في
التاريخ، و اصطناع لا يرجع إلى مدرك تاريخي، إذ لا عين منه في كتب التاريخ و لا
أثر بل هو سنة مبتكرة إسلامية و تسهيل من الله تعالى على هذه الأمة لإقامة
أودهم، و وقايتهم من انتشار الزنا و سائر الفواحش بينهم لو أنهم كانوا وفقوا
لإقامة هذه السنة و إذا لم تكن الحكومات الإسلامية تغمض في أمر الزنا و سائر
الفواحش هذا الإغماض الذي ألحقها تدريجا بالسنن القانونية، و امتلأت بها الدنيا
فسادا و وبالا.
و أما قوله: "و كلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية، و لكن فشو الزنا كان
في الإماء دون الحرائر" ظاهرة أن مراده بالفاحشتين الزنا و شرب الخمر، و هو
كذلك إلا أن كون الزنا فاشيا في الإماء دون الحرائر مما لا أصل له يركن إليه
فإن الشواهد التاريخية المختلفة المتفرقة تؤيد خلاف ذلك كالأشعار التي قيلت في
ذلك، و قد تقدم في رواية ابن عباس أن أهل الجاهلية لم تكن ترى بالزنا بأسا إذا
لم يكن علينا.
و يدل عليه أيضا مسألة الادعاء و التبني الدائر في الجاهلية فإن الادعاء لم يكن
بينهم مجرد تسمية و نسبة بل كان ذلك أمرا دائرا بينهم يبتغي به أقوياؤهم تكثير
العدة و القوة بالإلحاق، و يستندون فيه إلى زنا ارتكبوه مع الحرائر حتى ذوات
الأزواج منهن، و أما الإماء فهم و لا سيما أقوياؤهم يعيبون الاختلاط بهن، و
المعاشقة و المغازلة معهن، و إنما كانت شأن الإماء في ذلك أن مواليهن يقيمونهن
ذلك المقام اكتسابا و استرباحا.
و من الدليل على ما ذكرناه ما ورد من قصص الإلحاق في السير و الآثار كقصة إلحاق
معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه لأبيه أبي سفيان، و ما شهد به شاهد الأمر عند
ذلك، و غيرها من القصص المنقولة.
نعم ربما يستشهد على عدم فشو الزنا بين الحرائر في الجاهلية بقول هند للنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) عند البيعة: و هل الحرة تزني؟ لكن الرجوع إلى ديوان
حسان، و التأمل فيما هجا به هندا بعد وقعتى بدر و أحد يرفع اللبس و يكشف ما هو
حقيقة الأمر.
ثم قال بعد كلام له في تنقيح معنى الأحاديث، و رفعه التدافع الواقع بينها على
زعمه: و العمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه: أولها: ما علمت من منافاتها
لظاهر القرآن في أحكام النكاح و الطلاق و العدة إن لم نقل لنصوصه، و ثانيها:
الأحاديث المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة - إلى أن قال -: و
ثالثها: نهي عمر عنها و إشارته بتحريمها على المنبر، و إقرار الصحابة له على
ذلك و قد علم أنهم ما كانوا يقرون على منكر، و أنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ.
ثم اختار أن تحريمه لها لم يكن عن اجتهاد منه، و إنما كان استنادا إلى التحريم
الثابت بنهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنما يسند إليه التحريم من جهة
أنه مبين للحرمة أو منفذ لها كما يقال: حرم الشافعي النبيذ و أحله أبو حنيفة.
أقول: أما الوجه الأول و الثاني فقد عرفت آنفا و في البيان المتقدم حقيقة القول
فيهما بما لا مزيد عليه، و أما الوجه الثالث فتحريم عمر لها سواء كان ذلك
باجتهاد منه أو باستناده إلى تحريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدعيه
هذا القائل، و سواء كان سكوت الصحابة عنه هيبة له و خوفا من تهديده، أو إقرارا
له في تحريمه كما ذكره، أو لعدم وقوعه موقع قبول الناس منهم كما يدل عليه
الروايات عن علي و جابر و ابن مسعود و ابن عباس فتحريمه و حلفه على رجم مستحلها
و فاعلها لا يؤثر في دلالة الآية عليها، و عدم انثلام هذه الحلية بكتاب أو سنة
فدلالة الآيات و أحكامها مما لا غبار عليه.
و قد أغرب بعض الكتاب حيث ذكر أن المتعة سنة جاهلية لم تدخل في الإسلام قط حتى
يحتاج إلى إخراجها منه و في نسخها إلى كتاب أو سنة و ما كان يعرفها المسلمون و
لا وقعت إلا في كتب الشيعة.
أقول: و هذا الكلام المبني على الصفح عما يدل عليه الكتاب و الحديث و الإجماع و
التاريخ يتم به تحول الأقوال في هذه المسألة تحولها العجيب فقد كانت سنة قائمة
في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم نهي عنها في عهد عمر و نفذ النهي
عند عامة الناس، و وجه النهي بانتساخ آية الاستمتاع بآيات أخرى أو بنهي النبي
عنها و خالف في ذلك عدة من الأصحاب و جم غفير ممن تبعهم من فقهاء الحجاز و
اليمن و غيرهم حتى مثل ابن جريح من أئمة الحديث "و كان يبالغ في التمتع حتى
تمتع بسبعين امرأة" و مثل مالك أحد أئمة الفقه الأربعة، هذا، ثم أعرض المتأخرون
من أهل التفسير عن دلالة آية الاستمتاع على المتعة، و راموا تفسيرها بالنكاح
الدائم، و ذكروا أن المتعة كانت سنة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم
نسخت بالحديث، ثم راموا في هذه الأواخر أنها كانت من أنواع الزنا في الجاهلية
رخص فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رخصة بعد رخصة ثم نهى عنها نهيا
مؤبدا إلى يوم القيامة، ثم ذكر هذا القائل الأخير: أنها زنا جاهلي محض لا خبر
عنها في الإسلام قط إلا ما وقع في كتب الشيعة، و الله أعلم بما يصير إليه حال
المسألة في مستقبل الزمان.
بحث علمي
رابطة النسب - و هي الرابطة التي تربط الفرد من الإنسان بالفرد الآخر من جهة
الولادة و جامع الرحم - هي في الأصل رابطة طبيعية تكوينية تكون الشعوب و
القبائل، و تحمل الخصال المنبعثة عن الدم فتسريها حسب تسرية الدم، و هي المبدأ
للآداب و الرسوم و السنن القومية بما تختلط و تمتزج بسائر الأسباب و العلل
المؤثرة.
و للمجتمعات الإنسانية المترقية و غير المترقية نوع اعتناء بها في السنن و
القوانين الاجتماعية في الجملة: في نكاح و إرث و غير ذلك، و هم مع ذلك لا
يزالون يتصرفون في هذه الرابطة النسبية توسعة و تضييقا بحسب المصالح المنبعثة
عن خصوصيات مجتمعهم كما سمعت في المباحث السابقة أن غالب الأمم السالفة كانوا
لا يرون للمرأة قرابة رسما و كانوا يرون قرابة الدعي و بنوته، و كما أن الإسلام
ينفي القرابة بين الكافر المحارب و المسلم، و يلحق الولد للفراش و غير ذلك.
و لما اعتبر الإسلام للنساء القرابة بما أعطاهن من الشركة التامة في الأموال، و
الحرية التامة في الإرادة و العمل على ما سمعت في المباحث السابقة، و صار بذلك
الابن و البنت في درجة واحدة من القرابة و الرحم الرسمي، و كذلك الأب و الأم، و
الأخ و الأخت، و الجد و الجدة، و العم و العمة، و الخال و الخالة، صار عمود
النسب الرسمي متنزلا من ناحية البنات كما كان يتنزل من ناحية البنين، فصار ابن
البنت ابنا للإنسان كبنوة ابن الابن و هكذا ما نزل، و كذا صار بنت الابن و بنت
البنت بنتين للإنسان على حد سواء، و على ذلك جرت الأحكام في المناكح و
المواريث، و قد عرفت فيما تقدم أن آية التحريم "حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم"
الآية دالة على ذلك.
