قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
بينكم ذوي عدل منكم ففي جانب الخبر مضاف مقدر، أو شهداء بينكم ذوا عدل منكم، و المراد أن عدد الشهود اثنان فالمصدر - الشهادة - بمعنى اسم الفاعل كقولهم: رجل عدل و رجلان عدل.
و حضور الموت كناية عن حضور داعي الوصية فإن الناس بحسب الطبع لا يشتغلون بأمثال هذه الأمور من غير حضور أمر يوجب الظن بالموت، و هو عادة المرض الشديد الذي يشرف الإنسان به على الموت.
و قوله: "حين الوصية" ظرف متعلق بالشهادة أي الشهادة حين الوصية، و المراد بالعدل و هو مصدر - الاستقامة في الأمر، و قرينة المقام تعطي أن المراد به الاستقامة في أمر الدين، و يتعين بذلك أن المراد بقوله: "منكم" و قوله: "من غيركم" المسلمون و غير المسلمين، دون القرابة و العشيرة فإن الله سبحانه قابل بين قوله: "اثنان" و قوله: "آخران"، ثم وصف الأول بقوله "ذوا عدل" و قوله: "منكم" و لم يصف الثاني إلا بقوله: "من غيركم" دون أن يصفه بالعدالة، و الاتصاف بالاستقامة في الدين و عدمه إنما يختلف في المسلم و غير المسلم، و لا موجب لاعتبار العدالة في الشهود إذا كانوا قرابة أو من عشيرة المشهود له و إلغائها إذا كان الشاهد أجنبيا.
و على هذا فقوله: "أو آخران من غيركم" ترديد على سبيل الترتيب أي إن كان هناك نفر من المسلمين يستشهد اثنان منهم، و إن لم يكن إلا من غير المسلمين يستشهد باثنين منهم، كل ذلك بالاستفادة من قرينة المقام.
و هذه القرينة بعينها هي التي توجب أن يكون قوله: "إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت" قيدا متعلقا بقوله: "أو آخران من غيركم" فإن المسلم لما كان بالطبع إنما يعيش في مجتمع المسلمين لا تمس الحاجة في الحضر عادة إلى الاستشهاد بشهيدين من غير المسلمين بخلاف حالة السفر و الضرب في الأرض فإنها مظنة وقوع أمثال هذه الوقائع و الاضطرار و مسيس الحاجة إلى الانتفاع من غير المسلم بشهادة أو غيرها.
و قرينة المقام أعني المناسبة بين الحكم و الموضوع بالذوق المتخذ من كلامه تعالى تدل على أن المراد من غير المسلمين أهل الكتاب خاصة لأن كلامه تعالى لا يشرف المشركين بكرامة.
و قوله تعالى: "تحبسونهما من بعد الصلاة" أي توقفونهما، و الحبس الإيقاف، "فيقسمان بالله" أي الشاهدان "إن ارتبتم" أي شككتم فيما يظهره الوصي من أمر الوصية أو المال الذي تعلقت به الوصية أو في كيفية الوصية، و المقسم عليه هو قوله: "لا نشتري به ثمنا و لو كان ذا قربى" أي لا نشتري بالشهادة للوصي فيما يدعيه ثمنا قليلا و لو كان ذا قربى، و اشتراء الثمن القليل بالشهادة أن ينحرف الشاهد في شهادته عن الحق لغاية دنيوية من مال أو جاه أو عاطفة قرابة فيبذل شهادته بإزاء ثمن دنيوي، و هو الثمن القليل.
و ذكر بعضهم أن الضمير في قوله: "به" إلى اليمين أي لا نشتري بيميننا ثمنا، و لازمه إجراء اليمين مرتين و الآية بمعزل عن الدلالة على ذلك.
و قوله: "و لا نكتم شهادة الله" أي بالشهادة على خلاف الواقع "إنا إذا لمن الآثمين" الحاملين للإثم، و الجملة معطوفة على قوله: "لا نشتري به ثمنا كعطف التفسير.
و إضافة الشهادة إلى الله في قوله: "شهادة الله" إما لأن الواقع يشهده الله سبحانه كما شهده الشاهدان فهو شهادته سبحانه كما هو شهادتهما و الله أحق بالملك فهو شهادته تعالى حقا و بالأصالة و شهادتهما تبعا، و قد قال تعالى: "و كفى بالله شهيدا": النساء: 79" و قال تعالى: "و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء": "البقرة: 255".
و إما لأن الشهادة حق مجعول لله على عباده يجب عليهم أن يقيموها على وجهها من غير تحريف أو كتمان، و هذا كما يقال: دين الله، فينسب الدين إليه تعالى مع أن العباد هم المتلبسون به، قال تعالى: "و أقيموا الشهادة لله": "الطلاق: 3" و قال: "و لا تكتموا الشهادة": "البقرة: 238".
و قوله: "فإن عثر على أنهما استحقا إثما" العثور على الشيء الحصول عليه و وجدانه، و هذه الآية بيان و تفصيل للحكم في صورة ظهور خيانة الشاهدين و كذبهما في شهادتهما.
و المراد باستحقاق الإثم الإجرام و الجناية يقال: استحق الرجل أي أذنب، و استحق فلان إثما على فلان كناية عن إجرامه و جنايته عليه و لذا عدي بعلى في قوله تعالى ذيلا: "استحق عليهم الأوليان" أي أجرما و جنيا عليهم بالكذب و الخيانة، و أصل معنى قولنا: استحق الرجل طلب أن يحق و يثبت فيه الإثم أو العقوبة فاستعماله الكنائي من قبيل إطلاق الطلب و إرادة المطلوب و وضع الطريق موضع الغاية، و إنما ذكر الإثم في قوله: "استحقا إثما" بالبناء على ما تقدم في قوله: "إنا إذا لمن الآثمين".
