قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
و من الدليل على أنه لم يقع منه سؤال بعد هو قوله: "أعوذ بك أن أسألك" "إلخ" و لم يقل: "أعوذ بك من سؤال ما ليس لي به علم" لتدل إضافة المصدر إلى فاعله وقوع الفعل منه.
"لا تسئلن" "إلخ"، و لو كان سأله لكان من حق الكلام أن يقابل بالرد الصريح أو يقال مثلا: "لا تعد إلى مثله" كما وقع نظيره في موارد من كلامه تعالى كقوله: "قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني": "الأعراف: 134"، و قوله: "إذ تلقونه بألسنتكم و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم - إلى أن قال - يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا": "النور: 17".
و من دعاء نوح (عليه السلام) ما حكاه الله تعالى بقوله: "رب اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات و لا تزد الظالمين إلا تبارا": "نوح: 28" حكاه الله تعالى عنه في آخر سورة نوح بعد آيات كثيرة أوردها في حكاية شكواه (عليه السلام) الذي بثه لربه فيما جاهد به من دعوة قومه ليلا و نهارا فيما يقرب من ألف سنة من مدى حياته، و ما قاساه من شدتهم و كابده من المحنة في جنب الله سبحانه، و بذل من نفسه مبلغ جهدها، و صرف منها في سبيل هدايتهم منتهى طوقها فلم ينفعهم دعاؤه إلا فرارا، و لم يزدهم نصحه إلا استكبارا.
و لم يزل بعد ما بثه فيهم من النصيحة و الموعظة الحسنة و قرعه أسماعهم من الحق و الحقيقة، و يشكو إلى ربه ما واجهوه به من العناد و الإصرار على الخطيئة، و قابلوه به من المكر و الخديعة حتى هاج به الوجد و الأسف و أخذته الغيرة الإلهية فدعا عليهم فقال: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا": "نوح: 27".
و ما ذكره من إضلالهم عباد الله إن تركهم الله على الأرض هو الذي ذكره عنهم في ضمن كلامه السابق المحكي عنه: "و قد أضلوا كثيرا" و قد أضلوا كثيرا من المؤمنين به فخاف إضلالهم الباقين منهم، و قوله: "و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا" إخبار ببطلان استعداد أصلابهم و أرحامهم أن يخرج منها مؤمن ذكره - و هو من أخبار الغيب - عن تفرس نبوي و وحي إلهي.
و إذا دعا على الكافرين لغيرة إلهية أخذته، و هو النبي الكريم أول من جاء بكتاب و شريعة، و انتهض لإنقاذ الدنيا من غمرة الوثنية و لم يلبه من المجتمع البشري إلا قليل - و هو قريب من ثمانين نسمة على ما في الأخبار - فكان من أدب هذا الموقف أن لا ينسى المؤمنين بربه الآخذين بدعوته، و يدعو لهم إلى يوم القيامة بالخير.
فقال: "رب اغفر لي" فبدأ بنفسه لأن الكلام في معنى طلب المغفرة لمن يسلك سبيله فهو إمامهم و أمامهم "و لوالدي" و فيه دليل على إيمانهما "و لمن دخل بيتي مؤمنا" و هم المؤمنون به من أهل عصره "و للمؤمنين و المؤمنات" و هم جميع المؤمنين أهل التوحيد فإن قاطبتهم أمته، و رهن منته إلى يوم القيامة، و هو أول من أقام الدعوة الدينية في الدنيا بكتاب و شريعة، و رفع أعلام التوحيد بين الناس، و لذلك حياه الله سبحانه بأفضل تحيته إذ قال: "سلام على نوح في العالمين": "الصافات: 79" فعليه السلام من نبي كريم كلما آمن بالله مؤمن، أو عمل له بعمل صالح، و كلما ذكر لله عز اسمه اسم، و كلما كان في الناس من الخير و السعادة رسم فذلك كله من بركة دعوته، و ذنابة نهضته، صلى الله عليه و على سائر الأنبياء و المرسلين أجمعين.
و من ذلك ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم (عليه السلام) في محاجته قومه: "قال أ فرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم و آباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، و الذي هو يطعمني و يسقين، و إذا مرضت فهو يشفين، و الذي يميتني ثم يحيين، و الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، رب هب لي حكما و ألحقني بالصالحين، و اجعل لي لسان صدق في الآخرين، و اجعلني من ورثة جنة النعيم، و اغفر لأبي إنه كان من الضالين، و لا تخزني يوم يبعثون": "الشعراء: 87".
دعاء يدعو (عليه السلام) به لنفسه، و لأبيه عن موعدة وعدها إياه، و قد كان هذا أول أمره و لم ييأس بعد من إيمان أبيه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
و قد بدأ فيه بالثناء على ربه ثناء جميلا على ما هو أدب العبودية و هذا أول ثناء مفصل حكاه الله سبحانه عنه (عليه السلام)، و ما حكى عنه قبل ذلك ليس بهذا النحو كقوله: "يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض": "الأنعام: 79" و قوله لأبيه: "سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا": "مريم: 47".
