قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
9 سورة التوبة - 17 - 24
مَا كانَ لِلْمُشرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسجِدَ اللّهِ شهِدِينَ عَلى
أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُولَئك حَبِطت أَعْمَلُهُمْ وَ فى النّارِ هُمْ
خَلِدُونَ (17) إِنّمَا يَعْمُرُ مَسجِدَ اللّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللّهِ وَ
الْيَوْمِ الاَخِرِ وَ أَقَامَ الصلَوةَ وَ ءَاتى الزّكوةَ وَ لَمْ يخْش إِلا
اللّهَ فَعَسى أُولَئك أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَ جَعَلْتُمْ
سِقَايَةَ الحَْاجّ وَ عِمَارَةَ الْمَسجِدِ الحَْرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ
بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ وَ جَهَدَ فى سبِيلِ اللّهِ لا يَستَوُنَ عِندَ
اللّهِ وَ اللّهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ (19) الّذِينَ ءَامَنُوا وَ
هَاجَرُوا وَ جَهَدُوا فى سبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَلهِِمْ وَ أَنفُسِهِمْ أَعْظمُ
دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَ أُولَئك هُمُ الْفَائزُونَ (20) يُبَشرُهُمْ رَبّهُم
بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَ رِضوَنٍ وَ جَنّتٍ لهُّمْ فِيهَا نَعِيمٌ مّقِيمٌ (21)
خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَأَيهَا
الّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتّخِذُوا ءَابَاءَكُمْ وَ إِخْوَنَكُمْ أَوْلِيَاءَ
إِنِ استَحَبّوا الْكفْرَ عَلى الايمَنِ وَ مَن يَتَوَلّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئك
هُمُ الظلِمُونَ (23) قُلْ إِن كانَ ءَابَاؤُكُمْ وَ أَبْنَاؤُكمْ وَ
إِخْوَنُكُمْ وَ أَزْوَجُكمْ وَ عَشِيرَتُكمْ وَ أَمْوَلٌ اقْترَفْتُمُوهَا وَ
تجَرَةٌ تخْشوْنَ كَسادَهَا وَ مَسكِنُ تَرْضوْنَهَا أَحَب إِلَيْكم مِّنَ
اللّهِ وَ رَسولِهِ وَ جِهَادٍ فى سبِيلِهِ فَترَبّصوا حَتى يَأْتىَ اللّهُ
بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ (24)
بيان
آيات تبين أن الأعمال إنما تكون حية مرضية إذا صدرت عن حقيقة الإيمان بالله و
رسوله و اليوم الآخر و إلا فإنما هي حبط لا تهدي صاحبها إلى سعادة، و إن من
لوازم الإيمان بحقيقته قصر الولاية و الحب و الوداد في الله و رسوله.
و هي ظاهرة الاتصال و الارتباط فيما بينها أنفسها، و أما اتصالها بما تقدمها من
الآيات فليس بذاك الوضوح، و ما ذكره بعض المفسرين في وجه اتصالها بما قبلها لا
يخلو من تكلف.
قوله تعالى: "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر"
العمارة ضد الخراب يقال: عمر الأرض إذا بنى بها بناء، و عمر البيت إذا أصلح ما
أشرف منها على الفساد، و التعمير بمعناه و منه العمر لأنه عمارة البدن بالروح،
و العمرة بمعنى زيارة البيت الحرام لأن فيها تعميره.
و المسجد اسم مكان بمعنى المحل الذي يتعلق به السجدة كالبيت الذي يبنى ليسجد
فيه الله تعالى، و أعضاء السجدة التي تتعلق بها السجدة نوع تعلق و هي الجبهة و
الكفان و الركبتان و رءوس إبهامي القدمين.
و قوله: "ما كان للمشركين" الآية لنفي الحق و الملك فإن اللام للملك و الحق، و
النفي الحالي للكون السابق يفيد أنه لم يتحقق منهم سبب سابق يوجب لهم أن يملكوا
هذا الحق و هو حق أن يعمروا مساجد الله و يرموا ما استرم منها أو يزوروها كقوله
تعالى: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى:" الأنفال: - 67 و قوله: "و ما كان لنبي
أن يغل:" آل عمران: - 161.
و المراد بالعمارة في قوله: "أن يعمروا" إصلاح ما أشرف على الخراب من البناء و
رم ما استرم منه دون عمارة المسجد بالزيارة فإن المراد بمساجد الله هي المسجد
الحرام و كل مسجد لله و لا عمرة في غير المسجد الحرام، و الدخول في المساجد
للعبادة فيها و إن أمكن أن يسمى عمارة و زيارة لكن التعبير المعهود من القرآن
فيه الدخول.
على أن في قوله في الآية الآتية: "أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام"
تأييدا ما لكون المراد بالعمارة هو إصلاح البناء دون زيارة البيت الحرام.
و المراد بمساجد الله بيوت العبادة المبنية لله لكن السياق يدل على أن المراد
نفي جواز عمارتهم للمسجد الحرام، و يؤيده قراءة من قرأ "أن يعمروا مسجد الله"
بالإفراد.
و لا ضير في التعبير بالجمع و المقصود الأصيل بيان حكم فرد خاص من أفراده لأن
الملاك عام، و التعليل الوارد في الآية غير مقيد بخصوص المسجد الحرام فالكلام
في معنى: ما كان لهم أن يعمروا المسجد الحرام لأنه مسجد و المساجد من شأنها
ذلك.
و قوله: "شاهدين على أنفسهم بالكفر" المراد بالشهادة أداؤها و هو الاعتراف إما
قولا كمن يعترف بالكفر لفظا، و إما فعلا كمن يعبد الأصنام و يتظاهر بكفره فكل
ذلك من الشهادة و الملاك واحد.
فمعنى الآية: لا يحق و لا يجوز للمشركين أن يرموا ما استرم من المسجد الحرام
كسائر مساجد الله و الحال أنهم معترفون بالكفر بدلالة قولهم أو فعلهم.
قوله تعالى: "أولئك حبطت أعمالهم و في النار هم خالدون" في مقام التعليل لما
أفيد من الحكم في قوله: "ما كان" إلخ و لذلك جيء به بالفصل دون الوصل.
و المراد بالجملة الأولى بيان بطلان الأثر و ارتفاعه عن أعمالهم، و العمل إنما
يؤتى به للتوسل به إلى أثر مطلوب، و إذ كانت أعمالهم حابطة لا أثر لها لم يكن
ما يجوز لهم الإتيان بها، و الأعمال العبادية كعمارة مساجد الله إنما تقصد لما
يطمع فيه و يرجى من أثرها و هو السعادة و الجنة، و العمل الحابط لا يتعقب سعادة
و لا جنة البتة.
و المراد بالجملة الثانية بيان ظرفهم الذي يستقرون فيه لو لا السعادة و الجنة و
هو النار فكأنه قيل: أولئك لا يهديهم أعمالهم العبادية إلى الجنة بل هم في
النار الخالدة، و لا تفيد لهم سعادة بل هم في الشقاوة المؤبدة.
و في الآية دلالة على أصلين لطيفين من أصول التشريع: أحدهما: أن تشريع الجواز
بالمعنى الأعم الشامل للواجبات و المستحبات و المباحات يتوقف على أثر في الفعل
ينتفع به فاعله فلا لغو مشروعا في الدين، و هذا أصل يؤيده العقل، و هو منطبق
على الناموس الجاري في الكون: أن لا فعل إلا لنفع عائد إلى فاعله.
و ثانيهما: أن الجواز في جميع موارده مسبوق بحق مجعول من الله لفاعله في أن
يأتي بالفعل من غير مانع.
قوله تعالى: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر" الآية السياق
كاشف عن أن الحصر من قبيل قصر الإفراد كان متوهما يتوهم أن للمشركين و المؤمنين
جميعا أن يعمروا مساجد الله فأفرد و قصر ذلك في المؤمنين، و لازم ذلك أن يكون
المراد بقوله: "يعمر" إنشاء الحق و الجواز في صورة الإخبار دون الإخبار، و هو
ظاهر.
و قد اشترط سبحانه في ثبوت حق العمارة و جوازها أن يتصف العامر بالإيمان بالله
و اليوم الآخر قبال ما نفى عن المشركين أن يكون لهم ذلك و لم يقنع بالإيمان
بالله وحده لأن المشركين يذعنون به تعالى بل شفع ذلك بالإيمان باليوم الآخر لأن
المشركين ما كانوا مؤمنين به، و بذلك يختص حق العمارة و جوازها بأهل الدين
السماوي من المؤمنين.
و لم يقنع بذلك أيضا بل ألحق به قوله: "و أقام الصلاة و آتى الزكاة و لم يخش
إلا الله" لأن المقام مقام بيان من ينتفع بعمله فيحق له بذلك أن يقترفه، و من
كان تاركا للفروع المشروعة في الدين و خاصة الركنين: الصلاة و الزكاة فهو كافر
بآيات الله لا ينفعه مجرد الإيمان بالله و اليوم الآخر و إن كان مسلما، إذا لم
ينكرها بلسانه، و لو أنكرها بلسانه أيضا كان كافرا غير مسلم.
و قد خص من بينها الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما الركنين الذين لا غنى عنهما
في حال من الأحوال.
و بما ذكرنا من اقتضاء المقام يظهر أن المراد بقوله: "و لم يخش إلا الله"
الخشية الدينية و هي العبادة دون الخشية الغريزية التي لا يسلم منها إلا
المقربون من أولياء الله كالأنبياء قال تعالى: "الذين يبلغون رسالات الله و
يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله:" الأحزاب: - 39.
و الوجه في التكنية عن العبادة بالخشية أن الأعرف عند الإنسان من علل اتخاذ
الإله للعبادة الخوف من سخطه أو الرجاء لرحمته و رجاء الرحمة، أيضا يعود بوجه
إلى الخوف من انقطاعها و هو السخط فمن عبد الله سبحانه أو عبد شيئا من الأصنام
فقد دعاه إلى ذلك أما الخوف من شمول سخطه أو الخوف من انقطاع نعمته و رحمته
فالعبادة ممثلة للخوف و الخشية مصداق لها لتمثيلها إياها، و بينهما حالة
الاستلزام، و لذلك كني بها عنها، فالمعنى - و الله أعلم - و لم يعبد أحدا من
دون الله من الآلهة.
و قوله: "فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين" أي أولئك الذين آمنوا بالله و
اليوم الآخر و لم يعبدوا أحدا غير الله سبحانه يرجى في حقهم أن يكونوا من
المهتدين، و هذا الرجاء قائم بأنفسهم أو بأنفس المخاطبين بالآية، و أما هو
تعالى فمن المستحيل أن يقوم به الرجاء الذي لا يتم إلا مع الجهل بتحقق الأمر
المرجو الحصول.
و إنما أخذ الاهتداء مرجو الحصول لا محقق الوقوع مع أن من آمن بالله و اليوم
الآخر حقيقة و حققه أعماله العبادية فقد اهتدى حقيقة لأن حصول الاهتداء مرة أو
مرات لا يستوجب كون العامل من المهتدين، و استقرار صفة الاهتداء و لزومها له،
فالتلبس بالفعل الواقع مرة أو مرات غير التلبس بالصفة اللازمة فأولئك حصول
الاهتداء لهم محقق، و أما حصول صفة المهتدين فهو مرجو التحقق لا محقق.
و قد تحصل من الآية أن عمارة المساجد لا تحق و لا تجوز لغير المسلم أما
المشركون فلعدم إيمانهم بالله و اليوم الآخر، و أما أهل الكتاب فلأن القرآن لا
يعد إيمانهم بالله إيمانا قال تعالى: "إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون
أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و يريدون أن يتخذوا
بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا:" النساء: - 151، و قال أيضا في آية 29 من
السورة: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم
الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب" الآية.
قوله تعالى: "أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم
الآخر و جاهد في سبيل الله" الآية، السقاية كالحكاية و الجناية و النكاية مصدر
يقال: سقى يسقي سقاية.
و السقاية أيضا الموضع الذي يسقى فيه الماء، و الإناء الذي يسقى به قال تعالى:
"جعل السقاية في رحل أخيه:" يوسف: - 70، و قد رووا في الآثار أن سقاية الحاج
كانت إحدى الشئونات الفاخرة و المآثر التي يباهى بها في الجاهلية، و أن السقاية
كانت حياضا من آدم على عهد قصي بن كلاب أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) توضع بفناء الكعبة، و يستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، و
يسقي الحاج فجعل قصي أمر السقاية عند وفاته لابنه عبد مناف و لم يزل في ولده
حتى ورثه العباس بن عبد المطلب.
و سقاية العباس هو الموضع الذي كان يسقى فيه الماء في الجاهلية و الإسلام و هو
في جهة الجنوب من زمزم بينهما أربعون ذراعا، و قد بني عليه بناء هو المعروف
اليوم بسقاية العباس.
و المراد بالسقاية في الآية - على أي حال - معناها المصدري و هو السقي، و يؤيده
مقابلتها في الآية عمارة المسجد الحرام و المراد بها المعنى المصدري قطعا بمعنى
الشغل.
و قد قوبل في الآية سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام بمن آمن بالله و اليوم
الآخر و جاهد في سبيل الله، و لا معنى لدعوى المساواة بين الإنسان و بين عمل من
الأعمال كالسقاية و العمارة أو نفيها فالمعادلة و المساواة إما بين عمل و عمل
أو بين إنسان ذي عمل و إنسان ذي عمل.
و لذلك اضطر المفسرون إلى القول بأن تقدير الكلام: أ جعلتم أهل سقاية الحاج و
أهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الآخر حتى يستقيم السياق.
و أوجب منه النظر في قيود الكلام المأخوذة في الآية الكريمة فقد أخذ في أحد
الجانبين سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام وحدهما من غير أي قيد زائد، و في
الجانب الآخر الإيمان بالله و اليوم الآخر و الجهاد في سبيل الله و إن شئت فقل:
الجهاد في سبيل الله مع اعتبار الإيمان معه.
و هو يدل على أن المراد: السقاية و العمارة خاليتين من الإيمان، و يؤيده قوله
تعالى في ذيل الآية: "و الله لا يهدي القوم الظالمين" على تقدير كونه تعريضا
لأهل السقاية و العمارة لا تعريضا لمن يسوى بينهما كما يتبادر من السياق.
و هذا يكشف أولا عن أن هؤلاء الذين كانوا يسوون بين كذا و كذا و بين كذا إنما
كانوا يسوون بين عمل جاهلي خال عن الإيمان بالله و اليوم الآخر كالسقاية و
العمارة من غير أن يكون عن إيمان، و بين عمل ديني عن إيمان بالله و اليوم الآخر
كالجهاد في سبيل الله عن إيمان، أي كانوا يسوون بين جسد عمل لا حياة فيه و بين
عمل حي طيب نفعه فأنكره الله عليهم.
و ثانيا: أن هؤلاء المسوين كانوا من المؤمنين يسوون بين عمل من غير إيمان، كان
صدر عنهم قبل الإيمان أو صدر عن مشرك غيرهم، و بين عمل صدر عن مؤمن بالله عن
محض الإيمان حال إيمانه كما يشهد به سياق الإنكار و بيان الدرجات في الآيات.
بل يشعر بل يدل ذكر نفس السقاية و العمارة من غير ذكر صاحبهما على أن صاحبيهما
كانا من أهل الإيمان عند التسوية فلم يذكرا حفظا لكرامتهما و هما مؤمنان حين
الخطاب و وقاية لهما بالنظر إلى التعريض الظاهر الذي في آخر الآية من أن يسميا
ظالمين.
بل يدل قوله تعالى في الآية التالية في مقام بيان أجر هؤلاء المجاهدين في سبيل
الله عن إيمان: "الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله" على أن طرفي
التسوية في قوله: "أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن" الآية
كانا من أهل مكة، و أن أهل أحد الطرفين و هو الذي آمن و جاهد كان ممن أسلم و
هاجر، و أهل الطرف الآخر أسلم و لم يهاجر فإن هذا هو الوجه في ذكره تعالى أولا
الإيمان و الجهاد في أحد الطرفين ثم إضافة الهجرة إلى ذلك عند ما أعيد ثانيا، و
قد ذكر تعالى السقاية و العمارة في الجانب الآخر و لم يزد على ذلك شيئا لا أولا
و لا ثانيا فما هذه القيود بلاغية في قوله الفصل.
و هذا كله يؤيد ما ورد في سبب نزول الآية أن الآيات نزلت في العباس و شيبة و
علي (عليه السلام) حين تفاخروا فذكر العباس سقاية الحاج، و شيبة عمارة المسجد
الحرام، و على الإيمان و الجهاد في سبيل الله فنزلت الآيات و ستجيء الرواية في
البحث الروائي المتعلق بالآيات.
و كيف كان فالآية و ما يتلوها من الآيات تبين أن الزنة و القيمة إنما هو للعمل
إذا كان حيا بولوج روح الإيمان فيه و أما الجسد الخالي الذي لا روح فيه و لا
حياة له فلا وزن له في ميزان الدين و لا قيمة له في سوق الحقائق فليس للمؤمنين
أن يعتبروا مجرد هياكل الأعمال، و يجعلوها ملاكات للفضل و أسبابا للقرب منه
تعالى إلا بعد اعتبار حياتها بالإيمان و الخلوص.
و من هذه الجهة ترتبط الآية: "أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام" و ما
بعدها من الآيات بالآيتين اللتين قبلها: "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله
شاهدين على أنفسهم بالكفر" إلى آخر الآيتين.
و بذلك كله يظهر أولا أن قوله: "و الله لا يهدي القوم الظالمين" جملة حالية
تبين وجه الإنكار لحكمهم بالمساواة في قوله: "أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة
المسجد الحرام كمن آمن" الآية.
و ثانيا: أن المراد بالظلم هو ما كانوا عليه من الشرك في حال السقاية و العمارة
لا حكمهم بالمساواة بين السقاية و العمارة و بين الجهاد عن إيمان.
و ثالثا: أن المراد نفي أن ينفعهم العمل و يهديهم إلى السعادة التي هي عظم
الدرجة و الفوز و الرحمة و الرضوان و الجنة الخالدة.
قوله تعالى: "الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم"
إلى آخر الآية بيان لحق الحكم الذي عند الله في المسألة بعد إنكار المساواة، و
هو أن الذي آمن و هاجر و جاهد في سبيل الله ما استطاع ببذل ما عنده من مال و
نفس، أعظم درجة عند الله و إنما عبر في صورة الجمع - الذين آمنوا إلخ - إشارة
إلى أن ملاك الفصل هو الوصف دون الشخص.
و ما تقدم من دلالة الكلام على أن الأعمال من غير إيمان بالله لا فضل لها و لا
درجة لصاحبها عند الله، قرينة على أن ليس المراد بالقياس الذي يدل عليه أفعل
التفضيل في قوله: "أعظم درجة" إلخ هو أن بين الفريقين اشتراكا في الدرجات غير
أن درجة من جاهد عن إيمان أعظم ممن سقى و عمر.
