قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
أقول: و الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة في عد الكبائر كثيرة سيمر بك بعضها
و قد عد الشرك بالله فيما نذكر منها إحدى الكبائر السبع إلا في هذه الرواية و
لعله (عليه السلام) أخرجه من بينها لكونه أكبر الكبائر و يشير إليه قوله: إذا
كان مؤمنا.
و في المجمع،: روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر محمد بن علي عن
أبيه علي بن موسى الرضا عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: دخل عمرو بن عبيد
البصري على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، فلما سلم و جلس
تلا هذه الآية: الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش ثم أمسك، فقال أبو عبد
الله: ما أسكتك؟ قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله، قال: نعم يا عمرو أكبر
الكبائر الشرك بالله لقول الله عز و جل: إن الله لا يغفر أن يشرك به، و قال: من
يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار، و بعده اليأس من روح الله
لأن الله يقول: و لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ثم الأمن من مكر
الله لأن الله يقول: و لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، و منها عقوق
الوالدين لأن الله تعالى جعل العاق جبارا شقيا في قوله: و برا بوالدتي و لم
يجعلني جبارا شقيا، و منها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق لأنه يقول: و من
يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية، و قذف المحصنات لأن الله
يقول: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات - لعنوا في الدنيا و الآخرة و
لهم عذاب عظيم، و أكل مال اليتيم لقوله: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما
الآية، و الفرار من الزحف لأن الله يقول: و من يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا
لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير، و
أكل الربا لأن الله يقول: الذين يأكلون الربا لا يقومون - إلا كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس، و يقول: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله، و
السحر لأن الله يقول: و لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، و الزنا
لأن الله يقول: و من يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة - و يخلد
فيه مهانا، و اليمين الغموس لأن الله يقول: إن الذين يشترون بعهد الله و
أيمانهم ثمنا قليلا - أولئك لا خلاق لهم في الآخرة الآية، و الغلول قال الله: و
من يغلل يأت بما غل يوم القيامة، و منع الزكاة المفروضة لأن الله يقول: يوم
يحمى عليها في نار جهنم - فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم الآية، و شهادة
الزور و كتمان الشهادة لأن الله يقول: و من يكتمها فإنه آثم قلبه، و شرب الخمر
لأن الله عدل بها عبادة الأوثان، و ترك الصلاة متعمدا و شيئا مما فرض الله
تعالى لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من ترك الصلاة متعمدا فقد
برىء من ذمة الله و ذمة رسوله، و نقض العهد و قطيعة الرحم لأن الله يقول: أولئك
لهم اللعنة و لهم سوء الدار. قال: فخرج عمرو بن عبيد له صراخ من بكائه و هو
يقول: هلك من قال برأيه، و نازعكم في الفضل و العلم.
أقول: و قد روي من طرق أهل السنة ما يقرب منه عن ابن عباس، و يتبين بالرواية
أمران.
الأول: أن الكبيرة من المعاصي ما اشتد النهي عنها إما بالإصرار و البلوغ في
النهي أو بالإيعاد بالنار، من الكتاب أو السنة كما يظهر من موارد استدلاله
(عليه السلام)، و منه يظهر معنى ما مر في حديث الكافي،: أن الكبيرة ما أوجب
الله عليها النار، و ما مر في حديث الفقيه، و تفسير العياشي،: أن الكبيرة ما
أوعد الله عليها النار، فالمراد بإيجابها و إيعادها أعم من التصريح و التلويح
في كلام الله أو حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أظن أن ما نقل في ذلك عن ابن عباس أيضا كذلك فمراده بالإيعاد بالنار أعم من
التصريح و التلويح في قرآن أو حديث، و يشهد بذلك ما في تفسير الطبري، عن ابن
عباس قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، و يتبين بذلك
أن ما نقل عنه أيضا في تفسير الطبري، و غيره: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ليس
خلافا في معنى الكبيرة و إنما هو تكبير للمعاصي جميعا بقياس حقارة الإنسان إلى
عظمة ربه كما مر.
و الثاني: أن حصر المعاصي الكبيرة في بعض ما تقدم و ما يأتي من الروايات، أو في
ثمانية، أو في تسع كما في بعض الروايات النبوية المروية من طرق السنة، أو في
عشرين كما في هذه الرواية أو في سبعين كما في روايات أخرى كل ذلك باعتبار
اختلاف مراتب الكبر في المعصية كما يدل عليه ما في الرواية من قوله عند تعداد
الكبائر: و أكبر الكبائر الشرك بالله.
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و ابن أبي حاتم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اجتنبوا السبع
الموبقات قالوا: و ما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، و قتل النفس التي حرم
الله إلا بالحق، و السحر، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم، و التولي يوم الزحف،
و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
و فيه، أخرج ابن حيان و ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه
عن جده قال: كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهل اليمن كتابا فيه
الفرائض و السنن و الديات، و بعث به مع عمرو بن حزم. قال: و كان في الكتاب أن
أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله و قتل النفس المؤمنة بغير حق، و
الفرار يوم الزحف، و عقوق الوالدين، و رمي المحصنة، و تعلم السحر، و أكل الربا،
و أكل مال اليتيم.
و فيه، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، عن أنس: سمعت النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) يقول: ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، ثم تلا هذه الآية:
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية.
4 سورة النساء - 32 - 35
وَ لا تَتَمَنّوْا مَا فَضلَ اللّهُ بِهِ بَعْضكُمْ عَلى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِّمّا اكتَسبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ ممّا اكْتَسبنَ وَ سئَلُوا
اللّهَ مِن فَضلِهِ إِنّ اللّهَ كانَ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيماً (32) وَ لِكلٍّ
جَعَلْنَا مَوَلىَ مِمّا تَرَك الْوَلِدَانِ وَ الأَقْرَبُونَ وَ الّذِينَ
عَقَدَت أَيْمَنُكمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبهُمْ إِنّ اللّهَ كانَ عَلى كلِّ شىْءٍ
شهِيداً (33) الرِّجَالُ قَوّمُونَ عَلى النِّساءِ بِمَا فَضلَ اللّهُ
بَعْضهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَلِهِمْ فَالصلِحَت
قَنِتَتٌ حَفِظتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظ اللّهُ وَ الّتى تخَافُونَ
نُشوزَهُنّ فَعِظوهُنّ وَ اهْجُرُوهُنّ فى الْمَضاجِع وَ اضرِبُوهُنّ فَإِنْ
أَطعْنَكمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيهِنّ سبِيلاً إِنّ اللّهَ كانَ عَلِيّا كبِيراً
(34) وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ
وَ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصلَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنهُمَا
إِنّ اللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
بيان
الآيات مرتبطة بما تقدم من أحكام المواريث و أحكام النكاح يؤكد بها أمر الأحكام
السابقة، و يستنتج منها بعض الأحكام الكلية التي تصلح بعض الخلال العارضة في
المعاشرة بين الرجال و النساء.
قوله تعالى: "و لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض" التمني قول الإنسان:
ليت كذا كان كذا، و الظاهر أن التسمية القول بذلك من باب توصيف اللفظ بصفة
المعنى، و إنما التمني إنشاء نحو تعلق من النفس نظير تعلق الحب بما تراه متعذرا
أو كالمتعذر سواء أظهر ذلك بلفظ أو لم يظهر.
و ظاهر الآية أنها مسوقة للنهي عن تمني فضل و زيادة موجودة ثابتة بين الناس، و
أنه ناش عن تلبس بعض طائفتي الرجال و النساء بهذا الفضل، و أنه ينبغي الإعراض
عن التعلق بمن له الفضل، و التعلق بالله بالسؤال من الفضل الذي عنده تعالى، و
بهذا يتعين أن المراد بالفضل هو المزية التي رزقها الله تعالى كلا من طائفتي
الرجال و النساء بتشريع الأحكام التي شرعت في خصوص ما يتعلق بالطائفتين كلتيهما
كمزية الرجال على النساء في عدد الزوجات، و زيادة السهم في الميراث، و مزية
النساء على الرجال في وجوب جعل المهر لهن، و وجوب نفقتهن على الرجال.
فالنهي عن تمني هذه المزية التي اختص بها صاحبها إنما هو لقطع شجرة الشر و
الفساد من أصلها فإن هذه المزايا مما تتعلق به النفس الإنسانية لما أودعه الله
في النفوس من حبها و السعي لها لعمارة هذه الدار، فيظهر الأمر أولا في صورة
التمني فإذا تكرر تبدل حسدا مستبطنا فإذا أديم عليه فاستقر في القلب سرى إلى
مقام العمل و الفعل الخارجي ثم إذا انضمت بعض هذه النفوس إلى بعض كان ذلك بلوى
يفسد الأرض، و يهلك الحرث و النسل.
و من هنا يظهر أن النهي عن التمني نهي إرشادي يعود مصلحته إلى مصلحة حفظ
الأحكام المشرعة المذكورة، و ليس بنهي مولوي.
و في نسبة الفضل إلى فعل الله سبحانه، و التعبير بقوله: بعضكم على بعض إيقاظ
لصفة الخضوع لأمر الله بإيمانهم به، و غريزة الحب المثارة بالتنبه حتى يتنبه
المفضل عليه أن المفضل بعض منه غير مبان.
قوله تعالى: "للرجال نصيب مما اكتسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن" ذكر الراغب:
أن الاكتساب إنما يستعمل فيما استفاده الإنسان لنفسه، و الكسب أعم مما كان
لنفسه أو لغيره، و البيان المتقدم ينتج أن يكون هذه الجملة مبينة للنهي السابق
عن التمني و بمنزلة التعليل له أي لا تتمنوا ذلك فإن هذه المزية إنما وجدت عند
من يختص بها لأنه اكتسبها بالنفسية التي له أو بعمل بدنه فإن الرجال إنما
اختصوا بجواز اتخاذ أربع نسوة مثلا و حرم ذلك على النساء لأن موقعهم في المجتمع
الإنساني موقع يستدعي ذلك دون موقع النساء، و خصوا في الميراث بمثل حظ الأنثيين
لذلك أيضا، و كذلك النساء خصصن بنصف سهم الرجال و جعل نفقتهن على الرجال و خصصن
بالمهر لاستدعاء موقعهن ذلك، و كذلك ما اكتسبته إحدى الطائفتين من المال بتجارة
أو طريق آخر هو الموجب للاختصاص، و ما الله يريد ظلما للعباد.
و من هنا يظهر أن المراد بالاكتساب هو نوع من الحيازة و الاختصاص أعم من أن
يكون بعمل اختياري كالاكتساب بصنعة أو حرفة أو لا يكون بذلك لكنه ينتهي إلى
تلبس صاحب الفضل بصفة توجب له ذلك كتلبس الإنسان بذكورية أو أنوثية توجب له
سهما و نصيبا كذا.
و أئمة اللغة و إن ذكروا في الكسب و الاكتساب أنهما يختصان بما يحوزه الإنسان
بعمل اختياري كالطلب و نحوه لكنهم ذكروا أن الأصل في معنى الكسب هو الجمع، و
ربما جاز أن يقال: اكتسب فلان بجماله الشهرة و نحو ذلك، و فسر الاكتساب في
الآية بذلك بعض المفسرين، و ليس من البعيد أن يكون الاكتساب في الآية مستعملا
فيما ذكر من المعنى على سبيل التشبيه و الاستعارة.
و أما كون المراد من الاكتساب في الآية ما يتحراه الإنسان بعمله، و يكون
المعنى: للرجال نصيب مما استفادوه لأنفسهم من المال بعملهم و كذا النساء و يكون
النهي عن التمني نهيا عن تمني ما بيد الناس من المال الذي استفادوه بصنعة أو
حرفة فهو و إن كان معنى صحيحا في نفسه لكنه يوجب تضييق دائرة معنى الآية، و
انقطاع رابطتها مع ما تقدم من آيات الإرث و النكاح.
و كيف كان فمعنى الآية على ما تقدم من المعنى: و لا تتمنوا الفضل و المزية
المالي و غير المالي الذي خص الله تعالى به أحد القبيلين من الرجال و النساء
ففضل به بعضكم على بعض فإن ذلك الفضل أمر خص به من خص به لأنه أحرزه بنفسيته في
المجتمع الإنساني أو بعمل يده بتجارة و نحوها، و له منه نصيب، و إنما ينال كل
نصيبه مما اكتسبه.
قوله تعالى: "و اسألوا الله من فضله"، الإنعام على الغير بشيء مما عند المنعم
لما كان غالبا بما هو زائد لا حاجة للمنعم إليه سمي فضلا، و لما صرف الله تعالى
وجوه الناس عن العناية بما أوتي أرباب الفضل من الفضل و الرغبة فيه، و كان حب
المزايا الحيوية بل التفرد بها و التقدم فيها و الاستعلاء من فطريات الإنسان لا
يسلب عنه حينا صرفهم تعالى إلى نفسه، و وجه وجوههم نحو فضله، و أمرهم أن يعرضوا
عما في أيدي الناس، و يقبلوا إلى جنابه، و يسألوا من فضله فإن الفضل بيد الله،
و هو الذي أعطى كل ذي فضل فضله فله أن يعطيكم ما تزيدون به و تفضلون بذلك على
غيركم ممن ترغبون فيما عنده، و تتمنون ما أعطيه.
و قد أبهم هذا الفضل الذي يجب أن يسأل منه بدخول لفظة "من" عليه، و فيه من
الفائدة أولا التعليم بأدب الدعاء و المسألة من جنابه تعالى فإن الأليق
بالإنسان المبني على الجهل بما ينفعه و يضره بحسب الواقع إذا سأل ربه العالم
بحقيقة ما ينفع خلقه و ما يضرهم، القادر على كل شيء أن يسأله الخير فيما تتوق
نفسه إليه، و لا يطنب في تشخيص ما يسأله منه و تعيين الطريق إلى وصوله، فكثيرا
ما رأينا من كانت تتوق نفسه إلى حاجة من الحوائج الخاصة كمال أو ولد أو جاه و
منزلة أو صحة و عافية و كان يلح في الدعاء و المسألة لأجلها لا يريد سواها ثم
لما استجيب دعاؤه، و أعطي مسألته كان في ذلك هلاكه و خيبة سعيه في الحياة.
و ثانيا: الإشارة إلى أن يكون المسئول ما لا يبطل به الحكمة الإلهية في هذا
الفضل الذي قرره الله تعالى بتشريع أو تكوين، فمن الواجب أن يسألوا شيئا من فضل
الله الذي اختص به غيرهم فلو سأل الرجال ما للنساء من الفضل أو بالعكس ثم
أعطاهم الله ذلك بطلت الحكمة و فسدت الأحكام و القوانين المشرعة فافهم.
فينبغي للإنسان إذا دعا الله سبحانه عند ما ضاقت نفسه لحاجة أن لا يسأله ما في
أيدي الناس مما يرفع حاجته بل يسأله مما عنده و إذا سأله مما عنده أن لا يعلم
لربه الخبير بحاله طريق الوصول إلى حاجته بل يسأله أن يرفع حاجته بما يعلمه
خيرا من عنده.
و أما قوله تعالى: "إن الله كان بكل شيء عليما" فتعليل للنهي في صدر الآية أي
لا تتمنوا ما أعطاه الله من فضله من أعطاه الله إن الله بكل شيء عليم لا يجهل
طريق المصلحة و لا يخطىء في حكمه.
كلام في حقيقة قرآنية
اختلاف القرائح و الاستعدادات في اقتناء مزايا الحياة في أفراد الإنسان مما
ينتهي إلى أصول طبيعية تكوينية لا مناص عن تأثيرها في فعلية اختلاف درجات
الحياة و على ذلك جرى الحال في المجتمعات الإنسانية من أقدم عهودها إلى يومنا
هذا فيما نعلم.
فقد كانت الأفراد القوية من الإنسان يستعبدون الضعفاء و يستخدمونهم في سبيل
مشتهياتهم و هوى نفوسهم من غير قيد أو شرط، و كان لا يسع لأولئك الضعفاء
المساكين إلا الانقياد لأوامرهم، و لا يهتدون إلا إلى إجابتهم بما يشتهونه و
يريدونه منهم لكن القلوب ممتلئة غيظا و حنقا و النفوس متربصة و لا يزال الناس
على هذه السنة التي ابتدأت سنة شيوخية و انتهت إلى طريقة ملوكية و إمبراطورية.
حتى إذا وفق النوع الإنساني بالنهضة بعد النهضة على هدم هذه البنية المتغلبة و
إلزام أولياء الحكومة و الملك على اتباع الدساتير و القوانين الموضوعة لصلاح
المجتمع و سعادته فارتحلت بذلك حكومة الإرادات الجزافية، و سيطرة السنن
الاستبدادية ظاهرا و ارتفع اختلاف طبقات الناس و انقسامهم إلى مالك حاكم مطلق
العنان و مملوك محكوم مأخوذ بزمامه غير أن شجرة الفساد أخذت في النمو في أرض
غير الأرض، و منظر غير منظره السابق، و الثمرة هي الثمرة، و هو تمايز الصفات
باختلاف الثروة بتراكم المال عند بعض، و صفارة الكف عند آخر، و بعد ما بين
القبيلين بعدا لا يتمالك به المثري الواجد من نفسه إلا أن ينفذ بثروته في جميع
شئون حياة المجتمع، و لا المسكين المعدم إلا أن ينهض للبراز و يقاوم الاضطهاد.
فاستتبع ذلك سنة الشيوعية القائلة بالاشتراك في مواد الحياة و إلغاء المالكية،
و إبطال رءوس الأموال، و أن لكل فرد من المجتمع أن يتمتع بما عملته يداه و هيأه
كماله النفساني الذي اكتسبه فانقطع بذلك أصل الاختلاف بالثروة و الجدة غير أنه
أورث من وجود الفساد ما لا يكاد تصيبه رمية السنة السابقة و هو بطلان حرية
إرادة الفرد، و انسلاب اختياره، و الطبيعة تدفع ذلك، و الخلقة لا توافقه، و
هيهات أن يعيش ما يرغم الطبيعة و يضطهد الخلقة.
على أن أصل الفساد مع ذلك مستقر على قراره فإن الطبيعة الإنسانية لا تنشط إلا
لعمل فيه إمكان التميز و السبق، و رجاء التقدم و الفخر و مع إلغاء التمايزات
تبطل الأعمال، و فيه هلاك الإنسانية، و قد احتالوا لذلك بصرف هذه التميزات إلى
الغايات و المقاصد الافتخارية التشريفية غير المادية، و عاد بذلك المحذور جذعا
فإن الإنسان إن لم يذعن بحقيقتها لم يخضع لها، و إن أذعن بها كان حال التمايز
بها حال التمايز المادي.
و قد احتالت الديمقراطية لدفع ما تسرب إليها من الفساد بإيضاح مفاسد هذه السنة
بتوسعة التبليغ و بضرب الضرائب الثقيلة التي تذهب بجانب عظيم من أرباح المكاسب
و المتاجر، و لما ينفعهم ذلك فظهور دبيب الفساد في سنة مخالفيهم لا يسد طريق
هجوم الشر على سنتهم أنفسهم و لا ذهاب جل الربح إلى بيت المال يمنع المترفين عن
إترافهم و مظالمهم، و هم يحيلون مساعيهم لمقاصدهم من تملك المال إلى التسلط و
تداول المال في أيديهم فالمال يستفاد من التسلط و وضع اليد عليه و إدارته ما
يستفاد من ملكه.
فلا هؤلاء عالجوا الداء و لا أولئك، و لا دواء بعد الكي، و ليس إلا لأن الذي
جعله البشر غاية و بغية لمجتمعه، و هو التمتع بالحياة المادية بوصلة تهدي إلى
قطب الفساد، و لن تنقلب عن شأنها أينما حولت، و مهما نصبت.
و الذي يراه الإسلام لقطع منابت هذا الفساد أن حرر الناس في جميع ما يهديهم
إليه الفطرة الإنسانية، ثم قرب ما بين الطبقتين برفع مستوى حياة الفقراء بما
وضع من الضرائب المالية و نحوها، و خفض مستوى حياة الأغنياء بالمنع عن الإسراف
و التبذير و التظاهر بما يبعدهم من حاق الوسط، و تعديل ذلك بالتوحيد و الأخلاق،
و صرف الوجوه عن المزايا المادية إلى كرامة التقوى و ابتغاء ما عند الله من
الفضل.
و هو الذي يشير إليه قوله تعالى: و اسألوا الله من فضله الآية، و قوله: إن
أكرمكم عند الله أتقاكم: "الحجرات: 13"، و قوله: ففروا إلى الله: "الذاريات:
50"، و قد بينا فيما تقدم أن صرف وجوه الناس إلى الله سبحانه يستتبع اعتناءهم
بأمر الأسباب الحقيقية الواقعية في تحري مقاصدهم الحيوية من غير أن يستتبع
البطالة في اكتساب معيشة أو الكسل في ابتغاء سعادة فليس قول القائل: إن الإسلام
دين البطالة و الخمود عن ابتغاء المقاصد الحيوية الإنسانية إلا رمية من غير
مرمى جهلا، هذا ملخص القول في هذا المقصد، و قد تكرر الكلام في أطرافه تفصيلا
فيما تقدم من مختلف المباحث من هذا الكتاب.
قوله تعالى: "و لكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان و الأقربون" الآية، الموالي
جمع مولى، و هو الولي و إن كثر استعماله في بعض المصاديق من الولاية كالمولى
لسيد العبد لولايته عليه، و المولى للناصر لولايته على أمر المنصور، و المولى
لابن العم لولايته على نكاح بنت عمه، و لا يبعد أن يكون في الأصل مصدرا ميميا
أو اسم مكان أريد به الشخص المتلبس به بوجه كما نطلق اليوم الحكومة و المحكمة و
نريد بهما الحاكم.
و العقد مقابل الحل، و اليمين مقابل اليسار، و اليمين اليد اليمنى، و اليمين
الحلف و له غير ذلك من المعاني.
و وقوع الآية مع قوله قبل: و لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، في سياق
واحد، و اشتمالها على التوصية بإعطاء كل ذي نصيب نصيبه، و أن الله جعل لكل
موالي مما ترك الوالدان و الأقربون يؤيد أن تكون الآية أعني قوله: و لكل جعلنا
إلخ بضميمة الآية السابقة تلخيصا للأحكام و الأوامر التي في آيات الإرث، و وصية
إجمالية لما فيها من الشرائع التفصيلية كما كان قوله قبل آيات الإرث: للرجال
نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون الآية تشريعا إجماليا كضرب القاعدة في باب
الإرث تعود إليه تفاصيل أحكام الإرث.
و لازم ذلك أن ينطبق من أجمل ذكره من الوراث و المورثين على من ذكر منهم تفصيلا
في آيات الإرث، فالمراد بالموالي جميع من ذكر وارثا فيها من الأولاد و الأبوين
و الإخوة و الأخوات و غيرهم.
و المراد بالأصناف الثلاث المذكورين في الآية بقوله: الوالدان و الأقربون و
الذين عقدت أيمانكم الأصناف المذكورة في آيات الإرث، و هم ثلاثة: الوالدان و
الأقربون و الزوجان فينطبق قوله: الذين عقدت أيمانكم على الزوج و الزوجة.
فقوله: "و لكل" أي و لكل واحد منكم ذكرا أو أنثى، جعلنا موالي أي أولياء في
الوراثة يرثون ما تركتم من المال، و قوله مما ترك، من فيه للابتداء متعلق
بالموالي كأن الولاية نشأت من المال، أو متعلق بمحذوف أي يرثون أو يؤتون مما
ترك، و ما ترك هو المال الذي تركه الميت المورث الذي هو الوالدان و الأقربون
نسبا و الزوج و الزوجة.
و إطلاق "الذين عقدت أيمانكم" على الزوج و الزوجة إطلاق كنائي فقد كان دأبهم في
المعاقدات و المعاهدات أن يصافحوا فكأن أيمانهم التي يصافحون بها هي التي عقدت
العقود، و أبرمت العهود فالمراد: الذين أوجدتم بالعقد سببية الازدواج بينكم و
بينهم.
و قوله: "فأتوهم نصيبهم" الضمير للموالي، و المراد بالنصيب ما بين في آيات
الإرث، و الفاء للتفريع، و الجملة متفرعة على قوله تعالى: و لكل جعلنا موالي،
ثم أكد حكمه بإيتاء نصيبهم بقوله: إن الله كان على كل شيء شهيدا.
و هذا الذي ذكرناه من معنى الآية أقرب المعاني التي ذكروها في تفسيرها، و ربما
ذكروا أن المراد بالموالي العصبة دون الورثة الذين هم أولى بالميراث، و لا دليل
عليه من جهة اللفظ بخلاف الورثة.
و ربما قيل: إن "من" في قوله مما ترك الوالدان و الأقربون، بيانية و المراد بما
الورثة الأولياء، و المعنى: و لكل منكم جعلنا أولياء، يرثونه و هم الذين تركهم
و خلفهم الوالدان و الأقربون.
و ربما قيل: إن المراد ب الذين عقدت أيمانكم الحلفاء، فقد كان الرجل في
الجاهلية يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، و حربي حربك، و سلمي سلمك، و ترثني و
أرثك، و تعقل عني و أعقل عنك، فيكون للحليف السدس من مال الحليف.
و على هذا فالجملة مقطوعة عما قبلها، و المعنى: و الحلفاء آتوهم سدسهم، ثم نسخ
ذلك بقوله: و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض.
و قيل: إن المراد: آتوهم نصيبهم من النصر و العقل و الرفد، و لا ميراث، و على
هذه فلا نسخ في الآية.
و ربما قيل: إن المراد بهم الذين آخا بينهم رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في المدينة، و كانوا يتوارثون بذلك بينهم ثم نسخ ذلك بآية الميراث.
و ربما قيل: أريد بهم الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية فأمروا في
الإسلام أن يوصوا لهم بوصية، و ذلك قوله تعالى: فأتوهم نصيبهم.
و هذه معان لا يساعدها سياق الآية و لا لفظها على ما لا يخفى للباحث المتأمل، و
لذلك أضربنا عن الإطناب في البحث عما يرد عليها.
قوله تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض و بما
أنفقوا من أموالهم" القيم هو الذي يقوم بأمر غيره، و القوام و القيام مبالغة
منه.
و المراد بما فضل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل و يزيد فيه الرجال بحسب الطبع
على النساء، و هو زيادة قوة التعقل فيهم، و ما يتفرع عليه من شدة البأس و القوة
و الطاقة على الشدائد من الأعمال و نحوها فإن حياة النساء حياة إحساسية عاطفية
مبنية على الرقة و اللطافة، و المراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في
مهورهن و نفقاتهن.
و عموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله: "الرجال قوامون على
النساء" غير مقصور على الأزواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته بل الحكم
مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة
القبيلين جميعا فالجهات العامة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي
الحكومة و القضاء مثلا اللتين يتوقف عليهما حياة المجتمع، إنما يقومان بالتعقل
الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء، و كذا الدفاع الحربي الذي يرتبط
بالشدة و قوة التعقل كل ذلك مما يقوم به الرجال على النساء.