و قد استعمل (عليه السلام) من الأدب في ثنائه أن أتى بثناء جامع أدرج فيه عناية ربه به من بدء خلقه إلى أن يعود إلى ربه، و أقام فيه نفسه مقام الفقر و الحاجة كلها، و لم يذكر لربه إلا الغنى و الجود المحض، و مثل نفسه عبدا داخرا لا يقدر على شيء و تقلبه المقدرة الإلهية حالا إلى حال من خلق ثم إطعام و سقي و شفاء عن مرض ثم أماته ثم إحياء ثم إشخاص إلى جزاء يوم الجزاء، و ليس له إلا الطاعة المحضة و الطمع في غفران الخطيئة.
و من الأدب المراعي في بيانه نسبة المرض إلى نفسه في قوله: "و إذا مرضت فهو يشفين" لما أن نسبته إليه تعالى في مثل المقام و هو مقام الثناء لا يخلو عن شيء، و المرض و إن كان من جملة الحوادث و هي لا تخلو عن نسبة إليه تعالى، لكن الكلام ليس مسوقا لبيان حدوثه حتى ينسب إليه تعالى بل لبيان أن الشفاء من المرض من رحمته و عنايته تعالى، و لذلك نسب المرض إلى نفسه و الشفاء إلى ربه بدعوى أنه لا يصدر منه إلا الجميل.
ثم أخذ في الدعاء و استعمل فيه من الأدب البارع أن ابتدأ باسم الرب و قصر مسألته على النعم الحقيقية الباقية من غير أن يلتفت إلى زخارف الدنيا الفانية، و اختار مما اختاره ما هو أعظم و أفخم فسأل الحكم و هو الشريعة و اللحوق بالصالحين و سأل لسان صدق في الآخرين و هو أن يبعث الله بعده زمانا بعد زمان، و حينا بعد حين من يقوم بدعوته، و يروج شريعته، و هو في الحقيقة سؤال أن يخصه بشريعة باقية إلى يوم القيامة ثم سأل وراثة الجنة و مغفرة أبيه و عدم الخزي يوم القيامة.
و قد أجابه الله تعالى إلى جميع ما سأله عنه على ما ينبىء به كلامه تعالى إلا دعاءه لأبيه و حاشا رب العالمين أن يذكر دعاء عبد من عباده المكرمين مما ذهب سدى لم يستجبه، قال تعالى: "ملة أبيكم إبراهيم": "الحج: 78" و قال: "و جعله كلمة باقية في عقبه": "الزخرف: 28" و قال: "لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين": "البقرة: 103" و حياه بسلام عام إذ قال: "سلام على إبراهيم": "الصافات: 190".
و سير التاريخ بعده (عليه السلام) يصدق جميع ما ذكره القرآن الشريف من محامده و أثنى فيه عليه فإنه (عليه السلام) هو النبي الكريم قام وحده بدين التوحيد و إحياء ملة الفطرة و انتهض لهدم أركان الوثنية، و كسر الأصنام على حين اندرست فيه آيات التوحيد، و عفت الأيام فيها رسوم النبوة و نسيت الدنيا اسم نوح و الكرام من أنبياء الله، فأقام دين الفطرة على ساق، و بث دعوة التوحيد بين الناس و دين التوحيد حتى اليوم و قد مضى من زمنه ما يقرب من أربعة آلاف سنة حي باسمه باق في عقبه فإن الذي تعرفه الدنيا من دين التوحيد هو دين اليهود و نبيهم موسى، و دين النصارى و نبيهم عيسى، و هما من آل إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهما السلام)، و دين الإسلام الذي بعث به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام).
و مما ذكره الله من دعائه قوله: "رب هب لي من الصالحين": "الصافات: 100" يسأل الله فيه ولدا صالحا، و فيه اعتصام بربه، و إصلاح لمسألته الذي هي بوجه دنيوية بوصف الصلاح ليعود إلى جهة الله و ارتضائه.
و مما ذكره تعالى من دعائه ما دعا به حين قدم إلى أرض مكة و قد أسكن إسماعيل و أمه بها، قال تعالى: "و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا و ارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله و اليوم الآخر قال و من كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار و بئس المصير": "البقرة: 162".
يسأل ربه أن يتخذ أرض مكة - و هي يومئذ أرض قفرة و واد غير ذي زرع - حرما لنفسه ليجمع بذلك شمل الدين، و يكون ذلك رابطة أرضية جسمانية بين الناس و بين ربهم يقصدونه لعبادة ربهم، و يتوجهون إليه في مناسكهم، و يراعون حرمته فيما بينهم فيكون ذلك آية باقية خالدة لله في الأرض يذكر الله كل من ذكره، و يقصده كل من قصده، و تتشخص به الوجهة، و تتحد به الكلمة.
