قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
و أما قول إبراهيم (عليه السلام) لربه: "فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم: "إبراهيم: 36" فإنه من مقام الدعاء و للعبد أن يثير فيه ناشئة الرحمة الإلهية بما استطاع.
قوله تعالى: "قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم" تقرير لصدق عيسى بن مريم (عليهما السلام) على طريق التكنية فإنه لم يصرح بشخصه و إنما المقام هو الذي يفيد ذلك.
و المراد بهذا الصدق من الصادقين صدقهم في الدنيا فإنه تعالى يعقب هذه الجملة بقوله: "لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، إلخ" و من البين أنه بيان لجزاء صدقهم عند الله سبحانه فهو النفع الذي يعود إليهم من جهة الصدق، و الأعمال و الأحوال الأخروية - و منها صدق أهل الآخرة - لا يترتب عليها أثر النفع بمعنى الجزاء و بلفظ آخر: الأعمال و الأحوال الأخروية لا يترتب عليها جزاء كما يترتب على الأعمال و الأحوال الدنيوية إذ لا تكليف في الآخرة، و الجزاء من فروع التكليف، و إنما الآخرة دار حساب و جزاء كما أن الدنيا دار عمل و تكليف، قال تعالى: "يوم يقوم الحساب": "إبراهيم: 41" و قال: "اليوم تجزون ما كنتم تعملون": "الجاثية: 28" و قال تعالى: "إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هي دار القرار": "المؤمن: 39".
و الذي ذكره عيسى (عليه السلام) من حاله في الدنيا مشتمل على قول و فعل و قد قرره الله على الصدق فالصدق الذي ذكر في الآية يشمل الصدق في الفعل كما يشمل الصدق في القول فالصادقون في الدنيا في قولهم و فعلهم ينتفعون يوم القيامة بصدقهم، لهم الجنات الموعودة و هم الراضون المرضيون الفائزون بعظيم الفوز.
على أن الصدق في القول يستلزم الصدق في الفعل - بمعنى الصراحة و تنزه العمل عن سمة النفاق - و ينتهي به إلى الصلاح، و قد روي أن رجلا من أهل البدو استوصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوصاه أن لا يكذب ثم ذكر الرجل أن رعاية ما وصى به كفه عن عامة المعاصي إذ ما من معصية عرضت إلا ذكر أنه لو اقترحها ثم سئل عنها وجب عليه أن يعترف بها على نفسه و يخبر بها الناس فلم يقترفها مخافة ذلك.
قوله تعالى: "لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم و رضوا عنه ذلك الفوز العظيم" رضي الله عنهم بما قدموا إليه من الصدق، و رضوا عن الله بما آتاهم من الثواب.
و قد علق رضاه بهم أنفسهم لا بأعمالهم كما في قوله تعالى: "و رضي له قولا": "طه: 190" و قوله: "و إن تشكروا يرضه لكم": "الزمر: 7" و بين القسمين من الرضى فرق فإن رضاك عن شيء هو أن لا تدفعه بكراهة و من الممكن أن يأتي عدوك بفعل ترضاه و أنت تسخط على نفسه، و أن يأتي صديقك الذي تحبه بفعل لا ترضاه.
فقوله: "رضي الله عنهم" يدل على أن الله يرضى عن أنفسهم، و من المعلوم أن الرضى لا يتعلق بأنفسهم ما لم يحصل غرضه جل ذكره من خلقهم، و قد قال تعالى: "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون": "الذاريات: 56"، فالعبودية هو الغرض الإلهي من خلق الإنسان فالله سبحانه إنما يرضى عن نفس عبده إذا كان مثالا للعبودية أي أن يكون نفسه نفس عبد لله الذي هو رب كل شيء فلا يرى نفسه و لا شيئا غيره إلا مملوكا لله خاضعا لربوبيته لا يئوب إلا إلى ربه و لا يرجع إلا إليه كما قال تعالى في سليمان و أيوب: "نعم العبد إنه أواب": "ص: 44" و هذا هو الرضى عنه.
و هذا من مقامات العبودية، و لازمه طهارة النفس عن الكفر بمراتبه و عن الاتصاف بالفسق كما قال تعالى: "و لا يرضى لعباده الكفر": "الزمر: 7" و قال تعالى: "فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين": "التوبة: 96".
و من آثار هذا المقام أن العبودية إذا تمكنت من نفس العبد و رأى ما يقع عليه بصره و تبلغه بصيرته مملوكا لله خاضعا لأمره فإنه يرضى عن الله فإنه يجد أن كل ما آتاه الله فإنما آتاه من فضله من غير أن يتحتم عليه فهو جود و نعمة، و أن ما منعه فإنما منعه عن حكمة.
على أن الله سبحانه يذكر عنهم و هم في الجنة بقوله: "لهم فيها ما يشاءون": "النحل: 31، الفرقان: 16"، و من المعلوم أن الإنسان إذا وجد كل ما يشاؤه لم يكن له إلا أن يرضى.
و هذا غاية السعادة الإنسانية بما هو عبد، و لذلك ختم الكلام بقوله: "ذلك الفوز العظيم".