و على هذا فقوله: الرجال قوامون على النساء ذو إطلاق تام، و أما قوله بعد:
فالصالحات قانتات "إلخ" الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل و زوجته على ما سيأتي
فهو فرع من فروع هذا الحكم المطلق و جزئي من جزئياته مستخرج منه من غير أن
يتقيد به إطلاقه.
قوله تعالى: "فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله" المراد بالصلاح
معناه اللغوي، و هو ما يعبر عنه بلياقة النفس.
و القنوت هو دوام الطاعة و الخضوع.
و مقابلتها لقوله: و اللاتي تخافون نشوزهن إلخ، تفيد أن المراد بالصالحات
الزوجات الصالحات، و أن هذا الحكم مضروب على النساء في حال الازدواج لا مطلقا،
و أن قوله: قانتات حافظات - الذي هو إعطاء للأمر في صورة التوصيف أي ليقنتن و
ليحفظن - حكم مربوط بشئون الزوجية و المعاشرة المنزلية، و هذا مع ذلك حكم يتبع
في سعته و ضيقه علته أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجية فعليها أن تقنت
له و تحفظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شئون الزوجية.
و بعبارة أخرى كما أن قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنما
تتعلق بالجهات العامة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقل الرجل و شدته في
البأس و هي جهات الحكومة و القضاء و الحرب من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من
الاستقلال في الإرادة الفردية و عمل نفسها بأن تريد ما أحبت و تفعل ما شاءت من
غير أن يحق للرجل أن يعارضها في شيء من ذلك في غير المنكر فلا جناح عليهم فيما
فعلن في أنفسهن بالمعروف كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنفذ للمرأة في
ما تملكه إرادة و لا تصرف، و لا أن لا تستقل المرأة في حفظ حقوقها الفردية و
الاجتماعية، و الدفاع عنها، و التوسل إليها بالمقدمات الموصلة إليها بل معناها
أن الرجل إذ كان ينفق ما ينفق من ماله بإزاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه و
تطيعه في كل ما يرتبط بالاستمتاع و المباشرة عند الحضور، و أن تحفظه في الغيب
فلا تخونه عند غيبته بأن توطىء فراشه غيره، و أن تمتع لغيره من نفسها ما ليس
لغير الزوج التمتع منها بذلك، و لا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال، و سلطها
عليه في ظرف الازدواج و الاشتراك في الحياة المنزلية.
فقوله: فالصالحات قانتات أي ينبغي أن يتخذن لأنفسهن وصف الصلاح، و إذا كن
صالحات فهن لا محالة قانتات، أي يجب أن يقنتن و يطعن أزواجهن إطاعة دائمة فيما
أرادوا منهن مما له مساس بالتمتع، و يجب عليهن أن يحفظن جانبهم في جميع ما لهم
من الحقوق إذا غابوا.
و أما قوله: "بما حفظ الله" فالظاهر أن ما مصدرية، و الباء للآلة و المعنى:
أنهن قانتات لأزواجهن حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق حيث شرع لهم
القيمومة، و أوجب عليهن الإطاعة و حفظ الغيب لهم.
و يمكن أن يكون الباء للمقابلة، و المعنى حينئذ: أنه يجب عليهن القنوت و حفظ
الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهن حيث أحيا أمرهن في المجتمع البشري، و
أوجب على الرجال لهن المهر و النفقة، و المعنى الأول أظهر.
و هناك معان ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها لكون السياق لا يساعد على
شىء منها.
قوله تعالى: "و اللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن"، النشوز العصيان و الاستكبار عن
الطاعة، و المراد بخوف النشوز ظهور آياته و علائمه، و لعل التفريع على خوف
النشوز دون نفسه لمراعاة حال العظة من بين العلاجات الثلاث المذكورة فإن الوعظ
كما أن له محلا مع تحقق العصيان كذلك له محل مع بدو آثار العصيان و علائمه.
و الأمور الثلاثة أعني ما يدل عليه قوله: "فعظوهن و اهجروهن في المضاجع و
اضربوهن" و إن ذكرت معا و عطف بعضها على بعض بالواو فهي أمور مترتبة تدريجية:
فالموعظة، فإن لم تنجح فالهجرة، فإن لم تنفع فالضرب، و يدل على كون المراد بها
التدرج فيها أنها بحسب الطبع وسائل للزجر مختلفة آخذة من الضعف إلى الشدة بحسب
الترتيب المأخوذ في الكلام، فالترتيب مفهوم من السياق دون الواو.
و ظاهر قوله: و اهجروهن في المضاجع أن تكون الهجرة مع حفظ المضاجعة كالاستدبار
و ترك الملاعبة و نحوها، و إن أمكن أن يراد من مثل الكلام ترك المضاجعة لكنه
بعيد، و ربما تأيد المعنى الأول بإتيان المضاجع بلفظ الجمع فإن المعنى الثاني
لا حاجة فيه إلى إفادة كثرة المضجع ظاهرا.
قوله تعالى: "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا" "إلخ" أي لا تتخذوا عليهن علة
تعتلون بها في إيذائهن مع إطاعتهن لكم، ثم علل هذا النهي بقوله: إن الله كان
عليا كبيرا، و هو إيذان لهم أن مقام ربهم علي كبير فلا يغرنهم ما يجدونه من
القوة و الشدة في أنفسهم فيظلموهن بالاستعلاء و الاستكبار عليهن.
قوله تعالى: "و إن خفتم شقاق بينهما فابعثوا"، الشقاق البينونة و العداوة، و قد
قرر الله سبحانه بعث الحكمين ليكون أبعد من الجور و التحكم، و قوله: "إن يريدا
إصلاحا يوفق الله بينهما" أي إن يرد الزوجان نوعا من الإصلاح من غير عناد و
لجاج في الاختلاف، فإن سلب الاختيار من أنفسهما و إلقاء زمام الأمر إلى الحكمين
المرضيين يوجب وفاق البين.
و أسند التوفيق إلى الله مع وجود السبب العادي الذي هو إرادتهما الإصلاح، و
المطاوعة لما حكم به الحكمان لأنه تعالى هو السبب الحقيقي الذي يربط الأسباب
بالمسببات و هو المعطي لكل ذي حق حقه، ثم تمم الكلام بقوله: إن الله كان عليما
خبيرا، و مناسبته ظاهرة.
كلام في معنى قيمومة الرجال على النساء
تقوية القرآن الكريم لجانب العقل الإنساني السليم، و ترجيحه إياه على الهوى و
اتباع الشهوات، و الخضوع لحكم العواطف و الإحساسات الحادة و حضه و ترغيبه في
اتباعه، و توصيته في حفظ هذه الوديعة الإلهية عن الضيعة مما لا ستر عليه، و لا
حاجة إلى إيراد دليل كتابي يؤدي إليه فقد تضمن القرآن آيات كثيرة متكثرة في
الدلالة على ذلك تصريحا و تلويحا و بكل لسان و بيان.
و لم يهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة، و مهام آثارها الجميلة
التي يتربى بها الفرد، و يقوم بها صلب المجتمع كقوله: أشداء على الكفار رحماء
بينهم: - الفتح 29، و قوله: لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة: - الروم
21، و قوله: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق: -
الأعراف 32، لكنه عدلها بالموافقة لحكم العقل فصار اتباع حكم هذه العواطف و
الميول اتباعا لحكم العقل.
و قد مر في بعض المباحث السابقة أن من حفظ الإسلام لجانب العقل و بنائه أحكامه
المشرعة على ذلك أن جميع الأعمال و الأحوال و الأخلاق التي تبطل استقامة العقل
في حكمه و توجب خبطه في قضائه و تقويمه لشئون المجتمع كشرب الخمر و القمار و
أقسام المعاملات الغررية و الكذب و البهتان و الافتراء و الغيبة كل ذلك محرمة
في الدين.
و الباحث المتأمل يحدس من هذا المقدار أن من الواجب أن يفوض زمام الأمور الكلية
و الجهات العامة الاجتماعية - التي ينبغي أن تدبرها قوة التعقل و يجتنب فيها من
حكومة العواطف و الميول النفسانية كجهات الحكومة و القضاء و الحرب - إلى من
يمتاز بمزيد العقل و يضعف فيه حكم العواطف، و هو قبيل الرجال دون النساء.
و هو كذلك، قال الله تعالى: "الرجال قوامون على النساء" و السنة النبوية التي
هي ترجمان البيانات القرآنية بينت ذلك كذلك، و سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم)
جرت على ذلك أيام حياته فلم يول امرأة على قوم و لا أعطى امرأة منصب القضاء و
لا دعاهن إلى غزاة بمعنى دعوتهن إلى أن يقاتلن.
و أما غيرها من الجهات كجهات التعليم و التعلم و المكاسب و التمريض و العلاج و
غيرها مما لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهن السنة ذلك، و
السيرة النبوية تمضي كثيرا منها، و الكتاب أيضا لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك
في حقهن فإن ذلك لازم ما أعطين من حرية الإرادة و العمل في كثير من شئون الحياة
إذ لا معنى لإخراجهن من تحت ولاية الرجال، و جعل الملك لهن بحيالهن ثم النهي عن
قيامهن بإصلاح ما ملكته أيديهن بأي نحو من الإصلاح، و كذا لا معنى لجعل حق
الدعوى أو الشهادة لهن ثم المنع عن حضورهن عند الوالي أو القاضي و هكذا.
اللهم إلا فيما يزاحم حق الزوج فإن له عليها قيمومة الطاعة في الحضور، و الحفظ
في الغيبة، و لا يمضي لها من شئونها الجائزة ما يزاحم ذلك.
بحث روايي
في المجمع، في قوله تعالى: و لا تتمنوا ما فضل الله الآية: أي لا يقل أحدكم:
ليت ما أعطي فلان من النعمة و المرأة الحسنى كان لي فإن ذلك يكون حسدا، و لكن
يجوز أن يقول: اللهم أعطني مثله، قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه
السلام). أقول: و روى العياشي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام) مثله.
في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) في قوله
تعالى: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، و في قوله: و لا تتمنوا ما فضل الله به
بعضكم على بعض أنهما نزلتا في علي (عليه السلام).
أقول: و الرواية من باب الجري و التطبيق.
و في الكافي، و تفسير القمي، عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفر
(عليه السلام) قال: ليس من نفس إلا و قد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في
عافية، و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئا من الحرام قاصها به
من الحلال الذي فرض لها و عند الله سواهما فضل كثير، و هو قول الله عز و جل: و
اسألوا الله من فضله:. أقول: و رواه العياشي عن إسماعيل بن كثير رفعه إلى النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)، و روي هذا المعنى أيضا عن أبي الهذيل عن الصادق
(عليه السلام)، و روى قريبا منه أيضا القمي في تفسيره عن الحسين بن مسلم عن
الباقر (عليه السلام).
و قد تقدم كلام في حقيقة الرزق و فرضه و انقسامه إلى الرزق الحلال و الحرام في
ذيل قوله: و الله يرزق من يشاء بغير حساب: "البقرة: 212"، في الجزء الثاني
فراجعه.
و في صحيح الترمذي، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن
يسأل، و إن من أفضل العبادة انتظار الفرج.
و في التهذيب، بإسناده عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "و
لكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان و الأقربون"، قال: عنى بذلك أولي الأرحام في
المواريث، و لم يعن أولياء النعمة فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي
تجره إليها.
و فيه، أيضا بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: سأل أبا جعفر (عليه السلام) رجل و
أنا عنده قال: فقال رجل لامرأته: أمرك بيدك، قال: أنى يكون هذا و الله يقول:
الرجال قوامون على النساء؟ ليس هذا بشيء.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال:
جاءت امرأة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تستعدي على زوجها أنه لطمها،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): القصاص، فأنزل الله: الرجال قوامون
على النساء الآية فرجعت بغير قصاص: أقول: و رواه بطرق أخرى عنه (صلى الله عليه
وآله وسلم)، و في بعضها: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أردت أمرا و
أراد الله غيره، و لعل المورد كان من موارد النشوز، و إلا فذيل الآية: "فإن
أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا" ينفي ذلك.
و في ظاهر الروايات إشكال آخر من حيث إن ظاهرها أن قوله (صلى الله عليه وآله
وسلم): القصاص بيان للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا
الدعوى، و لازمه أن يكون نزول الآية تخطئة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
حكمه و تشريعه و هو ينافي عصمته، و ليس بنسخ فإنه رفع حكم قبل العمل به، و الله
سبحانه و إن تصرف في بعض أحكام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وضعا أو رفعا
لكن ذلك إنما هو في حكمه و رأيه في موارد ولايته لا في حكمه فيما شرعه لأمته
فإن ذلك تخطئة باطلة.
و في تفسير القمي،: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:
قانتات يقول: مطيعات.
و في المجمع، في قوله تعالى: فعظوهن و اهجروهن في المضاجع و اضربوهن الآية،: عن
أبي جعفر (عليه السلام) قال: يحول ظهره إليها، و في معنى الضرب عن أبي جعفر
(عليه السلام): أنه الضرب بالسواك.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله:
"فابعثوا حكما من أهله و حكما من أهلها" قال: الحكمان يشترطان إن شاءا فرقا، و
إن شاءا جمعا فإن فرقا فجائز، و إن جمعا فجائز.
أقول: و روي هذا المعنى و ما يقرب منه بعدة طرق أخر فيه و في تفسير العياشي،.
و في تفسير العياشي، عن ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير
المؤمنين (عليه السلام) في امرأة تزوجها رجل، و شرط عليها و على أهلها إن تزوج
عليها امرأة و هجرها أو أتى عليها سرية فإنها طالق، فقال: شرط الله قبل شرطكم
إن شاء وفى بشرطه، و إن شاء أمسك امرأته و نكح عليها و تسرى عليها و هجرها إن
أتت سبيل ذلك، قال الله في كتابه: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و
رباع" و قال: "أحل لكم مما ملكت أيمانكم" و قال: "و اللاتي تخافون نشوزهن
فعظوهن - و اهجروهن في المضاجع و اضربوهن - فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا
إن الله كان عليا كبيرا".
و في الدر المنثور، أخرج البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية أنها أتت النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) و هو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت و أمي إني وافدة
النساء إليك، و أعلم نفسي لك الفداء أنه ما من امرأة كائنة في شرق و لا غرب
سمعت بمخرجي هذا إلا و هي على مثل رأيي. إن الله بعثك بالحق إلى الرجال و
النساء فآمنا بك و بإلهك الذي أرسلك، و إنا معشر النساء محصورات مقسورات، قواعد
بيوتكم، و مقضي شهواتكم، و حاملات أولادكم، و إنكم معاشر الرجال فضلتم علينا
بالجمعة و الجماعات، و عيادة المرضى، و شهود الجنائز، و الحج بعد الحج، و أفضل
من ذلك الجهاد في سبيل الله، و إن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مرابطا
حفظنا لكم أموالكم، و غزلنا لكم أثوابكم، و ربينا لكم أموالكم، فما نشارككم في
الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه بوجهه
كله، ثم قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟
فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) إليها ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة و أعلمي من خلفك
من النساء: أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، و طلبها مرضاته، و اتباعها موافقته يعدل
ذلك كله، فأدبرت المرأة و هي تهلل و تكبر استبشارا.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة مروية في جوامع الحديث من طرق الشيعة و
أهل السنة، و من أجمل ما روي فيه ما رواه في الكافي، عن أبي إبراهيم موسى بن
جعفر (عليه السلام): "جهاد المرأة حسن التبعل"، و من أجمع الكلمات لهذا المعنى
مع اشتماله على أس ما بني عليه التشريع ما في نهج البلاغة، و رواه أيضا في
الكافي، بإسناده عن عبد الله بن كثير عن الصادق (عليه السلام) عن علي عليه أفضل
السلام، و بإسناده أيضا عن الأصبغ بن نباتة عنه (عليه السلام) في رسالته إلى
ابنه: إن المرأة ريحانة، و ليست بقهرمانة.
و ما روي في ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنما المرأة لعبة من
اتخذها فلا يضيعها" و قد كان يتعجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف
تعانق المرأة بيد ضربت بها، ففي الكافي، أيضا بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفر
(عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أ يضرب أحدكم
المرأة ثم يظل معانقها؟!" و أمثال هذه البيانات كثيرة في الأحاديث، و من التأمل
فيها يظهر رأي الإسلام فيها.
و لنرجع إلى ما كنا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية فنقول: يظهر من
التأمل فيه و في نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)، و تكليمهن إياه فيما يرجع إلى شرائع الدين، و مختلف ما قرره الإسلام في
حقهن أنهن على احتجابهن و اختصاصهن بالأمور المنزلية من شئون الحياة غالبا لم
يكن ممنوعات من المراودة إلى ولي الأمر، و السعي في حل ما ربما كان يشكل عليهن،
و هذه حرية الاعتقاد التي باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الإسلامية في
آخر سورة آل عمران.
و يستفاد منه و من نظائره أيضا أولا أن الطريقة المرضية في حياة المرأة في
الإسلام أن تشتغل بتدبير أمور المنزل الداخلية و تربية الأولاد، و هذه و إن
كانت سنة مسنونة غير مفروضة لكن الترغيب و التحريض الندبي - و الظرف ظرف الدين،
و الجو جو التقوى و ابتغاء مرضاة الله، و إيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا و
التربية على الأخلاق الصالحة للنساء كالعفة و الحياء و محبة الأولاد و التعلق
بالحياة المنزلية - كانت تحفظ هذه السنة.
و كان الاشتغال بهذه الشئون و الاعتكاف على إحياء العواطف الطاهرة المودعة في
وجودهن يشغلهن عن الورود في مجامع الرجال، و اختلاطهن بهم في حدود ما أباح الله
لهن، و يشهد بذلك بقاء هذه السنة بين المسلمين على ساقها قرونا كثيرة بعد ذلك
حتى نفذ فيهن الاسترسال الغربي المسمى بحرية النساء في المجتمع فجرت إليهن و
إليهم هلاك الأخلاق، و فساد الحياة و هم لا يشعرون، و سوف يعلمون، و لو أن أهل
القرى آمنوا و اتقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء، و أكلوا من فوقهم و من
تحت أرجلهم و لكن كذبوا فأخذوا.
و ثانيا: أن من السنة المفروضة في الإسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد
كالقضاء و الولاية.
و ثالثا: أن الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد
في سبيل الله دون أن تداركها، و جبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا و فضائل
فيها مفاخر حقيقية كما أنه جعل حسن التبعل مثلا جهادا للمرأة، و هذه الصنائع و
المكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا - و ظرفنا هذا الظرف الحيوي الفاسد - قدر
لكن الظرف الإسلامي الذي يقوم الأمور بقيمها الحقيقية، و يتنافس فيه في الفضائل
الإنسانية المرضية عند الله سبحانه، و هو يقدرها حق قدرها يقدر لسلوك كل إنسان
مسلكه الذي ندب إليه، و للزومه الطريق الذي خط له، من القيمة ما يتعادل فيه
أنواع الخدمات الإنسانية و تتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة
القتال و السماحة بدماء المهج - على ما فيه من الفضل - على لزوم المرأة وظيفتها
في الزوجية، و كذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيوي، و لا لقاض يتكي على
مسند القضاء، و هما منصبان ليس للمتقلد بهما في الدنيا لو عمل فيما عمل بالحق و
جرى فيما جرى على الحق إلا تحمل أثقال الولاية و القضاء، و التعرض لمهالك و
مخاطر تهددهما حينا بعد حين في حقوق من لا حامي له إلا رب العالمين و إن ربك
لبالمرصاد - فأي فخر لهؤلاء على من منعه الدين الورود موردهما، و خط له خطا و
أشار إليه بلزومه و سلوكه.
فهذه المفاخر إنما يحييها و يقيم صلبها بإيثار الناس لها نوع المجتمع الذي يربي
أجزاءه على ما يندب إليه من غير تناقض، و اختلاف الشئون الاجتماعية و الأعمال
الإنسانية بحسب اختلاف المجتمعات في أجوائها مما لا يسع أحدا إنكاره.
هو ذا الجندي الذي يلقي بنفسه في أخطر المهالك، و هو الموت في منفجر القنابل
المبيدة ابتغاء ما يراه كرامة و مزيدا، و هو زعمه أن سيذكر اسمه في فهرس من فدى
بنفسه وطنه و يفتخر بذلك على كل ذي فخر في عين ما يعتقد بأن الموت فوت و بطلان،
و ليس إلا بغية وهمية، و كرامة خرافية، و كذلك ما تؤثره هذه الكواكب الظاهرة في
سماء السينماءات و يعظم قدرهن بذلك الناس تعظيما لا يكاد يناله رؤساء الحكومات
السامية و قد كان ما يعتورنه من الشغل و ما يعطين من أنفسهن للملإ دهرا طويلا
في المجتمعات الإنسانية أعظم ما يسقط به قدر النساء، و أشنع ما يعيرن به، فليس
ذلك كله إلا أن الظرف من ظروف الحياة يعين ما يعينه على أن يقع من سواد الناس
موقع القبول و يعظم الحقير، و يهون الخطير فليس من المستبعد أن يعظم الإسلام
أمورا نستحقرها و نحن في هذه الظروف المضطربة، أو يحقر أمورا نستعظمها و نتنافس
فيها فلم يكن الظرف في صدر الإسلام إلا ظرف التقوى و إيثار الآخرة على الأولى
4 سورة النساء - 36 - 42
وَ اعْبُدُوا اللّهَ وَ لا تُشرِكُوا بِهِ شيْئاً وَ بِالْوَلِدَيْنِ إِحْسناً
وَ بِذِى الْقُرْبى وَ الْيَتَمَى وَ الْمَسكِينِ وَ الجَْارِ ذِى الْقُرْبى وَ
الجَْارِ الْجُنُبِ وَ الصاحِبِ بِالْجَنبِ وَ ابْنِ السبِيلِ وَ مَا مَلَكَت
أَيْمَنُكُمْ إِنّ اللّهَ لا يحِب مَن كانَ مخْتَالاً فَخُوراً (36) الّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النّاس بِالْبُخْلِ وَ يَكتُمُونَ مَا ءَاتَاهُمُ
اللّهُ مِن فَضلِهِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكفِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً (37) وَ
الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ رِئَاءَ النّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ
وَ لا بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَ مَن يَكُنِ الشيْطنُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ
قَرِيناً (38) وَ مَا ذَا عَلَيهِمْ لَوْ ءَامَنُوا بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ
الاَخِرِ وَ أَنفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَ كانَ اللّهُ بِهِمْ عَلِيماً
(39) إِنّ اللّهَ لا يَظلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَ إِن تَك حَسنَةً يُضعِفْهَا
وَ يُؤْتِ مِن لّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْف إِذَا جِئْنَا مِن كلِّ
أُمّةِ بِشهِيدٍ وَ جِئْنَا بِك عَلى هَؤُلاءِ شهِيداً (41) يَوْمَئذٍ يَوَدّ
الّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصوُا الرّسولَ لَوْ تُسوّى بهِمُ الأَرْض وَ لا
يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً (42)
بيان
آيات سبع فيها حث على الإحسان و الإنفاق في سبيل الله و وعد جميل عليه، و ذم
على تركه إما بالبخل أو بالإنفاق مراءاة للناس.
قوله تعالى: "و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا" هذا هو التوحيد غير أن المراد
به التوحيد العملي، و هو إتيان الأعمال الحسنة - و منها الإحسان الذي هو مورد
الكلام - طلبا لمرضاة الله و ابتغاء لثواب الآخرة دون اتباع الهوى و الشرك به.
و الدليل على ذلك أنه تعالى عقب هذا الكلام أعني قوله: و اعبدوا الله و لا
تشركوا به شيئا، و علله بقوله: إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا، و ذكر أنه
البخيل بماله و المنفق لرئاء الناس، فهم الذين يشركون بالله و لا يعبدونه وحده،
ثم قال: و ما ذا عليهم لو آمنوا بالله و اليوم الآخر و أنفقوا، و ظهر بذلك أن
شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر، و قال تعالى: و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل
الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب: "ص: 26"
فبين أن الضلال باتباع الهوى - و كل شرك ضلال - إنما هو بنسيان يوم الحساب، ثم
قال: أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم: "الجاثية: 23" فبين أن
اتباع الهوى عبادة له و شرك به.
فتبين بذلك كله أن التوحيد العملي أن يعمل الإنسان ابتغاء مثوبة الله و هو على
ذكر من يوم الحساب الذي فيه ظهور المثوبات و العقوبات، و أن الشرك في العمل أن
ينسى اليوم الآخر - و لو آمن به لم ينسه - و أن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما
يزينه له هواه من التعلق بالمال أو حمد الناس و نحو ذلك، فقد أشخص هذا الإنسان
هواه تجاه ربه، و أشرك به.
فالمراد بعبادة الله و الإخلاص له فيها أن يكون طلبا لمرضاته، و ابتغاء لمثوبته
لا لاتباع الهوى.
قوله تعالى: "و بالوالدين إحسانا" إلى قوله: "أيمانكم" الظاهر أن قوله: إحسانا
مفعول مطلق لفعل مقدر، تقديره: و أحسنوا بالوالدين إحسانا، و الإحسان يتعدى
بالباء و إلى معا يقال: أحسنت به و أحسنت إليه، و قوله: و بذي القربى، هو و ما
بعده معطوف على الوالدين، و ذو القربى القرابة، و قوله: و الجار ذي القربى و
الجار الجنب قرينة المقابلة في الوصف تعطي أن يكون المراد بالجار ذي القربى
الجار القريب دارا، و بالجار الجنب - و هو الأجنبي - الجار البعيد دارا، و قد
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تحديد الجوار بأربعين ذراعا،: و في
رواية: أربعون دارا، و لعل الروايتين ناظرتان إلى الجار ذي القربى و الجار
الجنب.
و قوله: و الصاحب بالجنب هو الذي يصاحبك ملازما لجنبك، و هو بمفهومه يعم مصاحب
السفر من رفقة الطريق و مصاحب الحضر و المنزل و غيرهم، و قوله: و ابن السبيل هو
الذي لا يعرف من حاله إلا أنه سالك سبيل كأنه ليس له من ينتسب إليه إلا السبيل
فهو ابنه، و أما كونه فقيرا ذا مسكنة عادما لزاد أو راحلة فكأنه خارج من مفهوم
اللفظ، و قوله: و ما ملكت أيمانكم المراد به العبيد و الإماء بقرينة عده في
عداد من يحسن إليهم، و قد كثر التعبير عنهم بما ملكته الأيمان دون من ملكته.
قوله تعالى: "إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا" المختال التائه المتبختر
المسخر لخياله، و منه الخيل للفرس لأنه يتبختر في مشيته، و الفخور كثير الفخر،
و الوصفان أعني الاختيال و كثرة الفخر من لوازم التعلق بالمال و الجاه، و
الإفراط في حبهما، و لذلك لم يكن الله ليحب المختال الفخور لتعلق قلبه بغيره
تعالى، و ما ذكره تعالى في تفسيره بقوله: الذين يبخلون إلخ و قوله: و الذين
ينفقون أموالهم رئاء الناس إلخ يبين كون الطائفتين معروضتين للخيلاء و الفخر:
فالطائفة الأولى متعلقة القلب بالمال، و الثانية بالجاه و إن كان بين الجاه و
المال تلازم في الجملة.