و قوله تعالى: "فآخران يقومان مقامهما" أي إن عثر على أن الشاهدين استحقا بالكذب و الخيانة فشاهدان آخران يقومان مقامهما في اليمين على شهادتهما عليهما بالكذب و الخيانة.
و قوله: "من الذين استحق عليهم الأوليان" في موضع الحال أي حال كون هذين الجديدين من الذين استحق عليهم أي أجرم و جنى عليهم الشاهدان الأولان اللذين هما الأوليان الأقربان بالميت من جهة الوصية كما ذكره الرازي في تفسيره، و المراد بالذين استحق عليهم الأوليان أولياء الميت، و حاصل المعنى أنه إن عثر على أن الشاهدين أجرما على أولياء الميت بالخيانة و الكذب فيقوم شاهدان آخران من أولياء الميت الذين أجرم عليهم الشاهدان الأولان الأوليان بالموت قبل ظهور استحقاقهما الإثم.
هذا على قراءة "استحق" بالبناء للفاعل و هو قراءة عاصم على رواية حفص، و أما على قراءة الجمهور "استحق" بضم التاء و كسر الحاء بالبناء للمفعول فظاهر السياق أن يكون الأوليان مبتدأ خبره قوله: "فآخران يقومان" "إلخ"، قدم عليه لتعلق العناية به، و المعنى إن عثر على أنهما استحقا إثما فالأوليان بالميت هما آخران يقومان مقامهما من أوليائه المجرم عليهم.
و في قراءة عاصم من طريق أبي بكر و حمزة و خلف و يعقوب "الأولين" جمع الأول مقابل الآخر، و هو بظاهره بمعنى الأولياء و المقدمين، وصف أو بدل من قوله: "الذين".
و قد ذكر المفسرون في تركيب أجزاء الآية وجوها كثيرة جدا لو ضرب بعضها في بعض للحصول على معنى تمام الآية ارتقت إلى مئين من الصور، و قد ذكر الزجاج فيما نقل عنه: أنها أشكل آية في كتاب الله من حيث التركيب.
و الذي أوردناه من المعنى هو الظاهر من سياق اللفظ من غير تعسف في الفهم، و أضربنا عن استقصاء ما ذكروه من المحتملات لأن تكثيرها لا يزيد اللفظ إلا إبهاما، و لا الباحث إلا حيرة.
و قد فرع على قوله: "فآخران يقومان، إلخ" تفريع الغاية على ذي الغاية قوله: "فيقسمان بالله" أي الشاهدان الآخران من أولياء الميت "لشهادتنا" بما يتضمن كذبهما و خيانتهما "أحق من شهادتهما" أي من شهادة الشاهدين الأولين بما يدعيان من أمر الوصية "و ما اعتدينا" عليهما بالشهادة على خلاف ما شهدا عليه "إنا إذا لمن الظالمين".
قوله تعالى: "ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم" الآية في مقام بيان حكمة التشريع و هي أن هذا الحكم على الترتيب الذي قرره الله تعالى أحوط طريق إلى حيازة الواقع في المقام، و أقرب من أن لا يجور الشاهدان في شهادتهما و يخافا من أن يتغير الأمر عليهما برد شهادتهما بعد قبولها.
فإن الإنسان ذو هوى يدعوه إلى التمتع بكل ما يسعه التمتع به و القبض على كل ما يتهوسه إذا لم يكن هناك مانع يصرفه عنه سواء كان ذلك منه عن حق يستحقه أو جورا، عدلا أو ظلما و تعديا على غيره بإبطال حقه و الغلبة عليه، و إنما ينصرف الإنسان عن هذا التعدي و التجاوز إما لمانع يمنعه من خارج بسياسة أو عقوبة أو فضيحة، و إما لرادع يردعه من نفسه و أقوى رادع نفساني هو الاعتقاد بالله الذي إليه مرجع العباد و حساب الأعمال و القضاء الفصل و الجزاء المستوفى.
و إذا كان الواقع من أمر الوصية بحسب فرض المقام مجهولا لا طريق إلى كشفه إلا شهادة من أشهدهما الميت من الشاهدين فأقوى ما يقرب شهادتهما من الصدق أن يؤخذ في ذلك بأيمانهما بالله تعالى و هو اليمين، و أن يرد اليمين إلى الورثة الأولياء مع يمينهما على تقدير انكشاف كذبهما و خيانتهما عند الورثة، فهذان أعني يمينهما أولا ثم رد اليمين إلى الورثة أقرب وسيلة إلى صدقهما في شهادتهما و خوفهما فضيحة رد اليمين، و الرادعان أقوى ما يردعهما من الانحراف.
ثم عقب تعالى القول بالموعظة و الإنذار فقال: "و اتقوا الله و اسمعوا و الله لا يهدي القوم الفاسقين" و المعنى واضح.
قوله تعالى: "يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب" الآية لا تأبى الاتصال بما قبلها فإن ظاهر قوله تعالى في ذيل الآية السابقة: "و اتقوا الله و اسمعوا"، إلخ و إن كان مطلقا لكنه بحسب الانطباق على المورد نهي عن الانحراف و الجور في الشهادة و الاستهانة بأمر اليمين بالله فناسب أن يذكر في المقام بما يجري بينه سبحانه و بين رسله يوم القيامة و هم شهداء على أممهم و أفضل الشهداء، حيث يسألهم الله سبحانه عن الذي أجابهم به أممهم و هم أعلم الناس بأعمال أممهم و الشاهدون من عند الله عليهم فيجيبونه بقولهم: "لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب".