قوله تعالى: "لله ملك السماوات و الأرض و ما فيهن و هو على كل شيء قدير"، - الملك - بالكسر - سلطة خاصة على رقبة الأشياء و أثره نفوذ الإرادة فيما يقدر عليه المالك من التصرف فيها، و الملك - بالضم - سلطة خاصة على النظام الموجود بين الأشياء و أثره نفوذ الإرادة فيما يقدر عليه، و بعبارة ساذجة: الملك - بالكسر - متعلق بالفرد، و الملك - بالضم - متعلق بالجماعة.
و حيث كان الملك في نفوذ الإرادة بالفعل مقيدا أو متقوما بالقدرة فإذا تمت القدرة و أطلقت كان الملك ملكا مطلقا غير مقيد بشيء دون شيء و حال دون حال، و لبيان هذه النكتة عقب تعالى قوله: "لله ملك السماوات و الأرض و ما فيهن" بقوله: "و هو على كل شيء قدير".
و اختتمت السورة بهذه الآية الدالة على الملك المطلق، و المناسبة ظاهرة، فإن غرض السورة هو حث العباد و ترغيبهم على الوفاء بالعهود و المواثيق المأخوذة عليهم من جانب ربهم، و هو الملك على الإطلاق فلا يبقى لهم إلا أنهم عباد مملوكون على الإطلاق ليس لهم فيما يأمرهم به و ينهاهم عنه إلا السمع و الطاعة، و لا فيما يأخذ منهم من العهود و المواثيق إلا الوفاء بها من غير نقض.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى لعيسى: "أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله" قال: لم يقله و سيقوله، إن الله إذا علم أن شيئا كائن أخبر عنه خبر ما قد كان.
أقول: و فيه، أيضا عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام): مثله، و حاصله أن الإتيان بصيغة الماضي في الأمر المستقبل للعلم بتحقق وقوعه، و هو شائع في اللغة.
و فيه، عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): في تفسير هذه الآية: "تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك - إنك أنت علام الغيوب"، قال: إن اسم الله الأكبر ثلاثة و سبعون حرفا فاحتجب الرب تبارك و تعالى منها بحرف فمن ثم لا يعلم أحد ما في نفسه عز و جل. أعطى آدم اثنين و سبعين حرفا فتوارثها الأنبياء حتى صار إلى عيسى (عليه السلام) فذلك قول عيسى: "تعلم ما في نفسي" يعني اثنين و سبعين حرفا من الاسم الأكبر يقول: أنت علمتنيها فأنت تعلمها: "و لا أعلم ما في نفسك" يقول: لأنك احتجبت بذلك الحرف فلا يعلم أحد ما في نفسك.
أقول: سيجيء البحث المبسوط عن أسماء الله الحسنى و اسمه الأعظم الأكبر في تفسير قوله تعالى: "و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها" الآية: "الأعراف: 108" و يتبين هناك أن الاسم الأكبر أو الاسم الأعظم ليس من نوع اللفظ حتى يتألف من حروف الهجاء و إنما المراد بالاسم في أمثال هذه الموارد هو المحكي عنه بالاسم اللفظي و هو الذات مأخوذا بصفة من صفاته و وجه من وجوهه و يعود الاسم اللفظي حينئذ اسم الاسم على ما سيتضح بعد.
و على هذا فقوله (عليه السلام): "إن الاسم الأكبر مؤلف من ثلاثة و سبعين حرفا" و نظيره ما ورد في روايات كثيرة في هذا الباب من أن الاسم الأعظم مؤلف من كذا حرفا، و أنها متفرقة مبثوثة في كذا سورة أو أنه في كذا آية كل ذلك بيانات مبنية على الرمز، و أمثال مضروبة لتفهيم ما يسع تفهيمه من الحقائق فما كل حقيقة ميسورا بيانها بالصراحة من غير كناية و بالعين دون المثل.
و الذي يتضح به معنى الحديث بعض الاتضاح هو أن يقال: إنه لا شك أن أسماء الله تعالى الحسنى وسائط لظهور الكون بأعيانه و حدوث حوادثه التي لا تحصى، فإنا لا نشك في أن الله سبحانه خلق خلقه لأنه خالق جواد مبدىء مثلا لا لأنه منتقم شديد البطش، و أنه إنما يرزق من يرزق لأنه رازق معط مثلا لا لأنه قابض مانع، و أنه إنما يفيض الحياة للأحياء لأنه الحي المحيي لا لأنه مميت معيد، و الآيات القرآنية أصدق شاهد على هذه الحقيقة، فإنا نرى المعارف المبينة في متون الآيات معللة بالأسماء المناسبة لمعانيها في ذيلها فربما اختتمت الآية لبيان ما تضمه من المعنى باسم، و ربما اختتمت باسمين يفيدان بمجموعهما المعنى المذكور فيها.
و من هنا يظهر أن الواحد منا لو رزق علم الأسماء و علم الروابط التي بينها و بين الأشياء و ما تقضيه أسماؤه تعالى مفردة و مؤلفة علم النظام الكوني بما جرى و بما يجري عليه عن قوانين كلية منطبقة على جزئياتها واحدا بعد واحد.
و قد بين القرآن الشريف على ما يفهم من ظواهره قوانين عامة كثيرة في المبدإ و المعاد و ما رتبه الله تعالى من أمر السعادة و الشقاوة ثم خاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء".
