قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
و في الدر المنثور،: أخرج الترمذي و ضعفه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر و هو الكلبي عن باذان مولى أم هاني عن ابن عباس عن تميم الداري: في هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا - شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت" قال: برىء الناس منهما غيري و غير عدي بن بداء، و كانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما، و قدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة، و معه جام من فضة يريد به الملك و هو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما و أمرهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا و عدي بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا و فقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا و ما دفع إلينا غيره. قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر و أديت إليهم خمسمائة درهم، و أخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إلى قوله أن ترد أيمان بعد أيمانهم" فقام عمرو بن العاص و رجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء.
أقول: و الرواية على ضعفها لا تنطبق على الآية تمام الانطباق و هو ظاهر، و روي عن ابن عباس و عن عكرمة ما يقرب من رواية القمي السابقة.
و فيه،: أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و أبو عبيد و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب: أنه كان يقرأ: "من الذين استحق عليهم الأوليان" بفتح التاء.
و فيه،: أخرج ابن مردويه و الحاكم و صححه، عن علي بن أبي طالب: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ: "الذين استحق عليهم الأوليان".
و فيه،: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هذه الآية منسوخة.
أقول: و لا دليل على ما في الرواية من حديث النسخ.
و في الكافي، عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان و علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى: "أو آخران من غيركم" قال: إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية.
أقول: و معنى الرواية مستفاد من الآية.
و فيه، بإسناده عن يحيى بن محمد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم - إذا حضر أحدكم الموت - حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم"؟ قال: "اللذان منكم" مسلمان "و اللذان من غيركم" من أهل الكتاب، فإن لم يجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سن في المجوس سنة أهل الكتاب في الجزية. و ذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله عز و جل "لا نشتري به ثمنا - و لو كان ذا قربى و لا نكتم شهادة الله - إنا إذا لمن الآثمين" قال: و ذلك إذا ارتاب ولي الميت في شهادتهما، فإن عثر على أنهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما حتى يجيء بشاهدين فيقومان مقام الشاهدين الأولين "فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما - و ما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين" فإن فعل ذلك نقض شهادة الأولين، و جازت شهادة الآخرين يقول الله عز و جل: "ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها - أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم".
أقول: و الرواية - كما ترى - توافق ما تقدم من معنى الآية، و في معناها روايات أخر في الكافي، و تفسير العياشي، عن أبي عبد الله و أبي الحسن (عليه السلام).
و في بعض الروايات تفسير قوله: "أو آخران من غيركم" بالكافرين، و هو أعم من أهل الكتاب كما رواه في الكافي، عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله.
و في تفسير العياشي، عن أبي أسامة عنه (عليه السلام) أيضا: في الآية: ما "آخران من غيركم"؟ قال: هما كافران قلت: "ذوا عدل منكم"؟ فقال: مسلمان، و الرواية السابقة المقيدة بأهل الكتاب و إن لم تصلح لتقييد هذا الإطلاق بحسب صناعة الإطلاق و التقييد لكونهما متوافقين إيجابيين لكن سياق الرواية الأولى يصلح لتفسير إطلاق الثانية بما يوافق التقييد.
و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده إلى أبي زيد عياش بن يزيد بن الحسن عن أبيه يزيد بن الحسن قال: حدثني موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: قال الصادق (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا" قال: يقولون لا علم لنا بسواك قال و قال: الصادق (عليه السلام): القرآن كله تقريع و باطنه تقريب.
قال صاحب البرهان: قال ابن بابويه: يعني بذلك أنه من وراء آيات التوبيخ و الوعيد آيات الرحمة و الغفران.
أقول: و ما نقله عن الصدوق رحمه الله في معنى قوله (عليه السلام): "القرآن كله تقريع و باطنه تقريب" لا ينطبق عليه لا بالنظر إلى صدر الرواية فإن كون معنى قول الرسل (عليهم السلام): "لا علم لنا" أنه لا علم لنا بسواك غير مرتبط بكون القرآن مشتملا على نوعين من الآيات: آيات الوعد و آيات الوعيد.
و لا بالنظر إلى سياق نفس الجملة أعني قوله: "القرآن كله تقريع و باطنه تقريب" فإن الكلام ظاهر في أن القرآن كله تقريع و كله تقريب، و إنما يختلف الأمر بحسب الباطن و الظاهر فباطنه تقريب و ظاهره تقريع، لا أن القرآن منقسم إلى قسمين فقسم منه آيات التقريع و وراءه القسم الآخر و هو آيات التقريب.