فإذا كان الأمر على هذه الوتيرة، و كان الله سبحانه هو العالم بكل شيء حق العلم فجدير بالشهود أن يخافوا مقام ربهم: و لا ينحرفوا عن الحق الذي رزقهم الله العلم به، و لا يكتموا شهادة الله فيكونوا من الآثمين و الظالمين و الفاسقين.
فقوله تعالى: "يوم يجمع، إلخ" ظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: "و اتقوا الله، إلخ" و ذكر جمع الرسل دون أن يقال: "يوم يقول الله للرسل" لمكان مناسبة مع جمع الشهداء للشهادة كما يشعر به قوله: "تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله".
و أما نفيهم العلم يومئذ عن أنفسهم بقولهم: "لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب" فإثباتهم جميع علوم الغيوب لله سبحانه على وجه الحصر يدل على أن المنفي ليس أصل العلم فإن ظاهر قولهم: "إنك أنت علام الغيوب" يدل على أنه لتعليل النفي، و من المعلوم أن انحصار جميع علوم الغيب في الله سبحانه لا يقتضي رفع كل علم عن غيره و خاصة إذا كان علما بالشهادة، و المسئول عنه أعني كيفية إجابة الناس لرسلهم من قبيل الشهادة دون الغيب.
فقولهم: "لا علم لنا" ليس نفيا لمطلق العلم بل لحق العلم الذي لا يخلو عن التعلق بالغيب فإن من المعلوم أن العلم إنما يكشف لعالمه من الواقع على قدر ما يتعلق بأمر من حيث أسبابه و متعلقاته، و الواقع في العين مرتبط بجميع أجزاء الخارج مما يتقدم على الأمر الواقع في الخارج و ما يحيط به مما يصاحبه زمانا فالعلم بأمر من الأمور الخارجية بحقيقة معنى العلم لا يحصل إلا بالإحاطة بجميع أجزاء الوجود ثم بصانعه المتعالي من أن يحيط به شيء، و هذا أمر وراء الطاقة الإنسانية.
فلم يرزق الإنسان من العلم في هذا الكون الذي يبهته التفكير في سعة ساحته، و تهوله النظرة في عظمة أجرامه و مجراته، و يطير لبه الغور في متون ذراته، و يأخذه الدوار إذا أراد الجري بين هاتين الغايتين إلا اليسير من العلم على قدر ما يحتاج إليه في مسير حياته كالشمعة الصغيرة يحملها طارق الليل المظلم لا ينتفع من نورها إلا أن يميز ما يضع عليه قدمه من الأرض.
فما يتعلق به علم الإنسان ناشب بوجوده متعلق بواقعيته بأطراف ثم بأطراف أطراف و هكذا كل ذلك في غيب من إدراك الإنسان فلا يتعلق العلم بحقيقة معنى الكلمة بشيء إلا إذا كان متعلقا بجميع الغيوب في الوجود، و لا يسع ذلك لمخلوق محدود مقدر إنسانا أو غيره إلا لله الواحد القهار الذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، قال الله تعالى: "و الله يعلم و أنتم لا تعلمون": "البقرة: 261" فدل على أن من طبع الإنسان الجهل فلا يرزق من العلم إلا محدودا مقدرا كما قال تعالى: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": "الحجر: 21" و هو قوله (عليه السلام): حيث سئل عن علة احتجاب الله عن خلقه فقال: لأنه بناهم بنية على الجهل، و قال تعالى: "و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء": "البقرة: 255" فدل على أن العلم كله لله، و إنما يحيط منه الإنسان بما شاء الله، و قال تعالى: "و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا": "الإسراء: 85" فدل على أن هناك علما كثيرا لم يؤت الإنسان إلا قليلا منه.
فإذن حقيقة الأمر أن العلم حق العلم لا يوجد عند غير الله سبحانه، و إذ كان يوم القيامة يوما يظهر فيه الأشياء بحقائقها على ما تفيده الآيات الواصفة لأمره فلا مجال فيه إلا للكلام الحق كما قال تعالى: "لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا، ذلك اليوم الحق": "النبأ - 39" كان من الجواب الحق إذا ما سئل الرسل فقيل لهم: "ما ذا أجبتم" أن يجيبوا بنفي العلم عن أنفسهم لكونه من الغيب، و يثبتوه لربهم سبحانه بقولهم: "لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب".
و هذا الجواب منهم (عليهم السلام) نحو خضوع لحضرة العظمة و الكبرياء و اعتراف بحاجتهم الذاتية و بطلانهم الحقيقي قبال مولاهم الحق رعاية لأدب الحضور و إظهارا لحقيقة الأمر، و ليس جوابا نهائيا لا جواب بعده البتة: أما أولا فلأن الله سبحانه جعلهم شهداء على أممهم كما ذكره في قوله: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا": النساء: 41" و قال: "و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء": "الزمر: 69" و لا معنى لجعلهم شهداء إلا ليشهدوا على أممهم يوم القيامة بما هو حق الشهادة يومئذ، فلا محالة هم سيشهدون يومئذ كما قدر الله ذلك فقولهم يومئذ: "لا علم لنا" جري على الأدب العبودي قبال الملك الحق الذي له الأمر و الملك يومئذ، و بيان لحقيقة الحال و هو أنه هو يملك العلم لذاته و لا يملك غيره إلا ما ملكه، و لا ضير أن يجيبوا بعد هذا الجواب بما لهم من العلم الموهوب المتعلق بأحوال أممهم، و هذا مما يؤيد ما قدمناه في البحث عن قوله تعالى: "و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس،" الآية: "البقرة: 134" في الجزء الأول من هذا الكتاب: أن هذا العلم و الشهادة ليسا من نوع العلم و الشهادة المعروفين عندنا و أنهما من العلم المخصوص بالله الموهوب لطائفة من عباده المكرمين.