و كان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل و الكتمان و غيرهما لكن
بدأ بالوصفين ليدل على السبب في عدم الحب كما لا يخفى.
قوله تعالى: "الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل" الآية أمرهم الناس بالبخل
إنما هو بسيرتهم الفاسدة و عملهم به سواء أمروا به لفظا أو سكتوا فإن هذه
الطائفة لكونهم أولي ثروة و مال يتقرب إليهم الناس و يخضعون لهم لما في طباع
الناس من الطمع ففعلهم آمر و زاجر كقولهم، و أما كتمانهم ما آتاهم الله من فضله
فهو تظاهرهم بظاهر الفاقد المعدم للمال لتأذيهم من سؤال الناس ما في أيديهم، و
خوفهم على أنفسهم لو منعوا و خشيتهم من توجه النفوس إلى أموالهم، و المراد
بالكافرين الساترون لنعمة الله التي أنعم بها، و منه الكافر المعروف لستره على
الحق بإنكاره.
قوله تعالى: "و الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس"، إلخ أي لمراءاتهم، و في
الآية دلالة على أن الرئاء في الإنفاق - أو هو مطلقا - شرك بالله كاشف عن عدم
الإيمان به لاعتماد المرائي على نفوس الناس و استحسانهم فعله، و شرك من جهة
العمل لأن المرائي لا يريد بعمله ثواب الآخرة، و إنما يريد ما يرجوه من نتائج
إنفاقه في الدنيا، و على أن المرائي قرين الشيطان و ساء قرينا.
قوله تعالى: "و ما ذا عليهم لو آمنوا" الآية، استفهام للتأسف أو التعجب، و في
الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الإنفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبس
بالإيمان بالله و باليوم الآخر حقيقة و إن تلبس به ظاهرا.
و قوله: "و كان الله بهم عليما" تمهيد لما في الآية التالية من البيان، و الأمس
لهذه الجملة بحسب المعنى أن تكون حالا.
قوله تعالى: "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الآية.
المثقال هو الزنة، و الذرة هو الصغير من النمل الأحمر، أو هو الواحد من الهباء
المبثوث في الهواء الذي لا يكاد يرى صغرا.
و قوله: مثقال ذرة نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلما يعدل مثقال ذرة
وزنا.
و قوله: و إن تك حسنة، قرىء برفع حسنة و بنصبها فعلى تقدير الرفع كان تامة، و
على تقدير النصب تقديره: و إن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها، و تأنيث
الضمير في قوله: إن تك إما من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث
بالإضافة إلى ذرة.
و السياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق، و التقدير: و من
الأسف عليهم أن لم يؤمنوا و لم ينفقوا فإنهم لو آمنوا و أنفقوا و الله عليم بهم
لم يكن الله ليظلمهم في مثقال ذرة أنفقوها بالإهمال و ترك الجزاء، و إن تك حسنة
يضاعفها.
و الله أعلم.
قوله تعالى: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد" الآية.
قد تقدم بعض الكلام في معنى الشهادة على الأعمال في تفسير قوله تعالى: لتكونوا
شهداء على الناس: "البقرة: 143" من الجزء الأول من هذا الكتاب، و سيجيء بعض آخر
في محله المناسب له.
قوله تعالى: "يومئذ يود الذين كفروا و عصوا الرسول" الآية.
نسبة المعصية إلى الرسول يشهد أن المراد بها معصية أوامره (صلى الله عليه وآله
وسلم) الصادرة عن مقام ولايته لا معصية الله تعالى في أحكام الشريعة، و قوله:
لو تسوى بهم الأرض كناية عن الموت بمعنى بطلان الوجود نظير قوله تعالى: و يقول
الكافر يا ليتني كنت ترابا: "النبأ: 40".
و قوله: "و لا يكتمون الله حديثا" ظاهر السياق أنه معطوف على موضع قوله: يود
الذين كفروا و فائدته الدلالة بوجه على ما يعلل به تمنيهم الموت، و هو أنهم
بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شيء لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم،
و شهادة أعضائهم و شهادة الأنبياء و الملائكة و غيرهم عليهم، و الله من ورائهم
محيط فيودون عند ذلك أن لو لم يكونوا و ليس لهم أن يكتموه تعالى حديثا مع ما
يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم و قبائح أفعالهم.
و أما قوله تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم:
"المجادلة: 18" فسيجيء إن شاء الله تعالى أن ذلك إنما هو لإيجاب ملكة الكذب
التي حصلوها في الدنيا لا للإخفاء و كتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم
شيء.
بحث روايي
في تفسير العياشي، في قوله تعالى: و بالوالدين إحسانا الآية: عن سلام الجعفي عن
أبي جعفر (عليه السلام) و أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام): نزلت في
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و في علي (عليه السلام).
ثم قال: و روي مثل ذلك في حديث ابن جبلة. قال: قال: و روي عن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): أنا و علي أبوا هذه الأمة.
أقول: و قال البحراني في تفسير البرهان، بعد نقل الحديث: قلت: و روى ذلك صاحب
الفائق.
و روى العياشي هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه
السلام)، و رواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفر (عليه السلام).
و الذي تعرض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الذي بحثنا عنه في مبحث المحكم
و المتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، إذ الأب أو الوالد هو المبدأ
الإنساني لوجود الإنسان و المربي له، فمعلم الإنسان و مربيه للكمال أبوه فمثل
النبي و الولي عليهما أفضل الصلاة أحق أن يكون أبا للمؤمن المهتدي به، المقتبس
من أنوار علومه و معارفه من الأب الجسماني الذي لا شأن له إلا المبدئية و
التربية في الجسم فالنبي و الولي أبوان، و الآيات القرآنية التي توصي الولد
بوالديه تشملهما بحسب الباطن و إن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين
الجسمانيين.
و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي صالح عن أبي العباس في قول الله: و الجار ذي
القربى و الجار الجنب قال: الذي ليس بينك و بينه قرابة، و الصاحب بالجنب قال:
الصاحب في السفر.
أقول: قوله: الذي ليس بينك، تفسير الجار ذي القربى و الجنب معا و إن أمكن رجوعه
إلى الجار الجنب فقط، و قوله: الصاحب في السفر لعله من قبيل ذكر بعض المصاديق.
و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين (عليه
السلام): في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم على الأفواه فلا تكلم، و تكلمت
الأيدي، و شهدت الأرجل، و أنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا.
و اعلم، أن الأخبار كثيرة من طرق أهل السنة في أن الآيات نازلة في حق اليهود، و
هي و إن كان يؤيدها ما ينتهي إليه ذيل الآيات من التعرض لحال أهل الكتاب من
اليهود في بخلهم و ولعهم بجمع المال و ادخاره و كذا وسوستهم للمؤمنين و ترغيبهم
على الكف عن الإنفاق في سبيل الله و تفتينهم إياهم و إخزائهم لهم، و إفساد
الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن الأخبار المذكورة مع ذلك
أشبه بالتطبيق النظري منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الأخبار
الناقلة لأسباب النزول، و لذلك تركنا نقلها على كثرتها.
و اعلم أيضا أن الأخبار الواردة عن النبي و آله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
إحسان الوالدين و ذي القربى و اليتامى و غيرهم من الطوائف المذكورة في الآية
فوق حد الإحصاء على معروفيتها و شهرتها، و هو الموجب للإغماض عن إيرادها هاهنا
على أن لكل منها وحده مواقع خاصة في القرآن، ذكر ما يخصها من الأخبار هناك
أنسب.
4 سورة النساء - 43
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْرَبُوا الصلَوةَ وَ أَنتُمْ سكَرَى حَتى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلا عَابِرِى سبِيلٍ حَتى
تَغْتَسِلُوا وَ إِن كُنتُم مّرْضى أَوْ عَلى سفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم
مِّنَ الْغَائطِ أَوْ لَمَستُمُ النِّساءَ فَلَمْ تجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا
صعِيداً طيِّباً فَامْسحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كانَ
عَفُواّ غَفُوراً (43)
بيان
قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: يسألونك عن الخمر و الميسر: "البقرة: 219"،
أن الآيات المتعرضة لأمر الخمر خمس طوائف، و إن ضم هذه الآيات بعضها إلى بعض
يفيد أن هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا" الآية نزلت بعد قوله
تعالى: تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا: "النحل: 67"، و قوله: قل إنما حرم ربي
الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم: "الأعراف: 33"، و قبل قوله تعالى:
يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من
نفعهما: "البقرة: 219"، و قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر
و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه: "المائدة: 90"، و هذه آخر
الآيات نزولا.
و يمكن بوجه أن يتصور الترتيب على خلاف هذا الذي ذكرناه فتكون النازلة أولا آية
النحل ثم الأعراف ثم البقرة ثم النساء ثم المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب
من قصة النهي القطعي عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما
في سورة الأعراف نهيا من غير تفسير ثم الذي في سورة البقرة نهيا باتا لكن
المسلمين كانوا يتعللون في الاجتناب حتى نهوا عنها نهيا جازما في حال الصلاة في
سورة النساء، ثم نهيا مطلقا في جميع الحالات في سورة المائدة و لعلك إن تدبرت
في مضامين الآيات رجحت الترتيب السابق على هذا الترتيب، و لم تجوز بعد النهي
الصريح الذي في آية البقرة النهي الذي في آية النساء المختص بحال الصلاة فهذه
الآية قبل آية البقرة، إلا أن نقول إن النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن
الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية.
و أما وقوع الآية بين ما تقدمها و ما تأخر عنها من الآيات فهي كالمتخللة
المعترضة إلا أن هاهنا احتمالا ربما صحح هذا النحو من التخلل و الاعتراض - و هو
غير عزيز في القرآن - و هو جواز أن تتنزل عدة من الآيات ذات سياق واحد متصل
منسجم تدريجا في خلال أيام ثم تمس الحاجة إلى نزول آية أو آيات و لما تمت
الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخللة و ليست
بأجنبية بحسب الحقيقة و إنما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهم لازم الدفع، أو
مس حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة و لو ألقى
معاذيره لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع
قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة الآيات: "القيامة: 20"، انظر إلى
موضع قوله: لا تحرك إلى قوله: "بيانه".
و على هذا فلا حاجة إلى التكلف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها، و ارتباط
ما بعدها بها، على أن القرآن إنما نزل نجوما، و لا موجب لهذا الارتباط إلا في
السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا" إلى قوله: "ما تقولون" المراد بالصلاة
المسجد، و الدليل عليه قوله: و لا جنبا إلا عابري سبيل، و المقتضي لهذا التجوز
قوله حتى تعلموا ما تقولون إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد و أنتم سكارى لم يستقم
تعليله بقوله: "حتى تعلموا ما تقولون" أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع
أن المقصود إفادة أنكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة و الكبرياء و تخاطبون
رب العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا و تبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما
تقولون، و هذا المعنى كما ترى - يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكن الصلاة لما
كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة - على السنة - و كان من القصد أن تذكر
أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال و سبك الكلام على ما ترى.
و على هذا فقوله: حتى تعلموا ما تقولون في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر
بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون
و ليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما
تقولون فلا بأس.
قوله تعالى: "و لا جنبا إلا عابري سبيل" إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية
في تفسير قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة: "المائدة: 6".
بحث روايي
في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضل عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله:
"لا تقربوا الصلاة - و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" قال: هذا قبل أن تحرم
الخمر.
أقول: ينبغي أن تحمل الرواية على أن المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها، و إلا
فهي مخالفة للكتاب فإن آية الأعراف تحرم الخمر بعنوان أنه إثم صريحا، و آية
البقرة تصرح بأن في الخمر إثما كبيرا فقد حرمت الخمر في مكة قبل الهجرة لكون
سورة الأعراف مكية و لم يختلف أحد في أن هذه الآية آية النساء مدنية، و مثل هذه
الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة تصرح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر، و
يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان.
و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلا و
لا متناعسا و لا متثاقلا فإنها من خلل النفاق فإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا
إلى الصلاة و هم سكارى يعني من النوم.
أقول: قوله: فإنها من خلل النفاق استفاد (عليه السلام) ذلك من قوله تعالى: يا
أيها الذين آمنوا، فالمتمرد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن، و قوله: يعني من
النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي و يحتمل أن يكون من كلامه (عليه السلام) و
يكون تفسيرا للآية من قبيل بطن القرآن، و يمكن أن يكون من الظهر.
و قد وردت روايات أخر في تفسيره بالنوم رواها العياشي في تفسيره عن الحلبي في
روايتين، و الكليني في الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن الصادق (عليه السلام)،
و بإسناده عن زرارة عن الباقر (عليه السلام)، و روى هذا المعنى أيضا البخاري في
صحيحه عن أنس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
4 سورة النساء - 44 - 58
أَ لَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَبِ يَشترُونَ
الضلَلَةَ وَ يُرِيدُونَ أَن تَضِلّوا السبِيلَ (44) وَ اللّهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدَائكُمْ وَ كَفَى بِاللّهِ وَلِيّا وَ كَفَى بِاللّهِ نَصِيراً (45)
مِّنَ الّذِينَ هَادُوا يحَرِّفُونَ الْكلِمَ عَن مّوَاضِعِهِ وَ يَقُولُونَ
سمِعْنَا وَ عَصيْنَا وَ اسمَعْ غَيرَ مُسمَعٍ وَ رَعِنَا لَيّا
بِأَلْسِنَتهِمْ وَ طعْناً فى الدِّينِ وَ لَوْ أَنهُمْ قَالُوا سمِعْنَا وَ
أَطعْنَا وَ اسمَعْ وَ انظرْنَا لَكانَ خَيراً لهُّمْ وَ أَقْوَمَ وَ لَكِن
لّعَنهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً (46) يَأَيهَا
الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب ءَامِنُوا بمَا نَزّلْنَا مُصدِّقاً لِّمَا مَعَكُم
مِّن قَبْلِ أَن نّطمِس وُجُوهاً فَنرُدّهَا عَلى أَدْبَارِهَا أَوْ
نَلْعَنهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصحَب السبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً
(47) إِنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشرَك بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِك
لِمَن يَشاءُ وَ مَن يُشرِك بِاللّهِ فَقَدِ افْترَى إِثْماً عَظِيماً (48) أَ
لَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنفُسهُم بَلِ اللّهُ يُزَكى مَن يَشاءُ وَ
لا يُظلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظرْ كَيْف يَفْترُونَ عَلى اللّهِ الْكَذِب وَ
كَفَى بِهِ إِثْماً مّبِيناً (50) أَ لَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً
مِّنَ الْكتَبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلّذِينَ
كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الّذِينَ ءَامَنُوا سبِيلاً (51) أُولَئك
الّذِينَ لَعَنهُمُ اللّهُ وَ مَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تجِدَ لَهُ نَصِيراً
(52) أَمْ لهَُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النّاس
نَقِيراً (53) أَمْ يحْسدُونَ النّاس عَلى مَا ءَاتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضلِهِ
فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَهِيمَ الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ وَ ءَاتَيْنَهُم
مّلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنهُم مّنْ ءَامَنَ بِهِ وَ مِنهُم مّن صدّ عَنْهُ وَ
كَفَى بجَهَنّمَ سعِيراً (55) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِئَايَتِنَا سوْف
نُصلِيهِمْ نَاراً كلّمَا نَضِجَت جُلُودُهُم بَدّلْنَهُمْ جُلُوداً غَيرَهَا
لِيَذُوقُوا الْعَذَاب إِنّ اللّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَ الّذِينَ
ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ سنُدْخِلُهُمْ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتهَا
الأَنهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً لهُّمْ فِيهَا أَزْوَجٌ مّطهّرَةٌ وَ
نُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظلِيلاً (57) * إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا
الأَمَنَتِ إِلى أَهْلِهَا وَ إِذَا حَكَمْتُم بَينَ النّاسِ أَن تحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظكم بِهِ إِنّ اللّهَ كانَ سمِيعَا
بَصِيراً (58)
بيان
آيات متعرضة لحال أهل الكتاب، و تفصيل لمظالمهم و خياناتهم في دين الله، و أوضح
ما تنطبق على اليهود، و هي ذات سياق واحد متصل، و الآية الأخيرة: "إن الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" الآية، و إن ذكر بعضهم أنها مكية، و
استثناها في آيتين من سورة النساء المدنية، و هي هذه الآية، و قوله تعالى:
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية: "النساء: 176" على ما في المجمع لكن
الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات، و كذا آية الاستفتاء فإنها في
الإرث، و قد شرع في المدينة.
قوله تعالى: "أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب" الآية، قد تقدم في
الكلام على الآيات 36 42 أنها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات، و قد سمعت
القول في نزول تلك الآيات في حق اليهود.
و بالجملة يلوح من هذه الآيات أن اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودة و
يظهرون لهم النصح فيفتنونهم بذلك، و يأمرونهم بالبخل و الإمساك عن الإنفاق
ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح، و جدهم في التقدم و التعالي، و هذا لازم كون تلك
الآيات نازلة في حق اليهود أو في حق من كان يسار اليهود و يصادقهم ثم تنحرف عن
الحق بتحريفهم، و يميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثم يأمر بالبخل.
و هذا هو الذي يستفاد من قوله: و يريدون أن تضلوا السبيل و الله أعلم بأعدائكم
إلى آخر الآية.
فمعنى الآيتين - و الله أعلم - أن ما نبينه لكم تصديق ما بيناه لكم من حال
الممسك عن الإنفاق في سبيل الله بالاختيال و الفخر و البخل و الرئاء إنك ترى
اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لأنفسهم
يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يريدون أن تضلوا السبيل فإنهم و إن
لقوكم ببشر الوجه، و ظهروا لكم في زي الصلاح، و اتصلوا بكم اتصال الأولياء
الناصرين فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم، و استصوبته قلوبكم لكنهم ما
يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، و الله أعلم منكم
بأعدائكم، و هم أعداؤكم فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإياكم أن تطيعوا
أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة و إلقاءاتهم المزخرفة و أنتم تقدرون أنهم
أولياؤكم و أنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة، و نصرتهم المرجوة و
كفى بالله وليا، و كفى بالله نصيرا، فأي حاجة مع ولايته و نصرته إلى ولايتهم و
نصرتهم.
قوله تعالى: "من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه" إلى قوله: "في الدين"
"من" في قوله: من الذين، بيانيه، و هو بيان لقوله في الآية السابقة: الذين
أوتوا نصيبا من الكتاب، أو لقوله: بأعدائكم، و ربما قيل: إن قوله: من الذين
هادوا خبر لمبتدإ محذوف و هو الموصوف المحذوف لقوله يحرفون الكلم، و التقدير:
من الذين هادوا قوم يحرفون، أو من الذين هادوا من يحرفون، قالوا: و حذف الموصوف
شائع كقول ذي الرمة: فظلوا و منهم دمعه سابق له.
و آخر يشني دمعة العين بالمهل.
يريد: و منهم قوم دمعه أو و منهم من دمعه و قد وصف الله تعالى هذه الطائفة
بتحريف الكلم عن مواضعه، و ذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم و التأخير و
الإسقاط و الزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، و إما بتفسير ما ورد عن موسى
(عليه السلام) في التوراة و عن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق
كما أولوا ما ورد في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بشارات التوراة، و
من قبل أولوا ما ورد في المسيح (عليه السلام) من البشارة، و قالوا: إن الموعود
لم يجىء بعد، و هم ينتظرون قدومه إلى اليوم.
و من الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله: و
يقولون سمعنا و عصينا، فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله: يحرفون، و يكون المراد
حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي
أن يوضع فيه، فقول القائل: سمعنا من حقه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال: سمعنا و
أطعنا لا أن يقال: سمعنا و عصينا، أو يوضع: سمعنا موضع التهكم و الاستهزاء، و
كذا قول القائل: اسمع ينبغي أن يقال فيه: اسمع أسمعك الله لا أن يقال: اسمع غير
مسمع أي لا أسمعك الله و راعنا، و هو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع.
و قوله: "ليا بألسنتهم و طعنا في الدين" أصل اللي الفتل أي يميلون بألسنتهم
فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحق، و الإزراء و الإهانة في صور التأدب و
الاحترام فإن المؤمنين كانوا يخاطبون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين
ما كانوا يكلمونه بقولهم: راعنا يا رسول الله، و معناه: أنظرنا و اسمع منا حتى
نوفي غرضنا من كلامنا، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) بقولهم: راعنا و هم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير
الحري بمقامه (صلى الله عليه وآله وسلم) فذموا به في هذه الآية، و هو قوله
تعالى: "يحرفون الكلم عن مواضعه" ثم فسره بقوله: "و يقولون سمعنا و عصينا و
اسمع غير مسمع" ثم عطف عليه كعطف التفسير قوله: "و راعنا" ثم ذكر أن هذا الفعال
المذموم منهم لي بالألسن، و طعن في الدين فقال: "ليا بألسنتهم و طعنا في الدين"
و المصدران في موضع الحال و التقدير: لاوين بألسنتهم، و طاعنين في الدين.
قوله تعالى: "و لو أنهم قالوا سمعنا و أطعنا لكان خيرا لهم و أقوم" كون هذا
القول منهم و هو مشتمل على أدب الدين، و الخضوع للحق خيرا و أقوم مما قالوه مع
اشتماله على اللي و الطعن المذمومين و لا خير فيه و لا قوام مبني على مقايسة
الأثر الحق الذي في هذا الكلام الحق على ما يظنونه من الأثر في كلامهم و إن لم
يكن له ذلك بحسب الحقيقة، فالمقايسة بين الأثر الحق و بين الأثر المظنون حقا، و
المعنى: أنهم لو قالوا: سمعنا و أطعنا، لكان فيه من الخير و القوام أكثر مما
يقدرون في أنفسهم لهذا اللي و الطعن فالكلام يجري مجرى قوله تعالى: و إذا رأوا
تجارة أو لهوا انفضوا إليها و تركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو و من
التجارة و الله خير الرازقين: - الجمعة: 11.
قوله تعالى: "و لكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا" تأييس للسامعين من
أن تقول اليهود سمعنا و أطعنا فإنه كلمة إيمان و هؤلاء ملعونون لا يوفقون
للإيمان، و لذلك قيل: لو أنهم قالوا، الدال على التمني المشعر بالاستحالة.
و الظاهر أن الباء في قوله: "بكفرهم" للسببية دون الآية، فإن الكفر يمكن أن
يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعا قاطعا لكنهم
لما كفروا و سيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم لعنهم الله بسبب ذلك
لعنا ألزم الكفر عليهم إلزاما لا يؤمنون بذلك إلا قليلا فافهم ذلك.
و أما قوله: فلا يؤمنون إلا قليلا فقد قيل: إن "قليلا" حال، و التقدير: إلا و
هم قليل أي لا يؤمنون إلا في حال هم قليل، و ربما قيل: إن "قليلا" صفة لموصوف
محذوف، و التقدير: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، و هذا الوجه كسابقه لا بأس به
لكن يجب أن يزاد فيه أن اتصاف الإيمان بالقلة إنما هو من قبيل الوصف بحال
المتعلق أي إيمانا المؤمن به قليل.
و أما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به قليل الإيمان في مقابل كامله، و ذكر
أن المعنى: فلا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه،
و لا يزكي نفسه، و لا يرقي عقله فقد أخطأ، فإن الإيمان إنما يتصف بالمستقر و
المستودع، و الكامل و الناقص في درجات و مراتب مختلفة، و أما القلة و تقابلها
الكثرة فلا يتصف بهما، و خاصة في مثل القرآن الذي هو أبلغ الكلام.
على أن المراد بالإيمان المذكور في الآية إما حقيقة الإيمان القلبي في مقابل
النفاق أو صورة الإيمان التي ربما يطلق عليها الإسلام، و اعتباره على أي معنى
من معانيه، و الاعتناء به في الإسلام مما لا ريب فيه، و الآيات القرآنية ناصة
فيه، قال تعالى: و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا: "النساء: 94"،
مع أن الذي يستثني الله تعالى منه قوله: و لكن لعنهم الله بكفرهم، كان يكفي فيه
أقل درجات الإيمان أو الإسلام الظاهري بحفظهم الظاهر بقولهم: سمعنا و أطعنا
كسائر المسلمين.
و الذي أوقعه في هذا الخطإ ما توهمه أن لعنه تعالى إياهم بكفرهم لا يجوز أن
يتخلف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدر أن القلة وصف الإيمان و هي ما لا يعتد به
من الإيمان حتى يستقيم قوله: "لعنهم الله بكفرهم"، و قد غفل عن أن هذه الخطابات
و ما تشتمل عليه من صفات الذم و المؤاخذات و التوبيخات كل ذلك متوجهة إلى
المجتمعات من حيث الاجتماع، فالذي لحقه اللعن و الغضب و المؤاخذات العامة
الأخرى إنما هو المجتمع اليهودي من حيث إنه مجتمع مكون فلا يؤمنون و لا يسعدون
و لا يفلحون، و هو كذلك إلى هذا اليوم و هم على ذلك إلى يوم القيامة.
و أما الاستثناء فإنما هو بالنسبة إلى الأفراد، و خروج بعض الأفراد من الحكم
المحتوم على المجتمع ليس نقضا لذلك الحكم، و المحوج إلى هذا الاستثناء أن
الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله: "فلا يؤمنون" حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد -
و إن كان ذلك نفيا عنهم من حيث جهة الاجتماع - و كان يمكن فيه أن يتوهم أن
الحكم شامل لكل واحد واحد منهم بحيث لا يتخلص منه أحد استثني فقيل: إلا قليلا
فالآية تجري مجرى قوله تعالى: و لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا
من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم: - النساء: 66.
قوله تعالى: "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا" إلخ الطمس محو أثر
الشيء، و الوجه ما يستقبلك من الشيء و يظهر منه، و هو من الإنسان الجانب المقدم
الظاهر من الرأس و ما يستقبلك منه، و يستعمل في الأمور المعنوية كما يستعمل في
الأمور الحسية، و الأدبار جمع دبر بضمتين و هو القفا، و المراد بأصحاب السبت
قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله و مسخهم، قال تعالى: و اسألهم
عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم
سبتهم شرعا و يوم لا يسبتون لا تأتيهم: - الأعراف: 163، و قال تعالى: و لقد
علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا
لما بين يديها و ما خلفها: - البقرة: 66.
و قد كانت الآيات السابقة - كما عرفت - متعرضة لحال اليهود أو لحال طائفة من
اليهود، و انجر القول إلى أنهم بإزاء ما خانوا الله و رسوله، و أفسدوا صالح
دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم، و سلبهم التوفيق للإيمان إلا قليلا فعم
الخطاب لجميع أهل الكتاب - على ما يفيده قوله: يا أيها الذين أوتوا الكتاب - و
دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم، و أوعدهم بالسخط الذي
يلحقهم لو تمردوا و استكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتبعانهم إتباعا لا ريب
فيه.