و الدليل على أنه (عليه السلام) يريد بالأمن الأمن التشريعي الذي هو معنى اتخاذه حرما دون الأمن الخارجي من وقوع المقاتلات و الحروب و سائر الحوادث المفسدة للأمن المخلة بالرفاهية قوله تعالى: "أ و لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء": "القصص: 57" فإن في الآية امتنانا عليهم بأمن الحرم و هو المكان الذي احترمه الله لنفسه فاتصف بالأمن من جهة ما احترمه الناس لا من جهة عامل تكويني يقيه من الفساد و القتل، و الآية نزلت و قد شاهدت مكة حروبا مبيدة بين قريش و جرهم فيها، و كذا من القتل و الجور و الفساد ما لا يحصى، و كذا قوله تعالى: "أ و لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا و يتخطف الناس من حولهم": "العنكبوت: 67" أي لا يتخطفون من الحرم لاحترام الناس إياه لمكان الحرمة التي جعلناها.
و بالجملة كان مطلوبه (عليه السلام) هو أن يكون لله في الأرض حرم تسكنه ذريته، و كان لا يحصل ذلك إلا ببناء بلد يقصده الناس من كل جانب فيكون مجمعا دينيا يؤمونه بالسكونة و اللواذ و الزيارة إلى يوم القيامة فلذلك سأل أن يجعله بلدا آمنا، و قد كان غير ذي زرع فسأل أن يرزقهم من الثمرات حتى يعمر بسكانه و لا يتفرقوا منه.
ثم لما أحس أن دعاءه بهذا التشريف يشمل المؤمن و الكافر قيد مسألته بإيمان المدعو لهم بالله و اليوم الآخر فقال: "من آمن منهم بالله و اليوم الآخر" و أما أن ذلك كيف يمكن في بلد لو اتفق أن يسكن فيه المؤمنون و الكفار معا و اختلفوا، أو إذا قطن فيه الكفار فقط؟ و كيف يرزقون من الثمرات و الأرض بطحاء غير ذي زرع؟ فلم يتعرض له في مسألته.
و هذا من أدبه (عليه السلام) في مقام الدعاء فإن من فضول القول أن يعلم الداعي ربه كيف يقضي حاجته؟ و ما هو الطريق إلى إجابة مسألته؟ و هو رب عليم حكيم قدير إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
لكن الله سبحانه إذ كان يريد أن يقضي حاجته على السنة الجارية في الأسباب العادية و لا يفرق فيها بين المؤمن و الكافر تمم دعاءه (عليه السلام) بما قيد به كلامه من قوله: "و من كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار و بئس المصير".
و هذا الدعاء الذي أدى إلى تشريع الحرم الإلهي و بناء الكعبة المقدسة التي هي أول بيت وضع للناس ببكة مباركة و هدى للعالمين هو إحدى ثمرات همته العالية المقدسة التي امتن به على من بعده من المسلمين إلى يوم القيامة.
و مما دعا (عليه السلام) دعاؤه في آخر عمره على ما حكاه الله تعالى بقوله: "و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم، ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون، ربنا إنك تعلم ما نخفي و ما نعلن و ما يخفى على الله من شيء في الأرض و لا في السماء، الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة و من ذريتي ربنا و تقبل دعاء، ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب": "إبراهيم: 41".
و هذا مما دعا (عليه السلام) به في أواخر عمره الشريف و قد بنيت بلدة مكة، و الدليل عليه قول فيه: "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق" و قوله: "اجعل هذا البلد آمنا" و لم يقل كما في دعائه السابق: "و اجعل هذا بلدا آمنا".
و مما استعمل فيه من الأدب تمسكه بالربوبية في دعائه، و كلما ذكر ما يختص بنفسه قال: "رب" و كلما ذكر ما يشاركه فيه غيره قال: "ربنا".
و من الأدب المستعمل في دعائه أن كلما ذكر حاجة من الحوائج يمكن أن يسأل لغرض مشروع أو غير مشروع ذكر غرضه الصحيح من حاجته، و فيه من إثارة الرحمة الإلهية ما لا يخفى فلما قال: "اجنبني و بني" "إلخ"، ذكر بعده قوله: "رب إنهن أضللن" "إلخ"، و حيث قال: "ربنا إني أسكنت" "إلخ"، قال بعده: "ربنا ليقيموا الصلاة" و إذ دعا بقوله: "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات" ذيله بقوله: "لعلهم يشكرون".
و من أدبه فيه أنه أردف كل حاجة ذكرها بما يناسب مضمونها من أسماء الله الحسنى كالغفور و الرحيم و سميع الدعاء، و كرر اسم الرب كلما ذكر حاجة من حوائجه فإن الربوبية هي السبب الموصول بين العبد و بين الله تعالى، و هو المفتاح لباب كل دعاء.
و من أدبه فيه قوله: "و من عصاني فإنك غفور رحيم" حيث لم يدع عليهم بشيء يسوء غير أنه ذكر مع ذكرهم اسمين من أسماء الله تعالى هما الواسطتان في شمول نعمة السعادة على كل إنسان أعني الغفور الرحيم حبا منه لنجاة أمته و انبساط جود ربه.
و من ذلك ما حكاه الله عنه و عن ابنه إسماعيل و قد اشتركا فيه، و هو قوله تعالى: "و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم": "البقرة: 192".
دعاء دعوا به عند بنائهما الكعبة، و فيه من الأدب الجميل ما في سابقه.