و أما ثانيا فلأن الله سبحانه أثبت العلم لطائفة من مقربي عباده يوم القيامة على ما له من الشأن، قال تعالى: "و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث": "الروم: 56" و قال تعالى: "و على الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم": "الأعراف: 46" و قال تعالى: "و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون": "الزخرف: 87" و عيسى بن مريم (عليهما السلام) ممن تعمه الآية و هو رسول فهو ممن يشهد بالحق و هم يعلمون، و قال تعالى: "و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا": "الفرقان: 31" و المراد بالرسول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الذي تحكيه الآية من قوله هو بعينه جواب لما تشتمل عليه هذه الآية من السؤال أعني قوله تعالى: "فيقول ما ذا أجبتم" فظهر أن قول الرسل (عليهم السلام): "لا علم لنا" ليس جوابا نهائيا كما تقدم.
و أما ثالثا فلأن القرآن يذكر السؤال عن المرسلين و المرسل إليهم جميعا كما قال تعالى: "فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين": "الأعراف: 6" ثم ذكر عن الأمم المرسل إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة، و الجواب يستلزم العلم كما أن السؤال يقرره، و قال أيضا فيهم: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد": "ق: 22"، و قال أيضا: "و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون": "السجدة: 12" إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، و إذا كانت الأمم - و خاصة المجرمون منهم - على علم في هذا اليوم فكيف يتصور أن يعدمه الرسل الكرام (عليهم السلام) فالمصير إلى ما قدمناه.
كلام في معنى الشهادة
الاجتماع المدني الدائر بيننا و التفاعل الواقع في عامة جهات الحياة الأرضية بين قوانا الفعالة يسوقنا - و لا محيص - إلى أنواع الاختلافات و الخصومات فالذي يختص بالتمتع به أحدنا ربما أحب الآخر أن يشاركه فيه أو يختص به هو مكانه فتاقت إليه نفسه و نازعته في ذلك فأدى إلى تنبه الإنسان لوجوب اعتبار القضاء و الحكم ليرتفع به هذه الخصومات.
و أول ما يحتاج إليه القضاء أن تحفظ القضايا و الوقائع على النحو الذي وقعت و تضبط ضبطا لا يتطرق إليه التغير و التبدل ليقع عليه قضاء القاضي، هذا مما لا شك فيه.
و يتأتى ذلك بأن يستشهد على الواقعة بأن يطلع عليها إنسان فيتحملها ثم يؤدي ما تحمله عند اللزوم و الاقتضاء أو يضبط بوجه آخر كالكتابة أو أدوات أخر معمولة لذلك اهتدى الإنسان إلى التوصل بها.
و تفارق الشهادة سائر أسباب الحفظ و الضبط أولا بأن غير الشهادة من الأسباب أمور غير عامة فإن أعمها و أعرفها الكتابة و هي لم تستوعب الإنسانية حتى اليوم فكيف بغيرها و هذا بخلاف الشهادة و التحمل.
و ثانيا بأن الشهادة و هو البيان اللساني من نفس الشاهد عن تحمله و حفظه أبعد من عروض الخلل و أمنع جانبا من طرو أنواع الآفات بالقياس إلى الكتابة و غيره من أسباب الحفظ و الضبط.
و لذلك نرى أن الشهادة لا تتجافى عن اعتبارها أمة من الأمم في مجتمعاتهم على اختلافها الفاحش في السنن الاجتماعية و السلائق القومية و الملية و التقدم و التأخر في الحضارة و التوحش، فهي لا تخلو عن اعتبار ما عندهم.
و الاعتبار فيها بالواحد من القوم المعدود فردا من الأمة و جزءا من الجماعة، و لذلك لا يعبأ بشهادة الصبي غير المميز و لا بشهادة المجنون الذي لا يدري ما يقول مثلا، و لذلك أيضا لا يعبأ بعض الأمم الهمجية بشهادة النسوان لما لم يعدوا المرأة جزء من المجتمع، و على ذلك كانت تجري أغلب السنن الاجتماعية في الأمم القديمة كالروم و اليونان و غيرهم.
و الإسلام و هو دين الفطرة يعتبر الشهادة و يعطيها وحدها من بين سائر الأسباب الحجية، و أما سائر الأسباب فلا عبرة بها إلا مع إفادة العلم، قال تعالى: "و أقيموا الشهادة لله": "الطلاق: 2" و قال تعالى: "و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فإنه آثم قلبه": "البقرة: 238" و قال تعالى: "و الذين هم بشهاداتهم قائمون": "المعارج: 33".
و قد اعتبر الإسلام في عامة الموارد غير مورد الزنا من العدد في الشهداء اثنين لتأييد أحدهما الآخر قال تعالى: "و استشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى و لا يأب الشهداء إذا ما دعوا و لا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله و أقوم للشهادة و أدنى ألا ترتابوا": "البقرة: 228"، فأفاد أن ما بينته الآية و اعتبرته من أحكام الشهادة - و منها ضم الواحد إلى آخر ليكونا اثنين - أكثر مطابقة للقسط و قيام الشهادة و رفع الريب.