بل المراد بيان أن النسبة بينهما نسبة الأفضل إلى من لا فضل له كالمقايسة
المأخوذة بين الأكثر و الأقل فإنها تستدعي وجود حد متوسط بينهما يقاسان إليه
فهناك ثلاثة أمور أمر متوسط يؤخذ مقياسا معدلا و آخر يكون أكثر منه، و آخر يكون
أقل منه فإذا قيس الأكثر من الأقل كان الأكثر مقيسا إلى ما لا كثرة فيه أصلا.
فقوله: "أعظم درجة عند الله" أي بالقياس إلى هؤلاء الذين لا درجة لهم أصلا، و
هذا نوع من الكناية عن أن لا نسبة حقيقة بين الفريقين لأن أحدهما ذو قدم رفيع
فيما لا قدم للآخر فيه أصلا.
و يدل على ذلك أيضا قوله: "و أولئك هم الفائزون" بما يدل على انحصار الفوز فيهم
و ثبوتها لهم على نهج الاستقرار.
قوله تعالى: "يبشرهم ربهم برحمة منه و رضوان و جنات" إلى آخر الآيتين ظاهر
السياق أن ما يعده من الفضل في حقهم بيان و تفصيل لما ذكر في الآية السابقة من
فوزهم جيء به بلسان التبشير.
فالمعنى "يبشرهم" أي هؤلاء المؤمنين "ربهم برحمة منه" عظيمة لا يقدر قدرها "و
رضوان" كذلك "و جنات لهم فيها" في تلك الجنات "نعيم مقيم" لا يزول و لا ينفد
حالكونهم "خالدين فيها أبدا" لا ينقطع خلودهم بأجل و لا أمد.
ثم لما كان المقام مقام التعجب و الاستبعاد لكونها بشارة بأمر عظيم لم يعهد في
ما نشاهده من أنواع النعيم الذي في الدنيا، رفع الاستبعاد بقوله: "إن الله عنده
أجر عظيم".
و سيوافيك الكلام في توضيح معنى رحمته تعالى و رضوانه فيما سيمر من موضع مناسب
و قد تقدم بعض الكلام فيهما.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم و إخوانكم أولياء" إلى آخر
الآية نهى عن تولي الكفار و لو كانوا آباء و إخوانا فإن الملاك عام، و الآية
التالية تنهى عن تولي الجميع غير أن ظاهر لفظ الآية النهي عن اتخاذ الآباء و
الإخوان أولياء إن استحبوا الكفر و رجحوه على الإيمان.
و إنما ذكر الآباء و الإخوان دون الأبناء و الأزواج مع كون القبيلين و خاصة
الأبناء محبوبين عندهم كالآباء و الإخوان لأن التولي يعطي للولي أن يداخل أمور
وليه و يتصرف في بعض شئون حياته، و هذا هو المحذور الذي يستدعي النهي عن تولي
الكفار حتى لا يداخلوا في أمورهم الداخلية و لا يأخذوا بمجامع قلوبهم، و لا يكف
المؤمنون و لا يستنكفوا عن الإقدام فيما يسوؤهم و يضرهم، و من المعلوم أن
النساء و الذراري لا يترقب منهم هذا الأثر السيىء إلا بواسطة، فلذلك خص النهي
عن التولي بالآباء و الإخوان فهم الذين يخاف نفوذهم في قلوب المؤمنين و تصرفهم
في شئونهم.
و قد ورد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء في مواضع من كلامه تقدم بعضها في سورة
المائدة و آل عمران و النساء و الأعراف و فيها إنذار شديد و تهديدات بالغة
كقوله تعالى: "و من يتولهم منكم فإنه منهم:" المائدة: - 51، و قوله: "و يحذركم
الله نفسه": آل عمران: - 28، و قوله: "و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء:" آل
عمران: - 28، و قوله: "أ تريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا:" النساء: -
144.
و أنذرهم في الآية التي نحن فيها بقوله: "و من يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون"
و لم يقل: "و من يتولهم منكم فإنه منهم" إذ من الجائز أن يتوهم بعض هؤلاء أنه
منهم لأنهم آباؤه و إخوانه فلا يؤثر فيه التهديد أثرا جديدا يبعثه نحو رفض
الولاية.
و كيف كان فقوله: "و من يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون" بما في الجملة من
المؤكدات كاسمية الجملة، و دخول اللام على الخبر و ضمير الفصل يفيد تحقق الظلم
منهم و استقراره فيهم، و قد كرر الله في كلامه أن الله لا يهدي القوم الظالمين،
و قال في نظير الآية من سورة المائدة: "و من يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا
يهدي القوم الظالمين" فهؤلاء محرومون من الهداية الإلهية لا ينفعهم شيء من
أعمالهم الحسنة في جلب السعادة إليهم، و السماحة بالفوز و الفلاح عليهم.
قوله تعالى: "قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم" إلى آخر الآية التفت من
مخاطبتهم إلى مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيماء إلى الإعراض عنهم
لما يستشعر من حالهم أن قلوبهم مائلة إلى الاشتغال بما لا ينفع معه النهي عن
تولي آبائهم و إخوانهم الكافرين، و إيجاد الداعي في نفوسهم إلى الصدور عن أمر
الله و رسوله، و قتال الكافرين جهادا في سبيل الله و إن كانوا آباءهم و
إخوانهم.
و الذي يمنعهم من ذلك هو الحب المتعلق بغير الله و رسوله و الجهاد في سبيل
الله، و قد عد الله سبحانه أصول ما يتعلق به الحب النفساني من زينة الحياة
الدنيا، و هي الآباء و الأبناء و الإخوان و الأزواج و العشيرة - و هؤلاء هم
الذين يجمعهم المجتمع الطبيعي بقرابة نسبية قريبة أو بعيدة أو سببية - و
الأموال التي اكتسبوها و جمعوها، و التجارة التي يخشون كسادها و المساكن التي
يرضونها - و هذه أصول ما يقوم به المجتمع في المرتبة الثانية -.
و ذكر تعالى أنهم إن تولوا أعداء الدين، و قدموا حكم هؤلاء الأمور على حب الله
و رسوله و الجهاد في سبيله فليتربصوا و لينتظروا حتى يأتي الله بأمره و الله لا
يهدي القوم الفاسقين.
و من المعلوم أن الشرط أعني قوله: "إن كان آباؤكم" إلى قوله: "في سبيله" في
معنى أن يقال: إن لم تنتهوا عما ينهاكم عنه من اتخاذ الآباء و الإخوان الكافرين
أولياء باتخاذكم سببا يؤدي إلى خلاف ما يدعوكم إليه، و إهمالكم في أمر غرض
الدين و هو الجهاد في سبيل الله.
فقوله في الجزاء: "فتربصوا حتى يأتي الله بأمره" لا محالة إما أمر يتدارك به ما
عرض على الدين من ثلمة و سقوط غرض في ظرف مخالفتهم، و إما عذاب يأتيهم عن
مخالفة أمر الله و رسوله و الإعراض عن الجهاد في سبيله.
غير أن قوله تعالى في ذيل الآية: "و الله لا يهدي القوم الفاسقين" يعرض لهم
أنهم خارجون حينئذ عن زي العبودية، فاسقون عن أمر الله و رسوله فهم بمعزل من أن
يهديهم الله بأعمالهم و يوفقهم لنصرة الله و رسوله، و إعلاء كلمة الدين و إمحاء
آثار الشرك.
فذيل الآية يهدي إلى أن المراد بهذا الأمر الذي يأمرهم الله أن يتربصوا له حتى
يأتي به أمر منه تعالى، متعلق بنصرة دينه و إعلاء كلمته فينطبق على مثل قوله
تعالى في سورة المائدة بعد آيات ينهى فيها عن تولي الكافرين: "يا أيها الذين
آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على
المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم:" المائدة: - 54.
و الآية بقيودها و خصوصياتها - كما ترى - تنطبق على ما تفيده الآية التي نحن
فيها.
فالمراد - و الله أعلم - إن اتخذتم هؤلاء أولياء، و استنكفتم عن إطاعة الله و
رسوله و الجهاد في سبيل الله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، و يبعث قوما لا
يحبون إلا الله، و لا يوالون أعداءه و يقومون بنصرة الدين و الجهاد في سبيل
الله أفضل قيام فإنكم إذا فاسقون لا ينتفع بكم الدين، و لا يهدي الله شيئا من
أعمالكم إلى غرض حق و سعادة مطلوبة.
و ربما قيل: إن المراد بقوله: "فتربصوا حتى يأتي الله بأمره" الإشارة إلى فتح
مكة، و ليس بسديد فإن الخطاب في الآية للمؤمنين من المهاجرين و الأنصار و خاصة
المهاجرين، و هؤلاء هم الذين فتح الله مكة بأيديهم، و لا معنى لأن يخاطبوا و
يقال لهم: إن كان آباؤكم و أبناؤكم "إلخ" أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في
سبيله فواليتموهم و استنكفتم عن إطاعة الله و رسوله و الجهاد في سبيله فتربصوا
حتى يفتح الله مكة بأيديكم و الله لا يهدي القوم الفاسقين، أو فتربصوا حتى يفتح
الله مكة و الله لا يهديكم لمكان فسقكم فتأمل.
بحث روائي في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: "أ جعلتم سقاية الحاج" الآية: عن أمالي
الشيخ بإسناده عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر في حديث
الشورى: فيما احتج به علي (عليه السلام) على القوم: و قال لهم في ذلك: فهل فيكم
أحد نزلت فيه هذه الآية "أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام - كمن آمن
بالله و اليوم الآخر و جاهد في سبيل الله" غيري؟ قالوا: لا و في تفسير القمي،
قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزلت هذه الآية في
علي بن أبي طالب (عليه السلام): "الذين آمنوا و هاجروا إلى قوله الفائزون" ثم
وصف ما لعلي (عليه السلام) عنده فقال. يبشرهم ربهم برحمة منه و رضوان و جنات
لهم فيها نعيم مقيم".
و في المجمع، روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه
قال: بينما شيبة و العباس يتفاخران إذ مر عليهما علي بن أبي طالب قال: بما
تفتخران؟ قال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد سقاية الحاج، و قال
شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام، و قال علي: و أنا أقول لكما لقد أوتيت على
صغري ما لم تؤتيا فقالا: و ما أوتيت يا علي؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتى
آمنتما بالله تبارك و تعالى و رسوله. فقام العباس مغضبا يجر ذيله حتى دخل على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أ ما ترى ما استقبلني به علي؟ فقال:
ادعوا لي عليا، فدعي له فقال: ما حملك يا علي على ما استقبلت به عمك؟ فقال: يا
رسول الله صدقته الحق فإن شاء فليغضب، و إن شاء فليرض. فنزل جبرئيل (عليه
السلام) و قال: يا محمد ربك يقرأ عليك السلام و يقول: اتل عليهم: "أ جعلتم
سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام - كمن آمن بالله و اليوم الآخر" إلى قوله:
"إن الله عنده أجر عظيم".
و في تفسير الطبري، بإسناده عن محمد بن كعب القرظي قال: افتخر طلحة بن شيبة و
العباس و علي بن أبي طالب فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، و قال العباس:
و أنا صاحب السقاية و القائم عليها، فقال علي: ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى
القبلة ستة أشهر قبل الناس، و أنا صاحب الجهاد، فأنزل الله: "أ جعلتم سقاية
الحاج" الآية كلها. و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي عن ابن سيرين قال: قدم
علي بن أبي طالب مكة فقال للعباس: أي عم أ لا تهاجر؟ أ لا تلحق برسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: أعمر المسجد الحرام و أحجب البيت فأنزل الله: "أ
جعلتم سقاية الحاج" الآية، و قال لقوم قد سماهم: أ لا تهاجرون؟ أ لا تلحقون
برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا و عشائرنا و
مساكننا فأنزل الله تعالى: "قل إن كان آباؤكم" الآية كلها و فيه، أخرج ابن جرير
و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن
كنتم سبقتمونا بالإسلام و الهجرة و الجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام و نسقي
الحاج و نفك العاني فأنزل الله: "أ جعلتم سقاية الحاج" الآية، يعني أن ذلك كان
في الشرك فلا أقبل ما كان في الشرك. و فيه، أخرج مسلم و أبو داود و ابن جرير و
ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه عن
النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفر
من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن
أسقي الحاج، و قال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، و قال آخر: بل الجهاد في سبيل
الله خير مما قلتم. فزجرهم عمر و قال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، و ذلك يوم الجمعة، و لكن إذا صليتم الجمعة دخلت على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله:
"أ جعلتم سقاية الحاج" إلى قوله: "و الله لا يهدي القوم الظالمين".
أقول: قال صاحب المنار في تفسيره بعد إيراد هذه الروايات الأربع الأخيرة: و
المعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده و موافقة متنه لما دلت عليه
الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت و حجابته - من
أعمال البر البدنية الهينة المستلذة - و بين الإيمان و الجهاد بالمال و النفس و
الهجرة، و هي أشق العبادات النفسية البدنية المالية، و الآيات تتضمن الرد عليها
كلها.
انتهى.
أما ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها بصحة السند ففيه أولا أن رواية
القرظي أيضا في مضمونها موافقة لرواية الحاكم في المستدرك و قد صححها.
و ثانيا: أن روايات التفسير إذا كانت آحادا لا حجية لها إلا ما وافق مضامين
الآيات بقدر ما يوافقها على ما بين في فن الأصول فإن الحجية الشرعية تدور مدار
الآثار الشرعية المترتبة فتنحصر في الأحكام الشرعية و أما ما وراءها كالروايات
الواردة في القصص و التفسير الخالي عن الحكم الشرعي فلا حجية شرعية فيها.
و أما الحجية العقلية أعني العقلائية فلا مسرح لها بعد توافر الدس و الجعل في
الأخبار سيما أخبار التفسير و القصص إلا ما تقوم قرائن قطعية يجوز التعويل
عليها على صحة متنه، و من ذلك موافقة متنه لظواهر الآيات الكريمة.
فالذي يهم الباحث عن الروايات غير الفقهية أن يبحث عن موافقتها للكتاب فإن
وافقتها فهي الملاك لاعتبارها و لو كانت مع ذلك صحيحة السند فإنما هي زينة زينت
بها و إن لم توافق فلا قيمة لها في سوق الاعتبار.
و أما ترك البحث عن موافقة الكتاب، و التوغل في البحث عن حال السند - إلا ما
كان للتوسل إلى تحصيل القرائن - ثم الحكم باعتبار الرواية بصحة سندها ثم تحميل
ما يدل عليه متن الرواية على الكتاب، و اتخاذه تبعا لذلك كما هو دأب كثير منهم
فمما لا سبيل إليه من جهة الدليل.
و أما ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها من جهة المتن مبينا ذلك بأن
الآيات تدل على أن موضوع المساواة أو المفاضلة كان بين خدمة البيت أو حجابته و
هي من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة، و بين الإيمان و الجهاد و الهجرة و
هي من أعمال البر النفسية و البدنية الشاقة، و الآيات تتضمن الرد عليها كلها.
انتهى.
ففيه أولا: أن الذي ذكره من مدلول الآيات مشترك بين جميع ما أورده من الروايات:
أما رواية ابن عباس التي مضمونها وقوع الكلام في المساواة أو المفاضلة حين أسر
العباس يوم بدر بين العباس و بين المسلمين حيث عيروه فقد ذكر فيها صريحا
المقايسة بين الإسلام و الهجرة و الجهاد و بين سقاية الحاج و عمارة المسجد و فك
العاني، و هناك روايات أخر في معناه.
و أما رواية ابن سيرين الدالة على وقوع النزاع بين علي و العباس بمكة حين دعاه
إلى الهجرة و اللحوق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجابه بأن له عمارة
المسجد الحرام و حجابة البيت و قد روى هذا المعنى ابن مردويه عن الشعبي و فيها:
أن العباس قال لعلي: أنا عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أنت ابن عمه، و
إلي سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام، فأنزل الله: "أ جعلتم سقاية الحاج"
الآية. و رواه أيضا ابن أبي شيبة و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عبد الله بن
عبيدة و فيها: أن العباس قال لعلي: أ و لست في أفضل من الهجرة؟ أ لست أسقي
الحاج و أعمر المسجد الحرام فنزلت هذه الآية.
و على أي حال فالواقع في هذه الرواية أيضا المقايسة بين السقاية و العمارة و
بين الهجرة و ما يترتب عليا مما يستلزمه اللحوق بالنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) كالجهاد و غيره من الأعمال الشريفة الدينية.
و أما رواية القرظي و ما في معناها كالذي رواه الحاكم و صححه، و ما رواه عبد
الرزاق عن الحسن قال: نزلت في علي و العباس و عثمان و شيبة تكلموا في ذلك، و
كذا رواية النعمان التي تقدمت فكون المنازعة فيها في السقاية و العمارة و
الإيمان و الجهاد ظاهر فإذا كان الحال هذا الحال فأي مزية في رواية النعمان بن
بشير توجب اختصاصها بموافقة الكتاب من بين سائر الروايات.
و ثانيا: أن قوله: إن موضوع المفاضلة هي أعمال البر الهينة المستلذة كالسقاية و
الحجابة و أعمال البر الشاقة كالإيمان و الهجرة و الجهاد لا يوافق ما يدل عليه
الآيات فإنها كما تقدم ظاهرة الدلالة على أن المقايسة كانت بينهم بين أجساد
الأعمال الخالية عن روح الإيمان و ليست من البر حينئذ و بين أعمال حية بولوج
روح الإيمان فيها كالهجرة و الجهاد عن إيمان بالله و اليوم الآخر.
فالآيات تدل على أنهم كانوا يسوون أو يفضلون غير أعمال البر كالسقاية و العمارة
من غير إيمان على أعمال البر كالجهاد عن إيمان و هجرة و الهجرة عن إيمان فأين
ما ذكره من أعمال البر الهينة قبال أعمال البر الشاقة؟ و دلالة الآيات - بما
فيها من القيود المأخوذة - على ذلك بمكان من الظهور و الجلاء فقد قيد الجهاد
فيها بالإيمان بالله و اليوم الآخر، و أطلق السقاية و العمارة من غير تقييد
بالإيمان ثم قال تعالى: "لا يستوون عند الله" ثم زاد: "و الله لا يهدي القوم
الظالمين" و حاشا أن يكون الآتي بأعمال البر عند الله من القوم الظالمين
المحرومين عن نعمة الهداية الإلهية.
حتى لو فرض أن المراد بالظالمين أولئك المسوون أو المفضلون من المؤمنين للسقاية
و العمارة على الجهاد فإن المؤمن على إيمانه إذا حكم بمثل هذا الحكم فإنما هو
خاط يهتدي إذا دل على الصواب لا ظالم محروم من الهداية فافهم ذلك.
و ثالثا: ما تقدم من أن قوله: "كمن آمن بالله" الآية و قوله: "لا يستوون" الآية
دليل على أن للشخص دخلا فيما تتضمن الآيات من الحكم.