و ذلك ما ذكره بقوله: من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها، فطمس الوجوه
محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدها الحيوية مما فيه سعادة
الإنسان المترقبة و المرجوة لكن لا المحو الذي يوجب فناء الوجوه و زوالها و
بطلان آثارها بل محوا يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على
الفطرة التي فطر عليها لكن لما كانت منصوبة إلى الأقفية و مردودة على الأدبار
لا تقصد إلا ما خلفته وراءها، و لا تمشي إليه إلا القهقرى.
و هذا الإنسان - و هو بالطبع و الفطرة متوجه نحو ما يراه خيرا و سعادة لنفسه -
كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه، و صلاحا لدينه أو لدنياه لم ينل إلا شرا و
فسادا، و كلما بالغ في التقدم زاد في التأخر، و ليس يفلح أبدا.
و أما لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدم من آيات أصحاب السبت
التي تخبر عن مسخهم قردة.
و على هذا فلفظة "أو" في قوله: أو نلعنهم، على ظاهرها من إفادة الترديد، و
الفرق بين الوعيدين أن الأول أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير
تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها، و الثاني أعني اللعن كلعن أصحاب السبت يوجب
تغيير المقصد بتغيير الخلقة الإنسانية إلى خلقة حيوانية كالقردة.
فهؤلاء إن تمردوا عن الامتثال - و سوف يتمردون على ما تفيده خاتمة الآية - كان
لهم إحدى سخطتين: إما طمس الوجوه، و أما اللعن كلعن أصحاب السبت لكن الآية تدل
على أن هذه السخطة لا تعمهم جميعهم حيث قال.
"وجوها" فأتى بالجمع المنكر، و لو كان المراد هو الجميع لم ينكر، و لتنكير
الوجوه و عدم تعيينه نكتة أخرى هي أن المقام لما كان مقام الإيعاد و التهديد، و
هو إيعاد للجماعة بشر لا يحلق إلا ببعضهم كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم
السخط الإلهي أوقع في الإنذار و التخويف لأن وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق
على كل واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب البئيس، و هذه
الصناعة شائعة في اللسان في مقام التهديد و التخويف.
و في قوله تعالى: أو نلعنهم، حيث أرجع فيه ضمير "هم" الموضوع لأولي العقل إلى
قوله: "وجوها" كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا بأن المراد بالوجوه الأشخاص من
حيث استقبالهم مقاصدهم، و بذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه و ردها
على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم، و يقوى بذلك
احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة
الفكر، و إدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج و الانحطاط الفكري
بحيث لا يشاهد حقا إلا أعرض عنه و اشمأز منه، و لا باطلا إلا مال إليه و تولع
به.
و هذا نوع من التصرف الإلهي مقتا و نقمة نظير ما يدل عليه قوله تعالى: و نقلب
أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة و نذرهم في طغيانهم يعمهون:
"الأنعام: 110".
فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس يوجب
تغيير طباعها من مطاوعة الحق و تجنب الباطل إلى اتباع الباطل و الاحتراز عن
الحق في باب الإيمان بالله و آياته كما يؤيده صدر الآية: آمنوا بما نزلنا مصدقا
لما معكم من قبل أن نطمس إلخ، و كذا تبين أن المراد باللعن المذكور فيها المسخ.
و ربما قيل: إن المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم و يكون ذلك في آخر
الزمان أو يوم القيامة، و فيه: أن قوله: "أو نلعنهم" ينافي ذلك كما تقدم بيانه.
و ربما قيل: إن المراد بالطمس الخذلان الدنيوي فلا يزالون على ذلة و نكبة لا
يقصدون غاية ذات سعادة إلا بدلها الله عليهم سرابا لا خير فيه، و فيه: أنه و إن
كان لا يبعد كل البعد لكن صدر الآية - كما تقدم - ينافيه.
و ربما قيل: إن المراد به إجلاؤهم و ردهم ثانيا إلى حيث خرجوا منه، و قد أخرجوا
من الحجاز إلى أرض الشام و فلسطين، و قد جاءوا منهما، و فيه أن صدر الآية
بسياقه يؤيد غير ذلك كما عرفته.
نعم من الممكن أن يقال: إن المراد به تقليب أفئدتهم، و طمس وجوه باطنهم من الحق
إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله و آياته، ثم إن الدين الحق لما كان
هو الصراط الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه و الاستواء
عليه، و ليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد، و السقوط في مهابط الهلاك،
قال تعالى: ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي
عملوا: "الروم: 41"، و قال تعالى: و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا
عليهم بركات من السماء و الأرض، و لكن كذبوا فأخذناهم: "الأعراف: 96" و لازم
هذه الحقيقة أن طمس الوجوه عن المعارف الحقة الدينية طمس لها عن حقائق سعادة
الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من
استقرار الحال و تمهد الأمن و سؤدد الاستقلال و الملك، و كل ما يطيب به العيش،
و يدر به ضرع العمل اللهم إلا على قدر ما نسرب المواد الدينية في مجتمعهم و على
هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلها أو كلها.
قوله تعالى: "و كان أمر الله مفعولا" إشارة إلى أن الأمر لا محالة واقع، و قد
وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم و إنزال السخط عليهم، و إلقاء العداوة
و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، و غير ذلك في آيات كثيرة.
قوله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء" ظاهر
السياق أن الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله:
آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس إلخ، فيعود المعنى إلى مثل
قولنا: فإنكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين، و الله لا يغفر أن يشرك به
فيحل عليكم غضبه و عقوبته فيطمس وجوهكم بردها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم
المغفرة هذه ترتب آثار الشرك الدنيوية من طمس أو لعن عليه.
و هذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية، و قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به
و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و من يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا: "النساء:
116"، فإن هذه الآية آية 48، تهدد بآثار الشرك الدنيوية، و تلك آية 116، تهدد
بآثاره الأخروية، و ذلك بحسب الانطباق على المورد و إن كانتا بحسب الإطلاق
كلتاهما شاملتين لجميع الآثار.
و مغفرته سبحانه و عدم مغفرته لا يقع شيء منهما وقوعا جزافيا بل على وفق
الحكمة، و هو العزيز الحكيم، فأما عدم مغفرته للشرك فإن الخلقة إنما تثبت على
ما فيها من الرحمة على أساس العبودية و الربوبية، قال تعالى: و ما خلقت الجن و
الإنس إلا ليعبدون: "الذاريات: 56"، و لا عبودية مع شرك، و أما مغفرته لسائر
المعاصي و الذنوب التي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الأنبياء و
الأولياء و الملائكة و الأعمال الصالحة على ما مر تفصيله في بحث الشفاعة في
الجزء الأول من هذا الكتاب.
و أما التوبة فالآية غير متعرضة لشأنها من حيث خصوص مورد الآية لأن موردها عدم
الإيمان و لا توبة معه، على أن التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتى الشرك، قال
تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله
يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم: "الزمر: 54".
و المراد بالشرك في الآية ما يعم الكفر لا محالة فإن الكافر أيضا لا يغفر له
البتة و إن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناء على أن أهل الكتاب لا
يسمون في القرآن مشركين و إن كان كفرهم بالقرآن و بما جاء به النبي شركا منهم
أشركوا به راجع تفسير آية 221 من البقرة، و إذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزل
الله مصدقا لما معهم فقد كفروا به، و أشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنه
شيء لا يريده الله على الصفة التي أخذوه بها فالمؤمن بموسى (عليه السلام) إذا
كفر بالمسيح (عليه السلام) فقد كفر بالله و أشرك به موسى، و لعل ما ذكرناه هو
النكتة لقوله تعالى: أن يشرك به دون أن يقول: المشرك أو المشركين.
و قوله تعالى: "لمن يشاء" تقييد للكلام لدفع توهم أن لأحد من الناس تأثيرا فيه
تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر، و تعليق
الأمور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير و الوجه في كلها أو جلها دفع ما
ذكرناه من التوهم كقوله تعالى: خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء
ربك عطاء غير مجذوذ: "هود: 108".
على أن من الحكمة ألا يغفر لكل مذنب ذنبه و إلا لغا الأمر و النهي، و بطل
التشريع، و فسد أمر التربية الإلهية، و إليه الإشارة بقوله: لمن يشاء، و من هنا
يظهر أن كل واحد من المعاصي لا بد أن لا يغفر بعض أفراده و إلا لغا النهي عنه،
و هذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإن الكلام في الوقوع دون الوعد
على وجه الإطلاق، و من المعاصي ما يصدر عمن لا يغفر له بشرك و نحوه.
فمعنى الآية أنه تعالى لا يغفر الشرك من كافر و لا مشرك، و يغفر سائر الذنوب
دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح، و ليس هو تعالى مقهورا أن يغفر كل
ذنب من هذه الذنوب لكل مذنب بل له أن يغفر و له أن لا يغفر، كل ذلك لحكمة.
قوله تعالى: "أ لم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" قال الراغب: أصل الزكاة النمو
الحاصل من بركة الله تعالى - إلى أن قال -: و تزكية الإنسان نفسه ضربان:
أحدهما: بالفعل و هو محمود، و إليه قصد بقوله: قد أفلح من تزكى، و الثاني
بالقول كتزكيته لعدل غيره، و ذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، و قد نهى الله
تعالى عنه فقال: لا تزكوا أنفسكم، و نهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه
عقلا و شرعا، و لهذا قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن و إن كان حقا؟ فقال: مدح الرجل
نفسه، انتهى كلامه.
و لما كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرض لحال أهل الكتاب كان الظاهر أن
هؤلاء المزكين لأنفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم، و لم يوصفوا بأهل الكتاب لأن
العلماء بالله و آياته لا ينبغي لهم أن يتلبسوا بأمثال هذه الرذائل فالإصرار
عليها انسلاخ عن الكتاب و علمه.
و يؤيده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم: نحن أبناء الله و أحباؤه:
"المائدة: 18"، و قولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة: "البقرة: 80" و
زعمهم الولاية كما في قوله تعالى: قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء
لله من دون الناس: "الجمعة: 6"، فالآية تكني عن اليهود، و فيها استشهاد لما
تقدم ذكره في الآيات السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحق و اتباعه، و الإيمان
بآيات الله سبحانه، و استقرار اللعن الإلهي فيهم، و أن ذلك من لوازم إعجابهم
بأنفسهم و تزكيتهم لها.
قوله تعالى: "بل الله يزكي من يشاء و لا يظلمون فتيلا" إضراب عن تزكيتهم
لأنفسهم، و رد لهم فيما زكوه، و بيان أن ذلك من شئون الربوبية يختص به تعالى
فإن الإنسان و إن أمكن أن يتصف بفضائل، و يتلبس بأنواع الشرف و السؤدد المعنوي
غير أن اعتناءه بذلك و اعتماده عليه لا يتم إلا بإعطائه لنفسه استغناء و
استقلالا و هو في معنى دعوى الألوهية و الشركة مع رب العالمين، و أين الإنسان
الفقير الذي لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و الاستغناء عن
الله سبحانه في خير أو فضيلة؟ و الإنسان في نفسه و في جميع شئون نفسه، و الخير
الذي يزعم أنه يملكه، و جميع أسباب ذلك الخير، مملوك لله سبحانه محضا من غير
استثناء، فما ذا يبقى للإنسان؟.
و هذا الغرور و الإعجاب الذي يبعث الإنسان إلى تزكية نفسه هو العجب الذي هو من
أمهات الرذائل، ثم لا يلبث هذا الإنسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمس
غيره فيتولد من رذيلته هذه رذيلة أخرى، و هي رذيلة التكبر و يتم تكبره في صورة
الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه، و يجري به كل
ظلم و بغي بغير حق و هتك محارم الله و بسط السلطة على دماء الناس و أعراضهم و
أموالهم.
و هذا كله إذا كان الوصف وصفا فرديا و أما إذا تعدى الفرد و صار خلقا اجتماعيا
و سيرة قومية فهو الخطر الذي فيه هلاك النوع و فساد الأرض، و هو الذي يحكيه
تعالى عن اليهود إذ قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل: "آل عمران: 75".
فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقا فيما يقول
أو كاذبا لأنه لا يملك ذلك لنفسه لكن الله سبحانه لما كان هو المالك لما ملكه،
و المعطي الفضل لمن يشاء و كيف يشاء كان له أن يزكي من شاء تزكية عملية بإعطاء
الفضل و إفاضة النعمة، و أن يزكي من يشاء تزكية قولية يذكره بما يمتدح به، و
يشرفه بصفات الكمال كقوله في آدم و نوح: إن الله اصطفى آدم و نوحا: "آل عمران:
33"، و قوله في إبراهيم و إدريس: إنه كان صديقا نبيا: "مريم: 41، 56"، و قوله
في يعقوب: و إنه لذو علم لما علمناه: "يوسف: 68"، و قوله في يوسف: إنه من
عبادنا المخلصين: "يوسف: 24"، و قوله في حق موسى: إنه كان مخلصا و كان رسولا
نبيا: "مريم: 51"، و قوله في حق عيسى: وجيها في الدنيا و الآخرة و من المقربين:
"آل عمران: 45"، و قوله في سليمان و أيوب: نعم العبد إنه أواب: "ص: 30، 44"، و
قوله في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): إن وليي الله الذي نزل الكتاب و هو
يتولى الصالحين: "الأعراف: 196"، و قوله: و إنك لعلى خلق عظيم: "القلم: 4"، و
كذا قوله تعالى في حق عدة من الأنبياء ذكرهم في سور الأنعام و مريم و الأنبياء
و الصافات و ص و غيرها.
و بالجملة فالتزكية لله سبحانه حق لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلا
من ظلم و إلى ظلم، و لا يصدر عنه تعالى إلا حقا و عدلا يقدر بقدره لا يفرط و لا
يفرط، و لذا ذيل قوله: بل الله يزكي من يشاء بقوله - و هو في معنى التعليل -: و
لا يظلمون فتيلا.
و قد تبين مما مر أن تزكيته تعالى و إن كانت مطلقة تشمل التزكية العملية و
التزكية القولية لكنها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القولية.
قوله تعالى: "و لا يظلمون فتيلا" الفتيل فعيل بمعنى المفعول من الفتل و هو اللي
قيل: المراد به ما يكون في شق النواة، و قيل: هو ما في بطن النواة، و قد ورد في
روايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أنه النقطة التي على النواة، و
النقير ما في ظهرها، و القطمير قشرها، و قيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ،
و كيف كان هو كناية عن الشيء الحقير الذي لا يعتد به.
و قد بان بالآية الشريفة أمران: أحدهما: أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه فضله و
يمدح نفسه بل هو مما يختص به تعالى فإن ظاهر الآية أن الله يختص به أن يزكي كل
من جاز أن يتلبس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضا أن يزكيه إلا بما زكاه
الله به، و ينتج ذلك أن الفضائل هي التي مدحها الله و زكاها فلا قدر لفضل لا
يعرفه الدين و لا يسميه فضلا، و لا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس
فلا يعرفوا لصاحب الفضل فضله، و لا يعظموا قدره بل هي شعائر الله و علائمه، و
قد قال تعالى: و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب: "الحج: 2" 3، فعلى
الجاهل أن يخضع للعالم و يعرف له قدره فإنه من اتباع الحق و قد قال تعالى: هل
يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون: "الزمر: 9"، و إن لم يكن للعالم أن
يتبجح بعلمه و يمدح نفسه، و الأمر في جميع الفضائل الحقيقية الإنسانية على هذا
الحال.
و ثانيهما: أن ما ذكره بعض باحثينا، و اتبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أن من
الفضائل الإنسانية الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين، و لا يوافق مذاق
القرآن، و الذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله و التعزز بالله قال
تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و
قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل: "آل عمران: 173"، و قال: إن القوة لله جميعا:
"البقرة: 165"، و قال: إن العزة لله جميعا: "يونس: 65"، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: "انظر كيف يفترون على الله الكذب"، إلخ فتزكيتهم أنفسهم ببنوة الله
و حبه و ولايته و نحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك، على أن أصل
التزكية افتراء و إن كانت عن صدق فإنه - كما تقدم بيانه - إسناد شريك إلى الله
و ليس له في ملكه شريك قال تعالى: و لم يكن له شريك في الملك: "الإسراء: 111".
و قوله: و كفى به إثما مبينا أي لو لم يكن في التزكية إلا أنه افتراء على الله
لكفى في كونه إثما مبينا، و التعبير بالإثم و هو الفعل المذموم الذي يمنع
الإنسان من نيل الخيرات و يبطئها - هو المناسب لهذه المعصية لكونه من إشراك
الشرك و فروعه، يمنع نزول الرحمة، و كذا في شرك الكفر الذي يمنع المغفرة كما
وقع في الآية السابقة: و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما بعد قوله: إن الله
لا يغفر أن يشرك به.
قوله تعالى: "أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و
الطاغوت"، الجبت و الجبس كل ما لا خير فيه، و قيل: و كل ما يعبد من دون الله
سبحانه، و الطاغوت مصدر في الأصل كالطغيان يستعمل كثيرا بمعنى الفاعل، و قيل:
هو كل معبود من دون الله، و الآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب
للذين كفروا على الذين آمنوا بأن سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين، و ليس
عند المؤمنين إلا دين التوحيد المنزل في القرآن المصدق لما عندهم، و لا عند
المشركين إلا الإيمان بالجبت و الطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأن للمشركين
نصيبا من الحق، و هو الإيمان بالجبت و الطاغوت الذي نسبه الله تعالى إليهم ثم
لعنهم الله بقوله: أولئك الذين لعنهم الله الآية.
و هذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول أن مشركي مكة طلبوا من أهل الكتاب أن يحكموا
بينهم و بين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين، و سيأتي
الرواية في ذلك في البحث الروائي الآتي.
و قد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذم و اللوم عليهم فإن
إيمان علماء الكتاب بالجبت و الطاغوت و قد بين لهم الكتاب أمرهما أشنع و أفظع.
قوله تعالى: "أم لهم نصيب من الملك" إلى قوله: "نقيرا" النقير فعيل بمعنى
المفعول و هو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره، و قد مر
له معنى آخر في قوله: و لا يظلمون فتيلا الآية.
و قد ذكروا أن "أم" في قوله: أم لهم نصيب من الملك، منقطعة و المعنى: بل أ لهم
نصيب من الملك، و الاستفهام إنكاري أي ليس لهم ذلك.
و قد جوز بعضهم أن تكون "أم" متصلة، و قال: إن التقدير: أ هم أولى بالنبوة أم
لهم نصيب من الملك؟ و رد بأن حذف الهمزة إنما يجوز في ضرورة الشعر، و لا ضرورة
في القرآن، و الظاهر أن أم متصلة و أن الشق المحذوف ما يدل عليه الآية السابقة:
أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الآية، و التقدير: أ لهم كل ما حكموا
به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس؟ و على هذا تستقيم الشقوق و
تترتب، و يتصل الكلام في سوقه.
و المراد بالملك هو السلطنة على الأمور المادية و المعنوية فيشمل ملك النبوة و
الولاية و الهداية و ملك الرقاب و الثروة، و ذلك أنه هو الظاهر من سياق الجمل
السابقة و اللاحقة فإن الآية السابقة تومىء إلى دعواهم أنهم يملكون القضاء و
الحكم على المؤمنين، و هو مسانخ للملك على الفضائل المعنوية و ذيل الآية: "فإذا
لا يؤتون الناس نقيرا" يدل على ملك الماديات أو ما يشمل ذلك فالمراد به الأعم
من ملك الماديات و المعنويات.
فيئول معنى الآية إلى نحو قولنا: أم لهم نصيب من الملك الذي أنعم الله به على
نبيه بالنبوة و الولاية و الهداية و نحوه، و لو كان لهم ذلك لم يؤتوا الناس أقل
القليل الذي لا يعتد به لبخلهم و سوء سريرتهم، فالآية قريبة المضمون من قوله
تعالى: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق: - الإسراء:
100.
قوله تعالى: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" و هذا آخر الشقوق
الثلاثة المذكورة، و وجه الكلام إلى اليهود جوابا عن قضائهم على المؤمنين بأن
دين المشركين أهدى من دينهم.
و المراد بالناس على ما يدل عليه هذا السياق هم الذين آمنوا، و بما آتاهم الله
من فضله هو النبوة و الكتاب و المعارف الدينية، غير أن ذيل الآية: فقد آتينا آل
إبراهيم "إلخ"، يدل على أن هذا الذي أطلق عليه الناس من آل إبراهيم، فالمراد
بالناس حينئذ هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ما انبسط على غيره من هذا
الفضل المذكور في الآية فهو من طريقه و ببركاته العالية، و قد تقدم في تفسير
قوله تعالى: إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم الآية: - آل عمران: 33"، إن
آل إبراهيم هو النبي و آله.
و إطلاق الناس على المفرد لا ضير فيه فإنه على نحو الكناية كقولك لمن يتعرض لك
و يؤذيك: لا تتعرض للناس، و ما لك و للناس؟ تريد نفسك أي لا تتعرض لي.
قوله تعالى: "فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة" الجملة إيئاس لهم في
حسدهم، و قطع لرجائهم زوال هذه النعمة، و انقطاع هذا الفضل بأن الله قد أعطى آل
إبراهيم من فضله ما أعطى، و آتاهم من رحمته ما آتى فليموتوا بغيظهم فلن ينفعهم
الحسد شيئا.
و من هنا يظهر أن المراد بآل إبراهيم إما النبي و آله من أولاد إسماعيل أو مطلق
آل إبراهيم من أولاد إسماعيل و إسحاق حتى يشمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الذي هو المحسود عند اليهود بالحقيقة، و ليس المراد بآل إبراهيم بني إسرائيل من
نسل إبراهيم فإن الكلام على هذا التقدير يعود تقريرا لليهود في حسدهم النبي أو
المؤمنين لمكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم فيفسد معنى الجملة كما لا
يخفى.
و قد ظهر أيضا كما تقدمت الإشارة إليه أن هذه الجملة: فقد آتينا آل إبراهيم
"إلخ" تدل على أن الناس المحسودين هم من آل إبراهيم، فيتأيد به أن المراد
بالناس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أما المؤمنون به فليسوا جميعا من
ذرية إبراهيم، و لا كرامة لذريته من المؤمنين على غيرهم حتى يحمل الكلام عليهم،
و لا يوجب مجرد الإيمان و اتباع ملة إبراهيم تسمية المتبعين بأنهم آل إبراهيم،
و كذا قوله تعالى: "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين
آمنوا الآية: "آل عمران: 68" لا يوجب تسمية الذين آمنوا بآل إبراهيم لمكان
الأولوية فإن في الآية ذكرا من الذين اتبعوا إبراهيم، و ليسوا يسمون آل إبراهيم
قطعا، فالمراد بآل إبراهيم النبي أو هو و آله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
إسماعيل جده و من في حذوه.
قوله تعالى: "و آتيناهم ملكا عظيما" قد تقدم أن مقتضى السياق أن يكون المراد
بالملك ما يعم الملك المعنوي الذي منه النبوة و الولاية الحقيقية على هداية
الناس و إرشادهم و يؤيده أن الله سبحانه لا يستعظم الملك الدنيوي لو لم ينته
إلى فضيلة معنوية و منقبة دينية، و يؤيد ذلك أيضا أن الله سبحانه لم يعد فيما
عده من الفضل في حق آل إبراهيم النبوة و الولاية إذ قال: فقد آتينا آل إبراهيم
الكتاب و الحكمة، فيقوى أن يكون النبوة و الولاية مندرجتين في إطلاق قوله: و
آتيناهم ملكا عظيما.
قوله تعالى: "فمنهم من آمن به و منهم من صد عنه" الصد الصرف و قد قوبل الإيمان
بالصد لأن اليهود ما كانوا ليقنعوا على مجرد عدم الإيمان بما أنزل على النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) دون أن يبذلوا مبلغ جهدهم في صد الناس عن سبيل الله
و الإيمان بما نزله من الكتاب، و ربما كان الصد بمعنى الإعراض و حينئذ يتم
التقابل من غير عناية زائدة.
قوله تعالى: "و كفى بجهنم سعيرا" تهديد لهم بسعير جهنم في مقابل ما صدوا عن
الإيمان بالكتاب و سعروا نار الفتنة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
الذين آمنوا معه.
ثم بين تعالى كفاية جهنم في أمرهم بقوله: إن الذين كفروا بآياتنا إلى آخر الآية
و هو بيان في صورة التعليل، ثم عقبه بقوله: و الذين آمنوا و علموا الصالحات إلى
آخر الآية ليتبين الفرق بين الطائفتين: من آمن به، و من صد عنه، و يظهر أنهما
في قطبين متخالفين من سعادة الحياة الأخرى و شقائها: دخول الجنات و ظلها
الظليل، و إحاطة سعير جهنم و الاصطلاء بالنار - أعاذنا الله - و معنى الآيتين
واضح.
قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم" إلخ
الفقرة الثانية من الآية: "و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" ظاهره
الارتباط بالآيات السابقة عليها فإن البيان الإلهي فيها يدور حول حكم اليهود
للمشركين بأنهم أهدى سبيلا من المؤمنين، و قد وصفهم الله تعالى في أول بيانه
بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب و الذي في الكتاب هو تبيين آيات الله و المعارف
الإلهية، و هي أمانات مأخوذ عليها الميثاق أن تبين للناس، و لا تكتم عن أهله.
و هذا الذي ذكر من القرائن يؤيد أن يكون المراد بالأمانات ما يعم الأمانات
المالية و غيرها من المعنويات كالعلوم و المعارف الحقة التي من حقها أن يبلغها
حاملوها أهلها من الناس.
و بالجملة لما خانت اليهود الأمانات الإلهية المودعة عندهم من العلم بمعارف
التوحيد و آيات نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فكتموها و لم يظهروها في
واجب وقتها، ثم لم يقنعوا بذلك حتى جاروا في الحكم بين المؤمنين و المشركين
فحكموا للوثنية على التوحيد فآل أمرهم فيه إلى اللعن الإلهي و جر ذلك إياهم إلى
عذاب السعير فلما كان من أمرهم ما كان، غير سبحانه سياق الكلام من التكلم إلى
الغيبة فأمر الناس بتأدية الأمانات إلى أهلها، و بالعدل في الحكم فقال: إن الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس "إلخ".