ثم لما كان الإسلام في تشخيصه فرد المجتمع و بعبارة أخرى في اعتباره الواحد الذي يتكون منه المجتمع الإنساني يعد المرأة جزءا مشمولا للحكم أشركها مع الرجل في إعطاء حق إقامة الشهادات إلا أنه لما اعتبر في المجتمع الذي كونه أن يكون مبنيا على التعقل دون العواطف و المرأة إنسان عاطفي أعطاها من الحق و الوزن نصف ما للرجل، فشهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد كما يشير إليه قوله تعالى في الآية السابقة: "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى"، و قد مر في الجزء الرابع من هذا الكتاب من الكلام في حقوق المرأة في الإسلام ما ينفع في المقام، و للشهادة أحكام كثيرة فرعية مبسوطة في الفقه خارجة من غرضنا في هذا البحث.
كلام في العدالة
كثيرا ما يعثر الباحث في الأحكام الإسلامية في خلال أبحاثه بلفظ العدالة و ربما وجد للفظ تعريفات مختلفة و تفسيرات متنوعة حسب اختلاف الباحثين و مسالكهم.
لكن الذي يلائم مقامنا هذا من البحث - و هو بحث قرآني - في تحليل معناها و كيفية اعتبارها بالتطبيق على الفطرة التي عليها بني الإسلام أن نسلك طريقا آخر من البحث فنقول: إن للعدالة و هي الاعتدال و التوسط بين النمطين: العالي و الداني، و الجانبين: الإفراط و التفريط قيمة حقيقية و وزنا عظيما في المجتمعات الإنسانية، و الوسط العدل هو الجزء الجوهري الذي يركن إليه التركيب و التأليف الاجتماعي فإن الفرد العالي الشريف الذي يتلبس بالفضائل العالية الاجتماعية، و يمثل بغية الاجتماع النهائية لا يجود منه الزمان إلا بالنزر القليل و الواحد بعد الواحد، و من المعلوم أنه لا يتألف المجتمع بالفرد النادر، و لا تتم به كينونته و إن كان هو العضو الرئيس في جثمانه حيثما وجد.
و الفرد الدنيء الخسيس الذي لا يقوم بالحقوق الاجتماعية، و لا يتحقق فيه القدر المتوسط من أماني المجتمع ممن لا داعي له يدعوه إلى رعاية الأصول العامة الاجتماعية التي بها حياة المجتمع، و لا رادع له يردعه عن اقتحام الآثام الاجتماعية التي تهلك الاجتماع و تبطل التجاذب الواجب بين أجزائه، و بالجملة لا اعتماد على جزئيته في بنية الاجتماع و لا وثوق بتأثيره الحسن و نصيحته الصالحة.
و إنما الحكم لأفراد المجتمع المتوسطين الذين تقوم بهم بنية المجتمع و تتحقق فيهم مقاصده و مآربه، و تظهر بهم آثاره الحسنة التي لم تأتلف أجزاؤه و أعضاؤه إلا للحصول عليها و التمتع بها.
هذا كله مما لا يرتاب فيه الإنسان الاجتماعي عند أول ما يجيل نظره في هذا الباب.
فمن الضروري عنده أنه على حاجة شديدة في حياته الاجتماعية إلى أفراد في المجتمع يعتمد على سلوكهم الاجتماعي متلبسين بالاعتدال في الأمور و الاحتراز عن الاسترسال في نقض القوانين و مخالفة السنن و الآداب الجارية من غير مبالاة و انقباض في أبواب كثيرة كالحكومة و القضاء و الشهادات و غيرها في الجملة.
و هذا الحكم الضروري أو القريب من الضروري عند الفطرة هو الذي يعتبره الإسلام في الشاهد، قال تعالى: "و اشهدوا ذوي عدل منكم و أقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر": "الطلاق: 2"، و قال تعالى: "شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم": "المائدة: 160" و الخطاب في الآيتين للمؤمنين فاشتراط كون الشاهدين ذوي عدل منهم مفاده كونهما ذوي حالة معتدلة متوسطة بالنسبة إلى مجتمعهم الديني، و أما بالقياس إلى المجتمع القومي و البلدي فالإسلام لا يعبأ بأمثال هذه الروابط غير الدينية، و ظاهر أن محصل كونهما على حالة معتدلة بالقياس إلى المجتمع الديني هو كونهما ممن يوثق بدينه غير مقترفين ما يعد من المعاصي الكبيرة الموبقة في الدين، قال تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا كريما": "النساء: 31"، و قد تكلمنا في معنى الكبائر في ذيل الآية في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
و على هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله: "و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة و لا تقبلوا لهم شهادة أبدا و أولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم": "النور: 5" و نظير الآية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى: "ممن ترضون من الشهداء": "البقرة: 228" فإن الرضا المأخوذ في الآية هو الرضا من المجتمع الديني، و من المعلوم أن المجتمع الديني بما هو ديني لا يرضى أحدا إلا إذا كان على نوع من السلوك يوثق به في أمر الدين.
و هذا هو الذي نسميه في فن الفقه بملكة العدالة و هي غير ملكة العدالة بحسب اصطلاح فن الأخلاق فإن العدالة الفقهية هي الهيئة النفسانية الرادعة عن ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفي و التي في فن الأخلاق هي الملكة الراسخة بحسب الحقيقة.
و الذي استفدناه من معنى العدالة هو الذي يستفاد من مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على ما ورد من طرقهم: ففي الفقيه، بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: إن تعرفوه بالستر و العفاف و كف البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر و الزنا و الربا و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و غير ذلك. و الدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته بين الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين و أن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة. فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا، مواظبا على الصلوات، متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فإن ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين و ذلك أن الصلاة ستر و كفارة للذنوب، و ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلي إذا كان لا يحضر مصلاه و لا يتعاهد جماعة المسلمين. و إنما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي و من يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع، و لو لا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح لأن من لا يصلي لا صلاح له بين المسلمين فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هم بأن يحرق قوما في منازلهم بتركهم الحضور لجماعة المسلمين و قد كان منهم من يصلي في بيته فلم يقبل منه ذلك فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من الله عز و جل و من رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار؟ و قد كان يقول (صلى الله عليه وآله وسلم). لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة.