و من ذلك ما حكاه الله عن إسماعيل (عليه السلام) في قصة الذبح قال تعالى: "فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين": "الصافات: 120".
و صدر كلامه و إن كان من أدبه مع أبيه إلا أن الذيل فيما بينه و بين ربه على أن التأدب مع مثل إبراهيم خليل الله (عليه السلام) تأدب مع الله تعالى.
و بالجملة لما ذكر له أبوه ما رآه في المنام، و كان أمرا إلهيا بدليل قول إسماعيل: "افعل ما تؤمر" أمره أن يرى فيه رأيه، و هو من أدبه (عليه السلام) مع ابنه فقال له إسماعيل: "يا أبت افعل ما تؤمر، إلخ" و لم يذكر أنه الرأي الذي رآه هضما لنفسه و تواضعا لأبيه كأنه لا رأي له قبال رأيه و لذلك صدر القول بخطابه بالأبوة، و لم يقل: "إن شئت فافعل ذلك ليكون مسألته القطعية تطييبا لنفس أبيه، و لأنه ذكر في كلامه أنه أمر أمر به إبراهيم، و لا يتصور في حق مثله أن يتروي أو يتردد في فعل ما أمر به دون أن يمتثل أمر ربه.
ثم في قوله: "ستجدني إن شاء الله من الصابرين" تطييب آخر لنفس أبيه، و كل ذلك من أدبه مع أبيه (عليه السلام).
و قد تأدب مع ربه إذ لم يأت بما وعده إياه في صورة القطع و الجزم دون أن استثنى بمشيئة الله فإن في القطع من غير تعليق الأمر بمشيئة الله شائبة دعوى الاستقلال في السببية، و لتخل عنها ساحة النبوة، و قد ذم الله لذلك قوما إذ قطعوا أمرا و لم يعلقوا كما قال في قصة أصحاب الجنة: "إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، و لا يستثنون": "القلم: 18" و قد أدب الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه بأن يستثني في قوله تأديبا بكناية عجيبة إذ قال: "و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله": "الكهف: 24".
و من ذلك ما حكاه الله عن يعقوب (عليه السلام) حين رجع بنوه من مصر و قد تركوا بنيامين و يهودا بها قال تعالى: "و تولى عنهم و قال يا أسفا على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى يكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون": "يوسف: 86".
يقول لبنيه إن مداومتي على ذكر يوسف شكاية مني سوء حالي إلى الله و لست بائس من رحمة ربي أن يرجعه إلي من حيث لا يحتسب، و ذلك أن من أدب الأنبياء مع ربهم أن يتوجهوا في جميع أحوالهم إلى ربهم و يوردوا عامة حركاتهم و سكناتهم في سبيله فإن الله سبحانه ينص على أنه هداهم إليه صراطا مستقيما قال: "أولئك الذين هدى الله": "الأنعام: 90" و قال في خصوص يعقوب: "و وهبنا له إسحاق و يعقوب كلا هدينا": "الأنعام: 84" ثم ذكر أن اتباع الهوى ضلال عن سبيل الله فقال تعالى: "و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله": "ص: 26".
فالأنبياء و هم المهديون بهداية الله لا يتبعون الهوى البتة فعواطفهم النفسانية و أميالهم الباطنية من شهوة أو غضب أو حب أو بغض أو سرور أو حزن مما يتعلق بمظاهر الحياة من مال و بنين و نكاح و مأكل و ملبس و مسكن و غير ذلك كل ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلا الله جلت عظمته فإنما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتبع فيه الحق و سبيل يتبع فيه الهوى، و إن شئت قلت: سبيل ذكر الله و سبيل نسيانه.
و الأنبياء (عليهم السلام) إذ كانوا مهديين إلى الله لا يتبعون الهوى كانوا على ذكر من ربهم لا يقصدون بحركة أو سكون غيره تعالى، و لا يقرعون بحاجة من حوائج حياتهم باب غيره من الأسباب بمعنى أنهم إذا تعلقوا بسبب لم ينسهم ذلك ربهم و أن الأمر إليه تعالى لا أنهم ينفون الأسباب نفيا مطلقا لا يبقى مع ذلك لها وجود في التصور مطلقا فإن ذلك مما لا مطمع فيه، و لا أنهم يرون ذوات الأشياء و ينفون عنها وصفة السببية فإن في ذلك خروجا عن صراط الفطرة الإنسانية بل التعلق به أن لا يرى لغيره استقلالا، و يضع كل شيء موضعه الذي وضعه الله فيه.
و إذ كان حالهم (عليهم السلام) ما ذكرنا من تعلقهم بالله حق التعلق تمكن منهم هذا الأدب الإلهي أن يراقبوا مقام ربهم و يراعوا جانب ربوبيته فلا يقصدوا شيئا إلا لله، و لا يتركوا شيئا إلا لله، و لا يتعلقوا بسبب إلا و هم متعلقون بربهم قبله و معه و بعده، فهو غايتهم على كل حال.