لكنها جميعا قوانين كلية ضرورية إلا أنها ضرورية لا في أنفسها و باقتضاء من ذواتها بل بما أفاده الله سبحانه عليها من الضرورة و اللزوم، و إذا كانت هذه الحكومة العقلية القطعية من جهته تعالى و بأمره و إرادته فمن البين أن فعله تعالى لا يجبره تعالى على مؤدى نفسه، و لا يغلبه في ذاته فهو سبحانه القاهر الغالب فكيف يغلبه ما ينتهي إليه تعالى من كل جهة و يفتقر إليه في عينه و أثره، فافهم ذلك.
فمن المحال أن يكون العقل الذي يحكم بما يحكم بإفاضة الله ذلك عليه أو تكون الحقائق التي إنما وجدت أحكامها و آثارها به تعالى، حاكمة عليه تعالى مقتضية فيه بالحكم و الاقتضاء اللذين هو المبقي لهما القاهر الغالب عليهما، و بعبارة أخرى: ما في الأشياء من اقتضاء و حكم إنما هو أثر التمليك الذي ملكه الله إياها، و لا معنى لأن يملك شيء بالملك الذي ملكه الله بعينه منه تعالى شيئا فهو تعالى مالك على الإطلاق غير مملوك بوجه من الوجوه أصلا.
فلو أثاب الله المجرم أو عاقب المثيب أو فعل أي فعل أراد لم يكن عليه ضير، و لا منعه مانع من عقل أو خارج إلا أنه تعالى وعدنا و أوعدنا بالسعادة و الشقاء و حسن الجزاء و سوء الجزاء، و أخبرنا أنه لا يخلف الميعاد و أخبرنا من طريق الوحي أو العقل بأمور ثم ذكر أنه لا يقول إلا الحق فسكنت نفوسنا به و اطمأنت قلوبنا إليه بما لا طريق للريب إليه، قال تعالى: "إن الله لا يخلف الميعاد": "آل عمران: 9، الرعد: 31" و قال تعالى: "و الحق أقول": "ص: 84" و في معناهما الضرورة العقلية في أحكامها.
و هذا الذي بينه هو مقتضى أسمائه تعالى فيما علمنا بتعليمه منها لكن من وراء ذلك أنه تعالى هو المالك على الإطلاق له أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، قال تعالى: "لا يسأل عما يفعل و هم يسألون": "الأنبياء: 23"، و هذا المعنى بعينه اسم من أسمائه تعالى مجهول الكنه لا طريق إلى تعلق العلم به لأحد من خلقه فإن كل ما نعلمه من أسمائه فهو مما يحكيه مفهوم من المفاهيم ثم نشخص بنسبته آثاره في الوجود و أما الآثار التي لا طريق إلى تشخيصها في الوجود فهي لا محالة آثار لاسم لا طريق إلى الحصول على معناها و إن شئت فقل: إنه اسم لا يصطاد بمفهوم، و إنما يشير إليه صفة ملكه المطلق نوعا من الإشارة.
فقد تبين أن من أسمائه تعالى ما لا سبيل إليه لأحد من خلقه و هو الذي احتجب تعالى به فافهم ذلك.
كلام في معنى الأدب
نبحث فيه عن الأدب الذي أدب به أنبياءه و رسله (عليهم السلام) في عدة فصول: 1 - - الأدب على ما يتحصل من معناه - هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليه الفعل المشروع إما في الدين أو عند العقلاء في مجتمعهم كآداب الدعاء و آداب ملاقاة الأصدقاء و إن شئت قلت: ظرافة الفعل.
و لا يكون إلا في الأمور المشروعة غير الممنوعة فلا أدب في الظلم و الخيانة و الكذب و لا أدب في الأعمال الشنيعة و القبيحة، و لا يتحقق أيضا إلا في الأفعال الاختيارية التي لها هيئات مختلفة فوق الواحدة حتى يكون بعضها متلبسا بالأدب دون بعض كأدب الأكل مثلا في الإسلام، و هو أن يبدأ فيه باسم الله و يختم بحمد الله و يؤكل دون الشبع إلى غير ذلك، و أدب الجلوس في الصلاة و هو التورك على طمأنينة و وضع الكفين على الوركين فوق الركبتين و النظر إلى حجره و نحو ذلك.
و إذ كان الأدب هو الهيئة الحسنة في الأفعال الاختيارية و الحسن و إن كان بحسب أصل معناه و هو الموافقة لغرض الحياة مما لا يختلف فيه أنظار المجتمعات لكنه بحسب مصاديقه مما يقع فيه أشد الخلاف، و بحسب اختلاف الأقوام و الأمم و الأديان و المذاهب و حتى المجتمعات الصغيرة المنزلية و غيرها في تشخيص الحسن و القبح يقع الاختلاف بينهم في آداب الأفعال.
فربما كان عند قوم من الآداب ما لا يعرفه آخرون، و ربما كان بعض الآداب المستحسنة عند قوم شنيعة مذمومة عند آخرين كتحية أول اللقاء فإنه في الإسلام بالتسليم تحية من عند الله مباركة طيبة، و عند قوم برفع القلانس، و عند بعض برفع اليد حيال الرأس، و عند آخرين بسجدة أو ركوع أو انحناء بطأطأة الرأس، و كما أن في آداب ملاقاة النساء عند الغربيين أمورا يستشنعها الإسلام و يذمها، إلى غير ذلك.