و التأمل في كلامه (عليه السلام) مع ملاحظة صدر الرواية يعطي أن مراده (عليه السلام) من التقريع بالنظر إلى مقابلة التقريب لازم معناه و هو التبعيد المقابل للتقريب، و القرآن كله معارف و حقائق فظاهره تبعيد الحقائق بعضها من بعض و تفصيل أجزائها، و باطنه تقريب البعض من البعض و إحكامها و توحيدها، و يعود محصل المراد إلى أن القرآن بحسب ظاهره يعطي حقائق من المعارف مختلفة بعضها بائن منفصل من بعض لكنها على كثرتها و بينونتها و ابتعاد بعضها من بعض بحسب الباطن يقترب بعضها من بعض و تلتئم شتى معانيها حتى تتحد حقيقة واحدة كالروح الساري في الجميع، و ليست إلا حقيقة التوحيد قال الله تعالى: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير": "هود: 1".
و يظهر حينئذ انطباقه على ما ذكره (عليه السلام) في صدر الرواية أن معنى قول الرسل: "لا علم لنا" أن لا علم لنا بسواك فإن الإنسان أو أي عالم فرض إنما يعلم ما يعلم بالله بمعنى أن الله سبحانه هو المعلوم بذاته و غيره معلوم به، و بعبارة أخرى إذا تعلق العلم بشيء فإنما يتعلق أولا بالله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه و كبريائه ثم يتعلق من جهته بذلك الشيء لما أن الله سبحانه عنده علم كل شيء يرزق منه لمن يشاء من عباده على قدر ما يشاء كما قال تعالى: "و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات و الأرض": "البقرة: 255" و قد تقدم رواية عبد الأعلى مولى آل سام عن الصادق (عليه السلام) و غيره من الروايات في هذا المعنى.
و على هذا فمعنى قولهم: "لا علم لنا بسواك إنك أنت علام الغيوب" على تفسيره (عليه السلام) أنه لا علم لنا بشيء من دونك و إنما نعلم ما نعلم من جهة علمنا بك لأن العلم كله لك و إذا كان كذلك فأنت أعلم به منا لأن الذي نعلمه من شيء هو علمك الذي أحطنا بشيء منه بمشيئتك و رزقك.
و على هذا يتجلى معنى آخر لقوله: "إنك أنت علام الغيوب" هو أرفع منالا مما تقدم من المعنى، و هو أن كل شيء من الخليقة لما كان منفصل الوجود عن غيره كان في غيب منه لما أن وجوده محدود مقدر لا يحيط إلا بما شاء الله أن يحيط به، و الله سبحانه هو المحيط بكل شيء، العالم بكل غيب لا يعلم شيء شيئا إلا من جهته تعالى و تقدس عن كل نقص.
و على هذا فتقسيم الأمور إلى غيب و شهادة تقسيم بالحقيقة إلى غيب شاء الله إحاطتنا به و غيب مستور عنا، و ربما تؤيد هذا المعنى بظاهر قوله تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول": "الجن: 27" بالنظر إلى ما تفيده إضافة الغيب إلى الضمير، و عليك بإجادة التأمل في هذا المقام.
و في تفسير العياشي، عن يزيد الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "يوم يجمع الله الرسل،" الآية قال: يقول: ما ذا أجبتم في أوصيائكم الذين خلفتم على أمتكم؟ قال: فيقولون: لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا. أقول: و رواه القمي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه (عليه السلام).
و في الكافي، عن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما في معناه، و هو من الجري أو من قبيل الباطن.
5 سورة المائدة - 110 - 111
إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكرْ نِعْمَتى عَلَيْك وَ عَلى وَلِدَتِك إِذْ أَيّدتّك بِرُوح الْقُدُسِ تُكلِّمُ النّاس فى الْمَهْدِ وَ كهْلاً وَ إِذْ عَلّمْتُك الْكتَب وَ الحِْكْمَةَ وَ التّوْرَاةَ وَ الانجِيلَ وَ إِذْ تخْلُقُ مِنَ الطينِ كَهَيْئَةِ الطيرِ بِإِذْنى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طيرَا بِإِذْنى وَ تُبرِئُ الأَكمَهَ وَ الأَبْرَص بِإِذْنى وَ إِذْ تخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنى وَ إِذْ كفَفْت بَنى إِسرءِيلَ عَنك إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَتِ فَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مّبِينٌ (110) وَ إِذْ أَوْحَيْت إِلى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءَامِنُوا بى وَ بِرَسولى قَالُوا ءَامَنّا وَ اشهَدْ بِأَنّنَا مُسلِمُونَ (111)
بيان
الآيتان و كذا الآيات التالية لها القاصة قصة نزول المائدة و التالية لها المخبرة عما سيسأل الله عيسى بن مريم (عليهما السلام) عن اتخاذ الناس إياه و أمه إلهين من دون الله سبحانه و ما يجيب به عن ذلك، كلها مرتبطة بغرض السورة الذي افتتحت به، و هو الدعوة إلى الوفاء بالعهد و الشكر للنعمة و التحذير عن نقض العهود و كفران النعم الإلهية و بذلك يتم رجوع آخر السورة إلى أولها و تحفظ وحدة المعنى المراد.