فقوله (عليه السلام): "إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله" يريد به أن ذكري المستمر ليوسف و أسفي عليه ليس على حد ما يلغو أحدكم إذا أصابته مصيبة ففقد نعمة من نعم الله فيذكرها لمن لا يملك منه نفعا و لا ضرا بجهل منه، و إنما ذلك شكوى مني إلى الله فيما دخلني من فقد يوسف، و ليس ذلك مسألة مني في أمر لا يكون فإني أعلم من الله ما لا تعلمون.
و من ذلك ما حكاه الله عن يوسف الصديق حين هددته امرأة العزيز بالسجن إن لم يفعل ما كانت تأمره به: "قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين": "يوسف: 33".
يذكر (عليه السلام) لربه أن أمره يدور عندهن في موقفه ذاك بين السجن و بين إجابتهن إلى ما يسألنه، و أنه بعلمه الذي أكرمه الله به، و هو المحكي عنه في قوله تعالى: "و لما بلغ أشده آتيناه حكما و علما": "يوسف: 22" يختار السجن على إجابتهن غير أن الأسباب منضودة على طبق ما يرجونه منه قوية غالبة فهي تهدده بالجهل بمقام ربه و إبطال ما عنده من العلم بالله، و لا حكم في ذلك إلا له تعالى كما قال لصاحبه في السجن: "إن الحكم إلا لله": "يوسف: 40" و لذلك تأدب ع و لم يذكر لنفسه حاجة لأنه حكم بنحو، بل لوح إلى تهديد الجهل إياه بإبطال نعمة العلم الذي أكرمه بها ربه، و ذكر أن نجاته من مهلكة الجهل و اندفاع كيدهن تتوقف إلى صرفه تعالى فسلم الأمر إليه و سكت.
فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن و هو الصبوة و إلا فالسجن فتخلص من السجن و الصبوة جميعا، و منه يعلم أن مراده من كيدهن هو الصبوة و السجن جميعا، و أما قوله (عليه السلام): "رب السجن أحب إلي، إلخ" فإنما هو تمايل قلبي إلى السجن على تقدير تردد الأمر و كناية عن النفرة و المباغضة للفحشاء و ليس بسؤال منه للسجن كما قال (عليه السلام): الموت أولى من ركوب العار. و العار أولى من دخول النار. لا كما ربما يظن أنه سأل بذلك السجن فقضي له به، و الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى بعده: "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين": "يوسف: 35" لظهور الآية أن سجنه كان عن رأي بدا لهم بعد ذلك، و قد كان الله سبحانه صرف عنه قبل ذلك بالدعوة إلى أنفسهن و التهديد بالسجن.
و منه ما حكى الله سبحانه من ثنائه و دعائه (عليه السلام) حيث قال: "فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه و قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا و قد أحسن بي إذ أخرجني من السجن و جاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم، رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات و الأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة توفني مسلما و ألحقني بالصالحين": "يوسف: 110".
فليتدبر الباحث فيما يعطيه الآيات من أدب النبوة و ليمثل عنده ما كان عليه يوسف (عليه السلام) من الملك و نفوذ الأمر و ما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه، و ما كان عليه إخوته من التواضع و هم جميعا على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه و هو عزيز مستو على عرش العزة و الهيمنة.
لم يشق (عليه السلام) فما بكلام إلا و لربه فيه نصيب أو كل النصيب إلا ما أصدره من الأمر بقوله: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" فأمرهم بالدخول و حكم لهم بالأمن، و لم يستتم الكلام حتى استثنى فيه بمشيئة الله لئلا يوهم الاستقلال في الحكم دون الله، و هو (عليه السلام) القائل: "إن الحكم إلا لله".
ثم شرع في الثناء على ربه فيما جرى عليه منذ فارقهم إلى أن اجتمع بهم و بدأ في ذلك بقصة رؤياه و تحقق تأويلها و صدق فيه أباه لا فيما عبرها به فقط بل حتى فيما ذكره في آخر كلامه من علم الله و حكمته توغلا منه في الثناء على ربه حيث قال له أبوه: "و كذلك يجتبيك ربك و يعلمك - إلى أن قال - إن ربك عليم حكيم": "يوسف: 6" و قال له يوسف هاهنا بعد ما صدقه فيما عبر به رؤياه: "إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم": "يوسف: 100".
ثم أشار إلى إجمال ما جرى عليه ما بين رؤياه و تأويلها فنسبها إلى ربه و وصفها بالحسن و هو من الله إحسان، و من ألطف أدبه توصيفه ما لقي من إخوته حين ألقوه في غيابة الجب إلى أن شروه بثمن بخس دراهم معدودة، و اتهموه بالسرقة بقوله: "نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي".
و لم يزل يذكر نعم ربه و يثني عليه و يقول: ربي و ربي حتى غشيه الوله و أخذته جذبة إلهية فاشتغل بربه و تركهم كأنه لا يعرفهم، و قال: "رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث، فأثنى على ربه بحاضر نعمه عنده، و هو الملك و العلم بتأويل الأحاديث، ثم انتقلت نفسه الشريفة من ذكر النعم إلى أن ربه الذي أنعم عليه بما أنعم لأنه فاطر السماوات و الأرض، و مخرج كل شيء من العدم البحت إلى الوجود من غير أن يكون لشيء من الأشياء جدة من نفسه يملك به ضرا أو نفعا أو نعمة أو نقمة أو صلاحية أن يدبر أمر نفسه في دنيا أو آخرة.