غير أن هذه الاختلافات جميعا إنما نشأت في مرحلة تشخيص المصداق و أما أصل معنى الأدب، و هو الهيأة الحسنة التي ينبغي أن يكون عليها الفعل فهو مما أطبق عليه العقلاء من الإنسان و أطبقوا أيضا على تحسينه فلا يختلف فيه اثنان.
2 - لما كان الحسن من مقومات معنى الأدب على ما ذكر في الفصل السابق، و كان مختلفا بحسب المقاصد الخاصة في المجتمعات المختلفة أنتج ذلك ضرورة اختلاف الآداب الاجتماعية الإنسانية فالأدب في كل مجتمع كالمرآة يحاكي خصوصيات أخلاق ذلك المجتمع العامة التي رتبها فيهم مقاصدهم في الحياة، و ركزتها في نفوسهم عوامل اجتماعهم و عوامل مختلفة أخر طبيعية أو اتفاقية.
و ليست الآداب هي الأخلاق لما أن الأخلاق هي الملكات الراسخة الروحية التي تتلبس بها النفوس، و لكن الآداب هيئات حسنة مختلفة تتلبس بها الأعمال الصادرة عن الإنسان عن صفات مختلفة نفسية، و بين الأمرين بون بعيد.
فالآداب من منشئات الأخلاق و الأخلاق من مقتضيات الاجتماع بخصوصه بحسب غايته الخاصة فالغاية المطلوبة للإنسان في حياته هي التي تشخص أدبه في أعماله، و ترسم لنفسه خطأ لا يتعداه إذا أتى بعمل في مسير حياته و التقرب من غايته.
3 - و إذ كان الأدب يتبع في خصوصيته الغاية المطلوبة في الحياة فالأدب الإلهي الذي أدب الله سبحانه به أنبياءه و رسله (عليهم السلام) هو الهيئة الحسنة في الأعمال الدينية التي تحاكي غرض الدين و غايته، و هو العبودية على اختلاف الأديان الحقة بحسب كثرة موادها و قلتها و بحسب مراتبها في الكمال و الرقي.
و الإسلام لما كان من شأنه التعرض لجميع جهات الحياة الإنسانية بحيث لا يشذ عنه شيء من شئونها يسير أو خطير دقيق أو جليل فلذلك وسع الحياة أدبا، و رسم في كل عمل هيئة حسنة تحاكي غايته.
و ليس له غاية عامة إلا توحيد الله سبحانه في مرحلتي الاعتقاد و العمل جميعا أي أن يعتقد الإنسان أن له إلها هو الذي منه بدىء كل شيء و إليه يعود كل شيء له الأسماء الحسنى و الأمثال العليا، ثم يجري في الحياة و يعيش بأعمال تحاكي بنفسها عبوديته و عبودية كل شيء عنده لله الحق عز اسمه، و بذلك يسري التوحيد في باطنه و ظاهره، و تظهر العبودية المحضة من أقواله و أفعاله و سائر جهات وجوده ظهورا لا ستر عليه و لا حجاب يغطيه.
فالأدب الإلهي - أو أدب النبوة - هي هيئة التوحيد في الفعل.
4 - من المعلوم بالقياس و يؤيده التجربة القطعية أن العلوم العملية - و هي التي تتعلم ليعمل بها - لا تنجح كل النجاح و لا تؤثر أثرها الجميل دون أن تلقى إلى المتعلم في ضمن العمل، لأن الكليات العلمية ما لم تنطبق على جزئياتها و مصاديقها تتثاقل النفس في تصديقها و الإيمان بصحتها لاشتغال نفوسنا طول الحياة بالجزئيات الحسية و كلالها بحسب الطبع الثانوي من مشاهدة الكليات العقلية الخارجة عن الحس فالذي صدق حسن الشجاعة في نفسها بحسب النظر الخالي عن العمل ثم صادف موقفا من المواقف الهائلة التي تطير فيها القلوب أدى به ذلك إلى النزاع بين عقله الحاكم بحسن الشجاعة و وهمه الجاذب إلى لذة الاحتراز من تعرض الهلكة الجسمانية و زوال الحياة المادية الناعمة فلا تزال النفس تتذبذب بين هذا و ذاك، و تتحير في تأييد الواحد من الطرفين المتخاصمين، و القوة في جانب الوهم لأن الحس معه.
فمن الواجب عند التعليم أن تتلقى المتعلم الحقائق العلمية مشفوعة بالعمل حتى يتدرب بالعمل و يتمرن عليه لتزول بذلك الاعتقادات المخالفة الكائنة في زوايا نفسه و يرسخ التصديق بما تعلمه في النفس، لأن الوقوع أحسن شاهد على الإمكان.
و لذلك نرى أن العمل الذي لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له فإذا وقع لأول مرة بدا كأنه انقلب من امتناع إلى إمكان و عظم أمر وقوعه و أورث في النفس قلقا و اضطرابا، ثم إذا وقع ثانيا و ثالثا هان أمره و انكسر سورته و التحق بالعاديات التي لا يعبأ بأمرها، و إن الخير عادة كما أن الشر عادة.