و قد قصر السلف من باحثينا في هذه المسألة و أشباهها و هي مسألة اجتماعية و
حقوقية فحسبوها مسألة لغوية يستراح فيها إلى قضاء اللغة، فاشتد النزاع بينهم
فيما وضع له لفظ الابن مثلا، فمن معمم و من مخصص، و كل ذلك من الخطإ.
و قد ذكر بعضهم: أن الذي تعرفه اللغة من البنوة ما يجري من ناحية الابن، و أما
ابن البنت و كل ما يجري من ناحيتها فللحوق هؤلاء بآبائهم لا بجدهم الأمي لا
يعدهم العرب أبناء للإنسان، و أما قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
للحسنين: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا و غير ذلك فهذا الإطلاق إطلاق تشريفي،
و أنشد في ذلك قول القائل: بنونا بنو أبنائنا و بناتنا.
بنوهن أبناء الرجال الأباعد.
و نظيره قول الآخر: و إنما أمهات الناس أوعية.
مستودعات و للأنساب آباء.
أقول: و قد اختلط عليه طريق البحث فحسبه بحثا لغويا زعم فيه أن العرب لو وضعت
لفظ الابن لما يشمل ابن البنت تغيرت بذلك نتيجة البحث، و هو غفلة عن أن الآثار
و الأحكام المترتبة في المجتمعات المختلفة البشرية على الأبوة و البنوة و
نحوهما لا تتبع اللغات، و إنما تتبع نوع بنية المجتمع و السنن الدائرة فيها، و
ربما تغيرت هذه الأحكام و الآثار بتغيير السنة الاجتماعية في المجتمع مع بقاء
اللغة على حالها، و هذا يكشف عن كون البحث اجتماعيا أو عائدا إليه لا لفظيا
لغويا.
و أما ما أنشد من الشعر فليس يسوى الشعر في سوق الحقائق شيئا - و ليس إلا زخرفة
خيالية و تزويقا وهميا - حتى يستدل بكل ما تقوله شاعر لاغ و لا سيما فيما
يداخله القرآن الذي هو قول فصل و ليس بالهزل.
و أما مسألة لحوق الأبناء بآبائهم دون الأجداد من جانب الأمهات فهي على أنها
ليست مسألة لفظية لغوية ليست من فروع النسب حتى يستلزم لحوق الابن و البنت
بالأب انقطاع نسبهما من جهة الأم، بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث
الإنفاق، و تربية الأولاد و نحوها.
و بالجملة فالأم تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها
الأب، و من آثاره البارزة في الإسلام الميراث و حرمة النكاح، نعم هناك أحكام و
مسائل أخر لها ملاكات خاصة كلحوق الولد و النفقة و مسألة سهم أولي القربى من
السادات و كل تتبع ملاكها الخاص بها.
بحث علمي آخر
النكاح و الازدواج من السنن الاجتماعية التي لم تزل دائرة في المجتمعات
الإنسانية أي مجتمع كان على ما بيدنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم، و هو
في نفسه دليل على كونه سنة فطرية.
على أن من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر و الأنثى مجهزين بحسب البنية
الجسمانية بوسائل التناسل و التوالد كما ذكرناه مرارا، و الطائفتان الذكر و
الأنثى في ابتغاء ذلك شرع سواء و إن زيدت الأنثى بجهاز الإرضاع و العواطف
الفطرية الملائمة لتربية الأولاد.
ثم إن هناك غرائز إنسانية تنعطف إلى محبة الأولاد، و تقبل قضاء الطبيعة بكون
الإنسان باقيا ببقاء نسله، و تذعن بكون المرأة سكنا للرجل و بالعكس، و تحترم
أصل الوراثة بعد احترامها لأصل الملك و الاختصاص، و تحترم لزوم تأسيس البيت.
و المجتمعات التي تحترم هذه الأصول و الأحكام الفطرية في الجملة لا مناص لها من
الإذعان بسنة النكاح على نحو الاختصاص بوجه بمعنى أن لا يختلط الرجال و النساء
على نحو يبطل الأنساب و إن فرض التحفظ عن فساد الصحة العامة و قوة التوالد الذي
يوجبه شيوع الزنا و الفحشاء.
هذه أصول معتبرة عند جميع الأمم الجارية على سنة النكاح في الجملة سواء خصوا
الواحد بالواحد، أو جوزوا الكثير من النساء للواحد من الرجال أو بالعكس أو
الكثير منهم للكثير منهن على اختلاف هذه السنن بين الأمم فإنهم مع ذلك يعتبرون
النكاح بخاصته التي هي نوع ملازمة و مصاحبة بين الزوجين.
فالفحشاء و السفاح الذي يقطع النسل و يفسد الأنساب أول ما تبغضه الفطرة
الإنسانية القاضية بالنكاح، و لا تزال ترى لهذه المباغضة آثارا بين الأمم
المختلفة و المجتمعات المتنوعة حتى الأمم التي تعيش على الحرية التامة في
الرجال و النساء في المواصلات و المخالطات الشهوية فإنهم متوحشون من هذه
الخلاعات المسترسلة، و تراهم يعيشون بقوانين تحفظ لهم أحكام الأنساب بوجه.
و الإنسان مع إذعانه بسنة النكاح لا يتقيد فيه بحسب الطبع، و لا يحرم على نفسه
ذا قرابة أو أجنبيا، و لا يجتنب الذكر من الإنسان أما و لا أختا و لا بنتا و لا
غيرهن، و لا الأنثى منه أبا و لا أخا و لا ابنا بحسب الداعية الشهوية فالتاريخ
و النقل يثبت نكاح الأمهات و الأخوات و البنات و غيرهن في الأمم العظيمة
الراقية و المنحطة، و الأخبار تحقق الزنا الفاشي في الملل المتمدنة اليوم بين
الإخوة و الأخوات، و الآباء و البنات و غيرهن فطاغية الشهوة لا يقوم لها شيء، و
ما كان بين هذه الأمم من اجتناب نكاح الأمهات و الأخوات و البنات و ما يلحق بهن
فإنما هو سنة موروثة ربما انتهت إلى بعض الآداب و الرسوم القومية.
و إنك إذا قايست القوانين المشرعة في الإسلام لتنظيم أمر الازدواج بسائر
القوانين و السنن الدائرة في الدنيا و تأملت فيها منصفا وجدتها أدق و أضمن
لجميع شئون الاحتياط في حفظ الأنساب و سائر المصالح الإنسانية الفطرية، و جميع
ما شرعه من الأحكام في أمر النكاح و ما يلحق به يرجع إلى حفظ الأنساب و سد سبيل
الزنا.
فالذي روعي فيه مصلحة حفظ الأنساب من غير واسطة هو تحريم نكاح المحصنات من
النساء، و بذلك يتم إلغاء ازدواج المرأة بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإن
فيه فساد الأنساب كما أنه هو الملاك في وضع عدة الطلاق بتربص المرأة بنفسها
ثلاثة قروء تحرزا من اختلاط المياه.