و الذي وسعنا به معنى تأدية الأمانات و العدل في الحكم هو الذي يقضي به السياق
على ما عرفت، فلا يرد عليه أنه عدول عن ظاهر لفظ الأمانة و الحكم فإن المتبادر
في مرحلة التشريع من مضمون الآية وجوب رد الأمانة المالية إلى صاحبها، و عدل
القاضي و هو الحكم في مورد القضاء الشرعي، و ذلك أن التشريع المطلق لا يتقيد
بما يتقيد به موضوعات الأحكام الفرعية في الفقه بل القرآن مثلا يبين وجوب رد
الأمانة على الإطلاق، و وجوب العدل في الحكم على الإطلاق فما كان من ذلك راجعا
إلى الفقه من الأمانة المالية و القضاء في المرافعات راجعه فيه الفقه، و ما كان
غير ذلك استفاد منه فن أصول المعارف، و هكذا.
بحث روايي
في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و
البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء
اليهود إذا كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لوى لسانه، و قال: أرعنا
سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام و عابه فأنزل الله فيه: أ لم تر إلى
الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة إلى قوله: فلا يؤمنون إلا قليلا.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي: في قوله تعالى: يا أيها الذين
أوتوا الكتاب الآية قال: نزلت في مالك بن الصيف، و رفاعة بن زيد بن التابوت من
بني قينقاع.
و فيه، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في
الدلائل عن ابن عباس قال: كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤساء من
أحبار اليهود منهم عبد الله بن سوريا، و كعب بن أسد فقال لهم: يا معشر اليهود
اتقوا الله و أسلموا فوالله إنكم لتعلمون إن الذي جئتكم به لحق فقالوا: ما نعرف
ذلك يا محمد فأنزل الله فيهم: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا
الآية.
أقول: ظاهر الآيات الشريفة على ما تقدم في البيان السابق و إن كان نزولها في
اليهود من أهل الكتاب إلا أن ما نقلناه من سبب النزول لا يزيد على أنه حكم
تطبيقي كغالب نظائره من الأخبار الحاكية لأسباب النزول، و الله أعلم.
و في تفسير البرهان، عن النعماني بإسناده عن جابر عن الباقر (عليه السلام) في
حديث طويل يصف فيه خروج السفياني، و فيه قال: و ينزل أمير جيش السفياني البيداء
فينادي مناد من السماء: يا بيداء أبيدي بالقوم فيخسف بهم فلا يفلت منهم إلا
ثلاثة نفر يحول الله وجوههم إلى أقفيتهم، و هم من كلب، و فيهم نزلت هذه الآية:
يا أيها الذين أوتوا الكتاب - آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم - من قبل أن نطمس
وجوها فنردها على أدبارها الآية: أقول: و رواه عن المفيد أيضا بإسناده عن جابر
عن الباقر (عليه السلام) في نظير الخبر في قصة السفياني.
و في الفقيه، بإسناده عن ثوير عن أبيه: أن عليا (عليه السلام) قال: ما في
القرآن آية أحب إلي من قوله عز و جل: إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون
ذلك لمن يشاء: أقول: و رواه في الدر المنثور عن الفريابي و الترمذي و حسنه عن
علي.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال لما نزلت: يا
عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية فقام رجل فقال: و الشرك يا نبي الله؟ فكره
ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية.
و فيه، أخرج ابن المنذر عن أبي مجاز قال: لما نزلت هذه الآية: يا عبادي الذين
أسرفوا الآية قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر فتلاها على الناس
فقام إليه رجل فقال: و الشرك بالله؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية: إن
الله لا يغفر أن يشرك به - و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء فأثبتت هذه في الزمر، و
أثبتت هذه في النساء.
أقول: و قد عرفت فيما تقدم أن آية الزمر ظاهرة بحسب ما تتعقبه من الآيات في
المغفرة بالتوبة، و لا ريب أن التوبة يغفر معها كل ذنب حتى الشرك، و أن آية
النساء موردها غير مورد التوبة فلا تنافي بين الآيتين مضمونا حتى تكون إحداهما
ناسخة أو مخصصة للأخرى.
و في المجمع، عن الكلبي: في الآية: نزلت في المشركين وحشي و أصحابه، و ذلك أنه
لما قتل حمزة، و كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكة
ندم على صنيعه هو و أصحابه فكتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
أنا قد ندمنا على الذي صنعناه، و ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول و
أنت بمكة: و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر - و لا يقتلون النفس التي حرم
الله إلا بالحق - و لا يزنون الآيتان، و قد دعونا مع الله إلها آخر، و قتلنا
النفس التي حرم الله، و زنينا، فلو لا هذه لاتبعناك فنزلت الآية: إلا من تاب و
آمن و عمل عملا صالحا الآيتين فبعث بهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
إلى وحشي و أصحابه، فلما قرأهما كتبوا إليه: أن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل
عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت: إن الله لا يغفر الآية فبعث بها
إليهم فقرءوها فبعثوا إليه: أنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزلت: يا عبادي
الذين أسرفوا على أنفسهم - لا تقنطوا من رحمة الله - إن الله يغفر الذنوب جميعا
فبعث بها إليهم فلما قرءوها دخل هو و أصحابه في الإسلام، و رجعوا إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) فقبل منهم، ثم قال لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلما
أخبره قال: ويحك غيب شخصك عني فلحق وحشي: بعد ذلك بالشام، و كان بها إلى أن
مات: أقول: و قد ذكر هذه الرواية الرازي في تفسيره عن ابن عباس و التأمل في
موارد هذه الآيات التي تذكر الرواية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يراجع بها وحشيا لا يدع للمتأمل شكا في أن الرواية موضوعة قد أراد واضعها
أن يقدر أن وحشيا و أصحابه مغفور لهم و إن ارتكبوا من المعاصي كل كبيرة و صغيرة
فقد التقط آيات كثيرة من مواضع مختلفة من القرآن فالاستثناء من موضع، و
المستثنى من موضع مع أن كلا منها واقعة في محل محفوفة بأطراف لها معها ارتباط و
اتصال، و للمجموع سياق لا يحتمل التقطيع و التفصيل فقطعها ثم رتبها و نضدها
نضدا يناسب هذه المراجعة العجيبة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين
وحشي.
و لقد أجاد بعض المفسرين حيث قال بعد الإشارة إلى الرواية: كأنهم يثبتون أن
الله سبحانه كان يداعب وحشيا.
فواضع الرواية لم يرد إلا أن يشرف وحشيا بمغفرة محتومة مختومة لا يضره معها أي
ذنب أذنب و أي فظيعة أتى بها، و عقب ذلك ارتفاع المجازاة على المعاصي، و لازمه
ارتفاع التكاليف عن البشر على ما يراه النصرانية بل أشنع فإنهم إنما رفعوا
التكاليف بتفدية مثل عيسى المسيح، و هذا يرفعه اتباعا لهوى وحشي.
و وحشي هذا هو عبد لابن مطعم قتل حمزة بأحد ثم لحق مكة ثم أسلم بعد أخذ الطائف،
و قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): غيب شخصك عني فلحق بالشام و سكن
حمصا و اشتغل في عهد عمر بالكتابة في الديوان، ثم أخرج منه لكونه يدمن الخمر، و
قد جلد لذلك غير مرة، ثم مات في خلافة عثمان، قتله الخمر على ما روي.
روى ابن عبد البر في الاستيعاب بإسناده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن
سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا و عبد الله بن
عدي بن الخيار فمررنا بحمص و بها وحشي، فقلنا: لو أتيناه و سألناه عن قتله حمزة
كيف قتله، فلقينا رجلا و نحن نسأل عنه فقال: إنه رجل قد غلبت عليه الخمر فإن
تجداه صاحيا تجداه رجلا عربيا يحدثكما ما شئتما من حديث، و إن تجداه على غير
ذلك فانصرفا عنه، قال: فأقبلنا حتى انتهينا إليه، الحديث، و فيه ذكر كيفية قتله
حمزة يوم أحد.
و في المجمع، روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطاب قال: كنا على عهد رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا بأنه من أهل
النار حتى نزلت الآية فأمسكنا عن الشهادات.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر من طريق المعتمر بن سليمان عن سليمان بن
عتبة البارقي قال: حدثنا إسماعيل بن ثوبان قال: شهدت في المسجد قبل الداء
الأعظم فسمعتهم يقولون: من قتل مؤمنا إلى آخر الآية فقال المهاجرون و الأنصار:
قد أوجب له النار فلما نزلت: إن الله لا يغفر أن يشرك به - و يغفر ما دون ذلك
لمن يشاء قالوا: ما شاء الله، يصنع الله ما يشاء.
أقول: و روي ما يقرب من الروايتين عن ابن عمر بغير واحد من الطرق، و هذه
الروايات لا تخلو من شيء فلا نظن بعامة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) أن يجهلوا أن هذه الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به لا تزيد في مضمونها
على آيات الشفاعة شيئا كما تقدم بيانه، أو أن يغفلوا عن أن معظم آيات الشفاعة
مكية كقوله تعالى في سورة الزخرف: و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا
من شهد بالحق و هم يعلمون: "الزخرف: 86"، و مثلها آيات الشفاعة الواقعة في سورة
يونس، و الأنبياء، و طه، و سبأ، و النجم، و المدثر كلها آيات مكية تثبت الشفاعة
على ما مر بيانه، و هي عامة لجميع الذنوب و مقيدة في جانب المشفوع له بالدين
المرضي و هو التوحيد و نفي الشريك و في جانب الله تعالى بالمشيئة، فمحصل مفادها
شمول المغفرة لجميع الذنوب إلا الشرك على مشيئة من الله، و هذا بعينه مفاد هذه
الآية: "إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء".
و أما الآيات التي توعد قاتل النفس المحترمة بغير حق.
و آكل الربا، و قاطع الرحم بجزاء النار الخالد كقوله تعالى: و من يقتل مؤمنا
متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية: "النساء: 93"، و قوله في الربا: و من عاد
فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون: "البقرة: 275"، و قوله في قاطع الرحم:
أولئك لهم اللعنة و لهم سوء الدار: "الرعد: 25"، و غير ذلك من الآيات فهذه
الآيات إنما توعد بالشر و تنبىء عن جزاء النار، و أما كونه جزاء محتوما لا يقبل
التغيير و الارتفاع فلا صراحة لها فيه.
و بالجملة لا يترجح آية "إن الله لا يغفر" على آيات الشفاعة بأمر زائد في
مضمونها يمهد لهم ما ذكروه.
فليس يسعهم أن يفهموا من آيات الكبائر تحتم النار حتى يجوز لهم الشهادة على
مرتكبها بالنار، و لا يسعهم أن يفهموا من آية المغفرة إن الله لا يغفر أن يشرك
به إلخ أمرا ليس يفتهم من آيات الشفاعة حتى يوجب لهم القول بنسخها أو تخصيصها
أو تقييدها آيات الكبائر.
و يومىء إلى ذلك ما ورد في بعض هذه الروايات، و هو ما رواه في الدر المنثور، عن
ابن الضريس و أبي يعلى و ابن المنذر و ابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا
نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم):
إن الله لا يغفر أن يشرك به - و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، و قال: إني ادخرت
دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم
نطقنا بعد و رجونا.
فظاهر الرواية أن الذي فهموه من آية المغفرة فهموا مثله من حديث الشفاعة لكن
يبقى عليه سؤال آخر، و هو أنه ما بالهم فهموا جواز مغفرة الكبائر من حديث
الشفاعة، و لم يكونوا يفهمونه من آيات الشفاعة المكية على كثرتها و دلالتها و
طول العهد؟ ما أدري!.
و في الدر المنثور، في قوله: أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى
قوله: سبيلا: أخرج البيهقي في الدلائل و ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد
الله قال: لما كان من أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان اعتزل كعب بن
الأشرف و لحق بمكة و كان بها، و قال: لا أعين عليه و لا أقاتله، فقيل له بمكة:
يا كعب أ ديننا خير أم دين محمد و أصحابه؟ قال: دينكم خير و أقدم، و دين محمد
حديث، فنزلت فيه: أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الآية.
أقول: و في سبب نزول الآية روايات على وجوه مختلفة أسلمها ما أوردناه غير أن
الجميع تشترك في أصل القصة و هو أن بعضا من اليهود حكموا لقريش على النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بأن دينهم خير من دينه.
و في تفسير البرهان، في قوله تعالى: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله
الآية: عن الشيخ في أماليه، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): أم
يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله قال: نحن الناس.
و في الكافي، بإسناده عن بريد عن الباقر (عليه السلام) في حديث: "أم يحسدون
الناس على ما آتاهم الله من فضله" نحن الناس المحسودون، الحديث.
أقول: و هذا المعنى مروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضا بطرق كثيرة
مودعة في جوامع الشيعة كالكافي، و التهذيب، و المعاني، و البصائر، و تفسيري
القمي و العياشي، و غيرها.
و في معناها من طرق أهل السنة ما عن ابن المغازلي يرفعه إلى محمد بن علي الباقر
(عليهما السلام) في قوله تعالى": أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"
قال: نحن الناس و الله.
و ما في الدر المنثور، عن ابن المنذر و الطبراني من طريق عطاء عن ابن عباس: في
قوله: "أم يحسدون الناس" قال: نحن الناس دون الناس:، و قد روي فيه أيضا تفسير
الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن عكرمة و مجاهد و مقاتل و أبي
مالك، و قد مر فيما قدمناه من البيان: أن الظاهر كون المراد بالناس رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) و أهل بيته ملحقون به.
و في تفسير العياشي، عن حمران عن الباقر (عليه السلام) "فقد آتينا آل إبراهيم
الكتاب" قال: النبوة، "و الحكمة" قال: الفهم و القضاء، "و ملكا عظيما" قال:
الطاعة.
أقول: المراد بالطاعة الطاعة المفترضة على ما ورد في سائر الأحاديث، و الأخبار
في هذه المعاني أيضا كثيرة، و في بعضها تفسير الطاعة المفترضة بالإمامة و
الخلافة كما في الكافي بإسناده عن بريد عن الباقر (عليه السلام).
و في تفسير القمي، في قوله تعالى: إن الذين كفروا بآياتنا الآية قال: الآيات
أمير المؤمنين و الأئمة (عليهم السلام).
أقول: و هو من الجري.
و في مجالس الشيخ، بإسناده عن حفص بن غياث القاضي قال: كنت عند سيد الجعافرة
جعفر بن محمد (عليهما السلام) لما قدمه المنصور فأتاه ابن أبي العوجاء و كان
ملحدا فقال: ما تقول في هذه الآية: "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها
ليذوقوا العذاب"؟ هب هذه الجلود عصت فعذبت فما بال الغير؟ قال أبو عبد الله
(عليه السلام): ويحك هي هي و هي غيرها، قال: اعقلني هذا القول، فقال له: أ رأيت
لو أن رجلا عمد إلى لبنة فكسرها ثم صب عليها الماء و جبلها ثم ردها إلى هيئتها
الأولى أ لم تكن هي هي و هي غيرها؟ فقال: بلى أمتع الله بك: أقول: و رواه في
الإحتجاج، أيضا عن حفص بن غياث عنه (عليه السلام)، و القمي في تفسيره مرسلا: و
يعود حقيقة الجواب إلى أن وحدة المادة محفوظة بوحدة الصورة فبدن الإنسان كأجزاء
بدنه باق على وحدته ما دام الإنسان هو الإنسان و إن تغير البدن بأي تغير حدث
فيه.
و في الفقيه، قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل لهم فيها
أزواج مطهرة قال: الأزواج المطهرة اللاتي لا يحضن و لا يحدثن.
و في تفسير البرهان، في قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الآية:
عن محمد بن إبراهيم النعماني بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما
السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها - و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل فقال: أمر الله الإمام أن يؤدي
الأمانة إلى الإمام الذي بعده، ليس له أن يزويها عنه، أ لا تسمع قوله: "و إذا
حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل - إن الله نعما يعظكم به" هم الحكام يا
زرارة، أنه خاطب بها الحكام: أقول: و صدر الحديث مروي بطرق كثيرة عنهم (عليهم
السلام)، و ذيله يدل على أنه من باب الجري، و أن الآية نازلة في مطلق الحكم و
إعطاء ذي الحق حقه فينطبق على مثل ما تقدم سابقا.
و في معناه ما في الدر المنثور، عن سعيد بن منصور و الفريابي و ابن جرير و ابن
المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل
الله و أن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له و أن يطيعوا و
أن يجيبوا إذا دعوا
4 سورة النساء - 59 - 70
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَ أَطِيعُوا الرّسولَ وَ أُولى
الأَمْرِ مِنكمْ فَإِن تَنَزَعْتُمْ فى شىْءٍ فَرُدّوهُ إِلى اللّهِ وَ
الرّسولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِك خَيرٌ
وَ أَحْسنُ تَأْوِيلاً (59) أَ لَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ
ءَامَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْك وَ مَا أُنزِلَ مِن قَبْلِك يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إِلى الطغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ
الشيْطنُ أَن يُضِلّهُمْ ضلَلا بَعِيداً (60) وَ إِذَا قِيلَ لهَُمْ تَعَالَوْا
إِلى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَ إِلى الرّسولِ رَأَيْت الْمُنَفِقِينَ يَصدّونَ
عَنك صدُوداً (61) فَكَيْف إِذَا أَصبَتْهُم مّصِيبَةُ بِمَا قَدّمَت
أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَاءُوك يحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسناً وَ
تَوْفِيقاً (62) أُولَئك الّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فى قُلُوبِهِمْ
فَأَعْرِض عَنهُمْ وَ عِظهُمْ وَ قُل لّهُمْ فى أَنفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغاً
(63) وَ مَا أَرْسلْنَا مِن رّسولٍ إِلا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَ لَوْ
أَنّهُمْ إِذ ظلَمُوا أَنفُسهُمْ جَاءُوك فَاستَغْفَرُوا اللّهَ وَ استَغْفَرَ
لَهُمُ الرّسولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رّحِيماً (64) فَلا وَ رَبِّك لا
يُؤْمِنُونَ حَتى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يجِدُوا فى
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمّا قَضيْت وَ يُسلِّمُوا تَسلِيماً (65) وَ لَوْ أَنّا
كَتَبْنَا عَلَيهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَرِكُم
مّا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنهُمْ وَ لَوْ أَنهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظونَ
بِهِ لَكانَ خَيراً لهُّمْ وَ أَشدّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لاَتَيْنَهُم
مِّن لّدُنّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَ لَهَدَيْنَهُمْ صرَطاً مّستَقِيماً (68)
وَ مَن يُطِع اللّهَ وَ الرّسولَ فَأُولَئك مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ
عَلَيهِم مِّنَ النّبِيِّينَ وَ الصدِّيقِينَ وَ الشهَدَاءِ وَ الصلِحِينَ وَ
حَسنَ أُولَئك رَفِيقاً (69) ذَلِك الْفَضلُ مِنَ اللّهِ وَ كَفَى بِاللّهِ
عَلِيماً (70)
بيان
الآيات - كما ترى - غير عادمة الارتباط بما تقدمها من الآيات فإن آيات السورة
آخذة من قوله تعالى: و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا، كأنها مسوقة لترغيب
الناس في الإنفاق في سبيل الله، و إقامة صلب طبقات المجتمع و أرباب الحوائج من
المؤمنين و ذم الذين يصدون الناس عن القيام بهذا المشروع الواجب، ثم الحث على
إطاعة الله و إطاعة الرسول و أولي الأمر، و قطع منابت الاختلاف و التجنب عن
التشاجر و التنازع، و إرجاعه إلى الله و رسوله لو اتفق، و التحرز عن النفاق، و
لزوم التسليم لأوامر الله و رسوله و هكذا إلى أن تنتهي إلى الآيات النادبة إلى
الجهاد المبينة لحكمه أو الآمرة بالنفر في سبيل الله، فجميع هذه الآيات مجهزة
للمؤمنين للجهاد في سبيل الله، و منظمة لنظام أمورهم في داخلهم، و ربما تخللها
آية أو آيتان بمنزلة الاعتراض في الكلام لا يخل باتصال الكلام كما تقدم الإيماء
إليه في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى: -
الآية 43 من السورة.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر
منكم" لما فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له و بث الإحسان بين طبقات
المؤمنين و ذم من يعيب هذا الطريق المحمود أو صد عنه صدودا عاد إلى أصل المقصود
بلسان آخر يتفرع عليه فروع أخر، بها يستحكم أساس المجتمع الإسلامي و هو التحضيض
و الترغيب في أخذهم بالائتلاف و الاتفاق، و رفع كل تنازع واقع بالرد إلى الله و
رسوله.
و لا ينبغي أن يرتاب في أن قوله: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، جملة سيقت
تمهيدا و توطئة للأمر برد الأمر إلى الله و رسوله عند ظهور التنازع، و إن كان
مضمون الجملة أساس جميع الشرائع و الأحكام الإلهية.
فإن ذلك ظاهر تفريع قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول، ثم
العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله: أ لم تر إلى الذين يزعمون إلخ، و قوله:
و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله إلخ، و قوله: فلا و ربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم إلخ.
و لا ينبغي أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه
إلينا من طريق رسوله من المعارف و الشرائع، و أما رسوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فله حيثيتان: إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب، و
هو ما يبينه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب و ما يتعلق و يرتبط
بها كما قال تعالى: و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: - النحل 44،
و الثانية: ما يراه من صواب الرأي و هو الذي يرتبط بولايته الحكومة و القضاء
قال تعالى: لتحكم بين الناس بما أراك الله: - النساء 105، و هذا هو الرأي الذي
كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، و هو الذي كان (صلى الله عليه
وآله وسلم) يحكم به في عزائم الأمور، و كان الله سبحانه أمره في اتخاذ الرأي
بالمشاورة فقال: "و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله -: آل عمران 159،
فأشركهم به في المشاورة و وحده في العزم.
إذا عرفت هذا علمت أن لإطاعة الرسول معنى و لإطاعة الله سبحانه معنى آخر و إن
كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لأن الله هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال:
"و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله" فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما
يبينه بالوحي، و فيما يراه من الرأي.
و هذا المعنى و الله أعلم هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله: و أطيعوا
الله و أطيعوا الرسول، لا ما ذكره المفسرون: أن التكرار للتأكيد فإن القصد لو
كان متعلقا بالتأكيد كان ترك التكرار كما لو قيل: و أطيعوا الله و الرسول أدل
عليه و أقرب منه فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه و أن
الإطاعتين واحدة، و ما كل تكرار يفيد التأكيد.
و أما أولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي، و إنما شأنهم
الرأي الذي يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم و قولهم، و
لذلك لما ذكر وجوب الرد و التسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله و الرسول
فقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و
اليوم الآخر، و ذلك أن المخاطبين بهذا الرد هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر
الآية: يا أيها الذين آمنوا، و التنازع تنازعهم بلا ريب، و لا يجوز أن يفرض
تنازعهم مع أولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين
أنفسهم، و ليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها بقرينة
الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله و رسوله، و هذا
الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبينة المقررة في الكتاب و السنة، و
الكتاب و السنة حجتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، و قول أولي
الأمر في أن الكتاب و السنة يحكمان بكذا أيضا حجة قاطعة فإن الآية تقرر افتراض
الطاعة من غير أي قيد أو شرط، و الجميع راجع بالآخرة إلى الكتاب و السنة.
و من هنا يظهر أن ليس لأولي الأمر هؤلاء - كائنين من كانوا - أن يضعوا حكما
جديدا، و لا أن ينسخوا حكما ثابتا في الكتاب و السنة، و إلا لم يكن لوجوب إرجاع
موارد التنازع إلى الكتاب و السنة و الرد إلى الله و الرسول معنى على ما يدل
عليه قوله: و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم
الخيرة من أمرهم و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا: - الأحزاب 36،
فقضاء الله هو التشريع و قضاء رسوله إما ذلك و إما الأعم، و إنما الذي لهم أن
يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية، و أن يكشفوا عن حكم الله و رسوله في القضايا
و الموضوعات العامة.
و بالجملة لما لم يكن لأولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، و لا عندهم إلا ما
لله و رسوله من الحكم أعني الكتاب و السنة لم يذكرهم الله سبحانه ثانيا عند ذكر
الرد بقوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول، فلله تعالى إطاعة
واحدة، و للرسول و أولي الأمر إطاعة واحدة، و لذلك قال: أطيعوا الله و أطيعوا
الرسول و أولي الأمر منكم.
و لا ينبغي أن يرتاب في أن هذه الإطاعة المأمور بها في قوله: أطيعوا الله و
أطيعوا الرسول، إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، و لا مقيدة بقيد و هو الدليل على
أن الرسول لا يأمر بشيء، و لا ينهى عن شيء يخالف حكم الله في الواقعة و إلا كان
فرض طاعته تناقضا منه تعالى و تقدس و لا يتم ذلك إلا بعصمة فيه (صلى الله عليه
وآله وسلم).
و هذا الكلام بعينه جار في أولي الأمر غير أن وجود قوة العصمة في الرسول لما
قامت عليه الحجج من جهة العقل و النقل في حد نفسه من غير جهة هذه الآية دون
أولي الأمر ظاهرا أمكن أن يتوهم متوهم أن أولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة
و لا يتوقف عليها الآية في استقامة معناها.
بيان ذلك أن الذي تقرره الآية حكم مجعول لمصلحة الأمة يحفظ به مجتمع المسلمين
من تسرب الخلاف و التشتت فيهم و شق عصاهم فلا يزيد على الولاية المعهودة بين
الأمم و المجتمعات، تعطي للواحد من الإنسان افتراض الطاعة و نفوذ الكلمة، و هم
يعلمون أنه ربما يعصي و ربما يغلط في حكمه، لكن إذا علم بمخالفته القانون في
حكمه لا يطاع فيه، و ينبه فيما أخطأ، و فيما يحتمل خطؤه ينفذ حكمه و إن كان
مخطئا في الواقع و لا يبالي بخطئه فإن مصلحة حفظ وحدة المجتمع و التحرز من تشتت
الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الأغلاط و الاشتباهات.
و هذا حال أولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم فرض الله طاعتهم، على
المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب و السنة فلا يجوز ذلك منهم و لا ينفذ
حكمهم لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق" و قد روى هذا المعنى الفريقان و به يقيد إطلاق الآية، و أما الخطأ و
الغلط فإن علم به رد إلى الحق و هو حكم الكتاب و السنة، و إن احتمل خطؤه نفذ
فيه حكمه كما فيما علم عدم خطإه، و لا بأس بوجوب القبول و افتراض الطاعة فيما
يخالف الواقع هذا النوع لأن مصلحة حفظ الوحدة في الأمة و بقاء السؤدد و الأبهة
تتدارك بها هذه المخالفة، و يعود إلى مثل ما تقرر في أصول الفقه من حجية الطرق
الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها، و عند مخالفة مؤداها للواقع
تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق.
و بالجملة طاعة أولي الأمر مفترضة و إن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق و
الخطأ فإن فسقوا فلا طاعة لهم، و إن أخطئوا ردوا إلى الكتاب و السنة إن علم
منهم ذلك، و نفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك، و لا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في
الواقع دون الظاهر رعاية لمصلحة الإسلام و المسلمين، و حفظا لوحدة الكلمة.