و رعاية هذا الأسلوب في التعليمات الدينية و خاصة في التعليم الديني الإسلامي من أوضح الأمور فلم يأخذ شارع الدين في تعليم مؤمنيه بالكليات العقلية و القوانين العامة قط بل بدأ بالعمل و شفعه بالقول و البيان اللفظي فإذا استكمل أحدهم تعلم معارف الدين و شرائعه استكمله و هو مجهز بالعمل الصالح مزود بزاد التقوى.
كما أن من الواجب أن يكون المعلم المربي عاملا بعلمه فلا تأثير في العلم إذا لم يقرن بالعمل لأن للفعل دلالة كما أن للقول دلالة فالفعل المخالف للقول يدل على ثبوت هيئة مخالفة في النفس يكذب القول فيدل على أن القول مكيدة و نوع حيلة يحتال بها قائله لغرور الناس و اصطيادهم.
و لذلك نرى الناس لا تلين قلوبهم و لا تنقاد نفوسهم للعظة و النصيحة إذا وجدوا الواعظ به أو الناصح بإبلاغه غير متلبس بالعمل متجافيا عن الصبر و الثبات في طريقه، و ربما قالوا: "لو كان ما يقوله حقا لعمل به" إلا أنهم ربما اشتبه عليهم الأمر في استنتاج منه فإن النتيجة أن القول ليس بحق عند القائل إذ لو كان حقا عنده لعمل به، و ليس ينتج أن القول ليس بحق مطلقا كما ربما يستنتجونه.
فمن شرائط التربية الصالحة أن يكون المعلم المربي نفسه متصفا بما يصفه للمتعلم متلبسا بما يريد أن يلبسه، فمن المحال العادي أن يربي المربي الجبان شجاعا باسلا، أو يتخرج عالم حر في آرائه و أنظاره من مدرسة التعصب و اللجاج و هكذا.
قال تعالى: "أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون": "يونس: 35" و قال: "أ تأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم": "البقرة: 44" و قال حكاية عن قول شعيب لقومه: "و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت": "هود: 88" إلى غير ذلك من الآيات.
فلذلك كله كان من الواجب أن يكون المعلم المربي ذا إيمان بمواد تعليمه و تربيته.
على أن الإنسان الخالي عن الإيمان بما يقوله حتى المنافق المتستر بالأعمال الصالحة المتظاهر بالإيمان الصريح الخالص لا يتربى بيده إلا من يمثله في نفسه الخبيثة فإن اللسان و إن أمكن إلقاء المغايرة بينه و بين الجنان بالتكلم بما لا ترضى به النفس و لا يوافقه السر إلا أن الكلام من جهة أخرى فعل و الفعل من آثار النفس و رشحاتها، و كيف يمكن مخالفة الفعل لطبيعة فاعله؟.
فالكلام من غير جهة الدلالة اللفظية الوضعية حامل لطبيعة نفس المتكلم من إيمان أو كفر أو غير ذلك، و واضعها و موصلها إلى نفس المتعلم البسيطة الساذجة فلا يميز جهة صلاحه - و هو جهة دلالته الوضعية - من جهة فساده - و هو سائر جهاته - إلا من كان على بصيرة من الأمر، قال تعالى في وصف المنافقين لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): "و لتعرفنهم في لحن القول": "سورة محمد: 30" فالتربية المستعقبة للأثر الصالح هو ما كان المعلم المربي فيها ذا إيمان بما يلقيه إلى تلامذته مشفوعا بالعمل الصالح الموافق لعلمه، و أما غير المؤمن بما يقوله أو غير العامل على طبق علمه فلا يرجى منه خير.
و لهذه الحقيقة مصاديق كثيرة و أمثلة غير محصاة في سلوكنا معاشر الشرقيين و الإسلاميين خاصة في التعليم و التربية في معاهدنا الرسمية و غير الرسمية فلا يكاد تدبير ينفع و لا سعي ينجح.
5 - و إلى هذا الباب يرجع ما نرى أن كلامه تعالى يشتمل على حكاية فصول من الأدب الإلهي المتجلي من أعمال الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) مما يرجع إلى الله سبحانه من أقسام عباداتهم و أدعيتهم و أسئلتهم أو يرجع إلى الناس في معاشراتهم و مخاطباتهم فإن إيراد الأمثلة في التعليم نوع من التعليم العملي بإشهاد العمل.
قال الله تعالى بعد ذكر قصة إبراهيم في التوحيد مع قومه: "و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم، و وهبنا له إسحاق و يعقوب كلا هدينا و نوحا هدينا من قبل و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون و كذلك نجزي المحسنين، و زكريا و يحيى و عيسى و إلياس كل من الصالحين، و إسماعيل و اليسع و يونس و لوطا و كلا فضلنا على العالمين، و من آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون، أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده": "الأنعام: 90"، يذكر تعالى أنبياءه الكرام (عليهم السلام) ذكرا جامعا ثم يذكر أنه أكرمهم بالهداية الإلهية و هي الهداية إلى التوحيد فحسب و الدليل عليه قوله: "و لو أشركوا لحبط عنهم"، فلم يذكر منافيا لما حباهم به من الهداية إلا الشرك فلم يهدهم إلا إلى التوحيد.