قوله تعالى: "إذ قال الله يا عيسى بن مريم - إلى قوله - و إذ تخرج الموتى بإذني" الآية تعد عدة من الآيات الباهرة الظاهرة بيده (عليه السلام) إلا أنها تمتن بها عليه و على أمه جميعا، و هي مذكورة بهذا اللفظ تقريبا فيما يحكيه تعالى من تحديث الملائكة مريم عند بشارتها بعيسى (عليه السلام) في سورة آل عمران، قال تعالى: "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم - إلى أن قال - و يكلم الناس في المهد و كهلا - إلى أن قال - و يعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل و رسولا إلى بني إسرائيل، أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله و أبرىء الأكمه و الأبرص و أحيي الموتى بإذن الله" الآيات : "آل عمران: 45 50".
و التأمل في سياق الآيات يوضح الوجه في عد ما ذكره من الآيات المختصة ظاهرا بالمسيح نعمة عليه و على والدته جميعا كما تشعر به آيات آل عمران فإن البشارة إنما تكون بنعمة، و الأمر على ذلك فإن ما اختص به المسيح (عليه السلام) من آية و موهبة كالولادة من غير أب و التأييد بروح القدس و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى بإذن الله سبحانه فهي بعينها كرامة لمريم كما أنها كرامة لعيسى (عليه السلام) فهما معا منعمان بالنعمة الإلهية كما قال تعالى: "نعمتي عليك و على والدتك".
و إلى ذلك يشير تعالى بقوله: "و جعلناها و ابنها آية للعالمين": "الأنبياء: 91" حيث عدهما معا آية واحدة لا آيتين.
و قوله: "إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس" الظاهر أن التأييد بروح القدس هو السبب المهيىء له لتكليم الناس في المهد، و لذلك وصل قوله "تكلم الناس" من غير أن يفصله بالعطف إلى الجملة السابقة إشعارا بأن التأييد و التكليم معا أمر واحد مؤلف من سبب و مسبب، و اكتفى في موارد من كلامه بذكر أحد الأمرين عن الآخر كقوله في آيات آل عمران المنقولة آنفا: "و تكلم الناس في المهد و كهلا"، و قوله: "و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس": "البقرة: 235".
على أنه لو كان المراد بتأييده بروح القدس مسألة الوحي بوساطة الروح لم يختص بعيسى بن مريم (عليهما السلام) و شاركه فيها سائر الرسل مع أن الآية تأبى ذلك بسياقها.
و قوله: "و إذ علمتك الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل من الممكن أن يستفاد منه أنه (عليه السلام) إنما تلقى علم ذلك كله بتلق واحد عن أمر إلهي واحد من غير تدريج و تعدد كما أنه أيضا ظاهر جمع الجميع و تصديرها بإذ من غير تكرار لها.
و كذلك قوله: "إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيه فتكون طيرا بإذني و تبرء الأكمه و الأبرص بإذني" ظاهر السياق من جهة عدم تكرار لفظة "إذ" أن خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص كانا متقارنين زمانا، و أن تذييل خلق الطير بذكر الإذن من غير أن يكتفي بالإذن المذكور في آخر الجملة إنما هو لعظمة أمر الخلق بإفاضة الحياة فتعلقت العناية به فاختص بذكر الإذن بعده من غير أن ينتظر فيه آخر الكلام صونا لقلوب السامعين من أن يخطر فيها أن غيره تعالى يستقل دونه بإفاضة الحياة أو تلبث فيها هذه الخطرة و لو لحظات يسيرة، و الله أعلم.
و قوله: "و إذ تخرج الموتى بإذني" إخراج الموتى كناية عن إحيائها، و فيه عناية ظاهرة بأن الإحياء الذي جرى على يديه (عليه السلام) كان إحياء لموتى مقبورين بإفاضة الحياة عليهم و إخراجهم من قبورهم إلى حياة دنيوية، و في اللفظ دلالة على الكثرة، و قد تقدم في الكلام على آيات آل عمران بقية ما يتعلق بهذه الآيات من الكلام فراجع ذلك.
قوله تعالى: "و إذ كففت بني إسرائيل عنك" إلى آخر الآية.
فيه دلالة على أنهم قصدوه بشر فكفهم الله عن ذلك فينطبق على ما ذكره الله في سورة آل عمران في قصصه (عليه السلام) بقوله: "و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين".
قوله تعالى: "و إذ أوحيت إلى الحواريين" الآية، الآية منطبقة على آيات سورة آل عمران بقوله: "فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون": "آل عمران: 52".