و أنت بالتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصلها، و ذلك أن
هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر
من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" و
ما يؤدي هذا المعنى من الآيات القرآنية كقوله: إن الله لا يأمر بالفحشاء:
"الأعراف: 28"، و ما في هذا المعنى من الآيات.
و كذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعا نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة
كفرض طاعة أمراء السرايا الذين كان ينصبهم عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، و كذا الحكام الذين كان يوليهم على البلاد كمكة و اليمن أو يخلفهم
بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، و كحجية قول المجتهد على مقلده و هكذا لكنه لا يوجب
تقيد الآية فكون مسألة من المسائل صحيحة في نفسه أمر و كونها مدلولا عليها
بظاهر آية قرآنية أمر آخر.
فالآية تدل على افتراض طاعة أولي الأمر هؤلاء، و لم تقيده بقيد و لا شرط، و ليس
في الآيات القرآنية ما يقيد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله "و أطيعوا
الرسول و أولي الأمر منكم" إلى مثل قولنا: و أطيعوا أولي الأمر منكم فيما لم
يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، و إن
علمتم خطأهم فقوموهم بالرد إلى الكتاب و السنة فما هذا معنى قوله: و أطيعوا
الرسول و أولي الأمر منكم.
مع أن الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة
المفترضة كقوله في الوالدين: و وصينا الإنسان بوالديه حسنا و إن جاهداك لتشرك
بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما الآية: "العنكبوت: 8" فما باله لم يظهر شيئا من
هذه القيود في آية تشتمل على أس أساس الدين، و إليها تنتهي عامة أعراق السعادة
الإنسانية.
على أن الآية جمع فيها بين الرسول و أولي الأمر، و ذكر لهما معا طاعة واحدة
فقال: و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم، و لا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية
أو يغلط في حكم فلو جاز شيء من ذلك على أولي الأمر لم يسع إلا أن يذكر القيد
الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد، و لازمه اعتبار
العصمة في جانب أولي الأمر كما اعتبر في جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) من غير فرق.
ثم إن المراد بالأمر في أولي الأمر هو الشأن الراجع إلى دين المؤمنين المخاطبين
بهذا الخطاب أو دنياهم على ما يؤيده قوله تعالى: و شاورهم في الأمر: "آل عمران:
159"، و قوله في مدح المتقين: و أمرهم شورى بينهم: "الشورى: 38"، و إن كان من
الجائز بوجه أن يراد بالأمر ما يقابل النهي لكنه بعيد.
و قد قيد بقوله: "منكم" و ظاهره كونه ظرفا مستقرا أي أولي الأمر كائنين منكم و
هو نظير قوله تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم: "الجمعة: 2"، و قوله
في دعوة إبراهيم: ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم: "البقرة: 129"، و قوله: رسلا
منكم يقصون عليكم آياتي: "الأعراف: 35"، و بهذا يندفع ما ذكره بعضهم: أن تقييد
أولي الأمر بقوله: "منكم" يدل على أن الواحد منهم إنسان عادي مثلنا و هم منا و
نحن مؤمنون من غير مزية عصمة إلهية.
ثم إن أولي الأمر لما كان اسم جمع يدل على كثرة جمعية في هؤلاء المسمين بأولي
الأمر فهذا لا شك فيه لكن يحتمل في بادىء النظر أن يكونوا آحادا يلي الأمر و
يتلبس بافتراض الطاعة واحد منهم بعد الواحد فينسب افتراض الطاعة إلى جميعهم
بحسب اللفظ، و الأخذ بجامع المعنى، كقولنا: صل فرائضك و أطع سادتك و كبراء
قومك.
و من عجيب الكلام ما ذكره الرازي: أن هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد، و
هو خلاف الظاهر، و قد غفل عن أن هذا استعمال شائع في اللغة، و القرآن مليء به
كقوله تعالى: فلا تطع المكذبين: "القلم: 8"، و قوله: فلا تطع الكافرين:
"الفرقان: 52"، و قوله: إنا أطعنا سادتنا و كبراءنا: "الأحزاب: 67"، و قوله: و
لا تطيعوا أمر المسرفين: "الشعراء: 151"، و قوله: حافظوا على الصلوات: "البقرة:
238"، و قوله: و اخفض جناحك للمؤمنين: "الحجر: 88"، إلى غير ذلك من الموارد
المختلفة بالإثبات و النفي، و الإخبار و الإنشاء.
و الذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع و يراد به
واحد من آحاده لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد
الآحاد، كقولنا: أكرم علماء بلدك أي أكرم هذا العالم، و أكرم ذاك العالم، و
هكذا.
و يحتمل أيضا أن يكون المراد بأولي الأمر - هؤلاء الذين هم متعلق افتراض الطاعة
- الجمع من حيث هو جمع أي الهيئة الحاصلة من عدة معدودة كل واحد منهم من أولي
الأمر، و هو أن يكون صاحب نفوذ في الناس، و ذا تأثير في أمورهم كرؤساء الجنود و
السرايا و العلماء و أولياء الدولة، و سراة القوم، بل كما ذكره في المنار هم
أهل الحل و العقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء و الرؤساء في الجيش و المصالح
العامة كالتجارة و الصناعات و الزراعة و كذا رؤساء العمال و الأحزاب، و مديرو
الجرائد المحترمة، و رؤساء تحريرها! فهذا معنى كون أولي الأمر هم أهل الحل و
العقد، و هم الهيئة الاجتماعية من وجوه الأمة لكن الشأن في تطبيق مضمون تمام
الآية على هذا الاحتمال.
الآية دالة - كما عرفت - على عصمة أولي الأمر و قد اضطر إلى قبول ذلك القائلون
بهذا المعنى من المفسرين.
فهل المتصف بهذه العصمة أفراد هذه الهيئة فيكون كل واحد واحد منهم معصوما
فالجميع معصوم إذ ليس المجموع إلا الآحاد؟ لكن من البديهي أن لم يمر بهذه الأمة
يوم يجتمع فيه جماعة من أهل الحل و العقد كلهم معصومون على إنفاذ أمر من أمور
الأمة و من المحال أن يأمر الله بشيء لا مصداق له في الخارج، أو أن هذه العصمة
- و هي صفة حقيقية - قائمة بتلك الهيئة قيام الصفة بموصوفها و إن كانت الأجزاء
و الأفراد غير معصومين بل يجوز عليهم من الشرك و المعصية ما يجوز على سائر
أفراد الناس فالرأي الذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ و أن يكون داعيا إلى الضلال
و المعصية بخلاف ما إذا رأته الهيئة المذكورة لعصمتها؟ و هذا أيضا محال و كيف
يتصور اتصاف موضوع اعتباري بصفة حقيقية أعني اتصاف الهيئة الاجتماعية بالعصمة.
أو أن عصمة هذه الهيئة ليست وصفا لأفرادها و لا لنفس الهيئة بل حقيقته أن الله
يصون هذه الهيئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأيا فتخطىء فيه، كما أن الخبر المتواتر
مصون عن الكذب، و مع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكل واحد من المخبرين و لا
للهيئة الاجتماعية بل حقيقته أن العادة جارية على امتناع الكذب فيه، و بعبارة
أخرى هو تعالى يصون الخبر الذي هذا شأنه عن وقوع الخطإ فيه و تسرب الكذب عليه،
فيكون رأي أولي الأمر مما لا يقع فيه الخطأ البتة و إن لم يكن آحادهم و لا
هيئتهم متصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب و الخطإ و ليكن
هذا معنى العصمة في أولي الأمر، و الآية لا تدل على أزيد من أن رأيهم غير خابط
بل مصيب يوافق الكتاب و السنة، و هو من عناية الله على الأمة، و قد روي عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لا تجتمع أمتي على خطإ.
أما الرواية فهي أجنبية عن المورد فإنها إن صحت فإنما تنفي اجتماع الأمة على
خطإ، و لا تنفي اجتماع أهل الحل و العقد منهم على خطإ، و للأمة معنى و لأهل
الحل و العقد معنى آخر، و لا دليل على إرادة معنى الثاني من لفظ الأول، و كذا
لا تنفي الخطأ عن اجتماع الأمة بل تنفي الاجتماع على خطإ، و بينهما فرق.
و يعود معنى الرواية إلى أن الخطأ في مسألة من المسائل لا يستوعب الأمة بل يكون
دائما فيهم من هو على الحق: إما كلهم أو بعضهم و لو معصوم واحد، فيوافق ما دل
من الآيات و الروايات على أن دين الإسلام و ملة الحق لا يرتفع من الأرض بل هو
باق إلى يوم القيامة، قال تعالى: فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا
بها بكافرين: "الأنعام: 89" و قوله: و جعلها كلمة باقية في عقبه: "الزخرف: 28"
و قوله: إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون: "الحجر: 9" و قوله: و إنه لكتاب
عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه: "فصلت: 42" إلى غير ذلك من
الآيات.
و ليس يختص هذا بأمة محمد بل الصحيح من الروايات تدل على خلافه، و هي الروايات
الواردة من طرق شتى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدالة على افتراق
اليهود على إحدى و سبعين فرقة و النصارى على اثنتين و سبعين فرقة، و المسلمين
على ثلاث و سبعين فرقة كلهم هالك إلا واحدة، و قد نقلنا الرواية في المبحث
الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى: و اعتصموا بحبل الله جميعا: "آل عمران:
103".
و بالجملة لا كلام على متن الرواية إن صح سندها فإنها أجنبية عن مورد الكلام، و
إنما الكلام في معنى عصمة أهل الحل و العقد من الأمة لو كان هو المراد بقوله: و
أولي الأمر منكم.
ما هو العامل الموجب لعصمة أهل الحل و العقد من المسلمين فيما يرونه من الرأي؟
هذه العصابة التي شأنها الحل و العقد في الأمور غير مختصة بالأمة المسلمة بل كل
أمة من الأمم العظام بل الأمم الصغيرة بل القبائل و العشائر لا تفقد عدة من
أفرادها لهم مكانة في مجتمعهم ذات قوة و تأثير في الأمور العامة، و أنت إذا
فحصت التاريخ في الحوادث الماضية و ما في عصرنا من الأمم و الأجيال وجدت موارد
كثيرة اجتمعت أهل الحل و العقد منهم في مهام الأمور و عزائمها على رأي استصوبوه
ثم عقبوه بالعمل، فربما أصابوا و ربما أخطئوا، فالخطأ و إن كان في الآراء
الفردية أكثر منه في الآراء الاجتماعية لكن الآراء الاجتماعية ليست بحيث لا
تقبل الخطأ أصلا فهذا التاريخ و هذه المشاهدة يشهدان منه على مصاديق و موارد
كثيرة جدا: فلو كان الرأي الاجتماعي من أهل الحل و العقد في الإسلام مصونا عن
الخطإ فإنما هو بعامل ليس من سنخ العوامل العادية بل عامل من سنخ العوامل
المعجزة الخارقة للعادة، و يكون حينئذ كرامة باهرة تختص بها هذه الأمة تقيم
صلبهم، و تحفظ حماهم و تقيهم من كل شر يدب في جماعتهم و وحدتهم و بالآخرة سببا
معجزا إلهيا يتلو القرآن الكريم، و يعيش ما عاش القرآن، نسبته إلى حياة الأمة
العملية نسبة القرآن إلى حياتهم العلمية فكان من اللازم أن يبين القرآن حدوده و
سعة دائرته، و يمتن الله به كما أمتن بالقرآن و بمحمد (صلى الله عليه وآله
وسلم)، و يبين لهذه العصابة وظيفتهم الاجتماعية كما بين لنبيه ذلك، و أن يوصي
به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته، و لا سيما أصحابه الكرام و هم الذين
صاروا بعده أهلا للحل و العقد، و تقلدوا ولاية أمور الأمة، و أن يبين أن هذه
العصابة المسماة بأولي الأمر ما حقيقتها، و ما حدها و ما سعة دائرة عملها، و هل
يتشكل هيئة حاكمة واحدة على جميع المسلمين في الأمور العامة لجميع الأمة
الإسلامية؟ أو تنعقد في كل جمعية إسلامية جمعية أولي الأمر فيحكم في نفوسهم و
أعراضهم و أموالهم؟.
و لكان من اللازم أن يهتم به المسلمون و لا سيما الصحابة فيسألوا عنه و يبحثوا
فيه، و قد سألوا عن أشياء لا قدر لها بالنسبة إلى هذه المهمة كالأهلة، و ما ذا
ينفقون، و الأنفال قال تعالى: "يسألونك عن الأهلة" و "و يسألونك ما ذا ينفقون"
و "يسألونك عن الأنفال" فما بالهم لم يسألوا؟ أو أنهم سألوا ثم لعبت به الأيدي
فخفي علينا؟ فليس الأمر مما يخالف هوى أكثرية الأمة الجارية على هذه الطريقة
حتى يقضوا عليه بالإعراض فالترك حتى ينسى.
و لكان من الواجب أن يحتج به في الاختلافات و الفتن الواقعة بعد ارتحال النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) حينا بعد حين، فما لهذه الحقيقة لا توجد لها عين و
لا أثر في احتجاجاتهم و مناظراتهم، و قد ضبطها النقلة بكلماتها و حروفها، و لا
توجد في خطاب و لا كتاب؟ و لم تظهر بين قدماء المفسرين من الصحابة و التابعين
حتى ذهب إليه شرذمة من المتأخرين: الرازي و بعض من بعده!.
حتى أن الرازي أورد على هذا الوجه بعد ذكره: بأنه مخالف للإجماع المركب فإن
الأقوال في معنى أولي الأمر لا تجاوز أربعة: الخلفاء الراشدون، و أمراء
السرايا، و العلماء و الأئمة المعصومون، فالقول الخامس خرق للإجماع، ثم أجاب
بأنه في الحقيقة راجع إلى القول الثالث فأفسد على نفسه ما كان أصلحه فهذا كله
يقضي بأن الأمر لم يكن بهذه المثابة، و لم يفهم منه أنه عطية شريفة و موهبة
عزيزة من معجزات الإسلام و كراماته الخارقة لأهل الحل و العقد من المسلمين.
أو يقال: إن هذه العصمة لا تنتهي إلى عامل خارق للعادة بل الإسلام بنى تربيته
العامة على أصول دقيقة تنتج هذه النتيجة: أن أهل الحل و العقد من الأمة لا
يغلطون فيما اجتمعوا عليه، و لا يعرضهم الخطأ فيما رأوه.
و هذا الاحتمال مع كونه باطلا من جهة منافاته للناموس العام و هو أن إدراك الكل
هو مجموع إدراكات الأبعاض، و إذا جاز الخطأ على كل واحد واحد جاز على الكل يرد
عليه أن رأي أولي الأمر بهذا المعنى لو اعتمد في صحته و عصمته على مثل هذا
العامل غير المغلوب لم يتخلف عن أثره فإلى أين تنتهي هذه الأباطيل و الفسادات
التي ملأت العالم الإسلامي؟.
و كم من منتدى إسلامي بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمع فيه أهل
الحل و العقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثم سلكوا طريقا يهديهم إليه
رأيهم فلم يزيدوا إلا ضلالا و لم يزد إسعادهم المسلمين إلا شقاء و لم يمكث
الاجتماع الديني بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أن عاد إلى
إمبراطورية ظالمة حاطمة! فليبحث الباحث الناقد في الفتن الناشئة منذ قبض رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما استتبعته من دماء مسفوكة، و أعراض مهتوكة،
و أموال منهوبة، و أحكام عطلت و حدود أبطلت! ثم ليبحث في منشئها و محتدها، و
أصولها و أعراقها هل تنتهي الأسباب العاملة فيها إلا إلى ما رأته أهل الحل و
العقد من الأمة ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس؟.
فهذا حال هذا الركن الركين الذي يعتمد عليه بناية الدين أعني رأي أهل الحل و
العقد لو كان هو المراد بأولي الأمر المعصومين في رأيهم.
فلا مناص على القول بأن المراد بأولي الأمر أهل الحل و العقد من أن نقول بجواز
خطئهم و إنهم على حد سائر الناس يصيبون و يخطئون غير أنهم لما كانوا عصابة
فاضلة خبيرة بالأمور مدربين مجربين يقل خطؤهم جدا، و أن الأمر بوجوب طاعتهم مع
كونهم ربما يغلطون و يخطئون من باب المسامحة في موارد الخطإ نظرا إلى المصلحة
الغالبة في مداخلتهم فلو حكموا بما يغاير حكم الكتاب و السنة، و يطابق ما شخصوه
من مصلحة الأمة بتفسير حكم من أحكام الدين بغير ما كان يفسر سابقا أو تغيير حكم
بما يوافق صلاح الوقت أو طبع الأمة أو وضع حاضر الدنيا كان هو المتبع، و هو
الذي يرتضيه الدين لأنه لا يريد إلا سعادة المجتمع و رقيه في اجتماعه كما هو
الظاهر المتراءى من سير الحكومات الإسلامية في صدر الإسلام و من دونهم فلم يمنع
حكم من الأحكام الدائرة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يقض على
سيرة من سيره و سننه إلا علل ذلك بأن الحكم السابق يزاحم حقا من حقوق الأمة، و
أن صلاح حال الأمة في إنفاذ حكم جديد يصلح شأنهم، أو سن سنة حديثة توافق آمالهم
في سعادة الحياة، و قد صرح بعض الباحثين أن الخليفة له أن يعمل بما يخالف صريح
الدين حفظا لصلاح الأمة.
و على هذا فيكون حال الملة الإسلامية حال سائر المجتمعات الفاضلة المدنية في أن
فيها جمعية منتخبة تحكم على قوانين المجتمع على حسب ما تراه و تشاهده من
مقتضيات الأحوال، و موجبات الأوضاع.
و هذا الوجه أو القول - كما ترى - قول من يرى أن الدين سنة اجتماعية سبكت في
قالب الدين، و ظهرت في صورته فهو محكوم بما يحكم على متون الاجتماعات البشرية و
هياكلها بالتطور في أطوار الكمال التدريجي، و مثال عال لا ينطبق إلا على حياة
الإنسان الذي كان يعيش في عصر النبوة و ما يقاربه.
فهي حلقة متقضية من حلق هذه السلسلة المسماة بالمجتمع الإنساني لا ينبغي أن
يبحث عنها اليوم إلا كما يبحث علماء طبقات الأرض الجيولوجيا عن السلع المستخرجة
من تحت أطباق الأرض.
و الذي يذهب إلى مثل هذا القول لا كلام لنا معه في هذه الآية: أطيعوا الله و
أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم الآية، فإن القول يبتني على أصل مؤثر في جميع
الأصول و السنن المأثورة من الدين من معارف أصلية و نواميس أخلاقية و أحكام
فرعية و لو حمل على هذا ما وقع من الصحابة في زمن النبي و في مرض موته ثم
الاختلافات التي صدرت منهم و ما وقع من تصرف الخلفاء في بعض الأحكام و بعض سير
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم في زمن معاوية و من تلاه من الأمويين ثم
العباسيين ثم الذين يلونهم و الجميع أمور متشابهة أنتج نتيجة باهتة.
و من أعجب الكلام المتعلق بهذه الآية ما ذكره بعض المؤلفين أن قوله تعالى:
"أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم" لا يدل على شيء مما ذكره
المفسرون على اختلاف أقوالهم.
أما أولا فلأن فرض طاعة أولي الأمر كائنين من كانوا لا يدل على فضل و مزية لهم
على غيرهم أصلا كما أن طاعة الجبابرة و الظلام واجبة علينا في حال الاضطرار
اتقاء من شرهم، و لن يكونوا بذلك أفضل منا عند الله سبحانه.
و أما ثانيا فلأن الحكم المذكور في الآية لا يزيد على سائر الأحكام التي تتوقف
فعليتها على تحقق موضوعاتها نظير وجوب الإنفاق على الفقير و حرمة إعانة الظالم
فليس يجب علينا أن نوجد فقيرا حتى ننفق عليه أو ظالما حتى لا نعينه.
و الوجهان اللذان ذكرهما ظاهرا الفساد، مضافا إلى أن هذا القائل قدر أن المراد
بأولي الأمر في الآية الحكام و السلاطين و قد تبين فساد هذا الاحتمال.
أما الوجه الأول فلأنه غفل عن أن القرآن مملوء من النهي عن طاعة الظالمين و
المسرفين و الكافرين، و من المحال أن يأمر الله مع ذلك بطاعتهم ثم يزيد على ذلك
فيقرن طاعتهم بطاعة نفسه و رسوله، و لو فرض كون هذه الطاعة طاعة تقية لعبر عنها
بإذن و نحو ذلك كما قال تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة: "آل عمران: 28"، لا
بالأمر بطاعتهم صريحا حتى يستلزم كل محذور شنيع.
و أما الوجه الثاني فهو مبني على الوجه الأول من معنى الآية أما لو فرض افتراض
طاعتهم لكونهم ذا شأن في الدين كانوا معصومين لما تقدم تفصيلا، و محال أن يأمر
الله بطاعة من لا مصداق له، أو له مصداق اتفاقي في آية تتضمن أس أساس المصالح
الدينية و حكما لا يستقيم بدونه حال المجتمع الإسلامي أصلا، و قد عرفت أن
الحاجة إلى أولي الأمر عين الحاجة إلى الرسول و هي الحاجة إلى ولاية أمر الأمة
و قد تكلمنا فيه في بحث المحكم و المتشابة.
و لنرجع إلى أول الكلام في الآية: ظهر لك من جميع ما قدمناه أن لا معنى لحمل
قوله تعالى: "و أولي الأمر منكم" على جماعة المجمعين من أهل الحل و العقد، و هي
الهيئة الاجتماعية بأي معنى من المعاني فسرناه فليس إلا أن المراد بأولي الأمر
آحاد من الأمة معصومون في أقوالهم مفترض طاعتهم فتحتاج معرفتهم إلى تنصيص من
جانب الله سبحانه من كلامه أو بلسان نبيه فينطبق على ما روي من طرق أئمة أهل
البيت (عليهم السلام) أنهم هم.
و أما ما قيل: إن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أو أمراء السرايا أو العلماء
المتبعون في أقوالهم و آرائهم فيدفع ذلك كله أولا: أن الآية تدل على عصمتهم و
لا عصمة في هؤلاء الطبقات بلا إشكال إلا ما تعتقده طائفة من المسلمين في حق علي
(عليه السلام)، و ثانيا: أن كلا من الأقوال الثلاث قول من غير دليل يدل عليه.
و أما ما أورد على كون المراد به أئمة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام):
أولا: إن ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من الله و رسوله، و لو كان ذلك لم يختلف في
أمرهم اثنان بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه: أن ذلك منصوص عليه في الكتاب و السنة كآية الولاية و آية التطهير و غير
ذلك، و سيأتي بسط الكلام فيها، و كحديث السفينة: "مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح
من ركبها نجا، و من تخلف عنها غرق" و حديث الثقلين: "إني تارك فيكم الثقلين
كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا" و قد مر في
بحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب، و كأحاديث أولي الأمر
المروية من طرق الشيعة و أهل السنة، و سيجيء بعضها في البحث الروائي التالي.
و ثانيا: أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق و
إذا كانت مشروطة فالآية تدفعه لأنها مطلقة.
و فيه: أن الإشكال منقلب على المستشكل فإن الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقا، و
إنما الفرق أن أهل الحل و العقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير
حاجة إلى بيان من الله و رسوله، و الإمام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرف يعرفه،
و لا فرق بين الشرط و الشرط في منافاته الآية.
على أن المعرفة و إن عدت شرطا لكنها ليست من قبيل سائر الشروط فإنها راجعة إلى
تحقق بلوغ التكليف فلا تكليف من غير معرفة به و بموضوعه و متعلقه، و ليست راجعة
إلى التكليف و المكلف به، و لو كانت المعرفة في عداد سائر الشرائط كالاستطاعة
في الحج، و وجدان الماء في الوضوء مثلا لم يوجد تكليف مطلق أبدا إذ لا معنى
لتوجه التكليف إلى مكلف سواء علم به أو لم يعلم.
و ثالثا: أنا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الإمام المعصوم و تعلم العلم
و الدين منه، فلا يكون هو الذي فرض الله طاعته على الأمة إذ لا سبيل إليه.
و فيه: أن ذلك مستند إلى نفس الأمة في سوء فعالها و خيانتها على نفسها لا إلى
الله و رسوله فالتكليف غير مرتفع كما لو قتلت الأمة نبيها ثم اعتذرت أنها لا
تقدر على طاعته، على أن الإشكال مقلوب عليه فإنا لا نقدر اليوم على أمة واحدة
في الإسلام ينفذ فيها ما استصوبته لها أهل الحل و العقد منها.
و رابعا: أن الله تعالى يقول: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول"، و
لو كان المراد من أولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: فإن تنازعتم في شيء
فردوه إلى الإمام.
و فيه: أن جوابه تقدم فيما مر من البيان، و المراد بالرد الرد إلى الإمام
بالتقريب الذي تقدم.
و خامسا: أن القائلين بالإمام المعصوم يقولون: إن فائدة اتباعه إنقاذ الأمة من
ظلمة الخلاف، و ضرر التنازع و التفرق و ظاهر الآية يبين حكم التنازع مع وجود
أولي الأمر، و طاعة الأمة لهم كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النوازل و
الوقائع، و الخلاف و التنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به
لأنه عندهم مثل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكون لهذا الزيادة فائدة
على رأيهم.
و فيه: أن جوابه ظاهر مما تقدم أيضا فإن التنازع المذكور في الآية إنما هو
تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب و السنة دون أحكام الولاية الصادرة عن الإمام
في الوقائع و الحوادث، و قد تقدم أن لا حكم إلا لله و رسوله فإن تمكن
المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب و السنة كان لهم أن يستنبطوه منهما، أو
يسألوا الإمام عنه و هو معصوم في فهمه، و إن لم يتمكنوا من ذلك كان عليهم أن
يسألوا عنه الإمام، و ذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) كانوا يتفقهون فيما يتمكنون منه أو يسألون عنه رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم)، و يسألونه فيما لا يتمكنون من فهمه بالاستنباط.
فحكم أولي الأمر في الطاعة حكم الرسول على ما يدل عليه الآية، و حكم التنازع هو
الذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول كما يدل عليه الآيات التالية، و
غيبته كما يدل عليه الأمر في الآية بإطلاقه، فالرد إلى الله و الرسول المذكور
في الآية مختص بصورة تنازع المؤمنين كما يدل عليه قوله: تنازعتم، و لم يقل: فإن
تنازع أولو الأمر، و لا قال: فإن تنازعوا، و الرد إلى الله و الرسول عند حضور
الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب و السنة للمتمكن
منه، و عند غيبته أن يسأل الإمام عنه أو الاستنباط كما تقدم بيانه، فلا يكون
قوله: فإن تنازعتم في شيء "إلخ" زائدا من الكلام مستغنى عنه كما ادعاه
المستشكل.