و التدبر في الآيات الكريمة و التأمل فيما ذكرناه هنا و هناك يوضح للباحث
الناقد أن أضعف الروايات و أبعدها من الانطباق على مضمون الآيات هي رواية
النعمان بن بشير فإنها لا تقبل الانطباق على الآيات الكريمة بما فيها من القيود
المأخوذة.
و يليها في الضعف رواية ابن سيرين و ما في معناها من الروايات فإن ظاهرها أن
العباس إنما دعي إلى الهجرة و هو مسلم فافتخر بالسقاية و الحجابة و الآيات لا
تساعد على ذلك كما مر.
على أن الواقع في رواية ابن سيرين ذكر العباس للسقاية و حجابة البيت و لم يكن
له حجابة إنما هي السقاية.
و يليها في الضعف رواية ابن عباس فظاهرها أن المقايسة إنما كانت بين الأعمال
فقط و الآية لا تساعد على ذلك.
على أن فيها أن العباس ذكر فيما ذكر سقاية الحاج و عمارة المسجد و فك العاني و
هو الأسير.
و لو كان لذكر في الآية، و قد وقع في رواية ابن جرير و أبي الشيخ عن الضحاك في
هذا المعنى قال: أقبل المسلمون على العباس و أصحابه الذين أسروا يوم بدر
يعيرونهم بالشرك. فقال العباس: أما و الله لقد كنا نعمر المسجد الحرام، و نفك
العاني، و نحجب البيت و نسقي الحاج فأنزل الله: "أ جعلتم سقاية الحاج" الآية، و
الكلام في فك العاني و حجابة البيت الواقعين فيها كالكلام في سابقها.
فأسلم الروايات في الباب و أقربها إلى الانطباق على الآيات مضمونا رواية القرظي
و ما في معناها كرواية الحاكم في المستدرك و رواية عبد الرزاق عن الحسن و رواية
أبي نعيم و ابن عساكر عن أنس الآتية و قد تقدم توضيح ذلك.
و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة و ابن عساكر عن أنس قال:
قعد العباس و شيبة صاحب البيت يفتخران فقال العباس: أنا أشرف منك أنا عم رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و وصي أبيه، و ساقي الحجيج، فقال شيبة: أنا
أشرف منك أنا أمين الله على بيته و خازنه أ فلا ائتمنك كما ائتمنني؟. فاطلع
عليهما علي فأخبراه بما قالا فقال علي: أنا أشرف منكما أنا أول من آمن و هاجر
فانطلق ثلاثتهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه فما أجابهم بشيء
فانصرفوا فنزل عليه الوحي بعد أيام فأرسل إليهم فقرأ عليهم: "أ جعلتم سقاية
الحاج و عمارة المسجد الحرام" إلى آخر العشر. و في تفسير القمي، عن أبيه عن
صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: نزلت في علي و
العباس و شيبة. قال العباس: أنا أفضل لأن سقاية الحاج بيدي، و قال شيبة: أنا
أفضل لأن حجابة البيت بيدي، و قال علي: أنا أفضل فإني آمنت قبلكما ثم هاجرت و
جاهدت فرضوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: "أ جعلتم سقاية
الحاج إلى قوله - إن الله عنده أجر عظيم": أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير عن
أبي عبد الله (عليه السلام) مثله، و فيه عثمان بن أبي شيبة مكان شيبة.
و في الكافي، عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى عن
ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام): في قول الله: "أ جعلتم سقاية
الحاج و عمارة المسجد الحرام - كمن آمن بالله و اليوم الآخر" نزلت في حمزة و
علي و جعفر و العباس و شيبة، إنهم فخروا بالسقاية و الحجابة فأنزل الله عز
ذكره: "أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام - كمن آمن بالله و اليوم
الآخر" و كان علي و حمزة و جعفر هم الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و جاهدوا
في سبيل الله. لا يستوون عند الله: أقول: و رواه أيضا العياشي في تفسيره عن أبي
بصير عن أحدهما (عليهما السلام) مثله.
و الرواية لا تلائم ما يثبته النقل القطعي فقد كان حمزة من المهاجرين الأولين
لحق برسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم استشهد في غزوة أحد في السنة الثالثة
من الهجرة، و قد كان جعفر هاجر إلى الحبشة قبل هجرة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ثم رجع إلى المدينة أيام فتح خيبر و قد استشهد حمزة قبل ذلك بمدة فلو كان
من الخمسة اجتماع على التفاخر فقد كان قبل الهجرة النبوية و حينئذ فما معنى ما
وقع في الرواية: "و كان علي و حمزة و جعفر هم الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر
و جاهدوا في سبيل الله"؟.
و إن كان المراد بالنزول فيهم انطباق الآية عليهم على سبيل الجري فقد كان
العباس مثلهم فإنه آمن يوم أسر ببدر ثم حضر بعض غزوات النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم).
و في تفسير البرهان، عن الجمع بين الصحاح الستة للعبدي في الجزء الثاني من صحيح
النسائي بإسناده قال: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار و العباس بن عبد
المطلب و علي بن أبي طالب فقال طلحة: بيدي مفتاح البيت و لو أشاء بت فيه، و قال
العباس: أنا صاحب السقاية و القائم عليها و لو أشاء بت في المسجد، و قال علي:
ما أدري ما تقولان؟ لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس و أنا صاحب الجهاد
فأنزل الله: "أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام" الآية.
أقول: المراد بالصلاة ستة أشهر قبل الناس التقدم في الإيمان بالله على ما تعرضت
له الآية و إلا كان من الواجب أن تذكر في الآية، و قد ذكر ثالث القوم طلحة بن
شيبة، و قد تقدم في بعضها أنه شيبة، و في بعضها أنه عثمان بن أبي شيبة.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): في
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا - لا تتخذوا آباءكم و إخوانكم أولياء - إن
استحبوا الكفر على الإيمان" قال: الإيمان ولاية علي بن أبي طالب.
أقول: هو من باطن القرآن مبني على تحليل معنى الإيمان إلى مراتب كماله.
و في تفسير القمي،: لما أذن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد
ذلك جزعت قريش جزعا شديدا، و قالوا: ذهبت تجارتنا و ضاعت عيالنا و خربت دورنا
فأنزل الله في ذلك: "قل يا محمد إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و
عشيرتكم إلى قوله و الله لا يهدي القوم الفاسقين".
أقول: و على هذا كان من الجري أن يفسر قوله في الآية: "حتى يأتي الله بأمره"
بتدارك ما ينزل بهم من الكساد و فتح باب الرزق عليهم من وجه آخر كما وقع مثله
في قوله تعالى في ضمن الآيات التالية: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس
فلا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا و إن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من
فضله إن شاء إن الله عليم حكيم:" التوبة: - 28.
بل اتحد حينئذ موردا الآيتين، و لسان الرفق و كرامة الخطاب بمثل قوله: "يا أيها
الذين آمنوا" يأبى أن يكون الخطاب بقوله: "إن كان آباؤكم و أبناؤكم" الآية
متوجها إليهم بأعيانهم على ما في آخرها من الخشونة في قوله: "و الله لا يهدي
القوم الفاسقين".
على أن الآية تذكر حب الآباء و الإخوان و العشيرة و الأموال التي اقترفوها، و
لم يذكر شيء منها في الرواية، و لا حسبت قريش ضيعة بالنسبة إليها فما معنى
ذكرها في الآية و التهديد على اختيار حبها على حب الله و رسوله؟ و ما معنى ذكر
الجهاد في سبيله في الآية؟ فافهم ذلك.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: و الله لأنت
يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه.
9 سورة التوبة - 25 - 28
لَقَدْ نَصرَكمُ اللّهُ فى مَوَاطِنَ كثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَينٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكمْ كَثرَتُكمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكمْ شيْئاً وَ ضاقَت عَلَيْكمُ
الأَرْض بِمَا رَحُبَت ثمّ وَلّيْتُم مّدْبِرِينَ (25) ثمّ أَنزَلَ اللّهُ
سكِينَتَهُ عَلى رَسولِهِ وَ عَلى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنزَلَ جُنُوداً لّمْ
تَرَوْهَا وَ عَذّب الّذِينَ كَفَرُوا وَ ذَلِك جَزَاءُ الْكَفِرِينَ (26) ثُمّ
يَتُوب اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِك عَلى مَن يَشاءُ وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ
(27) يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِنّمَا الْمُشرِكُونَ نجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَ إِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً فَسوْف يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضلِهِ إِن شاءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ
حَكيمٌ (28)
بيان
تشير الآيات إلى قصة غزوة حنين و تمتن بما نصر الله فيه المؤمنين كسائر المواطن
من الغزوات التي نصرهم الله بعجيب نصرته على ضعفهم و قلتهم، و أظهر أعاجيب
آياته بتأييد نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و إنزال جنود لم يروها و إنزال
السكينة على رسوله و المؤمنين و تعذيب الكافرين بأيدي المؤمنين.
و فيها الآية التي تحرم على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام بعد عام تسع من
الهجرة، و هي العام الذي أذن فيه علي (عليه السلام) ببراءة، و منع طواف البيت
عريانا، و دخول المشركين في المسجد الحرام.
قوله تعالى: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة و يوم حنين - إلى قوله - ثم وليتم
مدبرين" المواطن جمع موطن و هو الموضع الذي يسكنه الإنسان و يتوطن فيه.
و حنين اسم واد بين مكة و الطائف وقع فيه غزوة حنين قاتل فيه النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) هوازن و ثقيف و كان يوما شديدا على المسلمين انهزموا أولا ثم
أيدهم الله بنصره فغلبوا.
و الإعجاب الإسرار و العجب سرور النفس بما يشاهده نادرا، و الرحب السعة في
المكان و ضده الضيق.
و قوله: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة" ذكر لنصرته تعالى لهم في مواطن كثيرة
و مواضع متعددة يدل السياق على أنها مواطن الحروب كوقائع بدر و أحد و الخندق و
خيبر و غيرها، و يدل السياق أيضا أن الجملة كالمقدمة الممهدة لقوله: "و يوم
حنين إذ أعجبتكم كثرتكم" الآية فإن الآيات الثلاث مسوقة لتذكير قصة وقعة حنين،
و عجيب ما أفاض الله عليهم من نصرته و خصهم به من تأييده فيها.
و قد استظهر بعض المفسرين كون الآية و ما يتلوها إلى تمام الآيات الثلاث تتمة
لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أمره ربه أن يواجه به المؤمنين في
قوله: "قل إن كان آباؤكم" الآية و تكلف في توجيه الفصل الذي في قوله: "لقد
نصركم الله في مواطن كثيرة".
و لا دليل من جهة اللفظ على ذلك بل الدليل على خلافه فإن قصة حنين و ما يشتمل
عليه من الامتنان بنصر الله و إنزال السكينة و إنزال الجنود و تعذيب الكافرين و
التوبة على من يشاء أمر مستقل في نفسه ذو أهمية في ذاته و هو أهم هدفا من قوله
تعالى: "قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم" الآية أو هو مثله لا يقصر عنه فلا معنى
لاتباعه إياه و عطفه عليه في المعنى.
و حينئذ لو كان مما يجب أن يخاطب به القوم لكان من الواجب أن يقال.
و قل لهم لقد نصركم الله في مواطن كثيرة الآية، على ما جرى عليه القرآن في
نظائره كقوله تعالى: "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد -
إلى أن قال - قل أ إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين:" حم السجدة: - 9 و
غيره من الموارد.
على أن سياق الآيات و ما يجب أن تشتمل عليه من الالتفات و غيره - لو كانت
الآيات مقولة للقول - لا تلائم كونها مقولة للقول السابق.
و الخطاب في قوله: "لقد نصركم الله" و ما يتلوه من قوله: "إذ أعجبتكم كثرتكم"
الآية، للمسلمين و هم الذين يؤلفون مجتمعا إسلاميا واحدا حضروا بوحدتهم هذه
الوحدة أمثال وقائع بدر و أحد و الخندق و خيبرا و حنينا و غيرها.
و هؤلاء فيهم المنافقون و الضعفاء في الإيمان و المؤمنون صدقا على اختلافهم في
المنازل إلا أن الخطاب متوجه إلى الجميع باعتبار اشتماله على من يصح أن يخاطب
بمثل قوله: "إذ أعجبتكم كثرتكم" إلى آخر الآية.
و قوله: "و يوم حنين" أي و يوما وقعت فيه القتال بينكم و بين أعدائكم بوادي
حنين، و إضافة اليوم إلى أمكنة الوقائع العظيمة شائع في العرف كما يقال: يوم
بدر و يوم أحد و يوم الخندق نظير إضافته إلى الجماعة المتلبسين بذلك كيوم
الأحزاب و يوم تميم، و إضافته إلى نفس الحادثة كيوم فتح مكة.
و قوله: "إذ أعجبتكم كثرتكم" أي أسرتكم الكثرة التي شاهدتموها في أنفسكم
فانقطعتم عن الاعتماد بالله و الثقة بأيده و قوته و استندتم إلى الكثرة فرجوتم
أن ستدفع عنكم كيد العدو و تهزم جمعهم، و إنما هو سبب من الأسباب الظاهرية لا
أثر فيها إلا ما شاء الله الذي إليه تسبيب الأسباب.
و بالنظر إلى هذا المعنى أردف قوله: "إذ أعجبتكم كثرتكم" بقوله: "فلم تغن عنكم
شيئا" أي اتخذتموها سببا مستقلا دون الله فأنساكم الاعتماد بالله، و ركنتم
إليها فبان لكم ما في وسع هذا السبب الموهوم و هو أن لا غنى عنده حتى يغنيكم
فلم يغن عنكم شيئا لا نصرا و لا شيئا آخر.
و قوله: "و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت" أي مع ما رحبت، و هو كناية عن إحاطة
العدو بهم إحاطة لا يجدون مع ذلك مأمنا من الأرض يستقرون فيه و لا كهفا يأوون
إليه فيقيهم من العدو، أي فررتم فرارا لا تلوون على شيء.
فهو قريب المعنى من قوله تعالى في قصة الأحزاب: "إذ جاءوكم من فوقكم و من أسفل
منكم و إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنون بالله الظنونا":
الأحزاب: - 10.
و قول بعضهم: أي ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا موضعا تفرون إليه.
غير سديد.
و قوله: "ثم وليتم مدبرين" أي جعلتم العدو يلي أدباركم و هو كناية عن الانهزام
و هذا هو الفرار من الزحف ساقهم إليه اطمئنانهم بكثرتهم و الانقطاع من ربهم،
قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم
الأدبار و من يولهم يومئذ دبره - إلى أن قال - فقد باء بغضب من الله و مأواه
جهنم و بئس المصير:" الأنفال: - 16 و قال: "و لقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا
يولون الأدبار و كان عهد الله مسئولا:" الأحزاب: - 15.
فهذا كله أعني ضيق الأرض عليهم بما رحبت ثم انهزامهم و فرارهم من الزحف على ما
فيه من كبير الإثم، و وقوفهم هذا الموقف الذي يستتبع العتاب من ربهم إنما ساقهم
إليه اعتمادهم و اطمئنانهم إلى هذه الأسباب السرابية التي لا تغني عنهم شيئا.
و الله سبحانه بسعة رحمته و عظم منه امتن عليهم بنصره و إنزال سكينته و إنزال
جنود لم يروها، و تعذيب الكافرين و وعد مجمل بمغفرته وعدا ليس بالمقطوع وجوده
حتى تبطل به صفة الخوف من قلوبهم، و لا بالمقطوع عدمه حتى تزول صفة الرجاء من
نفوسهم بل وعدا يحفظ فيهم الاعتدال و التوسط بين صفتي الخوف و الرجاء، و يربيهم
تربية حسنة تعدهم و تهيئهم للسعادة الواقعية.
و قد أغرب بعض المفسرين في تفسير الآية مستظهرا بما جمع به بين الروايات على
اختلافها فأصر على ما ملخصه أن المسلمين لم يفروا على جبن، و إنما انكشفوا عن
موضعهم لما فاجأهم من شد كتائب ثقيف و هوازن عليهم شد رجل واحد فاضطربوا
اضطرابة زلزلتهم و كشفتهم عن موضعهم دفعة واحدة و هذا أمر طبيعي في الإنسان إذا
فاجأه الخطر و دهمته بلية دفعة و من غير مهل اضطربت نفسه و خلي عن موضعه.
و يشهد به نزول السكينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عليهم جميعا
فقد كان الاضطراب شمله و إياهم جميعا، غير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أصابه ما أصابه من الاضطراب و القلق حزنا و أسفا مما وقع، و المسلمون شملهم ذلك
لما فوجئوا به من حملة الكتائب حملة رجل واحد.
و من الشواهد أنهم بمجرد ما سمعوا نداء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و
نداء العباس بن عبد المطلب رجعوا من فورهم و هزموا الكفار بالسكينة النازلة
عليهم من عند الله تعالى.
ثم ذكر ما نزل من الآيات في صفة الصحابة كآية بيعة الرضوان، و قوله تعالى:
"محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار" الآية، و قوله: "إن الله اشترى
من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة" الآية، و ما ورد من طريق الرواية
في مدح صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
انتهى.
و الذي أورده من الخلط بين البحث التفسيري الذي لا هم له إلا الكشف عما يدل
عليه الآيات الكريمة، و بين البحث الكلامي الذي يرام به إثبات ما يدعيه المتكلم
في شيء من المذاهب من أي طريق أمكن من عقل أو كتاب أو سنة أو إجماع أو المختلط
منها و البحث التفسيري لا يبيح لباحثه شيئا من ذلك، و لا تحميل أي نظر من
الأنظار العلمية على الكتاب الذي أنزله الله تبيانا.
أما قوله: إنهم لم يفروا جبنا و لا خذلانا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و
إنما كان انكشافا لأمر فاجأهم فاضطربوا و زلزلوا ففروا ثم كروا فهذا مما لا
يندفع به صريح قوله تعالى: "ثم وليتم مدبرين" مع اندراج هذا الفعل منهم تحت
كلية قوله تعالى في آية تحريم الفرار من الزحف: "فلا تولوهم الأدبار و من يولهم
يومئذ دبره - إلى أن قال - فقد باء بغضب من الله" الآية.
و لم يقيد سبحانه النهي عن تولية الأدبار بأنه يجب أن يكون عن جبن أو لغرض
الخذلان، و لا أستثني من حكم التحريم كون الفرار عن اضطراب مفاجىء، و لا أورد
في استثنائه إلا ما ذكره بقوله: "إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة" و ليس
هذان المستثنيان في الحقيقة من الفرار من الزحف.
و لم يورد تعالى أيضا فيما حكي من عهدهم شيئا من الاستثناء إذ قال: "و لقد
كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار و كان عهد الله مسئولا:" الأحزاب: -
15.