و من هنا يظهر أن هذا الإيمان الذي ذكره في الآية بقوله: "و إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي و برسولي قالوا آمنا، الآية غير إيمانهم الأول به (عليه السلام) فإن ظاهر قوله في آية آل عمران: "فلما أحس عيسى منهم الكفر" أنه كان في أواخر أيام دعوته و قد كان الحواريون و هم السابقون الأولون في الإيمان به ملازمين له.
على أن ظاهر قوله في آية آل عمران: "قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون" أن الدعوة إنما سيقت لأخذ الميثاق على نصرة دين الله لا أصل الإيمان بالله، و لذلك ختم الآية بقولهم: "و اشهد بأنا مسلمون" و هو التسليم لأمر الله بإقامة دعوته و تحمل الأذى في جنبه، و كل ذلك بعد أصل الإيمان بالله طبعا.
فتبين أن المراد بقوله: "و إذ أوحيت إلى الحواريين، إلخ" قصة أخذ الميثاق من الحواريين، و في الآية أبحاث أخر مرت في تفسير سورة آل عمران.
بحث روائي
في المعاني، بإسناده عن أبي يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكيت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): لما ذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء و العصا و آلة السحر، و بعث عيسى بآلة الطب، و بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكلام و الخطب؟. فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تعالى لما بعث موسى (عليه السلام) كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عند القوم و في وسعهم مثله، و بما أبطل به سحرهم، و أثبت به الحجة عليهم و إن الله تعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات و احتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عندهم مثله، و بما أحيا لهم الموتى، و أبرأ الأكمه و الأبرص بإذن الله، و أثبت به الحجة عليهم و إن الله تعالى بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب و الكلام و الشعر فأتاهم من كتاب الله و الموعظة و الحكمة بما أبطل به قولهم، و أثبت به الحجة عليهم. قال ابن السكيت ما رأيت مثلك اليوم قط فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه و الكاذب على الله فيكذبه، قال ابن السكيت: هذا و الله هو الجواب.
و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن أبي جميلة عن أبان بن تغلب و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيا أحدا بعد موته بأكل و رزق و مدة و ولد؟ فقال: نعم إنه كان له صديق مواخ له في الله تبارك و تعالى، و كان عيسى (عليه السلام) يمر به و ينزل عليه، و إن عيسى غاب عنه حينا ثم مر به ليسلم عليه فخرجت عليه أمه فسألها عنه فقالت له: مات يا رسول الله، فقال: أ تحبين أن تراه؟ قالت: نعم. فقال: إذا كان غدا أتيتك حتى أحييه لك بإذن الله تعالى. فلما كان من الغد أتاها فقال لها: انطلقي معي إلى قبره فانطلقا حتى أتيا قبره فوقف عليه عيسى (عليه السلام) ثم دعا الله عز و جل فانفرج القبر فخرج ابنها حيا فلما رأته أمه و رءاها بكيا فرحمهما عيسى (عليه السلام) فقال له عيسى: أ تحب أن تبقى مع أمك في الدنيا؟ فقال: يا رسول الله بأكل و رزق و مدة أم بغير أكل و رزق و مدة؟ فقال له عيسى (عليه السلام): بأكل و رزق و مدة تعمر عشرين سنة و تزوج و يولد لك، قال: نعم إذا. قال: فدفعه عيسى (عليه السلام) إلى أمه فعاش عشرين سنة و ولد له.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن يوسف الصنعاني عن أبيه قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) "إذ أوحيت إلى الحواريين" قال: ألهموا.
أقول: و استعمال الوحي في مورد الإلهام جاء في القرآن في غير مورد كقوله تعالى: "و أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه": "القصص: 7"، و قوله تعالى: "و أوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا": "النحل: 68" و قوله في الأرض: "بأن ربك أوحى لها": "الزلزال: 5".
5 سورة المائدة - 112 - 115
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيّونَ يَعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَستَطِيعُ رَبّك أَن يُنزِّلَ عَلَيْنَا مَائدَةً مِّنَ السمَاءِ قَالَ اتّقُوا اللّهَ إِن كنتُم مّؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَن نّأْكلَ مِنهَا وَ تَطمَئنّ قُلُوبُنَا وَ نَعْلَمَ أَن قَدْ صدَقْتَنَا وَ نَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشهِدِينَ (113) قَالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائدَةً مِّنَ السمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوّلِنَا وَ ءَاخِرِنَا وَ ءَايَةً مِّنك وَ ارْزُقْنَا وَ أَنت خَيرُ الرّزِقِينَ (114) قَالَ اللّهُ إِنى مُنزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنى أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَلَمِينَ (115)
بيان
الآيات تذكر قصة نزول المائدة؟؟؟؟؟ على المسيح (عليه السلام) و أصحابه، و هي و إن لم تصرح بأن الله أنزلها عليهم غير أن الآية الأخيرة تتضمن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد و قد وصف تعالى نفسه بأنه لا يخلف الميعاد.