و إذ كان فاطر كل شيء فهو ولي كل شيء، و لذلك ذكر بعد قوله: "فاطر السماوات و الأرض" أنه عبد داخر لا يملك تدبير نفسه في دنيا و لا آخرة بل هو تحت ولاية الله سبحانه يختار له من الخير ما يشاء و يقيمه أي مقام أراد فقال: "أنت وليي في الدنيا و الآخرة" و عندئذ ذكر ما له من مسألة يحتاج فيها إلى ربه و هو أن ينتقل من الدنيا إلى الآخرة و هو في حال الإسلام إلى ربه على حد ما منحه الله آباءه إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب قال تعالى: "و لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم - و هو الاصطفاء - قال أسلمت لرب العالمين، و وصى بها إبراهيم بنيه و يعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون": "البقرة: 123".
و هو قوله: "توفني مسلما و ألحقني بالصالحين" يسأل التوفي على الإسلام ثم اللحوق بالصالحين، و هو الذي سأله جده إبراهيم (عليه السلام) بقوله: "رب هب لي حكما و ألحقني بالصالحين": "الشعراء: 83" فأجيب إليه كما في الآيات المذكورة آنفا و هذا آخر ما ذكر الله من حديثه و ختم به قصته، و أن إلى ربك المنتهى، و هذا مما في السياقات القرآنية من عجيب اللطف.
و من ذلك ما حكاه الله سبحانه عن نبيه موسى (عليه السلام) في أوائل نشوئه بمصر حين وكز القبطي فقضى عليه: "قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم": "القصص: 16" و قوله حين فر من مصر فبلغ مدين و سقى لابنتي شعيب ثم تولى إلى الظل فقال: "رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير": "القصص: 24".
و قد استعمل (عليه السلام) في مسألتيه من الأدب بعد الالتجاء بالله و التعلق بربوبيته أن صرح في دعائه الأول بالطلب لأنه كان متعلقا بالمغفرة و الله سبحانه يحب أن يستغفر كما قال: "و استغفروا الله إن الله غفور رحيم": "البقرة: 199" و هو الذي دعا إليه نوح فمن بعده من الأنبياء (عليهم السلام)، و لم يصرح بحاجته بعينه في دعائه الثاني الذي ظاهره بحسب دلالة المقام أنه كان يريد رفع حوائج الحياة كالغذاء و المسكن مثلا بل إنما ذكر الحاجة ثم سكت، فما للدنيا عند الله من قدر.
و اعلم أن قوله (عليه السلام): "رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي" يجري في الاعتراف بالظلم و طلب المغفرة مجرى قول آدم و زوجته: "ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين" بمعنى أن المراد بالظلم هو ظلمه على نفسه لاقترافه عملا يخالف مصلحة حياته كما أن الأمر كان على هذا النحو في آدم و زوجته.
فإن موسى (عليه السلام) إنما فعل ما فعل قبل أن يبعثه الله بشريعته الناهية عن القتل و إنما قتل نفسا كافرة غير محترمة، و لا دليل على وجود النهي عن مثل هذا القتل قبل شريعته و كان الأمر في عصيان آدم و زوجته على هذه الوتيرة فقد ظلما أنفسهما بالأكل من الشجرة قبل أن يشرع الله شريعة بين النوع الإنساني فإنما أسس الله الشرائع كائنة ما كانت بعد هبوطهما من الجنة إلى الأرض.
و مجرد النهي عن اقتراب الشجرة لا دليل على كونه مولويا مستلزما لتحقق المعصية المصطلحة بمخالفته، مع أن القرائن قائمة على كون النهي المتعلق بهما إرشاديا كما في آيات سورة طه على ما بيناه في تفسير قصة جنة آدم في الجزء الأول من الكتاب.
على أن الكتاب الإلهي نص في كون موسى (عليه السلام) مخلصا، و أن إبليس لا سبيل له إلى إغواء المخلصين من عباد الله تعالى و من الضروري أن لا معصية بدون إغواء إبليس قال الله تعالى: "و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا": "مريم: 51" و قال تعالى" "قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين": "ص: 83".
و من هنا يظهر أن المراد بالمغفرة المسئولة في دعائه كما في دعائهما " (عليهما السلام)" ليست هي إمحاء العقاب الذي يكتبه الله على المجرمين كما في المعاصي المولوية بل إمحاء الآثار السيئة التي كان يستتبعها الظلم على النفس في مجرى الحياة فقد كان موسى (عليه السلام) يخاف أن يفشو أمره و يظهر ما هو ذنب له عندهم فسأله تعالى أن يستر عليه و يغفره، و المغفرة في عرف القرآن أعم من إمحاء العقاب بل هي إمحاء الأثر السيىء كائنا ما كان، و لا ريب أن أمر الجميع بيد الله سبحانه.