أقول: و رواه في التهذيب، مع زيادة تركناها، و الستر و العفاف كلاهما بمعنى الترك على ما في الصحاح، و الرواية - كما ترى - تجعل أصل العدالة أمرا معروفا بين المسلمين و تبين أن الأثر المترتب عليه الدال على هذه الصفة النفسية هو ترك محارم الله و الكف عن الشهوات الممنوعة، و معرف ذلك اجتناب الكبائر من المعاصي، ثم تجعل الدليل على ذلك كله حسن الظاهر بين المسلمين على ما بينه (عليه السلام) تفصيلا.
و فيه، عن عبد الله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.
و فيه،: روى سماعة عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفا صائنا.
و في الكافي، بإسناده عن علي بن مهزيار عن أبي علي بن راشد قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن مواليك قد اختلفوا فأصلي معهم جميعا؟ فقال لا تصل إلا خلف من تثق بدينه.
أقول: دلالة الروايات على ما قدمناه ظاهرة، و فيها أبحاث أخر خارجة عن غرضنا في المقام.
كلام في اليمين
حقيقة معنى قولك: "لعمري إن كذا و كذا، و حياتي إن الأمر على ما أخبرته" أنك تعلق ما أخبرت به من الخبر و تقيده نوع تقييد في صدقه بعمرك و حياتك التي لها مكانة و احترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود و العدم، و لو كنت كاذبا في خبرك أبطلت مكانة حياتك و احترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الإنسانية الداعية إلى الاحترام لأمر الحياة.
و معنى قولك: "أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا" إنك ربطت أمرك أو نهيك بالمكانة و العزة التي لله عز اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الأمر أو معصية النهي استهانة بمقامه تعالى و إذهابا لحرمة الإيمان به.
و كذا معنى قولك: "و الله لأفعلن كذا" وصل خاص بين عزيمتك على ما عزمت عليه من الأمر و بين ما لله سبحانه عندك من المكانة و الحرمة بحسب إيمانك به بحيث يكون فسخك عزيمتك و نقضك همتك إبطالا لما له سبحانه من المكانة عندك، و الغرض من ذلك أن تكون على رادع من فسخ العزيمة و نقض الهمة فالقسم إيجاد ربط خاص بين شيء من الخبر أو الإنشاء و بين شيء آخر ذي مكانة و شرف بحيث يبطل المربوط إليه ببطلان المربوط بحسب الدعوى، و حيث كان المربوط إليه ذا مكانة و شرف عند الجاعل مثلا لا يرضى بإذهاب مكانته و الإهانة بمقامه فهو صادق في خبره أو مطاع فيما يأمر به أو ينهى عنه، أو ماض في عزيمته من غير فسخ لا محالة، و نتيجته التأكيد البالغ.
و يوجد في اللغات نوع آخر من جعل الربط يقابل القسم و هو ربط الخبر مثلا بما لا قيمة له و لا شرافة عند المخبر ليدل بذلك على الاستهانة بما يخبر به أو بلغه من الخبر و يعد نوعا من الشتم و هو في اللغة العربية نادر جدا.
و الحلف و اليمين - فيما نعلم - من العادات الدائرة في ألسنة الناس الموروثة جيلا بعد جيل، و لا يختص بلغة دون لغة، و هو الدليل على أنه ليس من الشئون اللغوية اللفظية بل إنما يهدي الإنسان إليه حياته الاجتماعية في موارد يتنبه على وجوب الالتجاء إليه و الاستفادة منه.
و لم تزل اليمين دائرا بين الأمم ربما يبنى عليه و يركن إليه في موارد متفرقة غير مضبوطة تحدث في مجتمعاتهم لأغراض متنوعة لدفع التهمة و رفع الفرية و تطييب النفس و تأييد الخبر حتى اعتنى بأمره القوانين المدنية و أعطتها وجهة قانونية في بعض من الموارد كحلف الرؤساء و أولياء الأمور عند تقلد المناصب الهامة و إشغال المقامات العظيمة العالية و غير ذلك.
و قد اعتنى الإسلام بشأن اليمين اعتناء تاما إذا وقع على الله سبحانه خاصة، و ليس ذلك إلا في ظل العناية برعاية حرمة المقام الربوبي و وقاية ساحته تعالى أن يواجه بما يأباه ناموس الربوبية و العبودية، و لذلك وضعت كفارة خاصة عند حنث اليمين، و كره الإكثار من الحلف بالله عز شأنه، قال تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين،" الآية: "المائدة: 89" و قال تعالى: "و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم": البقرة: 242".
و اعتبر اليمين في موارد من القضاء خلت عن البينة، قال تعالى: "فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما و ما اعتدينا" الآية: "المائدة: 170" و من كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم): البينة على المدعي و اليمين على من أنكر.
و حقيقة اعتبار اليمين الاكتفاء بدلالة نفس الإيمان فيما لا دليل سواه، و ذلك أن المجتمع الديني مبني على إيمان الأفراد بالله، و الإنسان المؤمن هو الجزء من هذا المركب المؤلف، و هو المنبع الذي ينبع منه السنن المتبعة و الأحكام الجارية، و بالجملة جميع الآثار البارزة في القوم الناشئة من حالتهم الدينية كما أن المجتمع غير الديني مبني على إيمان الأفراد بمقاصدهم القومية، و منها تنشأ السنن و القوانين المدنية و الآداب و الرسوم الدائرة بينهم.