و قول بعضهم: إنهم استقالوا عيسى (عليه السلام) بعد ما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه.
و قد نقل ذلك عن جمع من المفسرين، و ممن يذكر منهم: المجاهد و الحسن، و لا حجة في قولهما و لا قول غيرهما و لو عد قولهما رواية كانت من الموقوفات التي لا حجية لها لضعفها على أنها معارضة بغيرها من الروايات الدالة على نزولها، على أنها لو صحت لم تكن إلا من الآحاد التي لا يعتمد عليها في غير الأحكام.
و ربما يستدل على عدم نزولها بأن النصارى لا يعرفونها و كتبهم المقدسة خالية عن حديثها، و لو كانت نازلة لتوفرت الدواعي على ذكره في كتبهم و حفظه فيما بينهم بسيرة مستمرة كما تحفظوا على العشاء الرباني لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانية و ظهور الأناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الأقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى زمن عيسى (عليه السلام)، و لا هذه النصرانية الحاضرة تتصل بزمنه حتى ينتفع بها فيها يعتورونه يدا بيد، أو فيما لا يعرفونه مما ينسب إلى الدعوة العيسوية أو يتعلق بها.
نعم وقع في بعض الأناجيل إطعام المسيح تلاميذه و جماعة من الناس بالخبز و السمك القليلين على طريق الإعجاز، غير أن القصة لا تنطبق على ما قصة القرآن في شيء من خصوصياته، ورد في إنجيل يوحنا، الإصحاح السادس ما هذا نصه: 1 "بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل و هو بحر طبرية 2 و تبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى 3 فصعد يسوع إلى جبل و جلس هناك مع تلاميذه 4 و كان الفصح عند اليهود قريبا 5 فرفع يسوع عينيه و نظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء 6 و إنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل 7 أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمأتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا 8 قال له واحد من تلاميذه و هو أندراوس أخو سمعان بطرس 9 هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير و سمكتان و لكن ما هذا لمثل هؤلاء 10 فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون و كان في المكان عشب كثير فاتكأ الرجال و عددهم نحو خمسة آلاف 11 و أخذ يسوع الأرغفة و شكر و وزع على التلاميذ و التلاميذ أعطوا المتكئين و كذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا 12 فلما شبعوا قال لتلاميذه أجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء 13 فجمعوا و ملئوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين 14 فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم 15 و أما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا و يختطفوه ليجعلوه ملكا انصرف أيضا إلى الجبل وحده".
ثم إن التدبر في هذه القصة بما لها من سياق مسرود في كلامه تعالى يهدي إلى جهة أخرى من البحث فإن السؤال المذكور في أولها بظاهره خال عن رعاية الأدب و الواجب حفظه في جنب الله سبحانه، و قد انتهى الكلام إلى وعيد منه تعالى لمن يكفر بهذه الآية وعيدا لا يوجد له نظير في شيء من الآيات التي اختص الله سبحانه بها أنبياءه أو اقترحها أممهم عليهم كاقتراح أمم نوح و هود و صالح و شعيب و موسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهل كان ذلك لكون الحواريين و هم السائلون أساءوا الأدب في سؤالهم؟ لأن لفظهم لفظ من يشك في قدرة الله سبحانه ففي اقتراحات الأمم السابقة عليهم من الإهانة بمقام ربهم و السخرية و الهزء بأنبيائهم و كذا ما توجد حكايته في القرآن من طواغيت قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اليهود المعاصرين له ما هو أوقح من ذلك و أشنع!.
أو أنهم لكونهم مؤمنين قبل السؤال و النزول لو كفروا بعد النزول و مشاهدة الآية الباهرة استحقوا هذا الوعيد على هذه الشدة؟ فالكفر بعد مشاهدة الآية الباهرة و إن كان عتوا و طغيانا كبيرا لكنه لا يختص بهم، ففي سائر الأمم أمثال لهم في ذلك و لم يوعدوا بمثل هذا الوعيد قط حتى الذين ارتدوا منهم بعد التمكن في مقام القرب و التحقق بآيات الله سبحانه كالذي يذكره الله سبحانه في قوله: "و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين": "الأعراف: 157".
و الذي يمكن أن يقال في المقام أن هذه القصة بما صدر به من السؤال يمتاز بمعنى يختص به من بين سائر معجزات الأنبياء التي أتوا بها لاقتراح من أممهم أو لضرورات أخر تدعو إلى ذلك.
و ذلك أن الآيات المعجزة التي يقصها الكلام الإلهي إما آيات آتاها الله الأنبياء حين بعثهم لتكون حجة مؤيدة لنبوتهم أو رسالتهم كما أوتي موسى (عليه السلام) اليد البيضاء و العصا، و أوتي عيسى (عليه السلام) إحياء الموتى و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص، و أوتي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن، و هذه آيات أوتيت لحاجة الدعوة إلى الإيمان و إتمام الحجة على الكفار ليهلك من هلك عن بينة و يحيا من حي عن بينة.