و أما استشهاده على ذلك بأن الاضطراب كان مشتركا بينهم و بين النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)، و استدلاله على ذلك بقوله تعالى: "ثم أنزل الله سكينته على
رسوله و على المؤمنين" حيث إن نزول السكينة بعد انكشافهم بزمان - على ما تدل
عليه كلمة ثم - يلازم نزول الاضطراب عند ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) و إن كان عن حزن و أسف إذ لا يتصور في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم)
التزلزل في ثباته و شجاعته.
فلننظر فيما اعتبره للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحزن و الأسف هل كان
ذلك حزنا و أسفا على ما وقع من الأمر من انهزام المسلمين و ما ابتلاهم الله به
من الفتنة و المحنة جزاء لما أعجبوا من كثرة عددهم، و بالجملة حزنا مكروها عند
الله؟ فقد نزهه الله عن ذلك و أدبه بما نزل عليه من كتابه و علمه من علمه، و قد
أنزل عليه مثل قوله عز من قائل: "ليس لك من الأمر شيء:" آل عمران: - 128، و
قال: "سنقرئك فلا تنسى:" الأعلى: - 6.
و لم يرد في شيء من روايات القصة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) زال عن مكانه
يومئذ أو اضطرب اضطرابا مما نزل على المسلمين من الوهن و الانهزام.
و إن كان ذلك حزنا و أسفا على المسلمين لما أصابهم من ناحية خطئهم في الاعتماد
بغير الله و الركون إلى سراب الأسباب الظاهرة، و الذهول عن الاعتصام بالله
سبحانه حتى أوقعهم في خطيئة الفرار من الزحف لما كان هو (صلى الله عليه وآله
وسلم) عليه من الرأفة و الرحمة بالمؤمنين فهذا أمر يحبه الله سبحانه و قد مدح
رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) به إذ قال: "بالمؤمنين رءوف رحيم:" التوبة: -
128.
و ليس يزول مثل هذا الأسف و الحزن بنزول السكينة عليه، و لا أن السكينة لو فرض
نزولها لأجله مما حدث بعد وقوع الانهزام حتى يكون النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) خاليا عنها قبل ذلك بل كان (صلى الله عليه وآله وسلم) على بينة من ربه
منذ بعثه الله إلى أن قبضه إليه، و كانت السكينة بهذا المعنى نازلة عليه حينا
بعد حين.
ثم السكينة التي نزلت على المؤمنين ما هي؟ و ما ذا يحسبها؟ أ كانت هي الحالة
النفسانية التي تحصل من السكون و الطمأنينة كما فسرها بها و استشهد عليه بقول
صاحب المصباح: أنها تطلق على الرزانة و المهابة و الوقار حتى كانت ثبات الكفار
و سكونهم في مواقفهم الحربية عن سكينة نازلة إليهم؟ فإن كانت السكينة هي هذه
فقد كانت في أول الوقعة عند كفار هوازن و ثقيف خصماء المسلمين ثم تركتهم و نزلت
على عامة جيش المسلمين من مؤمن ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
من مؤمن لم يثبت و اختار الفرار على القرار، و من منافق و من ضعيف الإيمان مريض
القلب فإنهم جميعا رجعوا ثانيا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ثبتوا
معه حتى هزموا العدو فهم جميعا أصحاب السكينة أنزلها الله إليهم فما باله تعالى
يقصر إنزال السكينة على رسوله و على المؤمنين إذ يقول: "ثم أنزل الله سكينته
على رسوله و على المؤمنين".
على أنه إن كانت السكينة هي هذه، و هي مبتذلة مبذولة لكل مؤمن و كافر فما معنى
ما امتن الله به على المؤمنين بما ظاهره أنها عطية خاصة غير مبتذلة؟ و لم
يذكرها في كلامه إلا في موارد معدودة - بضعة موارد - لا تبلغ تمام العشرة.
و بذلك يظهر أن السكينة أمر وراء السكون و الثبات لا أن لها معنى في اللغة أو
العرف وراء مفهوم الحالة النفسانية الحاصلة من السكون و الطمأنينة بل بمعنى أن
الذي يريده تعالى من السكينة في كلامه له مصداق غير المصداق الذي نجده عند كل
شجاع باسل له نفس ساكنة و جاش مربوط، و إنما هي نوع خاص من الطمأنينة النفسانية
له نعت خاص و صفة مخصوصة.
كيف؟ و كلما ذكرها الله سبحانه في كلامه امتنانا بها على رسوله و على المؤمنين
خصها بالإنزال من عنده فهي حالة إلهية لا ينسى العبد معها مقام ربه لا كما عليه
عامة الشجعان أولوا الشدة و البسالة المعجبون ببسالتهم المعتمدون على أنفسهم.
و قد احتفت في كلامه بأوصاف و آثار لا تعم كل وقار و طمأنينة نفسانية كما قال
في حق رسوله: "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه و
أيده بجنود لم تروها:" التوبة: - 40 و قال تعالى في المؤمنين "لقد رضي الله عن
المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم:"
الفتح: - 18 فذكر أنه إنما أنزل السكينة عليهم لما علمه من قلوبهم فنزولها
يحتاج إلى حالة قلبية طاهرة سابقة يدل السياق على أنها الصدق و نزاهة القلب عن
إبطان نية الخلاف.
و قال أيضا: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع
إيمانهم و لله جنود السماوات و الأرض:" الفتح: - 4 فذكر أن من أثرها زيادة
الإيمان مع الإيمان و قال أيضا: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية
الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و ألزمهم كلمة التقوى و
كانوا أحق بها و أهلها: الفتح: - 26،.
و الآية - كما ترى - تذكر أن نزول السكينة من عنده تعالى مسبوق باستعداد سابق و
أهلية و أحقية قبلية و هو الذي أشير إليه في الآية السابقة بقوله: "فعلم ما في
قلوبهم فأنزل السكينة".
و تذكر أن من آثارها لزوم كلمة التقوى، و طهارة ساحة الإنسان عن مخالفة الله و
رسوله باقتراف المحارم و ورود المعاصي.
و هذا كالمفسر يفسر قوله في الآية الأخرى: "ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم"
فازدياد الإيمان مع الإيمان بنزول السكينة هو أن يكون الإنسان على وقاية إلهية
من اقتراف المعاصي و هتك المحارم مع إيمان صادق بأصل الدعوة الحقة.
و هذا نعم الشاهد يشهد أولا: أن المراد بالمؤمنين في قوله في الآية المبحوث
عنها "ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين" غير المنافقين و غير مرضى
القلوب و ضعفاء الإيمان، و لا يبقى إلا من ثبت من المؤمنين مع النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)، و هم ثلاثة أو أربعة أو تسعة أو عشرة أو ثمانون أو دون المائة
على اختلاف الروايات في إحصائهم، و من فر و انكشف عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أولا ثم رجع و قاتل ثانيا و فيهم جل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) و عدة من خواصهم.
فهل المراد بالمؤمنين الذين نزلت عليهم، جميع من ثبت مع النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و من فر أولا ثم رجع ثانيا، أو أنهم هم الذين ثبتوا معه من المؤمنين
حتى نزل النصر؟.
الذي يستفاد من آيات السكينة أن نزولها متوقف على طهارة قلبية و صفاء نفسي سابق
حتى يقرها الله تعالى بالسكينة، و هؤلاء كانوا مقترفين لكبيرة الفرار من الزحف
آثمين قلوبا، و لا محل لنزول السكينة على من هذا شأنه فإن كانوا ممن نزلت عليهم
السكينة كان من الواجب أن يندموا على ما فعلوا، و يتوبوا إلى ربهم توبة نصوحا
بقلوب صادقة حتى يعلم الله ما في قلوبهم فينزل السكينة عليهم فيكونون أذنبوا
أولا ثم تابوا و رجعوا ثانيا، فأنزل الله سكينته عليهم و نصرهم على عدوهم، و
لعل هذا هو الذي يشير إليه التراخي المفهوم من قوله تعالى "ثم أنزل الله سكينته
على رسوله و على المؤمنين" حيث عبر بثم".
لكن يبقى عليه أولا: أنه كان من اللازم على هذا أن يتعرض في الكلام لتوبتهم
فيختص حينئذ قوله: "ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء و الله غفور رحيم" على
الكفار الذين أسلموا بعد منهم، و لا أثر من ذلك في الكلام و لا قرينة تخص قوله:
"ثم يتوب الله" إلخ بالكافرين الذين أسلموا بعد، فافهم ذلك.
و ثانيا: أن في ذلك غمضا عن جميل المسعى و المحنة الحسنة التي امتحن بها أولئك
النفر القليل الذين ثبتوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين تركه جموع
المسلمين بين الأعداء و انهزموا فارين لا يلوون على شيء، و من المستبعد من دأب
القرآن أن يهمل أمر من تحمل محنة في ذات الله، و ألقى نفسه في أشق المهالك
ابتغاء مرضاته - و هو شاكر عليم - فلا يحمده و لا يشكر سعيه.
و المعهود من دأب القرآن أنه إذا عم قوما بعتاب أو توبيخ و ذم، و فيهم من هو
بريء من استحقاق اللوم أو العتاب أو طاهر من دنس الإثم و الخطيئة أن يستثنيه
منهم و يخصه بجميل الذكر، و يحمده على عمله و إحسانه كما نراه كثيرا في
الخطابات التي تعمم اليهود أو النصارى عتابا أو ذما و توبيخا فإنه تعالى
يخاطبهم بما يخاطب و يوبخهم و ينسب إليهم الكفر بآياته و التخلف عن أوامره و
نواهيه، ثم يمدح منهم الأقلين الذين آمنوا به و بآياته و أطاعوه فيما أراد
منهم.
و أوضح من ذلك ما يتعرض من الآيات لوقعة أحد، و تمتن على المؤمنين بما أنزل
الله عليهم من النصرة و الكرامة، و يعاتبهم على ما أظهروه من الوهن و الفشل ثم
يستثني الثابتين منهم على أقدام الصدق، و يعدهم وعدا حسنا إذ قال مرة بعد مرة:
"و سيجزي الله الشاكرين:" آل عمران: - 144، "و سنجزي الشاكرين:" آل عمران: -
145.
و نجد مثله في ما يذكره الله سبحانه من أمر وقعة الأحزاب فإن في كلامه عتابا
شديدا لجمع من المؤمنين، و توبيخا و ذما للمنافقين و الذين في قلوبهم مرض حتى
قال فيما قال: "و لقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار و كان عهد
الله مسئولا": الأحزاب: - 15، ثم إنه تعالى ختم القصة بمثل قوله: "من المؤمنين
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا
تبديلا:" الأحزاب: - 23.
فما باله تعالى لم يتعرض لحالهم في قصة حنين، و ليست بأهون من غيرها، و لا خصهم
بشيء من الشكر، و لا حمدهم بما يمتنون به من لطيف حمده تعالى كغيرهم في غيرها.
فهذا الذي ذكرناه مما يقرب إلى الاعتبار أن يكون المراد بالمؤمنين الذين ذكر
نزول السكينة عليهم هم الذين ثبتوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أما
سائر المؤمنين ممن رجع بعد الانكشاف فهم تحت شمول قوله: "ثم يتوب الله من بعد
ذلك على من يشاء و الله غفور رحيم" يشمل من شملته العناية منهم كما يشمل من
شملته العناية و التوفيق من كفار هوازن و ثقيف و من الطلقاء و الذين في قلوبهم
مرض.
هذا ما يهدي إليه البحث التفسيري، و أما الروايات فلها شأنها و سيأتي طرف منها.
و أما ما ذكره من شهادة رجوعهم من فورهم حين سمعوا نداء النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و نداء العباس فذلك مما لا يبطل ما قدمناه من ظهور قوله تعالى: "ثم
وليتم مدبرين" إذا انضم إلى قوله: "إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم
الأدبار" الآية في أن ما ظهر منهم في الوقعة من الفعل كان فرارا من الزحف فعلوه
عن جبن أو تعمد في خذلان أو عن قلق و اضطراب و تزلزل.
و أما ما ذكره من الآيات التي تمدحهم و تذكر رضى الرب عنهم و استحقاقهم جزيل
الأجر من ربهم.
ففيه أن هذه المحامد مقيدة فيها بقيود لا يتحتم معها لهم الأمر فإن الآيات إنما
تحمد من تحمده منهم لما به من نعوت العبودية كالإيمان و الإخلاص و الصدق و
النصيحة و المجاهدة الدينية فالحمد باق ما بقيت الصفات، و الوعد الحسن على
اعتباره ما لبثت فيهم النعوت و الأحوال الموجبة له فإذا زالت لحادثة أو خطيئة
زال بتبعه.
و ليس ما عندهم من مبادىء الخير و البركات بأعظم و لا أهم مما عند الأنبياء من
صفة العصمة يستحيل معها صدور الذنب منهم، و قد قال الله تعالى بعد ثناء طويل
عليهم: "و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون:" الأنعام: - 88 و قد قال تعالى
قبال ما ظنوا أنهم مصونون عن ما يكرهونه من أقسام المجازاة كرامة لإسلامهم كما
ظن نظيره أهل الكتاب: "ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز
به:" النساء: - 123.
و الذي ورد في بيعة الرضوان من قوله: "لقد رضي الله" فإنما رضاه تعالى من صفاته
الفعلية التي هي عين أفعاله الخارجية منتزعة منها فهو عين ما أفاض عليهم من
الحالات الطاهرة النفسية التي تستعقب بطباعها جزيل الجزاء و خير الثواب إن بقيت
أعمالهم على ما هي عليها و إن تغيرت تغير الرضى سخطا و النعمة نقمة و لم يأخذ
أحد عليه تعالى عهدا أن لا يخلف عهده فيحمله على السعادة و الكرامة أحسن أو
أساء، أطاع أو عصى، آمن أو كفر.
و ليس رضى الرب من صفاته الذاتية التي يتصف بها في ذاته فلا يعرضه تغير أو تبدل
و لا يطرأ عليه زوال أو دثور.
قوله تعالى: "ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين" إلى آخر الآية
السكينة - كما تقدم - حالة قلبية توجب سكون النفس و ثبات القلب ملازمة لازدياد
الإيمان مع الإيمان و لكلمة التقوى التي تهدي إلى الورع عن محارم الله على ما
تفسرها الآيات.
و هي غير العدالة التي هي ملكة نفسانية تردع عن ركوب الكبائر و الإصرار على
الصغائر فإن السكينة تردع عن الصغائر و الكبائر جميعا.
و قد نسب الله السكينة في كتابه إلى نفسه نسبة تشعر بنوع من الاختصاص كما نسب
الروح إلى نفسه دون العدالة و وصفها بالإنزال فلها اختصاص عندي به تعالى بل
ربما يشعر بعض الآيات بأنه عدها من جنوده كقوله تعالى: "هو الذي أنزل السكينة
في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم و لله جنود السماوات و الأرض:"
الفتح: - 4.
و في غير واحد من الآيات المشتملة على ذكر السكينة ذكر الجنود كقوله: "فأنزل
الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها:" التوبة: - 40، و كما في الآية
المبحوث عنها: "ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنودا لم
تروها".
و الذي يفهم من السياق أن هذه الجنود هي الملائكة النازلة إلى المعركة، أو أن
يقال من جملتها الملائكة النازلة و الذي ينتسب إلى السكينة و الملائكة أن يعذب
بهم الكفار و يسدد و يسعد بهم المؤمنون كما اشتملت عليه آيات آل عمران القاصة
قصة أحد، و آيات في أول سورة الفتح فراجعها حتى يتبين لك حقيقة الحال إن شاء
الله تعالى.
و قد تقدم في قوله تعالى: "فيه سكينة من ربكم:" البقرة: - 248 في الجزء الثاني
من الكتاب بعض ما يتعلق بالسكينة الإلهية من الكلام مما لا يخلو من نفع في هذا
المقام.
قوله تعالى: "ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء و الله غفور رحيم" قد تقدم
مرارا أن التوبة من الله سبحانه هي الرجوع إلى عبده بالعناية و التوفيق أولا ثم
بالعفو و المغفرة ثانيا، و من العبد الرجوع إلى ربه بالندامة و الاستغفار، و لا
يتوب الله على من لا يتوب إليه.
و الإشارة في قوله: "من بعد ذلك" على ما يعطيه السياق إلى ما ذكره في الآيتين
السابقتين من خطيئتهم بالركون إلى غير الله سبحانه و معصيتهم بالفرار و التولي
ثم إنزال السكينة و إنزال الجنود و تعذيب الذين كفروا.
و الملائم لذلك أن يكون الموصول في "من يشاء" شاملا للمسلمين و الكافرين جميعا
فقد ذكر من الفريقين جميعا ما يصلح لأن يتوب الله عليهم فيه إن تابوا و هو من
الكفار كفرهم و من المسلمين خطيئتهم و معصيتهم، و لا وجه لتخصيص التوبة على
بعضهم مع ما في آيات التوبة من عموم الحكم و سعته و لم يقيد في هذه الآية
المبحوث عنها بما يوجب اختصاصها بأحد الفريقين: المسلمين أو الكافرين مع وجود
المقتضي فيهما جميعا.
و مما ذكرنا يظهر فساد ما فسر به بعضهم الآية مع قصر الإشارة على التعذيب إذ
قال: إن معناها ثم يتوب الله تعالى بعد هذا التعذيب الذي يكون في الدنيا على من
يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام و هم الذين لم يحط بهم خطيئات جهالة
الشرك و خرافاته من جميع جوانب أنفسهم، و لم يختم على نفوسهم بالإصرار على
الجحود و التكذيب أو الجمود على ما ألفوا بمحض التقليد.
انتهى.
و قد عرفت أن تخصيص الآية بما ذكر و التصرف في سائر قيوده كقصر الإشارة على
التعذيب و غير ذلك مما لا دليل عليه البتة.
و الوجه في التعبير بالاستقبال في قوله: "ثم يتوب الله" الإشارة إلى انفتاح باب
التوبة دائما، و جريان العناية و فيضان العفو و المغفرة الإلهية مستمرا بخلاف
ما يشير إليه قوله: "ثم أنزل الله سكينته" الآية، فإن ذلك أمور محدودة غير
جارية.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام
بعد عامهم هذا" قال في المجمع،: كل مستقذر نجس يقال: رجل نجس و امرأة نجس و قوم
نجس لأنه مصدر، و إذا استعملت هذه اللفظة مع الرجس قيل: رجس نجس - بكسر النون -
قال: و العيلة الفقر يقال عال يعيل إذا افتقر.
انتهى.
و النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام بحسب المتفاهم العرفي يفيد أمر
المؤمنين بمنعهم عن دخول المسجد الحرام، و في تعليله تعالى منع دخولهم المسجد
بكونهم نجسا اعتبار نوع من القذارة لهم كاعتبار نوع من الطهارة و النزاهة
للمسجد الحرام، و هي كيف كانت أمر آخر وراء الحكم باجتناب ملاقاتهم بالرطوبة و
غير ذلك.
و المراد بقوله: "عامهم هذا" سنة تسع من الهجرة، و هي السنة التي أذن فيها علي
(عليه السلام) بالبراءة، و منع طواف البيت عريانا، و حج المشركين البيت.