فإذا كان كذلك و صح الاعتماد في جميع الشئون الاجتماعية و الاتكاء في عامة لوازم الحياة على إيمان الأفراد بطرق مختلفة كان من الجائز أن يعتمد على إيمانهم في ما لا دليل آخر يعتمد عليه، و هو اليمين فيما لا بينة عليه بأن يربط المنكر ما ينكره من دعوى المدعي و يقيده بإيمانه بحيث يزول اعتبار إيمانه بالله ببطلان إنكاره و ظهور كذبه فيما أظهره و أخبر به.
فإيمانه بسبب ما عقده باليمين بمنزلة مال الرهن الذي يجعل تحت تسلط الدائن و يراعي في عوده إلى سلطة راهن صدق وعده و تأديته الدين إلى أجل و إلا ذهب المال و بقي صفر اليد.
كذلك الحالف يعتبر مرهون الإيمان بما حلف عليه ما لم يظهر خلافه و إذا ظهر الخلاف عاد صفر الكف من الإيمان ساقطا عن درجة الاعتبار محروما من التمتع بثمرة الإيمان و هي في المجتمع الديني جميع المزايا الاجتماعية، و رجع مطرودا من المجتمع المتلائم الأجزاء لا سماء تظله و لا أرض تقله.
و يتأيد هذا البيان بما يروى من تظاهر الناس على مقت المتخلفين عن السنن الدينية كالصلاة مع الجماعة و الشخوص في الجهاد و نحوهما في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كان تمام السلطة و الحكومة للدين على الأهواء.
و أما في أمثال هذه الأعصار التي ضعف فيها نفوذ الدين و تسرب الهوى في القلوب و انعقد بيننا مجتمع مؤتلف من المقاصد الدينية على وهن في بنيتها و إعراض من الناس عنها و من مقاصد المدنية الحديثة و يجمعها الاسترسال في التمتعات المادية على شيد في أساسها و إقبال عام من عامة الناس إليها ثم أخذ التنازع و التشاجر الشديد بين الدواعي الدينية و المدنية الطارقة و لا يزال يغلب هذا و ينهزم ذاك، و انثلمت وحدة النظام الواجب انبساطه على مستوى المجتمع، و بدا الهرج و المرج في الروحيات فحينئذ لا يكاد ينفع اليمين و لا ما هو أقوى من ذلك و أحفظ لحقوق الناس، و زال الاعتماد لا على الأسباب الدينية الموجودة عند المجتمع فحسب بل عليها و على النواميس الحديثة جميعا.
غير أن الله سبحانه لا ينسخ أحكامه و لا يغمض عن شرائعه بتولي الناس عنها و سأمهم منها و أن الدين عند الله الإسلام و لا يرضى لعباده الكفر، و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض، و إنما الإسلام دين متعرض لجميع شئون الحياة الإنسانية شارح لها مبين لأحكامها ذو أجزاء متلائمة متناسبة متلازمة تعيش بروح التوحيد الواحد إذا اعتل بعض أجزائه اعتل الجميع، و إذا فسد بعضها أثر ذلك في عمل الجميع كالواحد من الإنسان بعينه.
فإذا فسد بعض أجزائه أو اعتل كان من الواجب إبقاء السالم منها على سلامته و علاج المعتل و إصلاح الفاسد، و لم يكن من الجائز إبقاء المعتل على علته و الفاسد على فساده، و الإعراض عن السالم.
و الإسلام و إن كان ملة حنيفية سهلة سمحة ذات مراتب مختلفة وسيعة يقدر تكاليفه على قدر ما يستطاع من إتيانها و إجرائها، يتمدد حبلها الموصول من حالة اجتماعية آمنة تتضمن شرائعها و قوانينها جمعاء من غير استثناء إلى حالة انفرادية اضطرارية تكتفى فيها من الصلاة بالإشارة لكن التنزل من مرتبة من مراتبها إلى ما هي دونها مشروطة بالاضطرار النافي للتكليف و المبيح للتوسع، قال تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم - إلى أن قال - ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم": "النحل: 101".
و أما بناء الحياة على التمتع المادي ثم التعلل في رفض ما يناقضه من المواد الدينية بأنه لا يوافق السنة الجارية في الدنيا الحاضرة فإنه جري على المنطق المادي دون منطق الدين.
و من البحث المتعلق بهذا الباب ما في قول بعض: إن الحلف بغير الله من الشرك بالله فينبغي أن يستفهم هذا القائل ما ذا يريد بهذا الشرك الذي ذكره؟.
فإن أراد به أن في اليمين بغير الله إعظاما للمقسم به و إجلالا لأمره لابتناء معنى القسم على ذلك ففيه نوع خضوع و عبادة له و هو الشرك فما كل إعظام شركا إلا إعطاء عظمة الربوبية المستقلة التي يستغني بها عن غيره.
و قد أقسم الله تعالى بكثير من خلقه كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الكنس الخنس من الكواكب و بالنجم إذا هوى، و أقسم بالجبل و البحر و التين و الزيتون و الفرس و أقسم بالليل و النهار و الصبح و الشفق و العصر و الضحى و يوم القيامة، و أقسم بالنفس، و أقسم بالكتاب و القرآن العظيم و حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بالملائكة إلى غير ذلك في آيات كثيرة و لا يستقيم قسم إلا عن إعظام.
فما المانع من أن نجري على ما جرى عليه كلامه تعالى من إعظامها بالعظمة الموهوبة و نقتصر على ذلك، و لو كان ذلك من الشرك لكان كلامه تعالى أولى بالتحرز منه و أحرى برعايته.