فقد تبين من جميع ما تقدم: أن المراد بأولي الأمر في الآية رجال من الأمة حكم
الواحد منهم في العصمة و افتراض الطاعة حكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
و هذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ أولي الأمر بحسب اللغة، و إرادته من
اللفظ فإن قصد مفهوم من المفاهيم من اللفظ شيء و إرادة المصداق الذي ينطبق عليه
المفهوم شيء آخر، و ذلك كما أن مفهوم الرسول معنى عام كلي و هو المراد من اللفظ
في الآية لكن المصداق المقصود هو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول" إلى آخر الآية تفريع
على الحصر المستفاد من المورد فإن قوله: أطيعوا الله "إلخ" حيث أوجب طاعة الله
و رسوله، و هذه الطاعة إنما هي في المواد الدينية التي تتكفل رفع كل اختلاف
مفروض، و كل حاجة ممكنة لم يبق مورد تمس الحاجة الرجوع إلى غير الله و رسوله، و
كان معنى الكلام: أطيعوا الله، و لا تطيعوا الطاغوت، و هو ما ذكرناه من الحصر.
و توجه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أن المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا
تنازع مفروض بينهم و بين أولي الأمر، و لا تنازع مفروض بين أولي الأمر فإن
الأول أعني التنازع بينهم و بين أولي الأمر لا يلائم افتراض طاعة أولي الأمر
عليهم، و كذا الثاني أعني التنازع بين أولي الأمر فإن افتراض الطاعة لا يلائم
التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل، على أنه لا يناسب كون الخطاب متوجها إلى
المؤمنين في قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه.
و لفظ الشيء و إن كان يعم كل حكم و أمر من الله و رسوله و أولي الأمر كائنا ما
كان لكن قوله بعد ذلك: فردوه إلى الله و الرسول يدل على أن المفروض هو النزاع
في شيء ليس لأولي الأمر الاستقلال و الاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم
كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك، إذ لا معنى لإيجاب الرد إلى الله و
الرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.
فالآية تدل على وجوب الرد في نفس الأحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها
بإنفاذ أو نسخ إلا الله و رسوله، و الآية كالصريح في أنه ليس لأحد أن يتصرف في
حكم ديني شرعه الله و رسوله، و أولو الأمر و من دونهم في ذلك سواء.
و قوله: إن كنتم تؤمنون بالله، تشديد في الحكم و إشارة إلى أن مخالفته إنما
تنتشىء من فساد في مرحلة الإيمان فالحكم يرتبط به ارتباطا فالمخالفة تكشف عن
التظاهر بصفة الإيمان بالله و رسوله، و استبطان للكفر، و هو النفاق كما يدل
عليه الآيات التالية.
و قوله: ذلك خير و أحسن تأويلا أي الرد عند التنازع أو إطاعة الله و رسوله و
أولي الأمر، و التأويل هو المصلحة الواقعية التي تنشأ منها الحكم ثم تترتب على
العمل و قد تقدم البحث عن معناه في ذيل قوله تعالى: و ابتغاء تأويله و ما يعلم
تأويله إلا الله الآية: "آل عمران: 7" في الجزء الثالث من الكتاب.
قوله تعالى: "أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" إلى آخر
الآية الزعم هو الاعتقاد بكذا سواء طابق الواقع أم لا، بخلاف العلم فإنه
الاعتقاد المطابق للواقع، و لكون الزعم يستعمل في الاعتقاد في موارد لا يطابق
الواقع ربما يظن أن عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه و ليس كذلك، و الطاغوت
مصدر بمعنى الطغيان كالرهبوت و الجبروت و الملكوت غير أنه ربما يطلق و يراد به
اسم الفاعل مبالغة يقال: طغى الماء إذا تعدى ظرفه لوفوره و كثرته، و كان
استعماله في الإنسان أولا على نحو الاستعارة ثم ابتذل فلحق بالحقيقة و هو خروج
الإنسان عن طوره الذي حده له العقل أو الشرع، فالطاغوت هو الظالم الجبار، و
المتمرد عن وظائف عبودية الله استعلاء عليه تعالى و هكذا، و إليه يعود ما قيل:
إن الطاغوت كل معبود من دون الله.
و قوله: بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك، بمنزلة أن يقال: بما أنزل الله على
رسله، و لم يقل: آمنوا بك و بالذين من قبلك لأن الكلام في وجوب الرد إلى كتاب
الله و حكمه و بذلك يظهر أن المراد بقوله: "و قد أمروا أن يكفروا به" الأمر في
الكتب السماوية و الوحي النازل على الأنبياء: محمد و من قبله (صلى الله عليه
وآله وسلم).
و قوله: أ لم تر إلخ، الكلام بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل: ما وجه ذكر قوله:
أطيعوا الله و أطيعوا الرسول "إلخ" فقيل: أ لم تر إلى تخلفهم من الطاعة حيث
يريدون التحاكم إلى الطاغوت؟ و الاستفهام للتأسف و المعنى: من الأسف ما رأيته
أن بعض الناس، و هم معتقدون أنهم مؤمنون بما أنزل إليك من الكتاب و إلى سائر
الأنبياء و الكتب السماوية إنما أنزلت لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و قد
بينه الله تعالى لهم بقوله: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و
منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: "البقرة:
213" يتحاكمون عند التنازع إلى الطاغوت و هم أهل الطغيان و المتمردون عن دين
الله المتعدون على الحق، و قد أمروا في هذه الكتب أن يكفروا بالطاغوت، و كفى في
منع التحاكم إليهم أنه إلغاء لكتب الله و إبطال لشرائعه.
و في قوله "و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا، دلالة على أن تحاكمهم إنما هو
بإلقاء الشيطان و إغوائه، و الوجهة فيه الضلال البعيد.
قوله تعالى: "و إذا قيل لهم تعالوا" إلى آخر الآية، تعالوا بحسب الأصل أمر من
التعالي و هو الارتفاع، و صد عنه يصد صدودا أي أعرض، و قوله: إلى ما أنزل الله
و إلى الرسول، بمنزلة أن يقال: إلى حكم الله و من يحكم به، و في قوله: يصدون
عنك، إنما خص الرسول بالإعراض مع أن الذي دعوا إليه هو الكتاب و الرسول معا لا
الرسول وحده لأن الأسف إنما هو من فعل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله
فهم ليسوا بكافرين حتى يتجاهروا بالإعراض عن كتاب الله بل منافقون بالحقيقة
يتظاهرون بالإيمان بما أنزل الله لكنهم يعرضون عن رسوله.
و من هنا يظهر أن الفرق بين الله و رسوله بتسليم حكم الله و التوقف في حكم
الرسول نفاق البتة.
قوله تعالى: "فكيف إذا أصابتهم مصيبة" إلخ إيذان بأن هذا الإعراض و الانصراف عن
حكم الله و رسوله، و الإقبال إلى غيره و هو حكم الطاغوت سيعقب مصيبة تصيبهم لا
سبب لها إلا هذا الإعراض عن حكم الله و رسوله، و التحاكم إلى الطاغوت، و قوله:
ثم جاءوك يحلفون بالله، اه حكاية لمعذرتهم أنهم ما كانوا يريدون بركونهم إلى
حكم الطاغوت سوء، و المعنى - و الله أعلم -: فإذا كان حالهم هذا الحال كيف
صنيعهم إذا أصابهم بفعالهم هذا وباله السيىء ثم جاءوك يحلفون بالله قائلين ما
أردنا بالتحاكم إلى غير الكتاب و الرسول إلا الإحسان و التوفيق و قطع المشاجرة
بين الخصوم.
قوله تعالى: "أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم" إلخ تكذيب لقولهم فيما
اعتذروا به، و لم يذكر حال ما في قلوبهم، و أنه ضمير فاسد لدلالة قوله: "فأعرض
عنهم و عظهم" على ذلك إذ لو كان ما في قلوبهم غير فاسد كان قولهم صدقا و حقا و
لا يؤمر بالإعراض عمن يقول الحق و يصدق في قوله.
و قوله: و قل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي قولا يبلغ في أنفسهم ما تريد أن
يقفوا عليه و يفقهوه من مفاسد هذا الصنيع، و أنه نفاق لو ظهر نزل بهم الويل من
سخط الله تعالى.
قوله تعالى: "و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله"، رد مطلق لجميع ما
تقدمت حكايته من هؤلاء المنافقين من التحاكم إلى الطاغوت، و الإعراض عن الرسول،
و الحلف و الاعتذار بالإحسان و التوفيق.
فكل ذلك مخالفة للرسول بوجه سواء كانت مصاحبة لعذر يعتذر به أم لا، و قد أوجب
الله طاعته من غير قيد و شرط فإنه لم يرسله إلا ليطاع بإذن الله، و ليس لأحد أن
يتخيل أن المتبع من الطاعة طاعة الله، و إنما الرسول بشر ممن خلق إنما يطاع
لحيازة الصلاح فإذا أحرز صلاح من دون طاعته فلا بأس بالاستبداد في إحرازه، و
ترك الرسول في جانب، و إلا كان إشراكا بالله، و عبادة لرسوله معه، و ربما كان
يلوح ذلك في أمور يكلمون فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول قائلهم
له إذا عزم عليهم في مهمة: أ بأمر من الله أم منك؟.
فذكر الله سبحانه أن وجوب طاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجوب مطلق، و
ليست إلا طاعة الله فإنها بإذنه نظير ما يفيده قوله تعالى: من يطع الرسول فقد
أطاع الله الآية: "النساء: 80".
ثم ذكر أنهم لو رجعوا إلى الله و رسوله بالتوبة حين ما خالفوا الرسول بالإعراض
لكان خيرا لهم من أن يحلفوا بالله، و يلفقوا أعذارا غير موجهة لا تنفع و لا
ترضي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الله سبحانه يخبره بحقيقة الأمر،
و ذلك قوله: و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك إلى آخر الآية.
قوله تعالى: فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك إلخ، الشجر - بسكون الجيم - و
الشجور: الاختلاط يقال: شجر شجرا و شجورا أي اختلط، و منه التشاجر و المشاجرة
كأن الدعاوي أو الأقوال اختلط بعضها مع بعض، و منه قيل للشجر: شجر لاختلاط
غصونها بعضها مع بعض، و الحرج الضيق.
و ظاهر السياق في بدء النظر أنه رد لزعم المنافقين أنهم آمنوا بالنبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) مع تحاكمهم إلى الطاغوت فالمعنى: فليس كما يزعمون أنهم يؤمنون
مع تحاكمهم إلى الطاغوت بل لا يؤمنون حتى يحكموك "إلخ".
لكن شمول حكم الغاية أعني قوله: حتى يحكموك "إلخ" لغير المنافقين، و كذا قوله
بعد ذلك: "و لو أنا كتبنا عليهم" إلى قوله: "ما فعلوه إلا قليل منهم" يؤيد أن
الرد لا يختص بالمنافقين بل يعمهم و غيرهم من جهة أن ظاهر حالهم أنهم يزعمون أن
مجرد تصديق ما أنزل من عند الله بما يتضمنه من المعارف و الأحكام إيمان بالله و
رسوله و بما جاء به من عند ربه حقيقة، و ليس كذلك بل الإيمان تسليم تام باطنا و
ظاهرا فكيف يتأتى لمؤمن حقا أن لا يسلم للرسول حكما في الظاهر بأن يعرض عنه و
يخالفه، أو في باطن نفسه بأن يتحرج عن حكم الرسول إذا خالف هوى نفسه، و قد قال
الله تعالى لرسوله: لتحكم بين الناس بما أراك الله: "النساء: 105".
فلو تحرج متحرج بما قضى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن حكم الله تحرج
لأنه الذي شرفه بافتراض الطاعة و نفوذ الحكم.
و إذا كانوا سلموا حكم الرسول، و لم يتحرج قلوبهم منه كانوا مسلمين لحكم الله
قطعا سواء في ذلك حكمه التشريعي و التكويني، و هذا موقف من مواقف الإيمان يتلبس
فيه المؤمن بعدة من صفات الفضيلة أوضحها: التسليم لأمر الله، و يسقط فيه التحرج
و الاعتراض و الرد من لسان المؤمن و قلبه، و قد أطلق في الآية التسليم إطلاقا.
و من هنا يظهر أن قوله: فلا و ربك إلى آخر الآية، و إن كان مقصورا على التسليم
لحكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسب اللفظ لأن مورد الآيات هو تحاكمهم
إلى غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع وجوب رجوعهم إليه إلا أن
المعنى عام لحكم الله و رسوله جميعا، و لحكم التشريع و التكوين جميعا كما عرفت.
بل المعنى يعم الحكم بمعنى قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كل سيرة
سار بها أو عمل عمل به لأن الأثر مشترك فكل ما ينسب بوجه إلى الله و رسوله بأي
نحو كان لا يتأتى لمؤمن بالله حق إيمانه أن يرده أو يعترض عليه أو يمله أو
يسوءه بوجه من وجوه المساءة فكل ذلك شرك على مراتبه، و قد قال تعالى: و ما يؤمن
أكثرهم بالله إلا و هم مشركون: "يوسف: 106".
قوله تعالى: "و لو أنا كتبنا عليهم" إلى قوله: "ما فعلوه إلا قليل منهم" قد
تقدم في قوله: و لكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا: "آية: 46 من
السورة" إن هذا التركيب يدل على أن الحكم للهيئة الاجتماعية من الأفراد و هو
المجتمع، و أن الاستثناء لدفع توهم استغراق الحكم و استيعابه لجميع الأفراد، و
لذلك كان هذا الاستثناء أشبه بالمنفصل منه بالمتصل أو هو برزخ بين الاستثنائين:
المتصل و المنفصل لكونه ذا جنبتين.
على هذا فقوله "ما فعلوه إلا قليل منهم" وارد مورد الإخبار عن حال الجملة
المجتمعة أنهم لا يمتثلون الأحكام و التكاليف الحرجية الشاقة التي تماس ما
يتعلق به قلوبهم تعلق الحب الشديد كنفوسهم و ديارهم، و استثناء القليل لدفع
التوهم.
فالمعنى: و لو أنا كتبنا أي فرضنا عليهم قتل أنفسهم و الخروج من ديارهم و
أوطانهم المألوفة لهم ما فعلوه أي لم يمتثلوا أمرنا، ثم لما استشعر أن قوله: ما
فعلوه يوهم أن ليس فيهم من هو مؤمن حقا مسلم لحكم الله حقيقة دفع ذلك باستثناء
القليل منهم، و لم يكن يشمله الحكم حقيقة لأن الإخبار عن حال المجتمع من حيث
إنه مجتمع و لم تكن الأفراد داخلة فيه إلا بتبع الجملة.
و من هنا يظهر أن المراد قتل الجملة الجملة و خروج الجملة و جلاؤهم من جملة
ديارهم كالبلدة و القرية دون قتل كل واحد نفسه، و خروجه من داره كما في قوله
تعالى: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم: "البقرة: 54"، فإن المقصود بالخطاب
هو الجماعة دون الأفراد.
قوله تعالى: "و لو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم و أشد تثبيتا" في
تبديل الكتابة في قوله: و لو أنا كتبنا عليهم، بالوعظ في قوله: ما يوعظون به
إشارة إلى أن هذه الأحكام الظاهرة في صورة الأمر و الفرض ليست إلا إشارات إلى
ما فيه صلاحهم و سعادتهم فهي في الحقيقة مواعظ و نصائح يراد بها خيرهم و
صلاحهم.
و قوله: لكان خيرا لهم أي في جميع ما يتعلق بهم من أولاهم و أخراهم، و ذلك أن
خير الآخرة لا ينفك من خير الدنيا بل يستتبعه، و قوله: "و أشد تثبيتا" أي
لنفوسهم و قلوبهم بالإيمان لأن الكلام فيه، قال تعالى: يثبت الله الذين آمنوا
بالقول الثابت الآية: "إبراهيم: 27".
قوله تعالى: "و إذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما" أي حين تثبتوا بالإيمان
الثابت، و الكلام في إبهام قوله: "أجرا عظيما" كالكلام في إطلاق قوله: "لكان
خيرا لهم".
قوله تعالى: "و لهديناهم صراطا مستقيما" قد مضى الكلام في معنى الصراط المستقيم
في ذيل قوله: اهدنا الصراط المستقيم: "الحمد: 6" في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: "و من يطع الله و الرسول" إلى قوله: "حسن أولئك رفيقا" جمع بين
الله و الرسول في هذا الوعد الحسن مع كون الآيات السابقة متعرضة لإطاعة الرسول
و التسليم لحكمه و قضائه، لتخلل ذكره تعالى بينها في قوله: و لو أنا كتبنا
عليهم "إلخ" فالطاعة المفترضة طاعته تعالى و طاعة رسوله، و قد بدأ الكلام على
هذا النحو في قوله: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول الآية.
و قوله: فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم، يدل على اللحوق دون الصيرورة فهؤلاء
ملحقون بجماعة المنعم عليهم، و هم أصحاب الصراط المستقيم الذي لم ينسب في كلامه
تعالى إلى غيره إلا إلى هذه الجماعة في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم صراط
الذين أنعمت عليهم: "الحمد: 7"، و بالجملة فهم ملحقون بهم غير صائرين منهم كما
لا يخلو قوله: "و حسن أولئك رفيقا" من تلويح إليه، و قد تقدم أن المراد بهذه
النعمة هي الولاية.
و أما هؤلاء الطوائف الأربع أعني النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين
فالنبيون هم أصحاب الوحي الذين عندهم نبأ الغيب، و لا خبرة لنا من حالهم بأزيد
من ذلك إلا من حيث الآثار، و قد تقدم أن المراد بالشهداء شهداء الأعمال فيما
يطلق من لفظ الشهيد في القرآن دون المستشهدين في معركة القتال، و أن المراد
بالصالحين هم أهل اللياقة بنعم الله.
و أما الصديقون فالذي يدل عليه لفظه هو أنه مبالغة من الصدق، و من الصدق ما هو
في القول، و منه ما هو في الفعل، و صدق الفعل هو مطابقته للقول لأنه حاك عن
الاعتقاد فإذا صدق في حكايته كان حاكيا لما في الضمير من غير تخلف، و صدق القول
مطابقته لما في الواقع، و حيث كان القول نفسه من الفعل بوجه كان الصادق في فعله
لا يخبر إلا عما يعلم صدقه و أنه حق، ففي قوله الصدق الخبري و المخبري جميعا.
فالصديق الذي لا يكذب أصلا هو الذي لا يفعل إلا ما يراه حقا من غير اتباع لهوى
النفس، و لا يقول إلا ما يرى أنه حق، و لا يرى شيئا إلا ما هو حق فهو يشاهد
حقائق الأشياء، و يقول الحق، و يفعل الحق.
و على ذلك فيترتب المراتب فالنبيون و هم السادة، ثم الصديقون و هم شهداء
الحقائق و الأعمال، و الشهداء و هم شهداء الأعمال، و الصالحون و هم المتهيئون
للكرامة الإلهية.
و قوله تعالى: "و حسن أولئك رفيقا" أي من حيث الرفاقة فهو تمييز، قيل: و لذلك
لم يجمع، و قيل: المعنى: حسن كل واحد منهم رفيقا، و هو حال نظير قوله: ثم
نخرجكم طفلا: "الحج: 5 ".
قوله تعالى: "ذلك الفضل من الله و كفى بالله عليما" تقديم "ذلك" و إتيانه بصيغة
الإشارة الدالة على البعيد و دخول اللام في الخبر يدل على تفخيم أمر هذا الفضل
كأنه كل الفضل، و ختم الآية بالعلم لكون الكلام في درجات الإيمان التي لا سبيل
إلى تشخيصها إلا العلم الإلهي.
و اعلم أن في هذه الآيات الشريفة موارد عديدة من الالتفات الكلامي متشابك بعضها
مع بعض فقد أخذ المؤمنون في صدر الآيات مخاطبين ثم في قوله: "و لو أنا كتبنا
عليهم" كما مر غائبين، و كذلك أخذ تعالى نفسه في مقام الغيبة في صدر الآيات في
قوله: أطيعوا الله الآية، ثم في مقام المتكلم مع الغير في قوله: و ما أرسلنا من
رسول الآية، ثم الغيبة في قوله: بإذن الله الآية، ثم المتكلم مع الغير في قوله:
و لو أنا كتبنا الآية، ثم الغيبة في قوله: و من يطع الله و الرسول الآية.
و كذلك الرسول أخذ غائبا في صدر الآيات في قوله: و أطيعوا الرسول الآية، ثم
مخاطبا في قوله: ذلك خير الآية، ثم غائبا في قوله: و استغفر لهم الرسول الآية،
ثم مخاطبا في قوله: فلا و ربك الآية، ثم غائبا في قوله: و من يطع الله و الرسول
الآية، ثم مخاطبا في قوله: و حسن أولئك الآية، فهذه عشر موارد من الالتفات
الكلامي و النكات المختصة بكل مورد مورد ظاهرة للمتدبر.
بحث روايي
في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري: لما
أنزل الله عز و جل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا أيها الذين
آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول - و أولي الأمر منكم "قلت: يا رسول الله
عرفنا الله و رسوله فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (صلى
الله عليه وآله وسلم): هم خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين من بعدي: أولهم علي
بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف
في التوراة بالباقر ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق
جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن
محمد، ثم الحسن بن علي، ثم سميي محمد و كنيي حجة الله في أرضه و بقيته في عباده
ابن الحسن بن علي ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض و
مغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته و أوليائه غيبة لا يثبت فيه على القول بإمامته
إلا من امتحن الله قلبه للإيمان. قال جابر: فقلت له يا رسول الله فهل يقع
لشيعته الانتفاع به في غيبته فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) إي و الذي بعثني
بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره، و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس
و إن تجلاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله و مخزون علم الله فاكتمه إلا
عن أهله.
أقول: و عن النعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي (عليه السلام) ما
في معنى الرواية السابقة، و رواها علي بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه (عليه
السلام)، و هناك روايات أخر من طرق الشيعة و أهل السنة، و فيها ذكر إمامتهم
بأسمائهم من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودة و كتاب
غاية المرام للبحراني و غيرهما.
و في تفسير العياشي، عن جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه
الآية: "أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم" قال: الأوصياء.
أقول: و في تفسير العياشي، عن عمر بن سعيد عن أبي الحسن (عليه السلام) مثله و
فيه: علي بن أبي طالب و الأوصياء من بعده.
و عن ابن شهرآشوب: سأل الحسن بن صالح عن الصادق (عليه السلام) عن ذلك فقال:
الأئمة من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أقول: و روى مثله
الصدوق عن أبي بصير عن الباقر (عليه السلام) و فيه: قال: الأئمة من ولد علي و
فاطمة إلى أن تقوم الساعة.
و في الكافي، بإسناده عن أبي مسروق عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له:
إنا نكلم أهل الكلام فنحتج عليهم بقول الله عز و جل: "أطيعوا الله و أطيعوا
الرسول و أولي الأمر منكم" فيقولون: نزلت في المؤمنين، و نحتج عليهم بقول الله
عز و جل: "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" فيقولون: نزلت في قربى
المسلمين قال: فلم أدع شيئا مما حضرني ذكره من هذا و شبهه إلا ذكرته، فقال لي:
إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة، قلت: و كيف أصنع؟ فقال: أصلح نفسك ثلاثا و
أطبه، قال: و صم و اغتسل و ابرز أنت و هو إلى الجبال فتشبك أصابعك من يدك
اليمنى في أصابعه ثم أنصفه، و ابدأ بنفسك، و قل: اللهم رب السموات السبع و رب
الأرضين السبع عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم إن كان أبو مسروق جحد حقا و
ادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء و عذابا أليما، ثم رد الدعوة عليه فقل:
و إن جحد حقا و ادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء و عذابا أليما. ثم قال
لي: فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه، فوالله ما وجدت خلقا يجيبني إليه.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله:
"أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم" قال: هي في علي و في الأئمة
جعلهم الله مواضع الأنبياء غير أنهم لا يحلون شيئا و لا يحرمونه.
أقول: و الاستثناء في الرواية هو الذي قدمنا في ذيل الكلام على الآية أنها تدل
على أن لا حكم تشريعا إلا لله و رسوله.
و في الكافي، بإسناده عن بريد بن معاوية قال: تلا أبو جعفر (عليه السلام):
أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن خفتم تنازعا في الأمر
فارجعوه إلى الله و إلى الرسول و إلى أولي الأمر منكم. قال: كيف يأمر بطاعتهم و
يرخص في منازعتهم إنما قال ذلك للمارقين الذين قيل لهم: أطيعوا الله و أطيعوا
الرسول.
أقول: الرواية لا تدل على أزيد من كون ما تلاه (عليه السلام) تفسير للآية و
بيانا للمراد منها، و قد تقدم في البيان السابق توضيح دلالتها على ذلك، و ليس
المراد هو القراءة كما ربما يستشعر من قوله: تلا أبو جعفر (عليه السلام).
و يدل على ذلك اختلاف اللفظ الموجود في الروايات كما في تفسير القمي، بإسناده
عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت: "فإن تنازعتم في شيء فارجعوه
إلى الله و إلى الرسول و إلى أولي الأمر منكم".
و ما في تفسير العياشي، عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام)" و هو
رواية الكافي، السابقة و في الحديث: ثم قال للناس: "يا أيها الذين آمنوا" فجمع
المؤمنين إلى يوم القيامة "أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم"
إيانا عنى خاصة "فإن خفتم تنازعا في الأمر فارجعوا إلى الله و إلى الرسول و
أولي الأمر منكم" هكذا نزلت، و كيف يأمرهم بطاعة أولي الأمر و يرخص لهم في
منازعتهم إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: "أطيعوا الله و أطيعوا الرسول
و أولي الأمر منكم.
و في تفسير العياشي،: في رواية أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزلت
يعني آية أطيعوا الله، في علي بن أبي طالب (عليه السلام) قلت له: إن الناس
يقولون لنا: فما منعه أن يسمي عليا و أهل بيته في كتابه؟ فقال أبو جعفر (عليه
السلام): قولوا لهم: إن الله أنزل على رسوله الصلاة و لم يسم ثلاثا و لا أربعا
حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي فسر ذلك لهم و أنزل الحج
و لم ينزل طوفوا أسبوعا حتى فسر ذلك لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
و الله أنزل: "أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم" تنزلت في علي و
الحسن و الحسين (عليهما السلام)، و قال في علي من كنت مولاه فعلي مولاه، و قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أوصيكم بكتاب الله و أهل بيتي إني سألت
الله أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض فأعطاني ذلك، و قال: فلا تعلموهم
فإنهم أعلم منكم، إنهم لن يخرجوكم من باب هدى، و لن يدخلوكم في باب ضلال، و لو
سكت رسول الله و لم يبين أهلها لادعى آل عباس و آل عقيل و آل فلان، و لكن أنزل
الله في كتابه: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - و يطهركم تطهيرا"
فكان علي و الحسن و الحسين و فاطمة (عليهما السلام) تأويل هذه الآية، فأخذ رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهما
السلام) فأدخلهم تحت الكساء في بيت أم سلمة و قال: اللهم إن لكل نبي ثقلا و
أهلا فهؤلاء ثقلي و أهلي، و قالت أم سلمة: أ لست من أهلك؟ قال: إنك إلى خير، و
لكن هؤلاء ثقلي و أهلي، الحديث: أقول: و روي في الكافي، بإسناده عن أبي بصير
عنه (عليه السلام) مثله مع اختلاف يسير في اللفظ.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد: أنها نزلت في أمير
المؤمنين حين خلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة فقال: يا رسول
الله أ تخلفني على النساء و الصبيان؟ فقال: يا أمير المؤمنين أ ما ترضى أن تكون
مني بمنزلة هارون من موسى؟ حين قال له: "اخلفني في قومي و أصلح" فقال الله: و
أولي الأمر منكم. قال: علي بن أبي طالب ولاه الله أمر الأمة بعد محمد، و حين
خلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة فأمر الله العباد بطاعته و
ترك خلافه.