و نظير هذا من وجه قول نوح (عليه السلام) فيما تقدم من دعائه "و إلا تغفر لي و ترحمني" أي و إن لم تؤدبني بأدبك، و لم تعصمني بعصمتك و وقايتك و ترحمني بذلك أكن من الخاسرين، فافهم ذلك.
و منه دعاؤه (عليه السلام) أول ما ألقي إليه الوحي و بعث بالرسالة إلى قومه على ما حكاه الله قال تعالى: "قال رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا": "طه: 35".
ينصح (عليه السلام) لما بعث لها من الدعوة الدينية و يذكر لربه - على ما يفيده الكلام بإعانة من المقام - إنك كنت بصيرا بحالي أنا و أخي أنا منذ نشأنا نحب تسبيحك، و قد حملتني الليلة ثقل الرسالة و في نفسي من الحدة و في لساني من العقدة ما أنت أعلم به و إني أخاف أن يكذبوني أن دعوتهم إليك و بلغتهم رسالتك فيضيق صدري و لا ينطلق لساني فاشرح لي صدري، و يسر لي أمري، و هذا رفع التحرج الذي ذكره الله بقوله: "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل": "الأحزاب: 38" و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و أخي هارون أفصح مني لسانا و هو من أهلي فأشركه في هذا الأمر و اجعله وزيرا لي كي نسبحك - كما كنا نحبه - كثيرا و نذكرك عند ملإ الناس بالتعاضد كثيرا فهذا محصل ما سأله (عليه السلام) ربه من أسباب الدعوة و التبليغ، و الأدب الذي استعمل فيه أن ذكر غايته و غرضه من أسئلته لئلا يوهم كلامه أنه يسأل ما يسأل لنفسه فقال: "كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا" و استشهد على صدقه في دعواه بعلم الله نفسه بإلقاء أنفسهما بين يديه و عرضها عليه فقال: "إنك كنت بنا بصيرا" و عرض السائل المحتاج نفسه في حاجتها على المسئول الغني الجواد من أقوى ما يهيج عاطفة الرحمة لأنه يفيد إراءة نفس الحاجة فوق ما يفيده ذكر الحاجة باللسان الذي لا يمتنع عليه أن يكذب.
و منه ما حكى الله عنه مما دعا به على فرعون و ملئه إذ قال: "و قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة و أموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم و اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما و لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون": "يونس: 89".
الدعاء لموسى و هارون و لذلك صدر بكلمة "ربنا" و يدل عليه ما في الآية التالية: "قال قد أجيبت دعوتكما" دعوا أولا على أموالهم أن يطمس الله عليها ثم على أنفسهم أن يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فلا يقبل إيمانهم كما قال تعالى: "يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا": "الأنعام: 185" أي انتقم منهم بتحريم الإيمان عليهم بمفاجاة العذاب كما حرموه على عبادك بإضلالهم، و هذا أشد ما يمكن أن يدعى به على أحد فإنه الدعاء بالشقوة الدائمة و لا شيء شرا منه بالنسبة إلى إنسان.
و الدعاء بالشر غير الدعاء بالخير حكما فإن الرحمة الإلهية سبقت غضبه و قد قال لموسى فيما أوحي إليه: "عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي وسعت كل شيء": "الأعراف: 165" فسعة الرحمة الإلهية تقضي بكراهية إصابة الشر و الضر لعبد من عباده و إن كان ظالما، و يشهد بذلك ما يفيض الله سبحانه من نعمه عليهم و سترهم بكرمه و أمره عباده بالحلم و التصبر عند جهالتهم و خرقهم اللهم إلا في إقامة حق لازم، أو عند اضطرار في مظلمة إذا كانوا على علم بأن مصلحة ملزمة كمصلحة الدين أو أهل الدين تقتضي ذلك.
على أن جهات الخير و السعادة كلما كانت أرق لطافة و أدق رتبة كانت أوقع عند النفوس بالفطرة التي فطر الله الناس عليها بخلاف جهات الشر و الشقاء فإن الإنسان بحسب طبعه يفر من الوقوف عليها، و يحتال أن لا يلتفت إلى أصلها فضلا عن تفاصيل خصوصياتها، و هذا المعنى يوجب اختلاف الدعاءين أعني الدعاء بالخير و الدعاء بالشر من حيث الآداب.
فمن أدب الدعاء بالشر أن تذكر الأمور التي بعثت إلى الدعاء بالتكنية و خاصة في الأمور الشنيعة الفظيعة بخلاف الدعاء بالخير فإن التصريح بعوامل الدعاء فيه هو المطلوب، و قد راعاه (عليه السلام) في دعائه حيث قال: "ليضلوا عن سبيلك" و لم يأت بتفاصيل ما كانت تأتي به آل فرعون من الفظائع.
و من أدبه الإكثار من الاستغاثة و التضرع و قد راعاه فيما يقول: "ربنا" و تكرره مرات في دعائه على قصره.