و قوله: "و إن خفتم عيلة" الآية، أي و إن خفتم في إجراء هذا الحكم أن ينقطعوا
عن الحج، و يتعطل أسواقكم، و تذهب تجارتكم فتفتقروا و تعيلوا فلا تخافوا فسوف
يغنيكم الله من فضله، و يؤمنكم من الفقر الذي تخافونه.
و هذا وعد حسن منه تعالى فيه تطييب نفوس أهل مكة و من كان له تجارة هناك
بالموسم، و كان حاضر العالم الإسلامي يبشرهم يومئذ بمضمون هذا الوعد فقد كان
الإسلام تعلو كلمته، و ينتشر صيته حالا بعد حال، و كانت عامة المشركين في عتبة
الاستئصال بعد إيذان براءة لم يبق لهم إلا أربعة أشهر إلا شرذمة قليلة من العرب
كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاهدهم عند المسجد الحرام إلى أجل ما بعده
من مهل فالجميع كانوا في معرض قبول الإسلام.
بحث روائي
في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن بعض أصحابه ذكره قال: لما سم المتوكل نذر إن
عوفي أن يتصدق بمال كثير فلما عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير فاختلفوا
عليه فقال بعضهم: مائة ألف، و قال بعضهم: عشرة آلاف فقالوا فيه أقاويل مختلفة
فاشتبه عليه الأمر. فقال رجل من ندمائه يقال له صفوان: أ لا تبعث إلى هذا
الأسود فتسأله عنه؟. فقال له المتوكل: من تعني ويحك؟ فقال: ابن الرضا. فقال له:
و هو يحسن من هذا شيئا؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا و كذا و إلا
فاضربني مائة مقرعة فقال المتوكل: رضيت، يا جعفر بن محمود اذهب إلى أبي الحسن
علي بن محمد فاسأله عن حد المال الكثير، فسأله فقال له: الكثير ثمانون. فقال له
جعفر بن محمود: يا سيدي إنه يسألني عن العلة فيه فقال له أبو الحسن (عليه
السلام): إن الله عز و جل يقول: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة" فعددنا تلك
المواطن فكان ثمانين: أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره و بعض أصحابه الذي ذكر
في الرواية أنه سماه هو محمد بن عمرو على ما ذكره في التفسير.
و معنى الرواية أن الثمانين من مصاديق الكثير بدلالة من الكتاب لا أن الكثير
معناه الثمانون و هو ظاهر.
و في المجمع، ذكر أهل التفسير و أصحاب السير: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) لما فتح مكة خرج منها متوجها إلى حنين لقتال هوازن و ثقيف في آخر شهر
رمضان أو في شوال في سنة ثمان من الهجرة، و قد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن
عوف النصري، و ساقوا معهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم و نزلوا بأوطاس. قال: و
كان دريد بن الصمة في القوم، و كان رئيس جشم، و كان شيخا كبيرا قد ذهب بصره من
الكبر فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، و
لا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير و نهيق الحمير و خوار البقر و ثغاء الشاة و
بكاء الصبيان؟ فقالوا: إن مالك بن عوف ساق مع الناس أبناءهم و أموالهم و نساءهم
ليقاتل كل منهم عن أهله و ماله فقال دريد: راعي ضأن و رب الكعبة. ثم قال:
ائتوني بمالك فلما جاءه قال: يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك، و هذا يوم له ما
بعده، رد قومك إلى عليا بلادهم، و ألق الرجال على متون الخيل فإنه لا ينفعك إلا
رجل بسيفه و فرسه فإن كانت لك لحق بك من وراءك، و إن كانت عليك لا تكون قد فضحت
في أهلك و عيالك فقال له مالك: إنك قد كبرت و ذهب علمك و عقلك. و عقد رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) لواءه الأكبر و دفعه إلى علي بن أبي طالب (عليه
السلام)، و كل من دخل مكة براية أمره أن يحملها، و خرج بعد أن أقام بمكة خمسة
عشر يوما و بعث إلى صفوان بن أمية فاستعار منه مائة درع فقال صفوان: عارية أم
غصب؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): عارية مضمونة مؤداة، فأعاره صفوان مائة
درع و خرج معه، و خرج من مسلمة الفتح ألفا رجل، و كان (صلى الله عليه وآله
وسلم) دخل مكة في عشرة آلاف رجل و خرج منها في اثني عشر ألفا. و بعث رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا من أصحابه فانتهى إلى مالك بن عوف و هو يقول
لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله و ماله خلف ظهره، و اكسروا جفون سيوفكم، و
أكمنوا في شعاب هذا الوادي و في السحر فإذا كان في غبش الصبح فاحملوا حملة رجل
واحد فهدوا القوم فإن محمدا لم يلق أحدا يحسن الحرب. و لما صلى رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) بأصحابه الغداة انحدر في وادي حنين فخرجت عليهم كتائب
هوازن من كل ناحية، و انهزمت بنو سليم و كانوا على المقدمة و انهزم ما وراءهم،
و خلى الله تعالى بينهم و بين عدوهم لإعجابهم بكثرتهم و بقي علي (عليه السلام)
و معه الراية يقاتلهم في نفر قليل و مر المنهزمون برسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) لا يلوون على شيء. و كان العباس بن عبد المطلب أخذ بلجام بغلة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الفضل عن يمينه، و أبو سفيان بن الحارث بن
عبد المطلب عن يساره، و نوفل بن الحارث و ربيعة بن الحارث في تسعة من بني هاشم،
و عاشرهم أيمن بن أم أيمن، و في ذلك يقول العباس: نصرنا رسول الله في الحرب
تسعة. و قد فر من قد فر عنه فأقشعوا. و قولي إذا ما الفضل كر بسيفه. على القوم
أخرى يا بني ليرجعوا. و عاشرنا لاقى الحمام بنفسه. لما ناله في الله لا يتوجع.
و لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هزيمة القوم عنه قال للعباس و
كان جهوريا صيتا اصعد هذا الظرب فناد: يا معشر المهاجرين و الأنصار يا أصحاب
سورة البقرة يا أهل بيعة الشجرة إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله. فلما سمع
المسلمون صوت العباس تراجعوا و قالوا: لبيك لبيك، و تبادر الأنصار خاصة و
قاتلوا المشركين حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الآن حمي
الوطيس. أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، و نزل النصر من عند الله، و
انهزمت هوازن هزيمة قبيحة ففروا في كل وجه، و لم يزل المسلمون في آثارهم. و فر
مالك بن عوف فدخل حصن الطائف، و قتل منهم زهاء مائة رجل، و أغنم الله المسلمين
أموالهم و نساءهم، و أمر رسول الله بالذراري و الأموال أن تحدر إلى الجعرانة، و
ولى على الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعي. و مضى (صلى الله عليه وآله وسلم) في
أثر القوم فوافى الطائف في طلب مالك بن عوف فحاصر أهل الطائف بقية الشهر فلما
دخل ذو القعدة انصرف و أتى الجعرانة، و قسم بها غنائم حنين و أوطاس. قال سعيد
بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن و أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقفوا لنا حلب شاة فلما كشفناهم جعلنا
نسوقهم حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فتلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا
فركبوا أكتافنا فكانوا إياها يعني الملائكة. قال الزهري: و بلغني أن شيبة بن
عثمان قال: استدبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا أريد أن أقتله
بطلحة بن عثمان و عثمان بن طلحة و كانا قد قتلا يوم أحد فأطلع الله رسوله على
ما في نفسي فالتفت إلي و ضرب في صدري، و قال: أعيذك بالله يا شيبة فأرعدت
فرائصي فنظرت إليه و هو أحب إلي من سمعي و بصري فقلت: أشهد أنك رسول الله، و أن
الله أطلعك على ما في نفسي. و قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغنائم
بالجعرانة و كان معه من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري و النساء، و من الإبل و
الشاة ما لا يدرى عدته. قال أبو سعيد الخدري: قسم رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) للمتألفين من قريش و من سائر العرب ما قسم، و لم يكن في الأنصار
منها شيء قليل و لا كثير فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في قسمك هذه
الغنائم في قومك و في سائر العرب و لم يكن فيهم من ذلك شيء فقال (صلى الله عليه
وآله وسلم): فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة فجمعهم فخرج
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه ثم
قال: يا معشر الأنصار أ و لم آتكم ضلالا فهداكم الله، و عالة فأغناكم الله و
أعداء فألف بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. ثم قال: أ لا تجيبوني يا معشر
الأنصار؟ فقالوا: و ما نقول؟ و بما ذا نجيبك؟ المن لله و لرسوله. فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما و الله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريدا
فآويناك، و عائلا فآسيناك، و خائفا فآمناك، و مخذولا فنصرناك. فقالوا: المن لله
و لرسوله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وجدتم في أنفسكم يا معشر
الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا و وكلتكم إلى ما قسم الله
لكم من الإسلام. أ فلا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس إلى رحالهم بالشاة
و البعير، و تذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا
شعبا و سلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار و لو لا الهجرة لكنت امرأ من
الأنصار اللهم ارحم الأنصار و أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار فبكى القوم
حتى اخضلت لحاهم، و قالوا: رضينا بالله و رسوله قسما ثم تفرقوا. و قال أنس بن
مالك: و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر مناديا فنادى يوم أوطاس:
ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، و لا غير الحبالى حتى يستبرأن بحيضة. ثم أقبلت
وفود هوازن و قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجعرانة مسلمين
فقام خطيبهم و قال: يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك و حواضنك
اللاتي كن يكفلنك فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا
منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما و عطفهما و أنت خير المكفولين ثم
أنشد أبياتا. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أي الأمرين أحب إليكم: السبي أو
الأموال؟ قالوا: يا رسول الله خيرتنا بين الحسب و بين الأموال، و الحسب أحب
إلينا و لا نتكلم في شاة و لا بعير فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
أما الذي لبني هاشم فهو لكم و سأكلم لكم المسلمين و أشفع لكم فكلموهم و أظهروا
إسلامكم. فلما صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهاجرة قاموا فتكلموا
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قد رددت الذي لبني هاشم و الذي بيدي
عليهم فمن أحب منكم أن يعطي غير مكره فليفعل و من كره أن يعطي فليأخذ الفداء و
علي فداؤهم فأعطى الناس ما كان بأيديهم منهم إلا قليلا من الناس سألوا الفداء.
و أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مالك بن عوف و قال: إن جئتني
مسلما رددت إليك أهلك و مالك و لك عندي مائة ناقة فخرج إليه من الطائف فرد عليه
أهله و ماله و أعطاه مائة من الإبل و استعمله على من أسلم من قومه.
أقول: و روى القمي في تفسيره مثله و لم يرو ما نسب من الرجز إليه (صلى الله
عليه وآله وسلم) و كذا ما أسنده إلى راو معين كالمسيب و الزهري و أنس و أبي
سعيد، و روي هذه المعاني بطرق كثيرة من طرق أهل السنة.
و في رواية علي بن إبراهيم القمي زيادة يسيرة هي ما يأتي: قال علي بن إبراهيم:
فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد
شهر سيفه فقال: يا عباس اصعد هذا الظرب و ناد: يا أصحاب +" سورة "+ البقرة يا
أصحاب الشجرة إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله. ثم رفع رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) يده و قال: اللهم لك الحمد و لك الشكر و إليك المشتكى و أنت
المستعان فنزل إليه جبرئيل فقال: يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى بن عمران
حين فلق الله له البحر و نجاه من فرعون. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) لأبي سفيان بن الحارث: ناولني كفا من حصى فناوله فرماه في وجوه المشركين
ثم قال: شاهت الوجوه. ثم رفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم إن تهلك هذه العصابة
لم تعبد و إن شئت أن لا تعبد لا تعبد. فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا و
كسروا جفون سيوفهم و هم ينادون: لبيك و مروا برسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) و استحيوا أن يرجعوا إليه و لحقوا بالراية فقال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) للعباس: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقال: يا رسول الله هؤلاء الأنصار
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الآن حمي الوطيس فنزل النصر من
السماء و انهزمت هوازن. و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن محمد بن عبيد
الله بن عمير الليثي قال: كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة آلاف
من الأنصار و ألف من جهينة، و ألف من مزينة و ألف من أسلم و ألف من غفار و ألف
من أشجع و ألف من المهاجرين و غيرهم فكان معه عشرة آلاف و خرج باثني عشر ألفا و
فيها قال الله تعالى في كتابه: "و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم
شيئا" و في سيرة ابن هشام، عن ابن إسحاق قال: فلما انهزم الناس، و رأى من كان
مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال
منهم بما في أنفسهم من الضغن: فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون
البحر. و إن الأزلام لمعه في كنانته و صرخ جبلة بن الحنبل قال ابن هشام: كلدة
بن الحنبل و هو مع أخيه صفوان بن أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): أ لا بطل السحر اليوم، فقال له صفوان اسكت فض الله
فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن. قال ابن
إسحاق: و قال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلت: اليوم أدرك
ثاري و كان أبوه قتل يوم أحد اليوم أقتل محمدا قال: فأدرت برسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) لأقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذاك فعلمت أنه ممنوع
مني.
فهرس أسماء شهداء حنين
في سيرة ابن هشام، قال ابن إسحاق: و هذه تسمية من استشهد يوم حنين من المسلمين:
من قريش ثم من بني هاشم أيمن بن عبيد و من بني أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة
بن الأسود بن المطلب بن أسد جمح به فرس يقال له الجناح فقتل. و من الأنصار
سراقة بن الحارث بن عدي من بني العجلان و من الأشعريين أبو عامر الأشعري.
أقول: و أما الثباة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد عدوا في بعض
الروايات ثلاثة و في بعضها أربعة و في بعضها تسعة عاشرهم أيمن بن عبيد - و هو
ابن أم أيمن - و في بعضها ثمانين و في بعضها: دون المائة.
و المتعمد من بينها ما روي عن العباس أنهم كانوا تسعة عاشرهم أيمن و له في ذلك
شعر تقدم نقله و ذلك أنه كان ممن ثبت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طول
الوقعة و شاهد ما كان من الأمر و هو الذي كان ينادي المنهزمين و يستلحقهم بأمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد باهى بما قاله من الشعر.
و من الممكن أن يثبت جمع بعد انهزام الناس هنيئة ثم يلحقوا بالمنهزمين أو يرجع
جمع قبل رجوع غيرهم فيلحقوا بالراية فيعدوا ممن ثبت و قاتل فالحرب العوان لا
يجري على ما يجري عليه السلم من النظم.
و من هنا يعلم ما في قول بعضهم: إن الأرجح رواية الثمانين كما عن عبد الله بن
مسعود و إليها يرجع ما رواه ابن عمر أنهم كانوا دون المائة فإن الحجة لمن حفظ
على من لم يحفظ، انتهى ملخصا.
و ذلك أن كون الحجة لمن حفظ على من لم يحفظ حق لكن الحفظ في حال الحرب على ما
فيه من التحول السريع في الأوضاع الحاضرة غير الحفظ في غيره فلا يعتمد إلا على
ما شهدت القرائن لصحته و أيد الاعتبار وثاقة حفظه و قد كان العباس مأمورا بما
من شأنه حفظ هذا الشأن و ما يرتبط به.
9 سورة التوبة - 29 - 35
قَتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَ لا
يحَرِّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَ رَسولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكتَب حَتى يُعْطوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَ هُمْ
صغِرُونَ (29) وَ قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَ قَالَتِ
النّصرَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِك قَوْلُهُم بِأَفْوَهِهِمْ يُضهِئُونَ
قَوْلَ الّذِينَ كفَرُوا مِن قَبْلُ قَتَلَهُمُ اللّهُ أَنى يُؤْفَكونَ (30)
اتخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَنَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَ
الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ مَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَحِداً
لا إِلَهَ إِلا هُوَ سبْحَنَهُ عَمّا يُشرِكونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يُطفِئُوا
نُورَ اللّهِ بِأَفْوَهِهِمْ وَ يَأْبى اللّهُ إِلا أَن يُتِمّ نُورَهُ وَ لَوْ
كرِهَ الْكَفِرُونَ (32) هُوَ الّذِى أَرْسلَ رَسولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ
الْحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلى الدِّينِ كلِّهِ وَ لَوْ كرِهَ الْمُشرِكُونَ (33)
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِنّ كثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَ الرّهْبَانِ
لَيَأْكلُونَ أَمْوَلَ النّاسِ بِالْبَطِلِ وَ يَصدّونَ عَن سبِيلِ اللّهِ وَ
الّذِينَ يَكْنزُونَ الذّهَب وَ الْفِضةَ وَ لا يُنفِقُونهَا فى سبِيلِ اللّهِ
فَبَشرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يحْمَى عَلَيْهَا فى نَارِ جَهَنّمَ
فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَ جُنُوبهُمْ وَ ظهُورُهُمْ هَذَا مَا كنزْتُمْ
لأَنفُسِكمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنزُونَ (35)
بيان
الآيات تأمر بقتال أهل الكتاب ممن يمكن تبقيته بالجزية و تذكر أمورا من وجوه
انحرافهم عن الحق في الاعتقاد و العمل.
قوله تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما
حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب" أهل الكتاب هم
اليهود و النصارى على ما يستفاد من آيات كثيرة من القرآن الكريم و كذا المجوس
على ما يشعر أو يدل عليه قوله تعالى: "إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئين
و النصارى و المجوس و الذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على
كل شيء شهيد": الحج: - 17 حيث عدوا في الآية مع سائر أرباب النحل السماوية في
قبال الذين أشركوا، و الصابئون كما تقدم طائفة من المجوس صبوا إلى دين اليهود
فاتخذوا طريقا بين الطريقين.
و السياق يدل على أن لفظة "من" في قوله: "من الذين أوتوا الكتاب" بيانية لا
تبعيضية فإن كلا من اليهود و النصارى و المجوس أمة واحدة كالمسلمين في إسلامهم
و إن تشعبوا شعبا مختلفة و تفرقوا فرقا متشتتة اختلط بعضهم ببعض و لو كان
المراد قتال البعض و إثبات الجزية على الجميع أو على ذلك البعض بعينه لاحتاج
المقام في إفادة ذلك إلى بيان غير هذا البيان يحصل به الغرض.
و حيث كان قوله: "من الذين أوتوا الكتاب" بيانا لما قبله من قوله: "الذين لا
يؤمنون" الآية فالأوصاف المذكورة أوصاف عامة لجميعهم و هي ثلاثة أوصاف وصفهم
الله سبحانه بها: عدم الإيمان بالله و اليوم الآخر، و عدم تحريم ما حرم الله و
رسوله، و عدم التدين بدين الحق.
فأول ما وصفهم به قوله: "الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر" و هو تعالى
ينسب إليهم في كلامه أنهم يثبتونه إلها و كيف لا؟ و هو يعدهم أهل الكتاب، و ما
هو إلا الكتاب السماوي النازل من عند الله على رسول من رسله و يحكي عنهم القول
أو لازم القول بالألوهية في مئات من آيات كتابه.