غير أن التوحيد حكمه سار إلى أعمالهم متمكن فيها و الدليل عليه قوله: "لحبط عنهم ما كانوا يعملون" فلو لا أن الشرك جار في الأعمال متسرب فيها لم يستوجب حبطها فالتوحيد المنافي له كذلك.
و معنى سراية التوحيد في الأعمال كون صورها تمثل التوحيد و تحاكيه محاكاة المرآة لمرئيها بحيث لو فرض أن التوحيد تصور لكان هو تلك الأعمال بعينها، و لو أن تلك الأعمال تجردت اعتقادا محضا لكانت هي هو بعينه.
و هذا المعنى كثير المصداق في الصفات الروحية فإنك ترى أعمال المتكبر يمثل ما في نفسه من صفة الكبر و الخيلاء، و كذلك البائس المسكين يحاكي جميع حركاته و سكناته ما في سره من الذلة و الاستكانة و هكذا.
ثم أدب تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمره أن يقتدي بهداية من سبقه من الأنبياء (عليهم السلام) لا بهم، و الاقتداء إنما يكون في العمل دون الاعتقاد فإنه غير اختياري بحسب نفسه أي أن يختار أعمالهم الصالحة المبنية على التوحيد الصادرة عنهم عن تأديب عملي إلهي.
و نعني بهذا التأديب العملي ما يشير إليه قوله تعالى: "و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين": "الأنبياء: 37" فإن إضافة المصدر في قوله "فعل الخيرات" "إلخ"، تدل على أن المراد به الفعل الصادر منهم من خيرات فعلوها و صلاة أقاموها و زكاة آتوها دون مجرد الفعل المفروض فهذا الوحي المتعلق بالأفعال في مرحلة صدورها منهم وحي تسديد و تأديب، و ليس هو وحي النبوة و التشريع، و لو كان المراد به وحي النبوة لقيل: "و أوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة" كما في قوله تعالى: "ثم أوحينا إليك أن اتبع": "النحل: 132" و قوله: "و أوحينا إلى موسى و أخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا و اجعلوا بيوتكم قبلة و أقيموا الصلاة": "يونس: 87" إلى غير ذلك من الآيات، و معنى وحي التسديد أن يخص الله عبدا من عباده بروح قدسي يسدده في أعمال الخير و التحرز عن السيئة كما يسددنا الروح الإنساني في التفكر في الخير و الشر، و الروح الحيواني في اختيار ما نشتهيه من الجذب و الدفع بالإرادة، و سيجيء الكلام المبسوط في ذلك إن شاء الله.
و بالجملة فقوله: "فبهداهم اقتده" تأديب إلهي إجمالي له (صلى الله عليه وآله وسلم) بأدب التوحيد المنبسط على أعمال الأنبياء (عليهم السلام) المنزهة من الشرك.
ثم قال تعالى - بعد ما ذكر عدة من أنبيائه (عليهم السلام) - في سورة مريم "أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و إسرائيل و ممن هدينا و اجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، إلا من تاب و آمن و عمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون شيئا: "مريم: 60".
فذكر تعالى أدبهم العام في حياتهم أنهم يعيشون على الخضوع عملا و على الخشوع قلبا لله عز اسمه فإن سجودهم عند ذكر آيات الله تعالى مثال الخضوع و بكاءهم و هو لرقة القلب و تذلل النفس آية الخشوع و هما معا كناية عن استيلاء صفة العبودية على نفوسهم بحيث كلما ذكروا بآية من آيات الله بان أثره في ظاهرهم كما استولت الصفة على باطنهم فهم على أدبهم الإلهي و هو سمة العبودية إذا خلوا مع ربهم و إذا خلوا للناس، فهم يعيشون على أدب إلهي مع ربهم و مع الناس جميعا.
و من الدليل على أن المراد به الأدب العام قوله تعالى في الآية الثانية: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات" فإن الصلاة و هي التوجه إلى الله هي حالهم مع ربهم و اتباع الشهوات حالهم مع غيرهم من الناس، و حيث قوبل أولئك بهؤلاء أفاد الكلام أن أدب الأنبياء العام أن يراجعوا ربهم بسمة العبودية و أن يسيروا بين الناس بسمة العبودية أي تكون بنية حياتهم مبنية على أساس أن لهم ربا يملكهم و يدبر أمرهم، منه بدءوهم و إليه مرجعهم فهذا هو الأصل في جميع أحوالهم و أعمالهم.
و الذي ذكره تعالى من استثناء التائبين منهم أدب آخر إلهي بدأ فيه بآدم (عليه السلام) أول الأنبياء حيث قال: "و عصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى": "طه: 123" و سيجيء بعض القول فيه إن شاء الله تعالى.
و قال تعالى: "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل و كان أمر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله و كفى بالله حسيبا": "الأحزاب: 39".