و أما سائر أصناف النساء المحرم نكاحها و هي أربعة عشر صنفا المعدودة في آيات
التحريم فإن الملاك في تحريم نكاحهن سد باب الزنا فإن الإنسان - و هو في
المجتمع المنزلي - أكثر ما يعاشر و يختلط و يسترسل و يديم في المصاحبة إنما هو
مع هذه الأصناف الأربعة عشر، و دوام المصاحبة و مساس الاسترسال يوجب كمال توجه
النفس و ركوز الفكر فيهن بما يهدي إلى تنبه الميول و العواطف الحيوانية و هيجان
دواعي الشهوة، و بعثها الإنسان إلى ما يستلذه طبعه، و تتوق له نفسه، و من يحم
حول الحمى أوشك أن يقع فيه.
فكان من الواجب أن لا يقتصر على مجرد تحريم الزنا في هذه الموارد فإن دوام
المصاحبة، و تكرر هجوم الوساوس النفسانية و ورود الهم بعد الهم لا يدع للإنسان
مجال التحفظ على نهي واحد من الزنا.
بل كان يجب أن تحرم هؤلاء تحريما مؤبدا، و تقع عليه التربية الدينية حتى يستقر
في القلوب اليأس التام من بلوغهن و النيل منهن، و يميت ذلك تعلق الشهوة بهن و
يقطع منبتها و يقلعها من أصلها، و هذا هو الذي نرى من كثير من المسلمين حتى في
المتوغلين في الفحشاء المسترسلين في المنكرات منهم أنهم لا يخطر ببالهم الفحشاء
بالمحارم، و هتك ستر الأمهات و البنات، و لو لا ذلك لم يكد يخلو بيت من البيوت
من فاحشة الزنا و نحوه.
و هذا كما أن الإسلام سد باب الزنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب، و المنع عن
اختلاط الرجال بالنساء و النساء بالرجال، و لو لا ذلك لم ينجح النهي عن الزنا
في الحجز بين الإنسان و بين هذا الفعال الشنيع فهناك أحد أمرين: إما أن يمنع
الاختلاط كما في طائفة، و إما أن يستقر اليأس من النيل بالمرة بحرمة مؤبدة
يتربى عليها الإنسان حتى يستوي على هذه العقيدة، لا يبصر مثاله فيما يبصر، و لا
يسمعه فيما يسمع فلا يخطر بباله أبدا.
و تصديق ذلك ما نجده من حال الأمم الغربية فإن هؤلاء معاشر النصارى كانت ترى
حرمة الزنا، و تعد تعدد الزوجات في تلو الزنا أباحت اختلاط النساء بالرجال فلم
تلبث حتى فشا الفحشاء فيها فشوا لا يكاد يوجد في الألف منهم واحد يسلم من هذا
الداء، و لا في ألف من رجالهم واحد يستيقن بكون من ينتسب إليه من أولاده من
صلبه، ثم لم يمكث هذا الداء حتى سرى إلى الرجال مع محارمهم من الأخوات و البنات
و الأمهات، ثم إلى ما بين الرجال و الغلمان ثم الشبان أنفسهم ثم... و ثم... آل
الأمر إلى أن صارت هذه الطائفة التي ما خلقها الله سبحانه إلا سكنا للبشر، و
نعمة يقيم بها صلب الإنسانية، و يطيب بها عيشة النوع مصيدة يصطاد بها في كل شأن
سياسي و اقتصادي و اجتماعي و وسيلة للنيل إلى كل غرض يفسد حياة المجتمع و
الفرد، و عادت الحياة الإنسانية أمنية تخيلية، و لعبا و لهوا بتمام معنى
الكلمة، و قد اتسع الخرق على الراتق.
هذا هو الذي بنى عليه الإسلام مسألة تحريم المحرمات من المبهمات و غيرها في باب
النكاح إلا المحصنات من النساء على ما عرفت.
و تأثير هذا الحكم في المنع عن فشو الزنا و تسربه في المجتمع المنزلي كتأثير
حكم الحجاب في المنع عن ظهور الزنا و سريان الفساد في المجتمع المدني على ما
عرفت.
و قد تقدم أن قوله تعالى: و ربائبكم اللاتي في حجوركم الآية، لا تخلو عن إشارة
إلى هذه الحكمة، و يمكن أن تكون الإشارة إليه بقوله تعالى في آخر آيات التحريم:
يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفا: "النساء: 28" فإن تحريم هذه
الأصناف الأربعة عشر من الله سبحانه تحريما باتا يرفع عن كاهل الإنسان ثقل
الصبر على هواهن و الميل إليهن و النيل منهن على إمكان من الأمر، و قد خلق
الإنسان ضعيفا في قبال الميول النفسانية، و الدواعي الشهوانية، و قد قال تعالى:
إن كيدكن عظيم: "يوسف: 28" فإن من أمر الصبر أن يعيش الإنسان مع واحدة أو أكثر
من النساء الأجنبيات، و يصاحبهن في الخلوة و الجلوة، و يتصل بهن ليلا و نهارا و
يمتلىء سمعه و بصره من لطيف إشاراتهن و حلو حركاتهن حينا بعد حين ثم يصبر على
ما يوسوسه نفسه في أمرهن و لا يجيبها في ما تتوق إليه، و الحاجة إحدى الحاجتين
الغذاء و النكاح، و ما سواهما فضل يعود إليهما، و كأنه هو الذي أشار إليه (صلى
الله عليه وآله وسلم) بقوله: "من تزوج أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف
الآخر".
4 سورة النساء - 29 - 30
يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكلُوا أَمْوَلَكُم بَيْنَكم بِالْبَطِلِ
إِلا أَن تَكُونَ تجَرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنفُسكُمْ
إِنّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِك عُدْوَناً وَ
ظلْماً فَسوْف نُصلِيهِ نَاراً وَ كانَ ذَلِك عَلى اللّهِ يَسِيراً (30)
بيان
في الآية شبه اتصال بما سبقتها حيث إنها تتضمن النهي عن أكل المال بالباطل و
كانت الآيات السابقة متضمنة للنهي عن أكل مهور النساء بالعضل و التعدي ففي
الآية انتقال من الخصوص إلى العموم.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم" إلى قوله: "منكم" الأكل
معروف و هو إنفاد ما يمكن أن يتغذى به بالتقامه و بلعه مثلا، و لما فيه من معنى
التسلط و الإنفاد يقال: أكلت النار الحطب شبه فيه إعدام النار الحطب بإحراقه
بإنفاد الأكل الغذاء بالتناول و البلع، و يقال أيضا: أكل فلان المال أي تصرف
فيه بالتسلط عليه، و ذلك بعناية أن العمدة في تصرف الإنسان في الأشياء هو
التغذي بها لأنه أشد ما يحتاج إليه الإنسان في بقائه و أمسه منه، و لذلك سمي
التصرف أكلا لكن لا كل تصرف بل التصرف عن تسلط يقطع تسلط الغير على المال
بالتملك و نحوه كأنه ينفده ببسط سلطته عليه و التصرف فيه كما ينفد الأكل الغذاء
بالأكل.
و الباطل من الأفعال ما لا يشتمل على غرض صحيح عقلائي، و التجارة هي التصرف في
رأس المال طلبا للربح على ما ذكره الراغب في مفرداته قال: و ليس في كلامهم تاء
بعدها جيم غير هذا اللفظ انتهى، فتنطبق على المعاملة بالبيع و الشرى.
و في تقييد قوله: "لا تأكلوا أموالكم" بقوله: "بينكم" الدال على نوع تجمع منهم
على المال و وقوعه في وسطهم إشعار أو دلالة بكون الأكل المنهي عنه بنحو إدارته
فيما بينهم و نقله من واحد إلى آخر بالتعاور و التداول، فتفيد الجملة أعني
قوله: لا تأكلوا أموالكم بينكم، بعد تقييدها بقوله: بالباطل النهي عن المعاملات
الناقلة التي لا تسوق المجتمع إلى سعادته و نجاحه بل تضرها و تجرها إلى الفساد
و الهلاك، و هي المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا و القمار و البيوع
الغررية كالبيع بالحصاة و النواة و ما أشبه ذلك.