و كذا ينسب إليهم القول باليوم الآخر في أمثال قوله: "و قالوا لن تمسنا النار
إلا أياما معدودة:" البقرة: - 80، و قوله: "و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان
هودا أو نصارى:" البقرة: - 111.
غير أنه تعالى لم يفرق في كلامه بين الإيمان به و الإيمان باليوم الآخر فالكفر
بأحد الأمرين كفر بالله و الكفر بالله كفر بالأمرين جميعا، و حكم فيمن فرق بين
الله و رسله فآمن ببعض دون بعض أنه كافر كما قال: "إن الذين يكفرون بالله و
رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و
يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا و اعتدنا للكافرين عذابا
مهينا:" النساء: - 151.
فعد أهل الكتاب ممن لم يؤمن بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كفارا حقا و
إن كان عندهم إيمان بالله و اليوم الآخر، لا بلسان أنهم كفروا بآية من آيات
الله و هي آية النبوة بل بلسان أنهم كفروا بالإيمان بالله فلم يؤمنوا بالله و
اليوم الآخر كما أن المشركين أرباب الأصنام كافرون بالله إذ لم يوحدوه و إن
أثبتوا إلها فوق الآلهة.
على أنهم يقررون أمر المبدإ و المعاد تقريرا لا يوافق الحق بوجه كقولهم بأن
المسيح ابن الله و عزيرا ابن الله يضاهئون في ذلك قول الذين كفروا من أرباب
الأصنام و الأوثان أن من الآلهة من هو إله أب إله و من هو إله ابن إله، و قول
اليهود في المعاد بالكرامة و قول النصارى بالتفدية.
فالظاهر أن نفي الإيمان بالله و اليوم الآخر عن أهل الكتاب إنما هو لكونهم لا
يرون ما هو الحق من أمر التوحيد و المعاد و إن أثبتوا أصل القول بالألوهية لا
لأن منهم من ينكر القول بألوهية الله سبحانه أو ينكر المعاد فإنهم قائلون بذلك
على ما يحكيه عنهم القرآن و إن كانت التوراة الحاضرة اليوم لا خبر فيها عن
المعاد أصلا.
ثم وصفهم ثانيا بقوله: "و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله" و ذلك كقول اليهود
بإباحة أشياء عدها و ذكرها لهم القرآن في سورتي البقرة و النساء و غيرهما و قول
النصارى بإباحة الخمر و لحم الخنزير، و قد ثبت تحريمهما في شرائع موسى و عيسى و
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و أكلهم أموال الناس بالباطل كما سينسبه إليهم
في الآية الآتية: "إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس
بالباطل".
و المراد بالرسول في قوله: "ما حرم الله و رسوله" أما رسول أنفسهم الذي قالوا
بنبوته كموسى (عليه السلام) بالنسبة إلى اليهود، و عيسى (عليه السلام) بالنسبة
إلى النصارى فالمعنى لا يحرم كل أمة منهم ما حرمه عليهم رسولهم الذي قالوا
بنبوته، و اعترفوا بحقانيته و في ذلك نهاية التجري على الله و رسوله و اللعب
بالحق و الحقيقة.
و أما النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يجدونه مكتوبا عندهم في
التوراة و الإنجيل يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و
الأغلال التي كانت عليهم.
و يكون حينئذ توصيفهم بعدم تحريمهم ما حرم الله و رسوله بغرض تأنيبهم و الطعن
فيهم و لبعث المؤمنين و تهييجهم على قتالهم لعدم اعتنائهم بما حرمه الله و
رسوله في شرعهم و استرسالهم في الوقوع في محارم الله و هتك حرماته.
و ربما أيد هذا الاحتمال أن لو كان المراد بقوله: "و رسوله" رسول كل أمة
بالنسبة إليها كموسى بالنسبة إلى اليهود و عيسى بالنسبة إلى النصارى كان من حق
الكلام أن يقال: "و لا يحرمون ما حرم الله و رسله" على ما هو دأب القرآن في
نظائره للدلالة على كثرة الرسل كقوله: "و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله:"
النساء: - 150، و قوله: "قالت رسلهم أ في الله شك:" إبراهيم: - 10، و قوله: "و
جاءتهم رسلهم بالبينات:" يونس: - 13.
على أن النصارى رفضوا محرمات التوراة و الإنجيل فلم يحرموا ما حرم موسى و عيسى
(عليهما السلام)، و ليس من حق الكلام في مورد هذا شأنه: أنهم لا يحرمون ما حرم
الله و رسوله.
على أن المتدبر في المقاصد العامة الإسلامية لا يشك في أن قتال أهل الكتاب حتى
يعطوا الجزية ليس لغرض تمتع أولياء الإسلام و لا المسلمين من متاع الحياة
الدنيا و استرسالهم و انهماكهم في الشهوات على حد المترفين من الملوك و الرؤساء
المسرفين من أقوياء الأمم.
و إنما غرض الدين في ذلك أن يظهر دين الحق و سنة العدل و كلمة التقوى على
الباطل و الظلم و الفسق فلا يعترضها في مسيرها اللعب و الهوى فتسلم التربية
الصالحة المصلحة من مزاحمة التربية الفاسدة المفسدة حتى لا ينجر إلى أن تجذب
هذه إلى جانب، و تلك إلى جانب، فيتشوش أمر النظام الإنساني إلا أن لا يرتضي
واحد أو جماعة التربية الإسلامية لنفسه أو لأنفسهم فيكونون أحرارا فيما يرتضونه
لأنفسهم من تربية دينهم الخاصة على شرط أن يكونوا على شيء من دين التوحيد، و هو
اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، و أن لا يتظاهروا بالمزاحمة، و هذا غاية
العدل و النصفة من دين الحق الظاهر على غيره.
و أما الجزية فهي عطية مالية مأخوذة منهم مصروفة في حفظ ذمتهم و حسن إدارتهم و
لا غنى عن مثلها لحكومة قائمة على ساقها حقة أو باطلة.
و من هذا البيان يظهر أن المراد بهذه المحرمات: المحرمات الإسلامية التي عزم
الله أن لا تشيع في المجتمع الإسلامي العالمي كما أن المراد بدين الحق هو الذي
يعزم أن يكون هو المتبع في المجتمع.
و لازم ذلك أن يكون المراد بالمحرمات: المحرمات التي حرمها الله و رسوله محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم) الصادع بالدعوة الإسلامية، و أن يكون الأوصاف
الثلاثة: "الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر" الآية في معنى التعليل
تفيد حكمة الأمر بقتال أهل الكتاب.
و بذلك كله يظهر فساد ما أورد على هذا الوجه أنه لا يعقل أن يحرم أهل الكتاب
على أنفسهم ما حرم الله و رسوله علينا إلا إذا أسلموا، و إنما الكلام في أهل
الكتاب لا في المسلمين العاصين.
وجه الفساد أنه ليس من الواجب أن يكون الغرض من قتالهم أن يحرموا ما حرم
الإسلام و هم أهل الكتاب بل أن لا يظهر في الناس التبرز بالمحرمات من غير مانع
يمنع شيوعها و الاسترسال فيها كشرب الخمر و أكل لحم الخنزير و أكل المال
بالباطل على سبيل العلن بل يقاتلون ليدخلوا في الذمة فلا يتظاهروا بالفساد، و
يحتبس الشر فيما بينهم أنفسهم.
و لعله إلى ذلك الإشارة بقوله: "و هم صاغرون" على ما سيجيء في الكلام على ذيل
الآية.
ثم وصفهم ثالثا بقوله: "و لا يدينون دين الحق" أي لا يأخذونه دينا و سنة حيوية
لأنفسهم.
و إضافة الدين إلى الحق ليست من إضافة الموصوف إلى صفته على أن يكون المراد
الدين الذي هو حق بل من الإضافة الحقيقة، و المراد به الدين الذي هو منسوب إلى
الحق لكون الحق هو الذي يقتضيه للإنسان و يبعثه إليه، و كون هذا الدين يهدي إلى
الحق و يصل متبعيه إليه فهو من قبيل قولنا طريق الحق و طريق الضلال بمعنى
الطريق الذي هو للحق و الطريق الذي هو للضلال أي إن غايته الحق أو غايته
الضلال.
و ذلك أن المستفاد من مثل قوله تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي
فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:" الروم: - 30، و قوله:
"إن الدين عند الله الإسلام:" آل عمران: - 19، و سائر ما يجري هذا المجرى من
الآيات أن لهذا الدين أصلا في الكون و الخلقة و الواقع الحق يدعو إليه النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)، و يندب الناس إلى الإسلام و الخضوع له و يسمى
اتخاذه سنة في الحياة إسلاما لله تعالى فهو يدعو إلى ما لا مناص للإنسان عن
استجابته و التسليم له و هو الخضوع للسنة العملية الاعتبارية التي يهدي إليها
السنة الكونية الحقيقية، و بعبارة أخرى التسليم لإرادة الله التشريعية المنبعثة
عن إرادته التكوينية.
و بالجملة للحق الذي هو الواقع الثابت دين و سنة ينبعث منه كما أن للضلال و
الغي دينا يدعو إليه، و الأول اتباع للحق كما أن الثاني اتباع للهوى، قال
تعالى: "و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض".
و الإسلام دين الحق بمعنى أنه ستة التكوين و الطريقة التي تنطبق عليها الخلقة و
تدعو إليها الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك
الدين القيم.
فتلخص مما تقدم أولا: أن المراد بعدم إيمان أهل الكتاب بالله و اليوم الآخر عدم
تلبسهم بالإيمان المقبول عند الله، و بعدم تحريمهم ما حرم الله و رسوله عدم
مبالاتهم في التظاهر باقتراف المناهي التي يفسد التظاهر بها المجتمع البشري و
يخيب بها سعي الحكومة الحقة الجارية فيه، و بعدم تدينهم بدين الحق عدم استنانهم
بسنة الحق المنطبقة على الخلقة و المنطبقة عليها الخلقة و الكون.
و ثانيا: أن قوله: "الذين لا يؤمنون بالله" إلى آخر الأوصاف الثلاثة مسوق لبيان
الحكمة في الأمر بقتالهم و يترتب عليه فائدة التحريض و التحضيض عليه.
و ثالثا: أن المراد قتال أهل الكتاب جميعا لا بعضهم بجعل "من" في قوله: "من
الذين أوتوا الكتاب" للتبعيض.
قوله تعالى: "حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون" قال الراغب في المفردات:،
الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة، و تسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم.
انتهى.
و في المجمع:، الجزية فعلة من جزى يجزي مثل العقدة و الجلسة و هي عطية مخصوصة
جزاء لهم على تمسكهم بالكفر عقوبة لهم.
عن علي بن عيسى.
انتهى.
و الاعتماد على ما ذكره الراغب فإنه المتأيد بما ذكرناه آنفا أن هذه عطية مالية
مصروفة في جهة حفظ ذمتهم و حقن دمائهم و حسن إدارتهم.
و قال الراغب أيضا: الصغر و الكبر من الأسماء المتضادة التي تقال عند اعتبار
بعضها ببعض فالشيء قد يكون صغيرا في جنب الشيء و كبيرا في جنب آخر - إلى أن قال
- يقال: صغر صغرا - بالكسر فالفتح - في ضد الكبير و صغر صغرا و صغارا -
بالفتحتين فيهما - في الذلة.
و الصاغر الراضي بالمنزلة الدنية: "حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون" انتهى.
و الاعتبار بما ذكر في صدر الآية من أوصافهم المقتضية لقتالهم ثم إعطاؤهم
الجزية لحفظ ذمتهم يفيد أن يكون المراد بصغارهم خضوعهم للسنة الإسلامية و
الحكومة الدينية العادلة في المجتمع الإسلامي فلا يكافئوا المسلمين و لا
يبارزوهم بشخصية مستقلة حرة في بث ما تهواه أنفسهم و إشاعة ما اختلقته هوساتهم
من العقائد و الأعمال المفسدة للمجتمع الإنساني مع ما في إعطاء المال بأيديهم
من الهوان.
فظاهر الآية أن هذا هو المراد من صغارهم لا إهانتهم و السخرية بهم من جانب
المسلمين أو أولياء الحكومة الدينية فإن هذا مما لا يحتمله السكينة و الوقار
الإسلامي و إن ذكر بعض المفسرين.
و اليد: الجارحة من الإنسان و تطلق على القدرة و النعمة فإن كان المراد به في
قوله: "حتى يعطوا الجزية عن يد" هو المعنى الأول فالمعنى حتى يعطوا الجزية
متجاوزة عن يدهم إلى يدكم، و إن كان المراد هو المعنى الثاني فالمعنى: حتى
يعطوا الجزية عن قدرة و سلطة لكم عليهم و هم صاغرون غير مستعلين عليكم و لا
مستكبرين.
فمعنى الآية - و الله أعلم - قاتلوا أهل الكتاب لأنهم لا يؤمنون بالله و اليوم
الآخر إيمانا مقبولا غير منحرف عن الصواب و لا يحرمون ما حرمه الإسلام مما يفسد
اقترافه المجتمع الإنساني و لا يدينون دينا منطبقا على الخلقة الإلهية قاتلوهم
و دوموا على قتالهم حتى يصغروا عندكم و يخضعوا لحكومتكم، و يعطوا في ذلك عطية
مالية مضروبة عليهم يمثل صغارهم، و يصرف في حفظ ذمتهم و حقن دمائهم و حاجة
إدارة أمورهم.
قوله تعالى: "و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله" إلى
آخر الآية المضاهاة المشاكلة.
و الإفك على ما ذكره الراغب كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه فمعنى
"يؤفكون" يصرفون في اعتقادهم عن الحق إلى الباطل.
و قوله: "و قالت اليهود عزير ابن الله" عزير هذا هو الذي يسميه اليهود عزرا
غيرت اللفظة عند التعريب كما غير لفظ "يسوع" فصار بالتعريب "عيسى" و لفظ
"يوحنا" فصار كما قيل "يحيى".
و عزرا هذا هو الذي جدد دين اليهود و جمع أسفار التوراة و كتبها بعد ما افتقدت
في غائلة بخت نصر ملك بابل الذي فتح بلادهم و خرب هيكلهم و أحرق كتبهم و قتل
رجالهم و سبى نساءهم و ذراريهم و الباقين من ضعفائهم و سيرهم معه إلى بابل
فبقوا هنالك ما يقرب من قرن ثم لما فتح "كورش" ملك إيران بابل شفع لهم عنده
عزرا و كان ذا وجه عنده فأجاز له أن يعيد اليهود إلى بلادهم و أن يكتب لهم
التوراة ثانيا بعد ما افتقدوا نسخها و كان ذلك في حدود سنة 457 قبل المسيح على
ما ذكروا فراجت بينهم ثانيا ما جمعه عزرا من التوراة و إن كانوا افتقدوا أيضا
في زمن أنتيوكس صاحب سورية الذي فتح بلادهم حدود سنة 161 قم و تتبع مساكنهم
فأحرق ما وجده من نسخ التوراة و قتل من وجدت عنده أو أخذت عليه على ما في كتب
التاريخ.
و لما نالهم من خدمته عظموا قدره و احترموا أمره و سموه ابن الله و لا ندري أ
كان دعاؤه بالبنوة بالمعنى الذي يسمي به النصارى المسيح ابن الله - و المراد أن
فيه شيئا من جوهر الربوبية أو هو مشتق منه أو هو هو - أو أنها تسمية تشريفية
كما قالوا: نحن أبناء الله و أحباؤه؟ و إن كان ظاهر سياق الآية التالية:
"اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم" الآية يؤيد
الثاني على ما سيأتي.
و قد ذكر بعض المفسرين: أن هذا القول منهم: "عزير ابن الله" كلمة تكلم بها بعض
اليهود ممن في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) لا جميع اليهود فنسب إلى الجميع
كما أن قولهم: "إن الله فقير و نحن أغنياء" و كذا قولهم: "يد الله مغلولة" مما
قاله بعض يهود المدينة ممن عاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنسب في كلامه
تعالى إلى جميعهم لأن البعض منهم راضون بما عمله البعض الآخر، و الجميع ذو رأي
متوافق الأجزاء و روية متشابهة التأثير.
و قوله: "و قالت النصارى المسيح ابن الله" كلمة قالتها النصارى، و قد تقدم
الكلام فيها و في ما يتعلق بها في قصة المسيح (عليه السلام) من سورة آل عمران
في الجزء الثالث من الكتاب.
و قوله: "يضاهئون قول الذين كفروا من قبل" تنبىء الآية عن أن القول بالبنوة
منهم مضاهاة و مشاكلة لقول من تقدمهم من الأمم الكافرة و هم الوثنيون عبدة
الأصنام فإن من آلهتهم من هو إله أب إله و من هو إله ابن إله و، من هي إلهة أم
إله أو زوجة إله، و كذا القول بالثالوث مما كان دائرا بين الوثنيين من الهند و
الصين و مصر القديم و غيرهم و قد مر نبذة من ذلك فيما تقدم من الكلام في قصة
المسيح في ثالث أجزاء هذا الكتاب.
و تقدم هناك أن تسرب العقائد الوثنية في دين النصارى و مثلهم اليهود من الحقائق
التي كشف عنها القرآن الكريم في هذه الآية: "يضاهئون قول الذين كفروا من قبل".
و قد اعتنى جمع من محققي هذا العصر بتطبيق ما تضمنته كتب القوم أعني العهدين:
العتيق و الجديد على ما حصل من مذاهب البوذيين و البرهمائيين فوجدوا معارف
العهدين منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل حتى كثيرا من القصص و الحكايات
الموجودة في الأناجيل فلم يبق ذلك ريبا لأي باحث في أصالة قوله تعالى:
"يضاهئون" الآية في هذا الباب.
ثم دعا عليهم بقوله: "قاتلهم الله أنى يؤفكون" و ختم به الآية.
قوله تعالى: "اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم"
الأحبار جمع حبر بفتح الحاء و كسرها و هو العالم و غلب استعماله في علماء
اليهود و الرهبان جمع راهب و هو المتلبس بلباس الخشية و غلب على المتنسكين من
النصارى.
و اتخاذهم الأحبار و الرهبان أربابا من دون الله هو إصغاؤهم لهم و إطاعتهم من
غير قيد و شرط و لا يطاع كذلك إلا الله سبحانه.
و أما اتخاذهم المسيح بن مريم ربا من دون الله فهو القول بألوهيته بنحو كما هو
المعروف من مذاهب النصارى، و في إضافة المسيح إلى مريم إشارة إلى عدم كونهم
محقين في هذا الاتخاذ لكونه إنسانا ابن مرأة.
و لكون الاتخاذين مختلفين من حيث المعنى فصل بينهما فذكر اتخاذهم الأحبار و
الرهبان أربابا من دون الله أولا، ثم عطف عليه قوله: "و المسيح بن مريم".