و إما آيات معجزة أتى بها الأنبياء و الرسل لاقتراح الكفار عليهم كناقة صالح، و يلحق بها المخوفات و المعذبات المستعملة في الدعوة كآيات موسى (عليه السلام) على قوم فرعون من الجراد و القمل و الضفادع و غير ذلك في سبع آيات، و طوفان نوح، و رجفة ثمود و صرصر عاد و غير ذلك، و هذه أيضا آيات متعلقة بالمعاندين الجاحدين.
و إما آيات أراها الله المؤمنين لحاجة مستها، و ضرورة دعت إليها، كانفجار العيون من الحجر و نزول المن و السلوى على بني إسرائيل في التيه، و رفع الطور فوق رءوسهم و شق البحر لنجاتهم من فرعون و عمله، فهذه آيات واقعة لإرهاب العاصين المستكبرين أو كرامة للمؤمنين لتتم كلمة الرحمة في حقهم من غير أن يكونوا قد اقترحوها.
و من هذا الباب المواعيد التي وعدها الله في كتابه المؤمنين كرامة لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) كوعد فتح مكة و مقت المشركين من كفار قريش و غلبة الروم إلى غير ذلك.
فهذه أنواع الآيات المقتصة في القرآن و المذكورة في التعليم الإلهي، و أما اقتراح الآية بعد نزول الآية فهو من التهوس يعده التعليم الإلهي من الهجر الذي لا يعبأ به كاقتراح أهل الكتاب أن ينزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم كتابا من السماء مع وجود القرآن بين أيديهم، قال تعالى: "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة - إلى أن قال - لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا": "النساء: 166".
و كما سأل المشركون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنزال الملائكة أو إراءة ربهم تعالى و تقدس قال تعالى: "و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا": "الفرقان: 21" و قال تعالى: "و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها و قال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا": "الفرقان: 9" إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و ليس ذلك كله إلا لأن عنوان نزول الآية هو ظهور الحق و تمام الحجة فإذا نزلت فقد ظهر الحق و تمت الحجة فلو أعيد سؤال نزول الآية و قد نزلت و حصل الغرض فلا عنوان له إلا العبث بآيات الله و اللعب بالمقام الربوبي و التذبذب في القبول، و فيه أعظم العتو و الاستكبار.
و هذا لو صدر عن المؤمنين لكان الذنب فيه أكثف و الإثم فيه أعظم فما ذا يصنع المؤمن بنزول الآية السماوية و هو مؤمن و خاصة إذا كان ممن شاهد آيات الله فآمن عن مشاهدتها؟ و هل هو إلا أشبه شيء بما يقترحه أرباب الهوى و المترفون في مجالس الأنس و حفل التفكه من المشعوذين أو أصحاب الرياضات العجيبة أن يطيبوا عيشهم بإتحافهم بأعجب ما يقدرون عليه من الشعبذة و الأعمال الغريبة؟.
و الذي يفيده ظاهر قوله تعالى: "إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة" أنهم اقترحوا على المسيح (عليه السلام) أن يريهم آية خاصة و هم حواريوه المختصون به و قد رأوا تلك الآيات الباهرة و الكرامات الظاهرة فإنه (عليه السلام) لم يرسل إلى قومه إلا بالآيات المعجزة كما يعطيه قوله تعالى: "و رسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، إلخ": "آل عمران: 49".
و كيف يتصور في من آمن بالمسيح (عليه السلام) أن لا يعثر منه على آية و هو (عليه السلام) بنفس وجوده آية خلقه الله من غير أب و أيده بروح القدس يكلم الناس في المهد و كهلا و لم يزل مكرما بآية بعد آية حتى رفعه الله إليه و ختم أمره بأعجب آية.
فاقتراحهم آية اختاروها لأنفسهم بعد هاتيك الآيات على كثرتها من قبيل اقتراح الآية بعد الآية و قد ركبوا أمرا عظيما و لذلك وبخهم عيسى (عليه السلام) بقوله: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين".
و لذلك بعينه وجهوا ما اقترحوا عليه و فسروا قولهم ثانيا بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم، و يزيل عنه تلك الحدة فقالوا: "نريد أن نأكل منها و تطمئن قلوبنا و نعلم أن قد صدقتنا و نكون عليها من الشاهدين" فضموا إلى غرض الأكل أغراضا أخر يوجه اقتراحهم، يريدون به أن اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكه بالأمور العجيبة و العبث بآيات الإلهية بل له فوائد مقصودة: من كمال علمهم و إزالة خطرات السوء من قلوبهم و شهادتهم عليها.