و على هذا فالاستثناء الواقع في قوله: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم، استثناء
منقطع جيء به لدفع الدخل فإنه لما نهى عن أكل المال بالباطل - و نوع المعاملات
الدائرة في المجتمع الفاسد التي يتحقق بها النقل و الانتقال المالي كالربويات و
الغرريات و القمار و أضرابها باطلة بنظر الشرع - كان من الجائز أن يتوهم أن ذلك
يوجب انهدام أركان المجتمع و تلاشي أجزائها و فيه هلاك الناس فأجيب عن ذلك بذكر
نوع معاملة في وسعها أن تنظم شتات المجتمع، و تقيم صلبه، و تحفظه على استقامته،
و هي التجارة عن تراض و معاملة صحيحة رافعة لحاجة المجتمع، و ذلك نظير قوله
تعالى: يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: "الشعراء: 89"
فإنه لما نفي النفع عن المال و البنين يوم القيامة أمكن أن يتوهم أن لا نجاح
يومئذ و لا فلاح فإن معظم ما ينتفع به الإنسان إنما هو المال و البنون فإذا
سقطا عن التأثير لم يبق إلا اليأس و الخيبة فأجيب أن هناك أمرا آخر نافعا كل
النفع و إن لم يكن من جنس المال و البنين و هو القلب السليم.
و هذا الذي ذكرناه من انقطاع الاستثناء هو الأوفق بسياق الآية و كون قوله:
بالباطل قيدا أصليا في الكلام نظير قوله تعالى: و لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس الآية: "البقرة:
188" و على هذا لا تخصص الآية بسائر المعاملات الصحيحة و الأمور المشروعة غير
التجارة مما يوجب التملك و يبيح التصرف في المال كالهبة و الصلح و الجعالة و
كالأمهار و الإرث و نحوها.
و ربما يقال: إن الاستثناء متصل و قوله: بالباطل قيد توضيحي جيء به لبيان حال
المستثنى منه بعد خروج المستثنى و تعلق النهي، و التقدير: لا تأكلوا أموالكم
بينكم إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فإنكم إن أكلتموها من غير طريق التجارة
كان أكلا بالباطل منهيا عنه كقولك: لا تضرب اليتيم ظلما إلا تأديبا، و هذا
النحو من الاستعمال و إن كان جائزا معروفا عند أهل اللسان إلا أنك قد عرفت أن
الأوفق لسياق الآية هو انقطاع الاستثناء.
و ربما قيل: إن المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله، و
بالتجارة صرفه فيما يرضاه.
و ربما قيل: إن الآية كانت تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض، و أنه كان
الرجل منهم يتحرج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية حتى نسخ
ذلك بقوله في سورة النور: و لا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم - إلى قوله - أن
تأكلوا جميعا أو أشتاتا: "النور: 61" و قد عرفت أن الآية بمعزل عن الدلالة على
أمثال هذه المعاني.
و من غريب التفسير ما رام به بعضهم توجيه اتصال الاستثناء مع أخذ قوله: بالباطل
قيدا احترازيا فقال ما حاصله: أن المراد بالباطل أكل المال بغير عوض يعادله
فالجملة المستثنى منها تدل على تحريم أخذ المال من الغير بالباطل و من غير عوض
ثم استثنى من ذلك التجارة مع كون غالب مصاديقها غير خالية عن الباطل فإن تقدير
العوض بالقسطاس المستقيم بحيث يعادل المعوض عنه في القيمة حقيقة متعسر جدا لو
لم يكن متعذرا.
فالمراد بالاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر، و ما يكون
سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته و ترويجها بزخرف القول من غير غش
و لا خداع و لا تغرير كما يقع ذلك كثيرا إلى غير ذلك من الأسباب.
و كل ذلك من باطل التجارة أباحته الشريعة مسامحة و تسهيلا لأهلها، و لو لم يجز
ذلك في الدين بالاستثناء لما رغب أحد من أهله في التجارة و اختل نظام المجتمع
الديني.
انتهى ملخصا.
و فساده ظاهر مما قدمناه فإن الباطل على ما يعرفه أهل اللغة ما لا يترتب عليه
أثره المطلوب منه، و أثر البيع و التجارة تبدل المالين و تغير محل الملكين لرفع
حاجة كل واحد من البيعين إلى مال الآخر بأن يحصل كل منهما على ما يرغب فيه و
ينال إربه بالمعادلة، و ذلك كما يحصل بالتعادل في القيمتين كذلك يحصل بمقابلة
القليل الكثير إذا انضم إلى القليل شيء من رغبة الطالب أو رهبته أو مصلحة أخرى
يعادل بانضمامها الكثير، و الكاشف عن جميع ذلك وقوع الرضا من الطرفين، و مع
وقوع التراضي لا تعد المبادلة باطلة البتة.
على أن المستأنس بأسلوب القرآن الكريم في بياناته لا يرتاب في أن من المحال أن
يعد القرآن أمرا من الأمور باطلا ثم يأمر به و يهدي إليه و قد قال تعالى في
وصفه: يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم: - الأحقاف: 30، و كيف يهدي إلى الحق ما
يهدي إلى الباطل؟.
على أن لازم هذا التوجيه أن يهتدي الإنسان اهتداء حقا فطريا إلى حاجته إلى
المبادلة في الأموال ثم يهتدي اهتداء حقا فطريا إلى المبادلة بالموازنة ثم لا
يكون ما يهتدي إليه وافيا لرفع حاجته حقا حتى ينضم إليه شيء من الباطل و كيف
يمكن أن تهتدي الفطرة إلى أمر لا يكفي في رفع حاجتها، و لا يفي إلا ببعض شأنها؟
و كيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى باطل و هل الفارق بين الحق و الباطل في الأعمال
إلا اهتداء الفطرة و عدم اهتدائها؟ فلا مفر لمن يجعل الاستثناء متصلا من أن
يجعل قوله: بالباطل قيدا توضيحيا.
و أعجب من هذا التوجيه ما نقل عن بعضهم أن النكتة في هذا الاستثناء المنقطع هي
الإشارة إلى أن جميع ما في الدنيا من التجارة و ما في معناها من قبيل الباطل
لأنه لا ثبات له و لا بقاء فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار
الآخرة التي هي خير و أبقى انتهى.
و هو خطأ فإنه على تقدير صحته نكتة للاستثناء المتصل لا الاستثناء المنقطع، على
أن هذه المعنويات من الحقائق إنما يصح أن يذكر لمثل قوله تعالى: "و ما هذه
الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان: - العنكبوت: 64" و
قوله تعالى: ما عندكم ينفد و ما عند الله باق: - النحل: 96، و قوله تعالى: قل
ما عند الله خير من اللهو و من التجارة: - الجمعة: 11، و أما ما نحن فيه فجريان
هذه النكتة توجب تشريع الباطل، و يجل القرآن عن الترخيص في الباطل بأي وجه كان.
قوله تعالى: "و لا تقتلوا أنفسكم" ظاهر الجملة أنها نهي عن قتل الإنسان نفسه
لكن مقارنتها قوله: لا تأكلوا أموالكم بينكم، حيث إن ظاهره أخذ مجموع المؤمنين
كنفس واحدة لها مال يجب أن تأكلها من غير طريق الباطل ربما أشعرت أو دلت على أن
المراد بالأنفس جميع نفوس المجتمع الديني المأخوذة كنفس واحدة نفس كل بعض هي
نفس الآخر فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الإنسان نفسه و نفس غيره أيضا نفسه فلو
قتل نفسه أو غيره فقد قتل نفسه، و بهذه العناية تكون الجملة أعني قوله: و لا
تقتلوا أنفسكم مطلقة تشمل الانتحار - الذي هو قتل الإنسان نفسه - و قتل الإنسان
غيره من المؤمنين.