و الكلام كما يدل على اختلاف الربوبيتين كذلك لا يخلو عن دلالة على أن قولهم
ببنوة عزير و بنوة المسيح على معنيين مختلفين، و هو البنوة التشريفية في عزير و
البنوة بنوع من الحقيقة في المسيح (عليه السلام) فإن الآية أهملت ذكر اتخاذهم
عزيرا ربا من دون الله، و لم يذكر مكانه إلا اتخاذهم الأحبار و الرهبان أربابا
من دون الله.
فهو رب عندهم بهذا المعنى إما لاستلزام التشريف بالبنوة ذلك أو لأنه من أحبارهم
و قد أحسن إليهم في تجديد مذهبهم ما لا يقاس به إحسان غيره، و أما المسيح
فبنوته غير هذه البنوة.
و قوله: "و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو" جملة حالية أي
اتخذوا لهم أربابا و الحال هذه.
و في الكلام دلالة أولا: على أن الاتخاذ بالربوبية بواسطة الطاعة كالاتخاذ بها
بواسطة العبادة فالطاعة إذا كانت بالاستقلال كانت عبادة، و لازم ذلك أن الرب
الذي هو المطاع من غير قيد و شرط و على نحو الاستقلال إله، فإن الإله هو
المعبود الذي من حقه أن يعبد، يدل على ذلك كله قوله تعالى: "و ما أمروا إلا
ليعبدوا إلها واحدا" حيث بدل الرب بالإله، و كان مقتضى الظاهر أن يقال و ما
أمروا إلا ليتخذوا ربا واحدا فالاتخاذ للربوبية بواسطة الطاعة المطلقة عبادة، و
اتخاذ الرب معبودا اتخاذ له إلها فافهم ذلك.
و ثانيا: على أن الدعوة إلى عبادة الله وحده فيما وقع من كلامه تعالى كقوله
تعالى: "لا إله إلا أنا فاعبدون:" الأنبياء: - 25 و قوله فلا تدع مع الله إلها
آخر": الشعراء: - 213 و أمثال ذلك كما أريد بها قصر العبادة بمعناها المتعارف
فيه تعالى كذلك أريد قصر الطاعة فيه تعالى، و ذلك أنه تعالى لم يؤاخذهم في
طاعتهم لأحبارهم و رهبانهم إلا بقوله عز من قائل: "و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها
واحدا لا إله إلا هو".
و على هذا المعنى يدل قوله تعالى: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا
الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم:" يس - 61، و هذا باب
ينفتح منه ألف باب.
و في قوله: "لا إله إلا هو" تتميم لكلمة التوحيد التي يتضمنها قوله: "و ما
أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا" فإن كثيرا من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بوجود
آلهة كثيرة، و هم مع ذلك لا يخصون بالعبادة إلا واحدا منها فعبادة إله واحد لا
يتم به التوحيد إلا مع القول بأنه لا إله إلا هو.
و قد جمع تعالى بين العبادتين مع الإشارة إلى مغايرة ما بينهما و أن قصر
العبادة بكلا معنييها عليه تعالى هو معنى الإسلام له سبحانه الذي لا مفر منه
للإنسان فيما أمر به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من دعوة أهل الكتاب بقوله:
"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله و
لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا
اشهدوا بأنا مسلمون:" آل عمران: - 64.
و قوله تعالى في ذيل الآية: "سبحانه عما يشركون" تنزيه له تعالى عما يتضمنه
قولهم بربوبية الأحبار و الرهبان، و قولهم بربوبية المسيح (عليه السلام) من
الشرك.
و الآية بمنزلة البيان التعليلي لقوله تعالى في أول الآيات: "الذين لا يؤمنون
بالله و لا باليوم الآخر" فإن اتخاذ إله أو آلهة دون الله سبحانه لا يجامع
الإيمان بالله، و لا الإيمان بيوم لا ملك فيه إلا لله.
قوله تعالى: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم إلى آخر الآية، الإطفاء إخماد
النار أو النور، و الباء في قوله: "بأفواههم" للآلة أو السببية.
و إنما ذكر الأفواه لأن النفخ الذي يتوسل به إلى إخماد الأنوار و السرج يكون
بالأفواه، قال في المجمع،: و هذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم و
تضعيف كيدهم لأن الفم يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الأقباس العظيمة.
انتهى.
و قال في الكشاف:، مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن
يزيده، و يبلغه الغاية القصوى في الإشراق و الإضاءة ليطفئه بنفخة و يطمسه.
انتهى، و الآية إشارة إلى حال الدعوة الإسلامية، و ما يريده منه الكافرون، و
فيها وعد جميل بأن الله سيتم نوره.
قوله تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو
كره المشركون" الهدى الهداية الإلهية التي قارنها برسوله ليهدي بأمره، و دين
الحق هو الإسلام بما يشتمل عليه من العقائد و الأحكام المنطبقة على الواقع
الحق.
و المعنى أن الله هو الذي أرسل رسوله و هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع
الهداية - أو الآيات و البينات - و دين فطري ليظهر و ينصر دينه الذي هو دين
الحق على كل الأديان و لو كره المشركون ذلك.
و بذلك ظهر أن الضمير في قوله: "ليظهره" راجع إلى دين الحق كما هو المتبادر من
السياق، و ربما قيل: إن الضمير راجع إلى الرسول، و المعنى ليظهر رسوله و يعلمه
معالم الدين كلها و هو بعيد.
و في الآيتين من تحريض المؤمنين على قتال أهل الكتاب و الإشارة إلى وجوب ذلك
عليهم ما لا يخفى فإنهما تدلان على أن الله أراد انتشار هذا الدين في العالم
البشري فلا بد من السعي و المجاهدة في ذلك، و أن أهل الكتاب يريدون أن يطفئوا
هذا النور بأفواههم فلا بد من قتالهم حتى يفنوا أو يستبقوا بالجزية و الصغار، و
أن الله سبحانه يأبى إلا أن يتم نوره، و يريد أن يظهر هذا الدين على غيره
فالدائرة بمشية الله لهم على أعدائهم فلا ينبغي لهم أن يهنوا و يحزنوا و هم
الأعلون إن كانوا مؤمنين.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال
الناس بالباطل و يصدون عن سبيل الله" الظاهر أن الآية إشارة إلى بعض التوضيح
لقوله في أول الآيات: و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق"
كما أن الآية السابقة كالتوضيح لقوله فيها: "الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم
الآخر".
أما إيضاح قوله تعالى: "و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله" بقوله: "إن كثيرا من
الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل" فهو إيضاح بأوضح المصاديق و
أهمها تأثيرا في إفساد المجتمع الإنساني الصالح، و إبطال غرض الدين.
فالقرآن الكريم يعد لأهل الكتاب و خاصة لليهود جرائم و آثاما كثيرة مفصلة في
سورة البقرة و النساء و المائدة و غيرها لكن الجرائم و التعديات المالية شأنها
غير شأن غيرها، و خاصة في هذا المقام الذي تعلق الغرض بإفساد أهل الكتاب
المجتمع الإنساني الصالح لو كانوا مبسوطي اليد و استقلالهم الحيوي قائما على
ساق، و لا مفسد للمجتمع مثل التعدي المالي.
فإن أهم ما يقوم به المجتمع الإنساني على أساسه هو الجهة المالية التي جعل الله
لهم قياما فجل المآثم و المساوي و الجنايات و التعديات و المظالم تنتهي
بالتحليل إما إلى فقر مفرط يدعو إلى اختلاس أموال الناس بالسرقة و قطع الطرق و
قتل النفوس و البخس في الكيل و الوزن و الغصب و سائر التعديات المالية، و إما
إلى غنى مفرط يدعو إلى الإتراف و الإسراف في المأكل و المشرب و الملبس و المنكح
و المسكن، و الاسترسال في الشهوات و هتك الحرمات، و بسط التسلط على أموال الناس
و أعراضهم و نفوسهم.
و تنتهي جميع المفاسد الناشئة من الطريقين كليهما بالتحليل إلى ما يعرض من
الاختلال على النظام الحاكم في حيازة الأموال و اقتناء الثروة، و الأحكام
المشرعة لتعديل الجهات المملكة المميزة لأكل المال بالحق من أكله بالباطل، فإذا
اختل ذلك و أذعنت النفوس بإمكان القبض على ما تحتها من المال، و تتوق إليه من
الثروة بأي طريق أمكن لقن ذلك إياها أن يظفر بالمال و يقبض على الثروة بأي طريق
ممكن حق أو باطل، و أن يسعى إلى كل مشتهى من مشتهيات النفس مشروع أو غير مشروع
أدى إلى ما أدى، و عند ذلك يقوم البلوى بفشو الفساد و شيوع الانحطاط الأخلاقي
في المجتمع، و انقلاب المحيط الإنساني إلى محيط حيواني ردي لا هم فيه إلا البطن
و ما دونه و لا يملك فيه إرادة أحد بسياسة أو تربية و لا تفقه فيه لحكمة و لا
إصغاء إلى موعظة.
و لعل هذا هو السبب الموجب لاختصاص أكل المال بالباطل بالذكر، و خاصة من
الأحبار و الرهبان الذين إليهم تربية الأمة و إصلاح المجتمع.
و قد عد بعضهم من أكلهم أموال الناس بالباطل ما يقدمه الناس إليهم من المال حبا
لهم لتظاهرهم بالزهد و التنسك، و أكل الربا و السحت، و ضبطهم أموال مخالفيهم و
أخذهم الرشا على الحكم، و إعطاء أوراق المغفرة و بيعها، و نحو ذلك.
و الظاهر أن المراد بها أمثال أخذ الرشوة على الحكم كما تقدم من قصتهم في تفسير
قوله تعالى: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" الآية: المائدة:
- 41، في الجزء الخامس من الكتاب.
و لو لم يكن من ذلك إلا ما كانت تأتي به الكنيسة من بيع أوراق المغفرة لكفى به
مقتا و لوما.
و أما ما ذكره من تقديم الأموال إليهم لتزهدهم، و كذا تخصيصهم بأوقاف و وصايا و
مبرات عامة فليس بمعدود من أكل المال بالباطل، و كذا ما ذكره من أكل الربا و
السحت فقد نسبه تعالى في كلامه إلى عامة قومهم كقوله تعالى: "و أخذهم الربا و
قد نهوا عنه:" النساء: - 161، و قوله: "سماعون للكذب أكالون للسحت": المائدة: -
42، و إنما كلامه تعالى في الآية التي نحن فيها فيما يخص أحبارهم و رهبانهم من
أكل المال بالباطل لا ما يعمهم و عامتهم.
إلا أن الحق أن زعماء الأمة الدينية و مربيهم في سلوك طريق العبودية المعتنين
بإصلاح قلوبهم و أعمالهم إذا انحرفوا عن طريق الحق إلى سبيل الباطل كان جميع ما
أكلوه لهذا الشأن و استدروه من منافعه سحتا محرما لا يبيحه لهم شرع و لا عقل.
و أما إيضاح قوله تعالى: "و لا يدينون دين الحق" بقوله: "و يصدون عن سبيل الله"
فهو أيضا مبني على ما قدمناه من النكتة في توصيفهم بالأوصاف الثلاثة التي
ثالثها قوله: "و لا يدينون دين الحق" و هو بيان ما يفسد من صفاتهم و أعمالهم
المجتمع الإنساني و يسد طريق الحكومة الدينية العادلة دون البلوغ إلى غرضها من
إصلاح الناس و تكوين مجتمع حي فعال بما يليق بالإنسان الفطري المتوجه إلى
سعادته الفطرية.
و لذا خص بالذكر من مفاسد عدم تدينهم بدين الحق ما هو العمدة في إفساد المجتمع
الصالح، و هو صدهم عن سبيل الله و منعهم الناس عن أن يسلكوه بما قدروا عليه من
طرقه الظاهرة و الخفية، و لا يزالون مصرين على هذه السليقة منذ عهد النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) حتى اليوم.
قوله تعالى: "و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم
بعذاب أليم" قال الراغب: الكنز جعل المال بعضه على بعض و حفظه، و أصله من كنزت
التمر في الوعاء، و زمن الكناز وقت ما يكنز فيه التمر، و ناقة كناز مكتنزة
اللحم، و قوله: "و الذين يكنزون الذهب و الفضة" أي يدخرونها، انتهى.
ففي مفهوم الكنز حفظ المال المكنوز و ادخاره و منعه من أن يجري بين الناس في
وجوه المعاملات فينمو نماء حسنا، و يعم الانتفاع به في المجتمع فينتفع به هذا
بالأخذ و ذاك بالرد، و ذلك بالعمل عليه و قد كان دأبهم قبل ظهور البنوك و
المخازن العامة أن يدفنوا الكنوز في الأرض سترا عليها من أن تقصد بسوء.
و الآية و إن اتصلت في النظم اللفظي بما قبلها من الآيات الذامة لأهل الكتاب و
الموبخة لأحبارهم و رهبانهم في أكلهم أموال الناس بالباطل و الصد عن سبيل الله
إلا أنه لا دليل من جهة اللفظ على نزولها فيهم و اختصاصها بهم البتة.
فلا سبيل إلى القول بأن الآية إنما نزلت في أهل الكتاب و حرمت الكنز عليهم، و
أما المسلمون فهم و ما يقتنون من ذهب و فضة يصنعون بأموالهم ما يشاءون من غير
بأس عليهم.
و الآية توعد الكانزين إيعادا شديدا، و يهددهم بعذاب شديد غير أنها تفسر الكنز
المدلول عليه بقوله: "الذين يكنزون الذهب و الفضة" بقوله: "و لا ينفقونها في
سبيل الله" فتدل بذلك على أن الذي يبغضه الله من الكنز ما يلازم الكف عن إنفاقه
في سبيل الله إذا كان هناك سبيل.
و سبيل الله على ما يستفاد من كلامه تعالى هو ما توقف عليه قيام دين الله على
ساقه و أن يسلم من انهدام بنيانه كالجهاد و جميع مصالح الدين الواجب حفظها، و
شئون مجتمع المسلمين التي ينفسخ عقد المجتمع لو انفسخت، و الحقوق المالية
الواجبة التي أقام الدين بها صلب المجتمع الديني، فمن كنز ذهبا أو فضة و الحاجة
قائمة و الضرورة عاكفة فقد كنز الذهب و الفضة و لم ينفقها في سبيل الله فليبشر
بعذاب أليم فإنه آثر نفسه على ربه و قدم حاجة نفسه أو ولده الاحتمالية على حاجة
المجتمع الديني القطعية.
و يستفاد هذا مما في الآية التالية من قوله: "هذا ما كنزتم لأنفسكم" فإنه يدل
على أن توجه العتاب عليهم لكونهم خصوه بأنفسهم و آثروها فيما خافوا حاجتها إليه
على سبيل الله الذي به حياة المجتمع الإنساني في الدنيا و الآخرة، و قد خانوا
الله و رسوله في ذلك من جهة أخرى و هي الستر و التغييب إذ لو كان ظاهرا جاريا
على الأيدي كان من الممكن أن يأمره ولي الأمر بإنفاقه في حاجة دينية قائمة لكن
إذا كنز كنزا و أخفى عن الأنظار لم يلتفت إليه، و بقيت الحاجة الضرورية قائمة
في جانب و المال المكنوز الذي هو الوسيلة الوحيدة لرفع الحاجة في جانب مع عدم
حاجة من كنزه إليه.
فالآية إنما تنهى عن الكنز لهذه الخصيصة التي هي إيثار الكانز نفسه بالمال من
غير حاجة إليه على سبيل الله مع قيام الحاجة إليه، و ناهيك أن الإسلام لا يحد
أصل الملك من جهة الكمية بحد فلو كان لهذا الكانز أضعاف ما كنزه من الذهب و
الفضة و لم يدخرها كنزا بل وضعها في معرض الجريان يستفيد به لنفسه الوفا و
الوفا، و يفيد غيره ببيع أو شراء أو عمل و غير ذلك لم يتوجه إليه نهي ديني لأنه
حيث نصبها على أعين الناس و أجراها في مجرى النماء الصالح النافع لم يخفها و لم
يمنعها من أن يصرف في سبيل الله فهو و إن لم ينفقها في سبيل الله إلا أنه بحيث
لو أراد ولي أمر المسلمين لأمره بالإنفاق فيما يرى لزوم الإنفاق فيه فليس هو
إذا لم ينفق و هو بمرأى و مسمع من ولي الأمر بخائن ظلوم.
فالآية ناظرة إلى الكنز الذي يصاحبه الامتناع عن الإنفاق في الحقوق المالية
الواجبة لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط بل بمعنى يعمها و غيرها من كل ما يقوم
عليه ضرورة المجتمع الديني من الجهاد و حفظ النفوس من الهلكة و نحو ذلك.
و أما الإنفاق المستحب كالتوسعة على العيال، و إعطاء المال و بذله على الفقراء
في الزائد على ضرورة حياتهم فهو و إن أمكن أن يطلق عليه فيما عندنا الإنفاق في
سبيل الله إلا أن نفس أدلته المبينة لاستحبابه تكشف عن أنه ليس من هذا الإنفاق
في سبيل الله المذكور في هذه الآية فكنز المال و عدم إنفاقه إنفاقا مندوبا مع
عدم سبيل ضروري ينفق فيه ليس من الكنز المنهي عنه في هذه الآية فهذا ما تدل
عليه الآية الكريمة، و قد طال فيها - لما يتعلق بها من بعض الأبحاث الكلامية -
المشاجرة بين المفسرين، و سنورد فيه كلاما بعد الفراغ عن البحث الروائي المتعلق
بالآيات إن شاء الله تعالى.
و قوله في ذيل الآية: "فبشرهم بعذاب أليم" إيعاد بالعذاب يدل على تحريمه
الشديد.
قوله تعالى: "يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم"
إلى آخر الآية.
إحماء الشيء جعله حارا في الإحساس، و الإحماء عليه الإيقاد ليتسخن و الإحماء
فوق التسخين، و الكي إلصاق الشيء الحار بالبدن.
و المعنى: أن ذلك العذاب المبشر به في يوم يوقد على تلك الكنوز في نار جهنم
فتكون محماة بالنار فتلصق بجباههم و جنوبهم و ظهورهم و يقال لهم عند ذلك: "هذا
ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون": فقد عاد عذابا عليكم تعذبون به.
و لعل تخصيص الجباه و الجنوب و الظهور لأنهم خضعوا لها و هو السجدة التي تكون
بالجباه و لاذوا إليها و اللواذ بالجنوب، و اتكئوا عليها و الاتكاء بالظهور، و
قيل غير ذلك و الله أعلم.