لكنهم مع ذلك لم يتركوا ذكر إرادة الأكل و منه كانت الخطيئة و لو قالوا: "نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا، إلخ" لم يلزمهم ما لزمهم إذ قالوا: "نريد أن نأكل منها و تطمئن قلوبنا، إلخ" فإن الكلام الأول يقطع جميع منابت التهوس و المجازفة دون الثاني.
و لما ألحوا عليه أجابهم عيسى (عليه السلام) إلى ما اقترحوا عليه و التمسوه و سأل ربه أن يكرمهم بها، و هي معجزة مختصة في نوعها بأمته لأنها الآية الوحيدة التي نزلت إليهم عن اقتراح في أمر غير لازم ظاهرا و هو أكل المؤمنين منها، و لذلك عنونها (عليه السلام) عنوانا يصلح به أن يوجه الوجه بسؤاله إلى ساحة العظمة و الكبرياء فقال: "اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا و آخرنا" فعنونها بعنوان العيدية، و العيد عند قوم هو اليوم الذي نالوا فيه موهبة أو مفخرة مختصة بهم من بين الناس، و كان نزول المائدة عليهم منعوتا بهذا النعت.
و لما سأل عيسى ربه ما سأل - و حاشاه أن يسأل إلا ما يعلم أن من المرجو استجابته و أن ربه لا يمقته و لا يفضحه، و حاشا ربه أن يرده خائبا في دعائه - استجاب له ربه دعاءه غير أنه شرط فيها لمن يكفر بها عذابا يختص به من بين جميع الناس كما أن الآية آية خاصة بهم لا يشاركهم في نوعها غيرهم من الأمم فقال الله سبحانه "إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين"، هذا.
قوله تعالى: "إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" "إذ" ظرف متعلق بمقدر و التقدير اذكر إذ قال "إلخ"، أو ما يقرب منه، و ذهب بعضهم إلى أنه متعلق بقوله في الآية السابقة: "قالوا آمنا، إلخ" أي قال الحواريون: آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون في وقت قالوا فيه لعيسى: "هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" و المراد أنهم ما كانوا على صدق في دعواهم، و لا على جد في إشهادهم عيسى (عليه السلام) على إسلامهم له.
و فيه أنه مخالف لظاهر السياق، و كيف يكون إيمانهم غير خالص؟ و قد ذكر الله أنه هو أوحى إليهم أن آمنوا بي و برسولي و هو تعالى يمتن بذلك على عيسى (عليه السلام) على أنه لا وجه حينئذ للإظهار في قوله: "إذ قال الحواريون، إلخ".
و "المائدة" الخوان إذا كان فيه طعام، قال الراغب: و المائدة الطبق الذي عليه الطعام، و يقال لكل واحدة منهما مائدة، و يقال: مادني يميدني أي أطعمني، انتهى.
و متن السؤال الذي حكي عنهم في الآية و هو قولهم: "هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" بحسب ظاهر ما يتبادر من معناه مما يستبعد العقل صدوره عن الحواريين و هم أصحاب المسيح و تلامذته و أخصاؤه الملازمون له المقتبسون من أنوار علومه و معارفه المتبعون آدابه و آثاره، و الإيمان بأدنى مراتبه ينبه الإنسان على أن الله سبحانه على كل شيء قدير، لا يجوز عليه العجز و لا يغلبه العجز فكيف جاز أن يستفهموا رسولهم عن استطاعة ربه على إنزال مائدة من السماء.
و لذلك قرأ الكسائي من السبعة: "هل تستطيع ربك" بتاء المضارعة و نصب "ربك" على المفعولية أي هل تستطيع أنت أن تسأل ربك، فحذف الفعل الناصب للمفعول و أقيم "تستطيع" مقامه، أو أنه مفعول لفعل محذوف فقط.
و قد اختلف المفسرون في توجيهه على بناء من أكثريهم على أن المراد به غير ما يتبادر من ظاهره من الشك في قدرة الله سبحانه لنزاهة ساحتهم من هذا الجهل السخيف.
و أوجه ما يمكن أن يقال هو أن الاستطاعة في الآية كناية عن اقتضاء المصلحة و وقوع الإذن كما أن الإمكان و القدرة و القوة يكنى بها عن ذلك كما يقال: "لا يقدر الملك أن يصغي إلى كل ذي حاجة" بمعنى أن مصلحة الملك تمنعه من ذلك و إلا فمطلق الإصغاء مقدور له، و يقال: "لا يستطيع الغني أن يعطي كل سائل" أي مصلحة حفظ المال لا تقتضيه، و يقال: "لا يمكن للعالم أن يبث كل ما يعلمه" أي يمنعه عن ذلك مصلحة الدين أو مصلحة الناس و النظام الدائر بينهم، و يقول أحدنا لصاحبه: "هل تستطيع أن تروح معي إلى فلان"؟ و إنما السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة و المصلحة لا بحسب أصل القدرة على الذهاب، هذا.