و ربما أمكن أن يستفاد من ذيل الآية أعني قوله: إن الله كان بكم رحيما أن
المراد من قتل النفس المنهي عنه ما يشمل إلقاء الإنسان نفسه في مخاطرة القتل و
التسبيب إلى هلاك نفسه المؤدي إلى قتله، و ذلك أن تعليل النهي عن قتل النفس
بالرحمة لهذا المعنى أوفق و أنسب كما لا يخفى، و يزيد على هذا معنى الآية عموما
و اتساعا، و هذه الملاءمة بعينها تؤيد كون قوله: إن الله كان بكم رحيما تعليلا
لقوله: و لا تقتلوا أنفسكم فقط.
قوله تعالى: "و من يفعل ذلك عدوانا و ظلما" الآية العدوان مطلق التجاوز سواء
كان جائزا ممدوحا أو محظورا مذموما قال تعالى: فلا عدوان إلا على الظالمين: -
البقرة: 193، و قال تعالى: "و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على
الإثم و العدوان: - المائدة: 2، فهو أعم موردا من الظلم، و معناه في الآية تعدي
الحدود التي حدها الله تعالى، و الإصلاء بالنار الإحراق بها.
و في الآية من حيث اشتمالها على قوله: "ذلك" التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلويحا إلى أن من فعل ذلك منهم - و هم نفس
واحدة و النفس الواحدة لا ينبغي لها أن تريد هلاك نفسها - فليس من المؤمنين،
فلا يخاطب في مجازاته المؤمنون، و إنما يخاطب فيها الرسول المخاطب في شأن
المؤمنين و غيرهم، و لذلك بني الكلام على العموم فقيل: و من يفعل ذلك عدوانا و
ظلما فسوف نصليه، و لم يقل: و من يفعل ذلك منكم.
و ذيل الآية أعني قوله.
و كان ذلك على الله يسيرا يؤيد أن يكون المشار إليه بقوله: ذلك هو النهي عن قتل
الأنفس بناء على كون قوله: إن الله كان بكم رحيما ناظرا إلى تعليل النهي عن
القتل فقط لما من المناسبة التامة بين الذيلين، فإن الظاهر أن المعنى هو أن
الله تعالى إنما ينهاكم عن قتل أنفسكم رحمة بكم و رأفة، و إلا فمجازاته لمن قتل
النفس بإصلائه النار عليه يسير غير عسير، و مع ذلك فعود التعليل و كذا التهديد
إلى مجموع الفقرتين في الآية الأولى أعني النهي عن أكل المال بالباطل و النهي
عن قتل النفس لا ضير فيه.
و أما قول بعضهم: إن التعليل و التهديد أو التهديد فقط راجع إلى جميع ما ذكر من
المناهي من أول السورة إلى هذه الآية، و كذا قول آخرين: إن ذلك إشارة إلى جميع
ما ذكر من المناهي من قوله: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء
كرها الآية: آية 19 من السورة إلى هنا لعدم ذكر جزاء للمناهي الواقعة في هذه
الآيات فمما لا دليل على اعتباره.
و تغيير السياق في قوله: فسوف نصليه نارا بالخصوص عن سياق الغيبة الواقع في
قوله: إن الله كان بكم رحيما إلى سياق التكلم تابع للالتفات الواقع في قوله:
"ذلك" عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول، ثم الرجوع إلى الغيبة في قوله: و كان
ذلك على الله يسيرا إشعار بالتعليل، أي و ذلك عليه يسير لأنه هو الله عز اسمه.
بحث روايي
في المجمع، في قوله تعالى: بالباطل قولان: أحدهما أنه الربا و القمار و البخس و
الظلم، قال: و هو المروي عن الباقر (عليه السلام).
و في نهج البيان، عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): أنه القمار و السحت و
الربا و الأيمان.
و في تفسير العياشي، عن أسباط بن سالم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)
فجاءه رجل فقال له: أخبرني عن قول الله: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل، قال: عنى بذلك القمار، و أما قوله: و لا تقتلوا أنفسكم عنى بذلك
الرجل من المسلمين يشد على المشركين وحده يجيء في منازلهم فيقتل فنهاهم الله عن
ذلك أقول: الآية عامة في الأكل بالباطل، و ذكر القمار و ما أشبهه من قبيل عد
المصاديق و كذا تفسير قتل النفس بما ذكر في الرواية تعميم للآية لا تخصيص بما
ذكر.
و فيه، عن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين قال: حدثني الحسن بن زيد
عن أبيه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ صاحبها؟ و كيف يغتسل إذا
أجنب؟ قال: يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة و الوضوء، قلت: فإن كان في برد
يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما.
و في الفقيه، قال الصادق (عليه السلام): من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم
خالدا فيها، قال الله تعالى: و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما - و من
يفعل ذلك عدوانا و ظلما - فسوف نصليه نارا و كان ذلك على الله يسيرا.
أقول: و الروايات كما ترى تعمم معنى قوله: و لا تقتلوا أنفسكم الآية كما
استفدناه فيما تقدم، و في معنى ما تقدم روايات أخر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن ماجة و ابن المنذر عن ابن سعيد قال: قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): إنما البيع عن تراض.
و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باع
رجلا ثم قال له: اختر فقال: قد اخترت فقال: هكذا البيع.
و فيه، أخرج البخاري و الترمذي و النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما للآخر:
اختر.
أقول: قوله: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا مروي من طرق الشيعة أيضا، و قوله: أو
يقول أحدهما للآخر: اختر لتحقيق معنى التراضي
4 سورة النساء - 31
إِن تجْتَنِبُوا كبَائرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سيِّئَاتِكُمْ
وَ نُدْخِلْكم مّدْخَلاً كَرِيماً (31)
بيان
الآية غير عادمة الارتباط بما قبلها فإن فيما قبلها ذكرا من المعاصي الكبيرة.
قوله تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" - إلى قوله: - "سيئاتكم" الاجتناب
أصله من الجنب و هو الجارحة بني منها الفعل على الاستعارة، فإن الإنسان إذا
أراد شيئا استقبله بوجهه و مقاديم بدنه، و إذا أعرض عنه و تركه وليه بجنبه
فاجتنبه، فالاجتناب هو الترك، قال الراغب: و هو أبلغ من الترك، انتهى، و ليس
إلا لأنه مبني على الاستعارة، و من هذا الباب الجانب و الجنيبة و الأجنبي.
و التكفير من الكفر و هو الستر و قد شاع استعماله في القرآن في العفو عن
السيئات و الكبائر جمع كبيرة وصف وضع موضع الموصوف كالمعاصي و نحوها، و الكبر
معنى إضافي لا يتحقق إلا بالقياس إلى صغر، و من هنا كان المستفاد من قوله:
كبائر ما تنهون عنه أن هناك من المعاصي المنهي عنها ما هي صغيرة، فيتبين من
الآية: أولا: أن المعاصي قسمان: صغيرة و كبيرة، و ثانيا: أن السيئات في الآية
هي الصغائر لما فيها من دلالة المقابلة على ذلك.
نعم العصيان و التمرد كيفما كان كبير و أمر عظيم بالنظر إلى ضعف المخلوق
المربوب في جنب الله عظم سلطانه غير أن القياس في هذا الاعتبار إنما هو بين
الإنسان و ربه لا بين معصية و معصية فلا منافاة بين كون كل معصية كبيرة باعتبار
و بين كون بعض المعاصي صغيرة باعتبار آخر.