أدب عام أدب الله سبحانه به أنبياءه (عليهم السلام) و سنة جارية له فيهم أن لا يتحرجوا في ما قسم لهم من الحياة و لا يتكلفوا في أمر من الأمور إذ كانوا على الفطرة و الفطرة لا تهدي إلا إلى ما جهزها الله بما يلائمها في نيله، و لا تتكلف الاستواء على ما لم يسهل الله لها الارتقاء على مستواه، قال تعالى حكاية عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): "و ما أنا من المتكلفين": "ص: 86" و قال تعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها": "البقرة: 268" و قال تعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها": "الطلاق: 7" و إذ كان التكلف خروجا عن الفطرة فهو من اتباع الشهوة و الأنبياء في مأمن منه.
و قال تعالى و هو أيضا من التأديب بأدب جامع: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات و اعملوا صالحا إني بما تعملون عليم، و إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاتقون": "المؤمنون: 52" أدبهم تعالى أن يأكلوا من الطيبات أي أن يتصرفوا في الطيبات من مواد الحياة و لا يتعدوها إلى الخبائث التي تتنفر منها الفطرة السليمة و أن يأتوا من الأعمال بالصالح منها و هو الذي يصلح للإنسان أن يأتي به مما تميل إليه الفطرة بحسب ما جهزها الله من أسباب تحفظ بعملها بقائه إلى حين، أو أن يأتوا بالعمل الذي يصلح أن يقدم إلى حضرة الربوبية، و المعنيان متقاربان، فهذا أدب يتعلق بالإنسان الفرد.
ثم وصله تعالى بأدب اجتماعي فذكر لهم أن الناس ليسوا إلا أمة واحدة: المرسلون و المرسل إليهم، و ليس لهم إلا رب واحد فليجتمعوا على تقواه، و يقطعوا بذلك دابر الاختلافات و التحزبات، فإذا التقى الأمران أعني الأدب الفردي و الاجتماعي تشكل مجتمع واحد بشرى مصون عن الاختلاف يعبد ربا واحدا، و يجري الآحاد منه على الأدب الإلهي فاتقوا خبائث الأفعال و سيئات الأعمال فقد استووا على أريكة السعادة.
و هذا ما جمعته آية أخرى و هي قوله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه": "الشورى: 13".
و قد فرق الله الأدبين في موضع آخر فقال: "و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون": "الأنبياء: 25" فأدبهم بتوحيده و بناء العبادة عليه، و هذا هو أدبهم بالنسبة إلى ربهم، و قال: "و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة يأكل منها - إلى أن قال - و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام و يمشون في الأسواق": "الفرقان: 20" فذكر أن سيرة الأنبياء جميعا و هو أدبهم الإلهي هو الاختلاط بالناس و رفض التحجب و الاختصاص و التميز من بين الناس فكل ذلك مما تدفعه الفطرة، و هذا أدبهم في الناس.
6 - من أدب الأنبياء (عليهم السلام) في توجيههم الوجوه إلى ربهم و دعائهم إياه ما حكاه الله تعالى من قول آدم (عليه السلام) و زوجته: "ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين": "الأعراف: 23" كلمة قالاها بعد ما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله أن يقربا منها، و إنما كان نهي إرشاد ليس بالمولوي، و لم يعصياه عصيان تكليف بل كان ذلك منهما مخالفة نصيحة في رعايتها صلاح حالهما، و سعادة حياتهما في الجنة الأمنة من كل شقاء و عناء، و قد قال لهما ربهما في تحذيرهما عن متابعة إبليس: "فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك أن لا تجوع فيها و لا تعرى، و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى": "طه: 191".
فلما وقعا في المحنة و شملتهما البلية، و أخذت سعادة الحياة يوادعهما وداع ارتحال لم يشتغلا بأنفسهما اشتغال اليائس البائس، و لم يقطع القنوط ما بينهما و بين ربهما من السبب الموصول بل بادرا إلى الالتجاء بالله الذي إليه أمرهما، و بيده كل خير يأملانه لأنفسهما فأخذا و تعلقا بصفة ربوبيته المشتملة على كل ما يدفع به الشر و يجلب به الخير، فالربوبية هي الصفة الكريمة يربط العبد بالله سبحانه.
ثم ذكرا الشر الذي يهددهما بظهور آياته و هو الخسران - كأنهما اشتريا لذة الأكل بطاعة الإرشاد الإلهي فبان لهما أن سعادتهما قد أشرفت بذلك على الزوال - في الحياة، و ذكرا حاجتهما إلى ما يدفع هذا الشر عنهما فقالا: "و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين" أي إن خسران الحياة يهددنا و قد أطل بنا و ما له من دافع إلا مغفرتك للذنب الصادر عنا و غشيانك إيانا بعد ذلك برحمتك و هي السعادة لما أن الإنسان بل كل موجود مصنوع يشعر بفطرته المغروزة أن من شأن الأشياء الواقعة في منزل الوجود و مسير البقاء أن تستتم ما يعرضها من النقص و العيب، و أن السبب الجابر لهذا الكسر هو الله سبحانه وحده فهو من عادة الربوبية.
و لذلك كان يكفي مجرد إظهار الحال، و إبراز ما نزل على العبد من مسكنة الحاجة فلا حاجة إلى السؤال بلفظ بل في بدو الحاجة أبلغ السؤال و أفصح الاقتراح.