و فيه، عنه عن أبانة الفلكي: أنها نزلت حين شكا أبو بريدة من علي (عليه
السلام)، الخبر.
و في العبقات، عن كتاب ينابيع المودة، للشيخ سليمان بن إبراهيم البلخي عن
المناقب عن سليم بن قيس الهلالي عن علي في حديث قال: و أما أدنى ما يكون به
العبد ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك و تعالى و شاهده على عباده، الذي أمر
الله عباده بطاعته، و فرض ولايته. قال سليم: قلت: يا أمير المؤمنين صفهم لي،
قال: الذين قرنهم الله بنفسه و نبيه فقال: "يا أيها الذين آمنوا - أطيعوا الله
و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم" فقلت له: جعلني الله فداك أوضح لي، فقال:
الذين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواضع و في آخر خطبته يوم
قبضه الله عز و جل إليه: إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما
كتاب الله عز و جل، و عترتي أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن
يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين و جمع بين مسبحتيه و لا أقول: كهاتين و جمع
مسبحته و الوسطى فتمسكوا بهما و لا تقدموهم فتضلوا.
أقول: و الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في المعاني السابقة كثيرة
جدا و قد اقتصرنا فيما نقلناه على إيراد نموذج من كل صنف منها، و على من يطلبها
أن يراجع جوامع الحديث.
و أما الذي روي عن قدماء المفسرين فهي ثلاثة أقوال: الخلفاء الراشدون، و أمراء
السرايا و العلماء، و ما نقل عن الضحاك أنهم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فهو يرجع إلى القول الثالث فإن اللفظ المنقول منه: أنهم أصحاب رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) هم الدعاة الرواة، و ظاهره أنه تعليل بالعلم فيرجع
إلى التفسير بالعلماء.
و اعلم أيضا أنه قد نقل في أسباب نزول هذه الآيات أمور كثيرة، و قصص مختلفة شتى
لكن التأمل فيها لا يدع ريبا في أنها جميعا من قبيل التطبيق النظري من رواتها،
و لذلك تركنا إيرادها لعدم الجدوى في نقلها، و إن شئت تصديق ذلك فعليك بالرجوع
إلى الدر المنثور، و تفسير الطبري، و أشباههما.
و في محاسن البرقي، بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول
الله تعالى: فلا و ربك لا يؤمنون الآية، قال: التسليم، الرضا، و القنوع بقضائه.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الله الكاهلي قال: قال أبو عبد الله (عليه
السلام): لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له، و أقاموا الصلاة، و آتوا
الزكاة، و حجوا البيت، و صاموا شهر رمضان ثم قالوا الشيء صنعه الله و صنع رسوله
(صلى الله عليه وآله وسلم): لم صنع هكذا و كذا، و لو صنع خلاف الذي صنع، أو
وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: "فلا و ربك لا
يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و
يسلموا تسليما" ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): عليكم بالتسليم.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: سمعته يقول: و الله لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له و
أقاموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و حجوا البيت، و صاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء
صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم صنع كذا و كذا؟ و وجدوا ذلك في
أنفسهم لكانوا بذلك مشركين، ثم قرأ: فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر
بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضى محمد و آل محمد و يسلموا تسليما.
أقول: و في معنى الروايتين روايات أخر، و الذي ذكره (عليه السلام) تعميم في
الآية من جهة الملاك من جهتين: من جهة أن الحكم لا يفرق فيه بين أن يكون حكما
تشريعيا أو تكوينيا، و من جهة أن الحاكم بالحكم لا يفرق فيه بين أن يكون هو
الله أو رسوله.
و اعلم أن هناك روايات تطبق الآيات أعني قوله: فلا و ربك لا يؤمنون إلى آخر
الآيات على ولاية علي (عليه السلام) أو على ولاية أئمة أهل البيت (عليهم
السلام)، و هو من مصاديق التطبيق على المصاديق، فإن الله سبحانه و رسوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) مصاديق الآيات و هي
جارية فيهم.
و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: جاء رجل من
الأنصار إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله ما أستطيع
فراقك، و إني لأدخل منزلي فأذكرك فأترك ضيعتي و أقبل حتى أنظر إليك حبا لك،
فذكرت إذا كان يوم القيامة فأدخلت الجنة فرفعت في أعلى عليين فكيف لي بك يا نبي
الله؟ فنزل: "و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من
النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين - و حسن أولئك رفيقا" فدعا النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) الرجل فقرأها عليه و بشره بذلك.
أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا رواه في الدر المنثور، عن
الطبراني و ابن مردويه و أبي نعيم في الحلية و الضياء المقدسي في صفة الجنة و
حسنه عن عائشة، و عن الطبراني و ابن مردويه من طريق الشعبي عن ابن عباس، و عن
سعيد بن منصور و ابن المنذر عن الشعبي، و عن ابن جرير عن سعيد بن جبير.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك عمن سمى عن أبي صالح عن ابن
عباس في قوله تعالى: "و من يطع الله و الرسول - فأولئك مع الذين أنعم الله
عليهم من النبيين" يعني محمدا و "الصديقين" يعني عليا و كان أول من صدق و
"الشهداء" يعني عليا و جعفرا و حمزة و الحسن و الحسين (عليهما السلام).
أقول: و في هذا المعنى أخبار أخر.
و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) قال: أعينونا بالورع فإنه من لقي الله
بالورع كان له عند الله فرحا فإن الله عز و جل يقول: و من يطع الله و الرسول، و
تلا الآية ثم قال: فمنا النبي و منا الصديق و منا الشهداء و الصالحون.
و فيه، عن الصادق (عليه السلام): المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى الله بشروطه التي
اشترطها عليه فذلك مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك
رفيقا، و ذلك ممن يشفع و لا يشفع له، و ذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا و و لا
أهوال الآخرة، و مؤمن زلت به قدم فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ، و
ذلك ممن يصيبه أهوال الدنيا و أهوال الآخرة و يشفع له، و هو على خير.
أقول: في الصحاح: الخامة: الغضة الرطبة من النبات انتهى، و يقال: كفأت فلانا
فانكفأ أي صرفته فانصرف و رجع، و هو (عليه السلام) يشير في الحديث إلى ما تقدم
في تفسير قوله: صراط الذين أنعمت عليهم: "الفاتحة: 7" أن المراد بالنعمة
الولاية فينطبق على قوله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم
يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون: "يونس: 63" و لا سبيل لأهوال الحوادث إلى
أولياء الله الذين ليس لهم إلا الله سبحانه.
4 سورة النساء - 71 - 76
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ
انفِرُوا جَمِيعاً (71) وَ إِنّ مِنكمْ لَمَن لّيُبَطئنّ فَإِنْ أَصبَتْكم
مّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلىّ إِذْ لَمْ أَكُن مّعَهُمْ شهِيداً
(72) وَ لَئنْ أَصبَكُمْ فَضلٌ مِّنَ اللّهِ لَيَقُولَنّ كَأَن لّمْ تَكُن
بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدّةٌ يَلَيْتَنى كُنت مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً
عَظِيماً (73) * فَلْيُقَتِلْ فى سبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يَشرُونَ الْحَيَوةَ
الدّنْيَا بِالاَخِرَةِ وَ مَن يُقَتِلْ فى سبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ
يَغْلِب فَسوْف نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَ مَا لَكمْ لا تُقَتِلُونَ
فى سبِيلِ اللّهِ وَ الْمُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّساءِ وَ
الْوِلْدَنِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ
الظالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَل لّنَا مِن لّدُنك وَلِيّا وَ اجْعَل لّنَا مِن
لّدُنك نَصِيراً (75) الّذِينَ ءَامَنُوا يُقَتِلُونَ فى سبِيلِ اللّهِ وَ
الّذِينَ كَفَرُوا يُقَتِلُونَ فى سبِيلِ الطغُوتِ فَقَتِلُوا أَوْلِيَاءَ
الشيْطنِ إِنّ كَيْدَ الشيْطنِ كانَ ضعِيفاً (76)
بيان
الآيات بالنسبة إلى ما تقدمها - كما ترى - بمنزلة ذي المقدمة بالنسبة إلى
المقدمة و هي تحث و تستنهض المؤمنين للجهاد في سبيل الله، و قد كانت المحنة
شديدة على المؤمنين أيام كانت تنزل هذه الآيات، و هي كأنها الربع الثاني من زمن
إقامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة كانت العرب هاجت عليهم من
كل جانب لإطفاء نور الله، و هدم ما ارتفع من بناية الدين يغزو رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) مشركي مكة و طواغيت قريش، و يسري السرايا إلى أقطار
الجزيرة، و يرفع قواعد الدين بين المؤمنين، و في داخلهم جمع المنافقين و هم ذو
قوة و شوكة، و قد بان يوم أحد أن لهم عددا لا ينقص من نصف عدة المؤمنين بكثير.
و كانوا يقلبون الأمور على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يتربصون به
الدوائر، و يثبطون المؤمنين و فيهم مرضى القلوب سماعون لهم، و حولهم اليهود
يفتنون المؤمنين و يغزونهم و كانت عرب المدينة تحترمهم، و تعظم أمرهم من قديم
عهدهم فكانوا يلقون إليهم من باطل القول و مضلات الأحاديث ما يبطل به صادق
إرادتهم، و ينتقض به مبرم جدهم، و من جانب آخر كانوا يشجعون المشركين عليهم، و
يطيبون نفوسهم في مقاومتهم، و البقاء و الثبات على كفرهم و جحودهم، و تفتين من
عندهم من المؤمنين.
فالآيات السابقة كالمسوقة لإبطال كيد اليهود للمسلمين، و إمحاء آثار إلقاءاتهم
على المؤمنين، و ما في هذه الآيات من حديث المنافقين هو كتتميم إرشاد المؤمنين،
و تكميل تعريفهم حاضر الحال ليكونوا على بصيرة من أمرهم، و على حذر من الداء
المستكن الذي دب في داخلهم، و نفذ في جمعهم، و ليبطل بذلك كيد أعدائهم الخارجين
المحيطين بهم، و يرتد أنفاسهم إلى صدورهم، و ليتم نور الدين في سطوعه، و الله
متم نوره و لو كره المشركون و الكافرون.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا"
الحذر بالكسر فالسكون ما يحذر به و هو آلة الحذر كالسلاح، و ربما قيل: إنه مصدر
كالحذر بفتحتين، و النفر هو السير إلى جهة مقصودة، و أصله الفزع، فالنفر من محل
السير فزع عنه و إلى محل السير فزع إليه، و الثبات جمع ثبة، و هي الجماعة على
تفرقة، فالثبات الجماعة بعد الجماعة بحيث تتفصل ثانية عن أولى، و ثالثة عن
ثانية، و يؤيد ذلك مقابلة قوله: "فانفروا ثبات" قوله: "أو انفروا جميعا".
و التفريع في قوله: فانفروا ثبات، على قوله: خذوا حذركم، بظاهره يؤيد كون
المراد بالحذر ما به الحذر على أن يكون كناية عن التهيؤ التام للخروج إلى
الجهاد و يكون المعنى: خذوا أسلحتكم أي أعدوا للخروج و اخرجوا إلى عدوكم فرقة
فرقة سرايا أو اخرجوا إليهم جميعا عسكرا.
و من المعلوم أن التهيؤ و الإعداد يختلف باختلاف عدة العدو و قوته فالترديد في
قوله: أو انفروا، ليس تخييرا في كيفية الخروج و إنما الترديد بحسب تردد العدو
من حيث العدة و القوة أي إذا كان عددهم قليلا فثبة، و إن كان كثيرا فجميعا.
فيئول المعنى - و خاصة بملاحظة الآية التالية: و إن منكم لمن ليبطئن، - إلى
نهيهم عن أن يضعوا أسلحتهم، و ينسلخوا عن الجد و بذل الجهد في أمر الجهاد فيموت
عزمهم و يفتقد نشاطهم في إقامة أعلام الحق، و يتكاسلوا أو يتبطئوا أو يتثبطوا
في قتال أعداء الله، و تطهير الأرض من قذارتهم.
قوله تعالى: "و إن منكم لمن ليبطئن"، قيل: إن اللام الأولي لام الابتداء
لدخولها على اسم إن، و اللام الثانية لام القسم لدخولها على الخبر و هي جملة
فعلية مؤكدة بنون التأكيد الثقيلة، و التبطئة و الإبطاء بمعنى، و هو التأخير في
العمل.
و قوله: "و إن منكم"، يدل على أن هؤلاء من المؤمنين المخاطبين في صدر الآية
بقوله: يا أيها الذين آمنوا، على ما هو ظاهر كلمة "منكم" كما يدل عليه ما سيأتي
من قوله: أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم، فإن الظاهر أن هؤلاء أيضا
كانوا من المؤمنين، مع قوله تعالى بعد ذلك: فلما كتب عليهم القتال إذا فريق
منهم يخشون الناس، و قوله: و إن تصبهم حسنة "إلخ" و كذا قوله: فليقاتل في سبيل
الله الذين، و قوله: و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، و قوله: الذين آمنوا
يقاتلون في سبيل الله، كل ذلك تحريض و استنهاض للمؤمنين و فيهم هؤلاء المبطئون
على ما يلوح إليه اتصال الآيات.
على أنه ليس في الآيات ما يدل بظاهره على أن هؤلاء المبطئين من المنافقين الذين
لم يؤمنوا إلا بظاهر من القول، مع أن في بعض ما حكى الله عنهم دلالة ما على
إيمانهم في الجملة كقوله تعالى: فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي، و
قوله تعالى: ربنا لم كتبت علينا القتال "إلخ".
نعم ذكر المفسرون أن المراد بقوله: و إن منكم لمن، المنافقون، و أن معنى كونهم
منهم دخولهم في عددهم، أو اشتراكهم في النسب فهم منهم نسبا أو اشتراكهم مع
المؤمنين في ظاهر حكم الشريعة بحقن الدماء و الإرث و نحو ذلك لتظاهرهم
بالشهادتين، و قد عرفت أن ذلك تصرف في ظاهر القرآن من غير وجه.
و إنما دعاهم إلى هذا التفسير حسن الظن بالمسلمين في صدر الإسلام كل من لقي
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و آمن به و البحث التحليلي فيما ضبطه التاريخ
من سيرتهم و حياتهم مع النبي و بعد يضعف هذا الظن، و الخطابات القرآنية الحادة
في خصوصهم توهن هذا التقدير.
و لم تسمح الدنيا حتى اليوم بأمة أو عصابة طاهرة تألفت من أفراد طاهرة من غير
استثناء مؤمنة واقفة على قدم صدق من غير عثرة قط إلا ما نقل في حديث الطف بل
مؤمنو صدر الإسلام كسائر الجماعات البشرية فيهم المنافق و المريض قلبه و المتبع
هواه و الطاهر سره.
و الذي يمتاز به الصدر الأول من المسلمين هو أن مجتمعهم كان مجتمعا فاضلا
يقدمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يغشاهم نور الإيمان، و يحكم
فيهم سيطرة الدين، هذا حال مجتمعهم من حيث إنه مجتمع، و إن كان يوجد بينهم من
الأفراد الصالح و الطالح جميعا، و في صفاتهم الروحية الفضيلة و الرذيلة معا و
كل لون من ألوان الأخلاق و الملكات.
و هذا هو الذي يذكره القرآن من حالهم، و يبينه من صفاتهم قال تعالى: محمد رسول
الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من
الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود - إلى أن قال -: وعد الله الذين
آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما: "الفتح: 29"، فقد بدأ تعالى
بذكر صفاتهم و فضائلهم الاجتماعية مطلقة، و ختم بذكر المغفرة و الأجر لأفرادهم
مشروطة.
قوله تعالى: "فإن أصابتكم مصيبة" أي من قتل أو جرح "قال قد أنعم الله علي إذ لم
أكن معهم شهيدا" حتى أبتلى بمثل ما ابتلي به المؤمنون.
قوله تعالى: "و لئن أصابكم فضل من الله" من قبيل غنيمة الحرب و نحوها، و الفضل
هو المال و ما يماثله، و قوله: ليقولن كأن لم تكن بينكم و بينه مودة يا ليتني
كنت معهم، تشبيه و تمثيل لحالهم فإنهم مؤمنون، و المسلمون يد واحدة يربط بعضهم
ببعض أقوى الروابط، و هو الإيمان بالله و آياته الذي يحكم على جميع الروابط
الأخر من نسب أو ولاية أو بيعة أو مودة لكنهم لضعف إيمانهم لا يرون لأنفسهم
أدنى ربط يربطهم بالمؤمنين فيتمنون الكون معهم و الحضور في جهادهم كما يتمنى
الأجنبي فضلا ناله أجنبي فيقول أحدهم: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما، و
من علائم ضعف إيمانهم إكبارهم أمر هذه الغنائم، و عدهم حيازة الفضل و المال
فوزا عظيما، و كل مصيبة أصابت المؤمنين في سبيل الله من قتل أو جرح أو تعب
نقمة.
قوله تعالى: "فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون"، قال في المجمع: يقال شريت أي
بعت، و اشتريت أي ابتعت، فالمراد بقوله يشرون الحياة الدنيا بالآخرة أي يبيعون
حياتهم الدنيا و يبدلونها بالآخرة.
و الآية تفريع على ما تقدم من الحث على الجهاد، و ذم من يبطىء في الخروج إليه
ففيها تجديد للحث على القتال في سبيل الله بتذكير أن هؤلاء جميعا مؤمنون، قد
شروا بإسلامهم لله تعالى الحياة الدنيا بالآخرة كما قال: إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة: "التوبة: 111"، ثم صرح على فائدة
القتال الحسنة و أنها الأجر العظيم على أي حال بقوله: و من يقاتل في سبيل الله
"إلخ".
فبين أن أمر المقاتل في سبيل الله ينتهي إلى إحدى عاقبتين محمودتين: أن يقتل في
سبيل الله، أو يغلب عدو الله، و له أي حال أجر عظيم، و لم يذكر ثالث الاحتمالين
- و هو الانهزام - تلويحا إلى أن المقاتل في سبيل الله لا ينهزم.
و قدم القتل على الغلبة لأن ثوابه أجزل و أثبت فإن المقاتل الغالب على عدو الله
و إن كان يكتب له الأجر العظيم إلا أنه على خطر الحبط باقتراف بعض الأعمال
الموجبة لحبط الأعمال الصالحة، و استتباع السيئة بعد الحسنة بخلاف القتل إذ لا
حياة بعده إلا حياة الآخرة فالمقتول في سبيل الله يستوفي أجره العظيم حتما، و
أما الغالب في سبيل الله فأمره مراعى في استيفاء أجره.
قوله تعالى: "و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين" "إلخ" عطف على
موضع لفظ الجلالة، و الآية تشتمل على حث و تحريض آخر على القتال في لفظ
الاستفهام بتذكير أن قتالكم قتال في سبيل الله سبحانه، و هو الذي لا بغية لكم
في حياتكم السعيدة إلا رضوانه، و لا سعادة أسعد من قربه، و في سبيل المستضعفين
من رجالكم و نسائكم و ولدانكم.
ففي الآية استنهاض و تهييج لكافة المؤمنين و إغراء لهم: أما المؤمنون خالصو
الإيمان و طاهرو القلوب فيكفيهم ذكر الله جل ذكره في أن يقوموا على الحق و
يلبوا نداء ربهم و يجيبوا داعيه، و أما من دونهم من المؤمنين فإن لم يكفهم ذلك
فليكفهم أن قتالهم هذا على أنه قتال في سبيل الله قتال في سبيل من استضعفه
الكفار من رجالهم و نسائهم و ذراريهم فليغيروا لهم و ليتعصبوا.
و الإسلام و إن أبطل كل نسب و سبب دون الإيمان إلا أنه أمضى بعد التلبس
بالإيمان الأنساب و الأسباب القومية فعلى المسلم أن يفدي عن أخيه المسلم المتصل
به بالسبب الذي هو الإيمان، و عن أقربائه من رجاله و نسائه و ذراريه إذا كانوا
على الإسلام فإن ذلك يعود بالآخرة إلى سبيل الله دون غيره.
و هؤلاء المستضعفون الذين هم أبعاضهم و أفلاذهم مؤمنون بالله سبحانه بدليل
قوله: الذين يقولون ربنا "إلخ"، و هم مع ذلك مذللون معذبون يستصرخون و يستغيثون
بقولهم: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، و قد أطلق الظلم، و لم يقل:
الظالم أهلها على أنفسهم، و فيه إشعار بأنهم كانوا يظلمونهم بأنواع التعذيب و
الإيذاء و كذلك كان الأمر.
و قد عبر عن استغاثتهم و استنصارهم بأجمل لفظ و أحسن عبارة فلم يحك عنهم أنهم
يقولون: يا للرجال، يا للسراة، يا قوماه، يا عشيرتاه بل حكى أنهم يدعون ربهم و
يستغيثون بمولاهم الحق فيقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ثم
يشيرون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إلى من معه من المؤمنين
المجاهدين بقولهم: و اجعل لنا من لدنك وليا و اجعل لنا من لدنك نصيرا، فهم
يتمنون وليا، و يتمنون نصيرا لكن لا يرضون دون أن يسألوا ربهم الولي و النصير.
كلام في الغيرة و العصبية
انظر إلى هذا الأدب البارع الإلهي الذي أتى به الكتاب العزيز و قسه إلى ما
عندنا من ذلك بحسب قضاء الطبع ترى عجبا.
لا شك أن في البنية الإنسانية ما يبعثه إلى الدفاع عما يحترمه و يعظمه كالذراري
و النساء و الجاه و كرامة المحتد و نحو ذلك و هو حكم توجبه الفطرة الإنسانية و
تلهمه إياه لكن هذا الدفاع ربما كان محمودا إذا كان حقا و للحق، و ربما كان
مذموما يستتبع الشقاء و فساد أمور الحياة إذا كان باطلا و على الحق.
و الإسلام يحفظ من هذا الحكم أصله و هو ما للفطرة، و يبطل تفاصيله أولا ثم
يوجهه إلى جهة الله سبحانه بصرفه عن كل شيء ثم يعود به إلى موارده الكثيرة
فيسبك الجميع في قالب التوحيد بالإيمان بالله فيندب الإنسان أن يتعصب لرجاله و
نسائه و ذراريه و لكل حق بإرجاع الجميع إلى جانب الله فالإسلام يؤيد حكم
الفطرة، و يهذبه من شوب الأهواء و الأماني الفاسدة و يصفي أمره في جميع
الموارد، و يجعلها جميعا شريعة إنسانية يسلكها الإنسان على الفطرة، و يخلصها من
ظلمة التناقض إلى نور التوافق و التسالم، فما يدعو إليه الإسلام و يشرعه لا
تناقض و لا تضاد بين أجزائه و أطرافه، يشترك جميعها في أنها من شئون التوحيد، و
يجتمع كلها في أنها اتباع للحق فيعود جميع الأحكام حينئذ كلية و دائمة و ثابتة
من غير تخلف و اختلاف.
قوله تعالى: "الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله" إلى قوله "الطاغوت" مقايسة بين
الذين آمنوا و الذين كفروا من جهة وصف قتالهم، و بعبارة أخرى من جهة نية كل من
الطائفتين في قتالهم ليعلم بذلك شرف المؤمنين على الكفار في طريقتهم و أن سبيل
المؤمنين ينتهي إلى الله سبحانه و يعتمد عليه بخلاف سبيل الكفار ليكون ذلك
محرضا آخر للمؤمنين على قتالهم.
قوله تعالى: "فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا" الذين كفروا
لوقوعهم في سبيل الطاغوت خارجون عن ولاية الله فلا مولى لهم إلا ولي الشرك و
عبادة غير الله تعالى، و هو الشيطان فهو وليهم، و هم أولياؤه.
و إنما استضعف كيد الشيطان لأنه سبيل الطاغوت الذي يقابل سبيل الله، و القوة
لله جميعا فلا يبقى لسبيل الطاغوت الذي هو مكيدة الشيطان إلا الضعف، و لذلك حرض
المؤمنين عليهم ببيان ضعف سبيلهم، و شجعهم على قتالهم، و لا ينافي ضعف كيد
الشيطان بالنسبة إلى سبيل الله قوته بالنسبة إلى من اتبع هواه، و هو ظاهر.
بحث روايي
في المجمع، في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم الآية، قال: سمي
الأسلحة حذرا لأنها الآلة التي بها يتقى الحذر: قال: و هو المروي عن أبي جعفر
(عليه السلام): قال: و روي عن أبي جعفر (عليه السلام): أن المراد بالثبات
السرايا، و بالجميع العسكر.
و في تفسير العياشي، عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام): يا أيها
الذين آمنوا فسماهم مؤمنين و ليس هم بمؤمنين و لا كرامة، قال: يا أيها الذين
آمنوا خذوا حذركم - فانفروا ثبات أو انفروا جميعا إلى قوله: فأفوز فوزا عظيما،
و لو أن أهل السماء و الأرض قالوا: قد أنعم الله علي إذ لم أكن مع رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) لكانوا بذلك مشركين، و إذا أصابهم فضل من الله قال:
يا ليتني كنت معهم فأقاتل في سبيل الله.
أقول: و روى هذا المعنى الطبرسي في المجمع، و القمي في تفسيره عنه (عليه
السلام) و المراد بالشرك في كلامه (عليه السلام) الشرك المعنوي لا الكفر الذي
يسلب ظاهر أحكام الإسلام عمن تلبس به، و قد تقدم بيانه.
و فيه، عن حمران عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: و المستضعفين من
الرجال الآية قال: نحن أولئك: أقول: و رواه أيضا عن سماعة عن الصادق (عليه
السلام)، و لفظه: فأما قوله: و المستضعفين الآية، فأولئك نحن، الحديث، و
الروايتان في مقام التطبيق و الشكوى من بغي الباغين من هذه الأمة، و ليستا في
مقام التفسير.
و في الدر المنثور، أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و
البيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عباس: في سورة النساء "خذوا حذركم فانفروا
ثبات أو انفروا جميعا" عصبا و فرقا، قال: نسخها: "و ما كان المؤمنون لينفروا
كافة" الآية.
أقول: الآيتان غير متنافيتين حتى يحكم بنسخ الثانية للأولى، و هو ظاهر بل لو
كان فإنما هو التخصيص أو التقييد.
و الحمد لله.
|