و كبر المعصية إنما يتحقق بأهمية النهي عنها إذا قيس إلى النهي المتعلق بغيرها
و لا يخلو قوله تعالى: ما تنهون عنه، من إشعار أو دلالة على ذلك، و الدليل على
أهمية النهي تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النار و نحو ذلك.
قوله تعالى: "و ندخلكم مدخلا كريما" المدخل بضم الميم و فتح الخاء اسم مكان و
المراد منه الجنة أو مقام القرب من الله سبحانه و إن كان مرجعهما واحدا.
كلام في الكبائر و الصغائر و تكفير السيئات
لا ريب في دلالة قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم،
الآية على انقسام المعاصي إلى كبائر و صغائر سميت في الآية بالسيئات، و نظيرها
في الدلالة قوله تعالى: و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا
ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها الآية: "الكهف:
49"، إذ إشفاقهم مما في الكتاب يدل على أن المراد بالصغيرة و الكبيرة صغائر
الذنوب و كبائرها.
و أما السيئة فهي بحسب ما تعطيه مادة اللفظ و هيئته هي الحادثة أو العمل الذي
يحمل المساءة، و لذلك ربما يطلق لفظها على الأمور و المصائب التي يسوء الإنسان
وقوعها كقوله تعالى: و ما أصابك من سيئة فمن نفسك الآية: "النساء: 79"، و قوله
تعالى: و يستعجلونك بالسيئة الآية: "الرعد: 6"، و ربما أطلق على نتائج المعاصي
و آثارها الخارجية الدنيوية و الأخروية كقوله تعالى: فأصابهم سيئات ما عملوا،
الآية: "النحل: 34"، و قوله تعالى: سيصيبهم سيئات ما كسبوا: "الزمر: 51"، و هذا
بحسب الحقيقة يرجع إلى المعنى السابق، و ربما أطلق على نفس المعصية كقوله
تعالى: و جزاء سيئة سيئة مثلها الآية: "الشورى: 40"، و السيئة بمعنى المعصية
ربما أطلقت على مطلق المعاصي أعم من الصغائر و الكبائر كقوله تعالى: أم حسب
الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواء محياهم و
مماتهم ساء ما يحكمون: "الجاثية: 21"، إلى غير ذلك من الآيات.
و ربما أطلقت على الصغائر خاصة كقوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم الآية، إذ مع فرض اجتناب الكبائر لا تبقى للسيئات إلا
الصغائر.
و بالجملة دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى الصغائر و الكبائر بحسب القياس
الدائر بين المعاصي أنفسها مما لا ينبغي أن يرتاب فيه.
و كذا لا ريب أن الآية في مقام الامتنان، و هي تقرع أسماع المؤمنين بعناية
لطيفة إلهية أنهم إن اجتنبوا البعض من المعاصي كفر عنهم البعض الآخر، فليس
إغراء على ارتكاب المعاصي الصغار، فإن ذلك لا معنى له لأن الآية تدعو إلى ترك
الكبائر بلا شك، و ارتكاب الصغيرة من جهة أنها صغيرة لا يعبأ بها و يتهاون في
أمرها يعود مصداقا من مصاديق الطغيان و الاستهانة بأمر الله سبحانه، و هذا من
أكبر الكبائر بل الآية تعد تكفير السيئات من جهة أنها سيئات لا يخلو الإنسان
المخلوق على الضعف المبني على الجهالة من ارتكابها بغلبة الجهل و الهوى عليه،
فمساق هذه الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة التي تعد غفران الذنوب كقوله
تعالى: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله
يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم الآية: "الزمر: 54"
فكما لا يصح أن يقال هناك: أن الآية تغري إلى المعصية بفتح باب التوبة و تطييب
النفوس بذلك فكذا هاهنا بل أمثال هذه الخطابات إحياء للقلوب الآيسة بالرجاء.
و من هنا يعلم أن الآية لا تمنع عن معرفة الكبائر بمعنى أن يكون المراد بها
اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر و الابتلاء بارتكابها فإن ذلك معنى
بعيد عن مساق الآية بل المستفاد من الآية أن المخاطبين هم يعرفون الكبائر و
يميزون هؤلاء الموبقات من النهي المتعلق بها، و لا أقل من أن يقال: إن الآية
تدعو إلى معرفة الكبائر حتى يهتم المكلفون في الاتقاء منها كل الاهتمام من غير
تهاون في جنب غيرها فإن ذلك التهاون كما عرفت إحدى الكبائر الموبقة.
و ذلك أن الإنسان إذا عرف الكبائر و ميزها و شخصها عرف أنها حرمات لا يغمض من
هتكها بالتكفير إلا عن ندامة قاطعة و توبة نصوح و نفس هذا العلم مما يوجب تنبه
الإنسان و انصرافه عن ارتكابها.
و أما الشفاعة فإنها و إن كانت حقة إلا أنك قد عرفت فيما تقدم من مباحثها أنها
لا تنفع من استهان بأمر الله سبحانه و استهزأ بالتوبة و الندامة.
و اقتراف المعصية بالاعتماد على الشفاعة تساهل و تهاون في أمر الله سبحانه و هو
من الكبائر الموبقة القاطعة لسبيل الشفاعة قطعا.
و من هنا يتضح معنى ما تقدم أن كبر المعصية إنما يعلم من شدة النهي الواقع عنها
بإصرار أو تهديد بالعذاب كما تقدم.
و مما تقدم من الكلام يظهر حال سائر ما قيل في معنى الكبائر، و هي كثيرة: منها
ما قيل: إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه في الآخرة عقابا و وضع له في الدنيا
حدا.
و فيه أن الإصرار على الصغيرة كبيرة لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا
كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار.
رواه الفريقان مع عدم وضع حد فيه شرعا، و كذا ولاية الكفار و أكل الربا مع
أنهما من كبائر ما نهي عنه في القرآن.
و منها قول بعضهم: إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه بالنار في القرآن، و ربما
أضاف إليه بعضهم السنة.
و فيه أنه لا دليل على انعكاسه كليا.
و منها قول بعضهم: إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين و عدم الاكتراث به قال به
إمام الحرمين و استحسنه الرازي.
و فيه أنه عنوان الطغيان و الاعتداء و هي إحدى الكبائر و هناك ذنوب كبيرة موبقة
و إن لم تقترف بهذا العنوان كأكل مال اليتيم و زنا المحارم و قتل النفس المؤمنة
من غير حق.
و منها قول بعضهم: إن الكبيرة ما حرمت لنفسها لا لعارض، و هذا كالمقابل للقول
السابق.
و فيه أن الطغيان و الاستهانة و نحو ذلك من أكبر الكبائر و هي عناوين طارية، و
بطروها على معصية و عروضها لها تصير من الكبائر الموبقة.
و منها قول بعضهم: إن الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أول السورة
إلى تمام ثلاثين آية، و كان المراد أن قوله: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
الآية إشارة إلى المعاصي المبينة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم و أكل
مال اليتيم و الزنا و نحو ذلك.
و فيه أنه ينافي إطلاق الآية.