و من أدبه أن لا يقدم عليه إلا مع العلم بأنه على مصلحة الحق من دين أو أهله من دون أن يجري على ظن أو تهمة، و قد كان (عليه السلام) على علم منه و قد قال الله فيه: "و لقد أريناه آياتنا كلها فكذب و أبى": "طه: 56" و كأنه لذلك أمره الله سبحانه و أخاه عند ما أخبرهما بالاستجابة بقوله: "فاستقيما و لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون" و الله أعلم.
و من دعاء موسى ما حكاه الله عنه في قوله: "و اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء و تهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الغافرين، و اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة و في الآخرة إنا هدنا إليك: "الأعراف: 165".
يبتدىء الدعاء من قوله: "فاغفر لنا، إلخ" غير أن الموقف لما كان موقفا صعبا قد أخذهم الغضب الإلهي و البطش الذي لا يقوم له شيء، و ما مسألة المغفرة و الرحمة من سيد ساخط قد هتكت حرمته و أهين على سؤدده كمسألة من هو في حال سوي فلذلك قدم (عليه السلام) ما تسكن به فورة الغضب الإلهي حتى يتخلص إلى طلب المغفرة و الرحمة.
فقال: "رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي" يريد (عليه السلام) - كما تدل عليه قرينة المقام - رب إن نفسي و نفوسهم جميعا قبض قدرتك، و طوع مشيئتك، لو شئت أهلكتهم و أنا فيهم قبل اليوم كما أهلكتهم اليوم و أبقيتني فما ذا أقول لقومي إذا رجعت إليهم و اتهموني بأني قتلتهم، و حالهم ما أنت أعلم به؟ و هذا يبطل دعوتي و يحبط عملي.
ثم عد (عليه السلام) إهلاك السبعين إهلاكا له و لقومه فذكر أنهم سفهاء من قومه لا يعبأ بفعلهم فأخذ ربه برحمته حيث لم يكن من عادته تعالى أن يهلك قوما بفعل السفهاء منهم، و ليس ذلك إلا موردا من موارد الامتحان العام الذي لا يزال جاريا على الإنسان فيضل به كثير، و يهتدي به كثير، و لم تقابلها إلا بالصفح و الستر.
و إذ كان بيدك أمر نفسي و نفوسنا تقدر على إهلاكنا متى شئت، و كانت هذه الواقعة غير بدع في مسير امتحانك العام الذي يعقب ضلال قوم و هداية آخرين، و لا ينتهي إلا إلى مشيئتك فأنت ولينا الذي يقوم بأمرك و مشيئتك تدبير أمورنا، و لا صنع لنا فيها فاقض فينا بالمغفرة و الرحمة فإن من جملة صفاتك أنك خير الغافرين، و اكتب لنا في هذه الدنيا عيشة آمنة من العذاب و هي التي يستحسنها من أحاط به غمر السخط الإلهي، و في الآخرة حسنة بالمغفرة و الجنة.
و هذا ما ساقه (عليه السلام) في مسألته، و قد أخذتهم الرجفة و شملتهم البلية فانظر كيف استعمل جميل أدب العبودية و استرحم ربه، و لم يزل يستوهب الرحمة، و يسكن بثنائه فورة السخط الإلهي حتى أجيب إلى ما لم يذكره من الحاجة بين ما ذكره، و هو إعادة حياتهم إليهم بعد الإهلاك، و أوحي إليه بما حكاه الله تعالى: "قال عذابي أصيب به من أشاء و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون": "الأعراف: 165" فما ظنك به تعالى بعد ما قال لموسى (عليه السلام) جوابا لمسألته: "و رحمتي وسعت كل شيء".
و قد ذكر تعالى صريح عفوه عن هؤلاء، و إجابته إلى مسألته موسى (عليه السلام) بإعادة الحياة إليهم و قد أهلكوا و ردهم إلى الدنيا بقوله: "و إذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة و أنتم تنظرون، ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون: "البقرة: 56" و يقرب من ذلك ما في سورة النساء.
و قد استعمل (عليه السلام) من الأدب في كلامه حيث قال: "تضل بها من تشاء" لم يذكر أن ذلك من سوء اختيار هؤلاء الضالين لينزهه تعالى لفظا كما كان ينزهه قلبا فيكون على حد قوله تعالى: "يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين": "البقرة: 26" لأن المقام كان يصرفه عن التعرض إلا لكونه تعالى وليا على الإطلاق ينتهي إليه كل التدبير لا غير.
و لم يورد في الذكر أيضا عمدة ما في نفسه من المسألة و هو أن يحييهم الله سبحانه بعد الإهلاك لأن الموقف على ما كان فيه من هول و خطر كان يصرفه عن الاسترسال، و إنما أشار إليه إشارة بقوله: "رب لو شئت أهلكتهم من قبل و إياي، إلخ".
و من دعائه (عليه السلام) ما دعا به حين رجع إلى قومه من الميقات فوجدهم قد عبدوا العجل من بعده، و قد كان الله سبحانه أخبره بذلك قال تعالى "و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه، قال ابن أم إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين": "الأعراف: 105" فعند ذلك رق له و دعا له و لنفسه ليمتازا بذلك من القوم الظالمين: "قال رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين": "الأعراف: 115"
|