و هناك وجوه أخرى ذكروها: منها: أن هذا السؤال لأجل تحصيل الاطمئنان بإيمان العيان لا للشك في قدرة الله سبحانه فهو على حد قول إبراهيم (عليه السلام) فيما حكى الله عنه: "رب أرني كيف تحيي الموتى قال أ و لم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي".
و فيه: أن مجرد صحة أن تسأل الآية لزيادة الإيمان و اطمئنان القلب لا يصحح حمل سؤالهم عليه و لم تثبت عصمتهم كإبراهيم (عليه السلام) حتى تكون دليلا منفصلا يوجب حمل كلامهم على ما لا حزازة فيه بل الدليل على خلافه حيث لم يقولوا: نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا كما قال إبراهيم (عليه السلام): "بلى و لكن ليطمئن قلبي" بل قالوا: "نريد أن نأكل منها و تطمئن قلوبنا" فعدوا الأكل بحيال نفسه غرضا.
على أن هذا الوجه إنما يستدعي تنزه قلوبهم عن شائبة الشك في قدرة الله سبحانه و أما حزازة ظاهر الكلام فعلى حالها.
على أنه قد تقدم في تفسير قوله تعالى: "و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى" الآية: "البقرة: 206" أن مراده (عليه السلام) لم يكن مشاهدة تلبس الموتى بالحياة بعد الموت كما عليه بناء هذا الوجه و لو كان كذلك لكان من قبيل طلب الآية بعد العيان و هو في مقام المشافهة مع ربه بل مراده مشاهدة كيفية الإحياء بالمعنى الذي تقدم بيانه.
و منها: أنه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبر عنه بلازمه.
و فيه: أنه لا دليل عليه، و لو سلم فإنه إنما ينفي عنهم الجهل بالقدرة المطلقة الإلهية و أما منافاة إطلاق اللفظ للأدب العبودي فعلى حالها.
و منها: أن في الكلام حذفا تقديره: هل تستطيع سؤال ربك؟ و يدل عليه قراءة هل تستطيع ربك و المعنى: هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك.
و فيه أن الحذف و التقدير لا يعيد لفظة "هل يستطيع ربك" إلى قولنا هل تستطيع سؤال ربك بأي وجه فرض لمكان اختلاف الفعل في القراءتين بالغيبة و الحضور، و التقدير لا يحول الغيبة إلى الخطاب البتة، و إن كان و لا بد فليقل: أنه من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى عيسى (عليه السلام) إلى ربه من جهة أن فعله فعل الله أو أن كل ما له (عليه السلام) فهو لله سبحانه، و هذا الوجه مع كونه فاسدا من جهة أن الأنبياء و الرسل إنما ينسب من أفعالهم إلى الله ما لا يستلزم نسبته إليه النقص و القصور في ساحته تعالى كالهداية و العلم و نحوهما، و أما لوازم عبوديتهم و بشريتهم كالعجز و الفقر و الأكل و الشرب و نحو ذلك فمما لا تستقيم نسبته إليه تعالى البتة فمشكلة ظاهر اللفظ على حالها.
و منها: أن الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة و المعنى: هل يطيعك ربك و يجيب دعاءك إذا سألته ذلك، و فيه: أنه من قبيل تبديل المشكل بما هو أشكل فإن الاستفهام عن إطاعة الله سبحانه لرسوله و انقياده له أشنع و أفظع من الاستفهام عن استطاعته.
و قد انتصر بعضهم لهذا الوجه فقال في تقريره ما محصله: أن الاستطاعة و الإطاعة من مادة الطوع مقابل الكره فإطاعة الأمر فعله عن رضى و اختيار، و الاستفعال في هذه المادة كالاستفعال في مادة الإجابة فإذا كان معنى استجابة: أجاب دعاءه أو سؤاله فمعنى استطاعة: أطاعه أي أنه انقاد له و صار في طوعه أو طوعا له، و السين و التاء في المادتين على أشهر معانيهما و هو الطلب، و لكنه طلب دخل على فعل محذوف دل عليه المذكور المترتب على المحذوف، و معنى استطاع الشيء: طلب و حاول أن يكون ذلك الشيء طوعا له فأطاعه و انقاد له، و معنى استجاب: سئل شيئا و طلب منه أن يجيب إليه فأجاب.
قال: فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحة قول من قال من المفسرين: إن "يستطيع" هنا بمعنى يطيع و إن معنى يطيع: يفعل مختارا راضيا غير كاره فصار حاصل معنى الجملة: هل يرضى ربك و يختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك، انتهى.
و فيه أولا: أنه لم يأت بشيء دون أن قاس استطاع باستجاب ثم أعطى هذا معنى ذاك و هو قياس في اللغة ممنوع
|