و منها قول بعضهم و ينسب إلى ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، و لعله
لكون مخالفته تعالى أمرا عظيما، و فيه أنك قد عرفت أن انقسام المعصية إلى
الكبيرة و الصغيرة إنما هو بقياس بعضها إلى بعض، و هذا الذي ذكره مبني على قياس
حال الإنسان في مخالفته - و هو عبد - إلى الله سبحانه - و هو رب كل شيء - و من
الممكن أن يميل إلى هذا القول بعضهم بتوهم كون الإضافة في قوله تعالى: كبائر ما
تنهون عنه، بيانية لكنه فاسد لرجوع معنى الآية حينئذ إلى قولنا: إن تجتنبوا
المعاصي جميعا نكفر عنكم سيئاتكم و لا سيئة مع اجتناب المعاصي، و إن أريد تكفير
سيئات المؤمنين قبل نزول الآية اختصت الآية بأشخاص من حضر عند النزول، و هو
خلاف ظاهر الآية من العموم، و لو عمت الآية عاد المعنى إلى أنكم إن عزمتم على
اجتناب جميع المعاصي و اجتنبتموها كفرنا عنكم سيئاتكم السابقة عليه، و هذا أمر
نادر شاذ المصداق أو عديمه لا يحمل عليه عموم الآية لأن نوع الإنسان لا يخلو عن
السيئة و اللمم إلا من عصمه الله بعصمته فافهم ذلك.
و منها: أن الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه، و الكبيرة ما يكبر عقابه عن
ثوابه، نسب إلى المعتزلة و فيه أن ذلك أمر لا يدل عليه هذه الآية و لا غيرها من
آيات القرآن، نعم من الثابت بالقرآن وجود الحبط في بعض المعاصي في الجملة لا في
جميعها سواء كان على وفق ما ذكروه أو لا على وفقه، و قد مر البحث عن معنى الحبط
مستوفى في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
و قالوا أيضا: يجب تكفير السيئات و الصغائر عند اجتناب الكبائر و لا تحسن
المؤاخذة عليها، و هذا أيضا أمر لا تدل الآية عليه البتة.
و منها: أن الكبر و الصغر اعتباران يعرضان لكل معصية، فالمعصية التي يقترفها
الإنسان استهانة بأمر الربوبية و استهزاء أو عدم مبالاة به كبيرة، و هي بعينها
لو اقترفت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط
اجتناب الكبائر.
و لما كان هذه العناوين الطارية المذكورة يجمعها العناد و الاعتداء على الله
أمكن أن يلخص الكلام بأن كل واحدة من المعاصي المنهي عنها في الدين إن أتي بها
عنادا و اعتداء فهي كبيرة و إلا فهي صغيرة مغفورة بشرط اجتناب العناد و
الاعتداء.
قال بعضهم: إن في كل سيئة و في كل نهي خاطب الله به كبيرة أو كبائر و صغيرة أو
صغائر، و أكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي و الأمر و احترام
التكليف، و منه الإصرار فإن المصر على الذنب لا يكون محترما و لا مباليا بالأمر
و النهي فالله تعالى يقول: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه أي الكبائر التي
يتضمنها كل شيء تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم أي نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم
عليه.
و فيه: أن استلزام اقتران كل معصية مقترفة بما يوجب كونها طغيانا و استعلاء على
الله سبحانه صيرورتها معصية كبيرة لا يوجب كون الكبر دائرا مدار هذا الاعتبار
حتى لا يكون بعض المعاصي كبيرة في نفسها مع عدم عروض شيء من هذه العناوين عليه،
فإن زنا المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية و قتل النفس المحرمة ظلما
بالنسبة إلى الضرب كبيرتان عرض لهما عارض من العناوين أم لم يعرض، نعم كلما عرض
شيء من هذه العناوين المهلكة اشتد النهي بحسبه و كبرت المعصية و عظم الذنب فما
الزنا عن هوى النفس و غلبة الشهوة و الجهالة كالزنا بالاستباحة.
على أن هذا المعنى أن تجتنبوا في كل معصية كبائرها نكفر عنكم صغائرها معنى رديء
لا يحتمله قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية
بحسب ما لها من السياق على ما لا يخفى لكل من استأنس قليل استيناس بأساليب
الكلام.
و منها: ما يتراءى من ظاهر كلام الغزالي على ما نقل عنه من الجمع بين الأقوال و
هو أن بين المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كبيرة و صغيرة كزنا المحصنة من المحارم
بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية و إن كانت بعض المعاصي يكبر بانطباق بعض
العناوين المهلكة الموبقة عليه كالإصرار على الصغائر، فبذلك تصير المعصية كبيرة
بعد ما لم تكن.
فبهذا يظهر أن المعاصي تنقسم إلى صغيرة و كبيرة بحسب قياس البعض إلى البعض
بالنظر إلى نفس العمل و جرم الفعل، ثم هي مع ذلك تنقسم إلى القسمين بالنظر إلى
أثر الذنب و وباله في إحباطه للثواب بغلبته عليه أو نقصه منه إذا لم يغلبه
فيزول الذنب بزوال مقدار يعادله من الثواب فإن لكل طاعة تأثيرا حسنا في النفس
يوجب رفعه مقامها و تخلصها من قذارة البعد و ظلمة الجهل كما أن لكل معصية
تأثيرا سيئا فيها يوجب خلاف ذلك من انحطاط محلها و سقوطها في هاوية البعد و
ظلمة الجهل.
فإذا اقترف الإنسان شيئا من المعاصي و قد هيأ لنفسه شيئا من النور و الصفاء
بالطاعة فلا بد من أن يتصادم ظلمة المعصية و نور الطاعة فإن غلبت ظلمة المعصية
و وبال الذنب نور الطاعة و ظهرت عليه أحبطته، و هذه هي المعصية الكبيرة، و إن
غلبت الطاعة بما لها من النور و الصفاء أزالت ظلمة الجهل و قذارة الذنب ببطلان
مقدار يعادل ظلمة الذنب من نور الطاعة، و يبقى الباقي من نورها و صفائها تتنور
و تصفو به النفس، و هذا معنى التحابط، و هو بعينه معنى غفران الذنوب الصغيرة و
تكفير السيئات، و هذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة.
و أما تكافؤ السيئة و الحسنة بما لهما من العقاب و الثواب فهو و إن كان مما
يحتمله العقل في بادي النظر، و لازمه صحة فرض إنسان أعزل لا طاعة له و لا
معصية، و لا نور لنفسه و لا ظلمة لكن يبطله قوله تعالى: "فريق في الجنة و فريق
في السعير".
انتهى ملخصا.
و قد رده الرازي بأنه يبتنى على أصول المعتزلة الباطلة عندنا، و شدد النكير على
الرازي في المنار قائلا: و إذا كان هذا يعني انقسام المعصية إلى الصغيرة و
الكبيرة في نفسها صريحا في القرآن فهل يعقل أن يصح عن ابن عباس إنكاره؟ لا بل
روى عبد الرزاق عنه أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب، و
روى ابن جبير: أنه قال: هي إلى السبعمائة أقرب، و إنما عزي القول بإنكار تقسيم
الذنوب إلى صغائر و كبائر إلى الأشعرية.
و كأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة و لو بالتأويل كما
يعلم من كلام ابن فورك فإنه صحح كلام الأشعرية و قال: معاصي الله كلها كبائر، و
إنما يقال لبعضها: صغيرة و كبيرة بإضافة، و قالت المعتزلة: الذنوب على ضربين:
صغائر و كبائر، و هذا ليس بصحيح انتهى، و أول الآية تأويلا بعيدا.
و هل يئول الآيات و الأحاديث لأجل أن يخالف المعتزلة و لو فيما أصابوا فيه؟ لا
يبعد ذلك فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الأزكياء عن إفادة
أنفسهم و أمتهم بفطنتهم، و جعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن
حقيقة الدين، و سترى ما ينقله الرازي عن الغزالي، و يرده لأجل ذلك، و أين
الرازي من الغزالي، و أين معاوية من علي.
انتهى.
و يشير في آخر كلامه إلى ما نقلناه عن الغزالي و الرازي.
و كيف كان فما ذكره الغزالي و إن كان وجيها في الجملة لكنه لا يخلو عن خلل من
جهات.