و لذلك لم يصرحا بما يسألانه و لم يقولا: "فاغفر لنا و ارحمنا" و لأنهما - و هو العمدة - أوقفا أنفسهما بما صدر عنهما من المخالفة موقف الذلة و المسكنة التي لا وجه معها و لا كرامة، فنتجت لهما التسليم المحض لما يصدر في ذلك من ساحة العزة و من الحكم فكفا عن كل مسألة و اقتراح غير أنهما ذكرا أنه ربهما فأشارا إلى ما يطمعان فيه منه مع اعترافهما بالظلم.
فكان معنى قولهما: "ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين": أسأنا فيما ظلمنا أنفسنا فأشرفنا بذلك على الخسران المهدد لعامة سعادتنا في الحياة فهو ذا الذلة و المسكنة أحاطت بنا، و الحاجة إلى إمحاء وسمة الظلم و شمول الرحمة شملتنا، و لم يدع ذلك لنا وجهة و لا كرامة نسألك بها، فها نحن مسلمون لحكمك أيها الملك العزيز فلك الأمر و لك الحكم غير أنك ربنا و نحن مربوبان لك نأمل منك ما يأمله مربوب من ربه.
و من أدبهم ما حكاه الله تعالى من دعوة نوح (عليه السلام) في ابنه: "و هي تجري بهم في موج كالجبال و نادى نوح ابنه و كان في معزل يا بني اركب معنا و لا تكن مع الكافرين، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء - إلى أن قال - و نادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق و أنت أحكم الحاكمين، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين": "هود: 47".
لا ريب أن الظاهر من قول نوح (عليه السلام) أنه كان يريد الدعاء لابنه بالنجاة غير أن التدبر في آيات القصة يكشف الغطاء عن حقيقة الأمر بنحو آخر: فمن جانب أمره الله بركوب السفينة هو و أهله و المؤمنون بقوله: "احمل فيها من كل زوجين اثنين و أهلك إلا من سبق عليه القول و من آمن": "هود: 40" فوعده بإنجاء أهله و استثنى منهم من سبق عليه القول، و قد كانت امرأته كافرة كما ذكرها الله في قوله: "ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط": "التحريم: 10" و أما ابنه فلم يظهر منه كفر بدعوة نوح، و الذي ذكره الله من أمره مع أبيه و هو في معزل إنما هو معصية بمخالفة أمره (عليه السلام) و ليس بالكفر الصريح فمن الجائز أن يظن في حقه أنه من الناجين لظهور كونه من أبنائه و ليس من الكافرين فيشمله الوعد الإلهي بالنجاة.
و من جانب قد أوحى الله تعالى إلى نوح (عليه السلام) حكمه المحتوم في أمر الناس كما قال: "و أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون": "هود - 37" فهل المراد بالذين ظلموا الكافرون بالدعوة أو يشمل كل ظلم أو هو مبهم مجمل يحتاج إلى تفسير من لدن قائله تعالى؟.
فكان هذه الأمور رابته (عليه السلام) في أمر ابنه و لم يكن نوح (عليه السلام) بالذي يغفل من مقام ربه و هو أحد الخمسة أولي العزم سادات الأنبياء، و لم يكن لينسى وحي ربه: "و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" و لا ليرضى بنجاة ابنه و لو كان كافرا ماحضا في كفره، و هو (عليه السلام) القائل فيما دعا على قومه: "رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا": "نوح: 26" و لو رضي في ابنه بذلك لرضي بمثله في امرأته.
و لذلك لم يجترء (عليه السلام) على مسألة قاطعة بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعا على أمر ابنه، بل بدأ بالنداء باسم الرب لأنه مفتاح دعاء المربوب المحتاج السائل ثم قال: "إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق" كأنه يقول و هذا يقضي بنجاة ابني "و أنت أحكم الحاكمين" لا خطأ في أمرك و لا مغمض في حكمك فما أدري إلى م انجر أمره؟.
و هذا هو الأدب الإلهي أن يقف العبد على ما يعلمه، و لا يبادر إلى مسألة ما لا يدري وجه المصلحة فيه.
فألقى نوح (عليه السلام) القول على وجد منه كما يدل عليه لفظ النداء في قوله: "و نادى نوح ربه" فذكر الوعد الإلهي و لما يزد عليه شيئا و لا سأل أمرا.
فأدركته العصمة الإلهية و قطعت عليه الكلام، و فسر الله سبحانه له معنى قوله في الوعد: "و أهلك" أن المراد به الأهل الصالحون و ليس الابن بصالح، و قد قال تعالى من قبل: "و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون" و قد أخذ نوح (عليه السلام) بظاهر الأهل و أن المستثنى منهم هو امرأته الكافرة فقط، ثم فرع عليه النهي عن السؤال فيما ليس له به علم، و هو سؤال نجاة ابنه على ما كان يلوح إليه كلامه أنه سيسألها.
فانقطع عنه السؤال بهذا التأديب الإلهي، و استأنف (عليه السلام) بكلام آخر صورته صورة التوبة و حقيقته الشكر لما أنعم الله بهذا الأدب الذي هو من النعمة فقال: "رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم" فاستعاذ إلى ربه مما كان من طبع كلامه أن يسوقه إليه و هو سؤال نجاة ابنه و لا علم له بحقيقة
حال
|