و أيضا قد عظم الله تعالى أمورا كثيرة في كلامه كالقرآن و العرش و خلق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: "و القرآن العظيم": "الحجر: 87"، و قال: "و هو رب العرش العظيم": "التوبة: 192"، و قال: "و إنك لعلى خلق عظيم": "ن: 4"، و جعل لأنبيائه و رسله و المؤمنين حقوقا على نفسه و عظمها و احترمها، قال تعالى: "و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون": "الصافات: 127"، و قال: "و كان حقا علينا نصر المؤمنين": "الروم: 47" فما المانع من أن نعظمها و نجري على ما جرى عليه كلامه في مطلق القسم، و أن نقسمه تعالى بشيء مما أقسم به أو بحق من الحقوق التي جعلها لأوليائه على نفسه؟ نعم اليمين الشرعي الذي له آثار شرعية في باب اليمين أو القضاء لا ينعقد بغير الله سبحانه كما بين في الفقه و ليس كلامنا فيه.
و إن أراد به أن مطلق الإعظام كيفما كان لا يجوز في غير الله حتى إعظامها بما عظمها الله تعالى فهو مما لا دليل عليه بل القاطع من الدليل على خلافه.
و ربما قيل: إن في الإقسام بحق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سائر الأولياء و التقرب إليهم و الاستشفاع بهم بأي وجه كان عبادة و إعطاء سلطة غيبية لها.
و الكلام فيه كالكلام في سابقه: فإن أريد بهذه السلطة الغيبية السلطة المستقلة الخاصة بالله فلا يذعن بها مسلم مؤمن بكتاب الله في غيره تعالى، و إن أريد بها مطلق السلطة غير المادية و لو كان بإذن الله فما الدليل على امتناع أن يتصف بها بعض عباد الله كأوليائه مثلا بإذنه، و قد نص القرآن الشريف على كثير من السلطات الغيبية في الملائكة كما قال: "حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا و هم لا يفرطون": "الأنعام: 61"، و قال: "قل يتوفاكم ملك الموت": "السجدة: 11" و قال: "و النازعات غرقا، و الناشطات نشطا، و السابحات سبحا، فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا": "النازعات: 5، و قال: "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك": "البقرة: 97" و الآيات في هذا الباب كثيرة جدا.
و قال في إبليس و جنوده: "إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون": "الأعراف: 27" و قد نزلت في شفاعة الأنبياء و غيرهم في الآخرة، و آياتهم المعجزة في الدنيا آيات كثيرة.
و ليت شعري ما الفرق بين الآثار المادية التي يثبتها هؤلاء في الموضوعات من غير استنكاف و بين آثار غير المادية التي يسمونها بالسلطة الغيبية؟ فإن كان إثبات التأثير لغير الله ممنوعا لم يكن فرق بين الأثر المادي و غيره و إن كان جائزا بإذن الله سبحانه كان الجميع فيه سواء.
بحث روائي
في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الداري و ابن بندي و ابن أبي مارية في سفر، و كان تميم الداري مسلما و ابن بندي و ابن أبي مارية نصرانيين، و كان مع تميم الداري خرج له فيه متاع و آنية منقوشة بالذهب و قلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع. فاعتل تميم الداري علة شديدة فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي و ابن أبي مارية و أمرهما أن يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة، و قد أخذا من المتاع الآنية و القلادة، و أوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الآنية و القلادة فقال أهل تميم لهما: هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا: لا ما مرض إلا أياما قلائل، قالوا: فهل سرق منه شيء في سفره هذا؟ قالا: لا، فقالوا: فهل اتجر تجارة خسر فيها؟ قالا: لا، قالوا: فقد افتقدنا أفضل شيء كان معه: آنية منقوشة بالذهب مكللة بالجواهر و قلادة، فقالا: ما دفعه إلينا فقد أديناه إليكم. فقدموهما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أوجب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهما اليمين فحلفا فخلا عنهما، ثم ظهرت تلك الآنية و القلادة عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله قد ظهر على ابن بندي و ابن أبي مارية ما ادعيناه عليهما، فانتظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الله عز و جل الحكم في ذلك. فأنزل الله تبارك و تعالى: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم - إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم - أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض" فأطلق الله عز و جل شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر و لم يجد المسلمين. ثم قال: "فأصابتكم مصيبة الموت - تحبسونهما من بعد الصلاة - فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا - و لو كان ذا قربى و لا نكتم شهادة الله - إنا إذا لمن الآثمين"، فهذه الشهادة الأولى التي حلفها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "فإن عثر على أنهما استحقا إثما" أي أنهما حلفا على كذب "فآخران يقومان مقامهما" يعني من أولياء المدعي "من الذين استحق عليهم الأوليان" الأولين "فيقسمان بالله" أي يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما و أنهما قد كذبا فيما حلفا بالله "لشهادتنا أحق من شهادتهما و ما اعتدينا - إنا إذا لمن الظالمين". فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولياء تميم الداري أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القلادة و الآنية من ابن بندي و ابن أبي مارية و ردهما إلى أولياء تميم الداري "ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها - أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم".
أقول: و أورده القمي في تفسيره مثله و فيه بعد قوله: "تحبسونهما من بعد الصلاة: يعني صلاة العصر، و قوله (عليه السلام) "الأولين" الظاهر أنه بصيغة التثنية و المراد بهما الشاهدان الأولان تفسيرا لقوله تعالى: "الأوليان" و ظاهره على قراءته (عليه السلام) "استحق" بالبناء للفاعل كما نسبت إلى علي (عليه السلام)، و قد قدمنا في البيان السابق أنه أوضح المعاني المحتملة على هذه القراءة.
|