الأولى: أن ما ذكره من انقسام المعاصي إلى الصغائر و الكبائر بحسب تحابط الثواب
و العقاب لا ينطبق دائما على ما ذكره من الانقسام بحسب نفس المعاصي و متون
الذنوب في أول كلامه فإن غالب المعاصي الكبيرة المسلمة في نفسها يمكن أن يصادف
في فاعله ثوابا كبيرا يغلب عليها و كذا يمكن أن تفرض معصية صغيرة تصادف من
الثواب الباقي في النفس ما هو أصغر منها و أنقص، و بذلك يختلف الصغيرة و
الكبيرة بحسب التقسيمين فمن المعاصي ما هي صغيرة على التقسيم الأول كبيرة بحسب
التقسيم الثاني، و منها ما هي بالعكس فلا تطابق كليا بين التقسيمين.
و الثانية: أن التصادم بين آثار المعاصي و الطاعات و إن كان ثابتا في الجملة
لكنه مما لم يثبت كليا من طريق الظواهر الدينية من الكتاب و السنة أبدا.
و أي دليل من طريق الكتاب و السنة يدل على تحقق التزايل و التحابط بنحو الكلية
بين عقاب المعاصي و ثواب الطاعات؟.
و الذي أجرى تفصيل البحث فيه من الحالات الشريفة النورية النفسانية و الحالات
الأخرى الخسيسة الظلمانية كذلك أيضا، فإنها و إن كانت تتصادم بحسب الغالب و
تتزايل و تتفانى لكن ذلك ليس على وجه كلي دائمي بل ربما يثبت كل من الفضيلة و
الرذيلة في مقامها و تتصالح على البقاء، و تقتسم النفس كأن شيئا منها للفضيلة
خاصة، و شيئا منها للرذيلة خاصة، فترى الرجل المسلم مثلا يأكل الربا و لا يلوي
عن ابتلاع أموال الناس، و لا يصغي إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم، و
يجتهد في الصلوات المفروضة، و يبالغ في خضوعه و خشوعه، أو أنه لا يبالي في
إهراق الدماء و هتك الأعراض و الإفساد في الأرض و يخلص لله أي إخلاص في أمور من
الطاعات و القربات، و هذا هو الذي يسميه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصية بعد
تعددها و تنازعها، و هو أن تتنازع الميول المختلفة النفسانية و تثور بعضها على
بعض بالتزاحم و التعارض، و لا يزال الإنسان في تعب داخلي من ذلك حتى تستقر
الملكتان فتزدوجان و تتصالحان و يغيب كل عند ظهور الأخرى و انتهاضها و إمساكها
على فريستها كما عرفت من المثال المذكور آنفا.
و الثالثة: أن لازم ما ذكره أن يلغو اعتبار الاجتناب في تكفير السيئات فإن من
لا يأتي بالكبائر لا لأنه يكف نفسه عنها مع القدرة و التمايل النفساني عليها بل
لعدم قدرته عليها و عدم استطاعته منها فإن سيئاته تنحبط بالطاعات لغلبة ثوابه
على الفرض على ما له من العقاب و هو تكفير السيئات فلا يبقى لاعتبار اجتناب
الكبائر وجه مرضي.
قال الغزالي في الإحياء: اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع
القدرة و الإرادة كمن يتمكن من امرأة و من مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر
على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من
إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره، فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه
إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا و لكن امتنع لخوف أمر الآخرة فهذا لا يصلح
للتكفير أصلا، و كل من لا يشتهي الخمر بطبعه و لو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا
يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي و الأوتار نعم من يشتهي
الخمر و سماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر و يطلقها في السماع
فمجاهدته النفس بالكف ربما يمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية
السماع فكل هذه أحكام أخروية، انتهى.
و قال أيضا في محل آخر: كل ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلا نور يرتفع
إليها بحسنة تضادها، و المتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة
بحسنة من جنسها لكي تضادها فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة و البرودة و
هذا التدريج و التحقيق من التلطف في طريقة المحو، فالرجاء فيه أصدق و الثقة به
أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات و إن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو،
انتهى كلامه.
و كلامه كما ترى يدل على أن المحبط للسيئات هو الاجتناب الذي هو الكف مع أنه
غير لازم على هذا القول.
و الكلام الجامع الذي يمكن أن يقال في المقام مستظهرا بالآيات الكريمة هو أن
الحسنات و السيئات متحابطة في الجملة غير أن تأثير كل سيئة في كل حسنة و بالعكس
بنحو النقص منه أو إفنائه مما لا دليل عليه، و يدل عليه اعتبار حال الأخلاق و
الحالات النفسانية التي هي نعم العون في فهم هذه الحقائق القرآنية في باب
الثواب و العقاب.
و أما الكبائر و الصغائر من المعاصي فظاهر الآية كما عرفت هو أن المعاصي بقياس
بعضها إلى بعض كقتل النفس المحترمة ظلما بالقياس إلى النظر إلى الأجنبية و شرب
الخمر بالاستحلال بالقياس إلى شربها بهوى النفس بعضها كبيرة و بعضها صغيرة من
غير ظهور ارتباط ذلك بمسألة الإحباط و التكفير بالكلية.
ثم إن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يعد لمن اجتنب الكبائر أن يكفر عنه سيئاته
جميعا ما تقدم منها و ما تأخر على ما هو ظاهر إطلاق الآية، و من المعلوم أن
الظاهر من هذا الاجتناب أن يأتي كل مؤمن بما يمكنه من اجتناب الكبائر و ما يصدق
في مورده الاجتناب من الكبائر لا أن يجتنب كل كبيرة بالكف عنها فإن الملتفت
أدنى التفات إلى سلسلة الكبائر لا يرتاب في أنه لا يتحقق في الوجود من يميل إلى
جميعها و يقدر عليها عامة أو يندر ندرة ملحقة بالعدم، و تنزيل الآية هذه
المنزلة لا يرتضيها الطبع المستقيم.
فالمراد أن من اجتنب ما يقدر عليه من الكبائر و تتوق نفسه إليه منها و هي
الكبائر التي يمكنه أن يجتنبها كفر الله سيئاته سواء جانسها أو لم يجانسها.
و أما إن هذا التكفير للاجتناب بأن يكون الاجتناب في نفسه طاعة مكفرة للسيئات
كما أن التوبة كذلك أو أن الإنسان إذا لم يقترف الكبائر خلي ما بينه و بين
الصغائر و الطاعات الحسنة فالحسنات يكفرن سيئاته، و قد قال الله تعالى: إن
الحسنات يذهبن السيئات: "هود: 114"، ظاهر الآية إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم الآية أن للاجتناب دخلا في التكفير، و إلا كان الأنسب بيان
أن الطاعات يكفرن السيئات كما في قوله: إن الحسنات الآية، أو إن الله سبحانه
يغفر الصغائر مهما كانت من غير حاجة إلى سرد الكلام جملة شرطية.
و الدليل على كبر المعصية هو شدة النهي الوارد عنها أو الإيعاد عليها بالنار أو
ما يقرب من ذلك سواء كان ذلك في كتاب أو سنة من غير دليل على الحصر.
بحث روايي
في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): الكبائر، التي أوجب الله عليها النار.
و في الفقيه، و تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): في الكبائر قال: كل ما
أوعد الله عليها النار.
و في ثواب الأعمال، عن الصادق (عليه السلام): من اجتنب ما أوعد الله عليه النار
إذا كان مؤمنا كفر الله عنه سيئاته و يدخله مدخلا كريما، و الكبائر السبع
الموجبات: قتل النفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الربا، و التعرب بعد
الهجرة، و قذف المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف.
|