بحث روائي في الكافي، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث
الأسياف الذي ذكره عن أبيه قال: و أما السيوف الثلاثة المشهورة فسيف على مشركي
العرب، قال الله عز و جل: "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". قال: و السيف الثاني
على أهل الذمة قال الله عز و جل: "و قولوا للناس حسنا" نزلت هذه الآية في أهل
الذمة ثم نسخها قوله عز و جل: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر
- و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله - و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا
الكتاب - حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون" فمن كان منهم في دار الإسلام فلن
يقبل منه إلا الجزية أو القتل و مالهم فيء و ذراريهم سبي، و إذا قبلوا الجزية
على أنفسهم حرم علينا سبيهم، و حرمت أموالهم، و حلت لنا مناكحتهم، و من كان
منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم و أموالهم و لم يحل مناكحتهم، و لم يقبل إلا
الدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل. و فيه، بإسناده عن طلحة بن زيد عن
أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه و لا
من المغلوب على عقله. و فيه، بإسناده عن أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا قال:
سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المجوس أ كان لهم شيء؟ فقال: نعم أ ما بلغك
كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهل مكة: أن أسلموا و إلا
نابذتكم بحرب فكتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أن خذ منا
الجزية و دعنا على عبادة الأوثان. فكتب إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب. فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه: زعمت
أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ثم أخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المجوس كان لهم نبي فقتلوه و كتاب أحرقوه.
أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور.
أقول: و في هذه المعاني روايات أخرى مودعة في جوامع الحديث و استيفاء الكلام في
مسائل الجزية و الخراج و غيرهما في الفقه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن أبي أمامة عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: القتال قتالان: قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن
يد و هم صاغرون، و قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله فإذا فاءت أعطيت
العدل. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو
الشيخ و البيهقي في سننه عن مجاهد: في قوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله"
الآية قال: نزلت هذه حين أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه بغزوة
تبوك.
أقول: و قد تقدمت الروايات في ذيل آية المباهلة أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أقر الجزية على نصارى نجران، و كان ذلك على ما دل عليه أمثل الروايات سنة
ست من الهجرة قبل غزوة تبوك بسنين، و كذا دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) ملوك
الروم و مصر و العجم و هم من أهل الكتاب كانت سنة ست.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) الجزية من مجوس أهل هجر و من يهود اليمن و نصاراهم من كل حالم دينار. و
فيه، أخرج مالك و الشافعي و أبو عبيد في كتاب الأموال و ابن أبي شيبة عن جعفر
عن أبيه أن عمر بن الخطاب استشار الناس في المجوس في الجزية فقال عبد الرحمن بن
عوف سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
و فيه، أخرج عبد الرزاق في المصنف عن علي بن أبي طالب: أنه سئل عن أخذ الجزية
من المجوس فقال: و الله ما على الأرض اليوم أحد أعلم بذلك مني إن المجوس كانوا
أهل كتاب يعرفونه، و علم يدرسونه فشرب أميرهم الخمر فسكر فوقع على أخته فرآه
نفر من المسلمين فلما أصبح قالت أخته: إنك قد صنعت بها كذا و كذا، و قد رآك نفر
لا يسترون عليك فدعا أهل الطمع ثم قال لهم قد علمتم أن آدم (عليه السلام) قد
أنكح بنيه بناته. فجاء أولئك الذين رأوه فقالوا: ويل للأبعد إن في ظهرك حد الله
فقتلهم أولئك الذين كانوا عنده ثم جاءت امرأة فقالت له: بلى قد رأيتك فقال لها:
ويحا لبغي بني فلان قالت: أجل و الله قد كانت بغية ثم تابت فقتلها، ثم أسري على
ما في قلوبهم و على كتبهم فلم يصبح عندهم شيء. و في تفسير العياشي،: في قوله
تعالى: "و قالت اليهود عزير ابن الله" الآية: عن عطية العوفي عن أبي سعيد
الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشتد غضب الله على
اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، و اشتد غضب الله على النصارى حين قالوا:
المسيح ابن الله، و اشتد غضب الله على من أراق دمي و آذاني في عترتي. و في الدر
المنثور، أخرج البخاري في تاريخه عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم أحد شج
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجهه و كسرت رباعيته فقام رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ رافعا يديه يقول: إن الله عز و جل اشتد غضبه
على اليهود أن قالوا: عزير ابن الله و اشتد غضبه على النصارى أن قالوا المسيح
ابن الله و إن الله اشتد غضبه على من أراق دمي و آذاني في عترتي.
أقول: و قد روي في الدر المنثور، و غيره عن ابن عباس و كعب الأحبار و السدي و
غيرهم روايات في قصة عزير هي أشبه بالإسرائيليات، و الظاهر أن الجميع تنتهي إلى
كعب.
و في الإحتجاج، للطبرسي عن علي (عليه السلام) قال: "قاتلهم الله أنى يؤفكون" أي
لعنهم الله أنى يؤفكون فسمى اللعنة قتالا، و كذلك: "قتل الإنسان ما أكفره" أي
لعن الإنسان: أقول: و روي ذلك من طرق أهل السنة عن ابن عباس و هو على أي حال
تفسير يلازم المعنى لا بالمراد اللفظي.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له:
"اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله" فقال: أما و الله ما دعوهم إلى
عبادة أنفسهم، و لو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، و لكن أحلوا لهم حراما
و حرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون.
أقول: و روى هذا المعنى البرقي في المحاسن، و رواه العياشي في تفسيره عن أبي
بصير و عن جابر جميعا عن أبي عبد الله (عليه السلام) و عن حذيفة، و رواه في
الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الطرق عن حذيفة.
و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في
قوله: "اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله" قال: أما المسيح فبعض
عظموه في أنفسهم حتى زعموا أنه إله و أنه ابن الله، و طائفة منهم قالوا: ثالث
ثلاثة، و طائفة منهم قالوا: هو الله. و أما قوله: "أحبارهم و رهبانهم" فإنهم
أطاعوا و أخذوا بقولهم، و اتبعوا ما أمروهم به، و دانوا بما دعوهم إليه
فاتخذوهم أربابا بطاعتهم لهم و تركهم أمر الله و كتبه و رسله فنبذوه وراء
ظهورهم، و ما أمرهم به الأحبار و الرهبان اتبعوهم و أطاعوهم و عصوا الله.
الحديث.
و في تفسير البرهان، عن المجمع قال: و روى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال:
أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و في عنقي صليب من ذهب فقال لي: يا
عدي اطرح هذا الربق. و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن أبي بصير قال:
قال أبو عبد الله (عليه السلام): في قوله عز و جل: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى
و دين الحق" الآية و الله ما نزل تأويلها بعد و لا ينزل تأويلها حتى يخرج
القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله و لا مشرك بالإمام إلا كره خروجه حتى
لو كان الكافر في بطن صخرة قالت: يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني و اقتله.
أقول: و روى ما في معناه العياشي عن أبي المقدام عن أبي جعفر (عليه السلام) و
عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و كذا الطبرسي مثله عن أبي جعفر (عليه
السلام)، و في تفسير القمي، أنها نزلت في القائم من آل محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم)، و معنى نزولها فيه كونه تأويلها كما يدل عليه رواية الصدوق.
و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و البيهقي في سننه عن
جابر: في قوله: "ليظهره على الدين كله" قال: لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي و
لا نصراني صاحب ملة إلا الإسلام حتى تأمن الشاة الذئب، و البقرة الأسد، و
الإنسان الحية، و حتى لا تقرض فأرة جرابا، و حتى يوضع الجزية و يكسر الصليب و
يقتل الخنزير، و ذلك إذا نزل عيسى بن مريم (عليهما السلام).
أقول: و المراد بوضع الجزية أن تصير متروكة لا حاجة إليها لعدم الموضوع بقرينة
صدر الحديث، و ما دلت عليه هذه الروايات من عدم بقاء كفر و لا شرك يومئذ يؤيدها
روايات أخرى، و هناك روايات أخرى تدل على وضع المهدي (عليه السلام) الجزية على
أهل الكتاب بعد ظهوره.
و ربما أيده قوله تعالى في أهل الكتاب: "و ألقينا بينهم العداوة و البغضاء إلى
يوم القيامة:" المائدة: - 64، "فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم
القيامة": المائدة: - 14، و ما في معناه من الآيات فإنها لا تخلو من ظهور ما في
بقائهم إلى يوم القيامة إن لم تكن كناية عن ارتفاع المودة بينهم ارتفاعا أبديا،
و قد تقدم في ذيل الآيات بعض الكلام في هذا المعنى.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر: أن عثمان بن عفان
لما أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة: "و الذين
يكنزون الذهب و الفضة" قال أبي: لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها. و
في أمالي الشيخ، قال: أخبرنا جماعة عن أبي المفضل و ساق إسناده قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما نزلت هذه الآية: "و الذين يكنزون الذهب و
الفضة - و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" كل ما يؤدى زكاته فليس
بكنز و إن كان تحت سبع أرضين، و كل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز و إن كان فوق
الأرض.
أقول: و روي ما في معناه في الدر المنثور، عن ابن عدي و الخطيب عن جابر عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا بطرق أخرى عن ابن عباس و غيره.
و فيه، أيضا بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه أبي جعفر (عليه
السلام): أنه سئل عن الدنانير و الدراهم و ما على الناس. فقال أبو جعفر (عليه
السلام): هي خواتيم الله في أرضه جعلها الله مصلحة لخلقه، و بها يستقيم شئونهم
و مطالبهم فمن أكثر له منها فقال بحق الله تعالى فيها أدى زكاتها فذاك الذي
طلبه، و خلص له، و من أكثر له منها فبخل بها و لم يؤد حق الله فيها و اتخذ منها
الأبنية فذاك الذي حق عليه وعيد الله عز و جل في كتابه يقول الله تعالى: "يوم
يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم - هذا ما كنزتم
لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون".
أقول: و الرواية تؤيد ما استفدناه سابقا من الآية.
و في تفسير القمي، قال: كان أبو ذر الغفاري يغدو كل يوم و هو في الشام فينادي
بأعلى صوته: بشر أهل الكنوز بكي في الجباه، و كي في الجنوب و كي في الظهور حتى
يتردد الحر في أجوافهم.
أقول: و قد استفاد الطبرسي في المجمع، من الرواية الوجه في تخصيص الجباه و
الجنوب و الظهور من بين أعضاء الإنسان بالذكر في الآية، و أن الغرض من تعذيبهم
بهذا الوجه إيراد حر النار في أجوافهم و هي داخل الرءوس فتكوى جباههم و داخل
الصدور و البطون فتكوى جنوبهم و ظهورهم.
و يمكن تتميم ما ذكره بأنهم يكبون على وجوههم و رءوسهم منكوسة على ما يشعر به
الأخبار و بعض الآيات ثم تكوى أعضاؤهم من فوق فينتج ذلك كي الجباه و الجنوب و
الظهور.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق في المصنف عن أبي ذر قال: بشر أصحاب الكنوز
بكي في الجباه و في الجنوب و في الظهور. و فيه، أخرج ابن سعد و ابن أبي شيبة و
البخاري و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن زيد بن وهب قال: مررت على
أبي ذر بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت: "و الذين
يكنزون الذهب و الفضة - و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" فقال
معاوية: ما هذه فينا هذه في أهل الكتاب. قلت أنا: إنها لفينا و فيهم. و فيه،
أخرج مسلم و ابن مردويه عن الأحنف بن قيس قال: جاء أبو ذر فقال: بشر الكانزين
بكي من قبل ظهورهم يخرج من جنوبهم، و كي من جباههم يخرج من أقفائهم، فقلت: ما
ذا؟ قال: ما قلت إلا ما سمعت من نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيه، أخرج
أحمد في الزهد عن أبي بكر المنكدر قال: بعث حبيب بن سلمة إلى أبي ذر و هو أمير
الشام بثلاثمائة دينار، و قال: استعن بها على حاجتك فقال أبو ذر: أرجع بها إليه
أ ما وجد أحدا أغر بالله منا ما لنا إلا الظل نتوارى به، و ثلاثة من غنم تروح
علينا، و مولاة لنا تصدق علينا بخدمتها ثم إني لأنا أتخوف الفضل.
و فيه، أخرج البخاري و مسلم عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملإ من قريش فجاء
رجل خشن الشعر و الثياب و الهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشر الكانزين برضف
يحمى عليه في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، و
يوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتدلدل. ثم ولى و جلس إلى سارية
فتبعته و جلست إليه و أنا لا أدري من هو؟ فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا ما
قلت، قال: إنهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي. قلت: من خليلك؟ قال: النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، أ تبصر أحدا؟ قلت: نعم. قال: ما أحب أن يكون لي مثل أحد
ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير و إن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون للدنيا و
الله لا أسألهم دنيا، و لا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز و جل. و في تاريخ
الطبري، عن شعيب عن سيف عن محمد بن عوف عن عكرمة عن ابن عباس: أن أبا ذر دخل
على عثمان و عنده كعب الأحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى
يبذلوا المعروف، و قد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى
الجيران و الإخوان و يصل القرابات. فقال: كعب من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه،
فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجه فاستوهبه عثمان فوهبه له و قال: يا أبا ذر اتق
الله و اكفف يدك و لسانك، و قد كان قال له: يا ابن اليهودية ما أنت و ما هاهنا.
أقول: و قصص أبي ذر و اختلافه مع عثمان و معاوية معروفة مضبوطة في كتب التاريخ
و التدبر فيما مر من أحاديثه و ما قاله لمعاوية إن الآية لا تختص بأهل الكتاب و
ما خاطب به عثمان و واجه به كعبا يدل على أنه إنما فهم من الآية ما قدمناه أنها
توعد على الكف عن الإنفاق في السبيل الواجب.
و يؤيده تحليل الحال الحاضر يومئذ فقد كان الناس يومئذ انقسموا قسمين و تبعضوا
شطرين عامة لا يقدرون على قوت اليوم، و لا يجدون ما يستر عوراتهم و ما لهم إلى
أوجب حوائجهم سبيل، و خاصة أسكرتهم الدنيا بجماع ما فيها من مال و منال يكنزون
مئات الألوف و ألوف الألوف من عطايا الخلافة و غنائم الحروب و مال الخراج.
و يكفيك في التبصر فيه أن تراجع ما ضبطته التواريخ من أموال الصحابة من نقد و
رقيق و ضيعة و شامخات القصور و ناجمات الدور، و ما أحدثه معاوية و سائر بني
أمية بالشام و غيره من أزياء قيصرانية و كسروانية.
و الإسلام لا يرتضي شيئا من ذلك و لا ينفذ هذا الاختلاف الفاحش دون أن تتقارب
الطبقات بالإنفاق، و تصلح عامة الأوضاع بانعطاف الأغنياء على الفقراء، و
الأقوياء على الضعفاء.
و ربما قيل: إن أبا ذر كان يرى باجتهاد منه أن الزائد على القدر الواجب من
المال الذي ينفق لسد الجوع و ستر العورة كنز يجب إنفاقه في سبيل الله أو أنه
كان يدعو إلى الزهد في الدنيا.
لكن الذي يوجد من بعض كلامه في الروايات يكذبه فإنه لا يستند في شيء مما قاله
إلى اجتهاده و رأي نفسه بل بقوله: ما قلت لهم إلا ما سمعت من نبيهم، و قال
خليلي كذا و كذا، و قد صحت الرواية و استفاضت من طرق الفريقين عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء ذا لهجة
أصدق من أبي ذر".
و بذلك يظهر فساد ما ذكره شداد بن أوس فيما روى عنه أحمد و الطبراني قال: "كان
أبو ذر يسمع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يخرج إلى باديته ثم
يرخص فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك فيحفظ من رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) الرخصة فلا يسمعها أبو ذر فيأخذ أبو ذر بالأمر الأول الذي
سمع قبل ذلك.
و ذلك أن الذي ذكر من أبي ذر أنما هو قوله: إن آية الكنز لا تختص بأهل الكتاب
بل يعمهم و المسلمين، و ليس هذا مصداقا لما ذكره في الرواية من العزيمة و
الرخصة، و كذا قوله: إن تأدية الزكاة فحسب لا يكفي في جواز الكنز و عدم إنفاقه
في الواجب من سبيل الله، و كيف يتصور في حقه أن لا يكون يسمع أن الإنفاق منه
مستحب كما أن منه واجبا و أن لا يعلم أن أدلة الإنفاق المندوب أحسن مبين لآية
الكنز.
و أوهن من ذلك ما تعلق به الطبري في تاريخه فقد روي عن شعيب عن سيف عن عطية عن
يزيد الفقعسي قال: لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر أ لا
تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله ألا إن كل شيء لله: كأنه يريد أن يحتجبه
دون المسلمين، و يمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي
مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر أ لسنا عباد الله و المال
ماله و الخلق خلقه و الأمر أمره؟ قال: فلا تقله، قال: فإني لا أقول: إنه ليس
لله، و لكن سأقول: مال المسلمين. قال: و أتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له:
من أنت؟ أظنك و الله يهوديا؟ فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به فأتى به معاوية
فقال: هذا و الله الذي بعث عليك أبا ذر. و قام أبو ذر بالشام و جعل يقول: يا
معشر الأغنياء و أسوأ الفقراء بشر الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في
سبيل الله بمكان من نار تكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم. الحديث.
و محصله أن أبا ذر إنما بادر إلى ما بادر و ألح عليه بتسويل من ابن السوداء و
هذان اللذان روي عنهما الحديث و عنهما يروى جل قصص عثمان أعني شعيبا و سيفا هما
من الكذابين الوضاعين المشهورين ذكرهما علماء الرجال و قدحوا فيهما.
و الذي اختلقاه من حديث ابن السوداء و هو الذي سموه عبد الله بن سبإ، و إليهما
ينتهي حديثه، من الأحاديث الموضوعة، و قد قطع المحققون من أصحاب البحث أخيرا أن
ابن السوداء هذا من الموضوعات الخرافية التي لا أصل لها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): ما من ذي كنز لا يؤدي حقه إلا جيء به يوم القيامة تكوى به جبينه و
جبهته، و قيل له: هذا كنزك الذي بخلت به. و فيه، أخرج الطبراني في الأوسط و أبو
بكر الشافعي في الغيلانيات عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم القدر الذي يسع فقراءهم، و
لن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يمنع أغنياؤهم. ألا و إن الله
يحاسبهم حسابا شديدا أو يعذبهم عذابا أليما. و فيه، أخرج الحاكم و صححه و ضعفه
الذهبي عن أبي سعيد الخدري عن بلال قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): يا بلال الق الله فقيرا و لا تلقه غنيا. قلت: و كيف لي بذلك؟ قال: إذا
رزقت فلا تخبأ، و إذا سئلت فلا تمنع، قلت: و كيف لي بذلك؟ قال: هو ذاك و إلا
فالنار.
كلام في معنى الكنز
لا ريب أن المجتمع الذي أوجده الإنسان بحسب طبعه الأولي إنما يقوم بمبادلة
المال و العمل، و لو لا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني و لا طرفة عين فإنما يتزود
الإنسان من مجتمعه بأن يحرز أمورا من أوليات المادة الأرضية و يعمل عليها ما
يسعه من العمل ثم يقتني من ذلك لنفسه ما يحتاج إليه، و يعوض ما يزيد على حاجته
من سائر ما يحتاج إليه مما عند غيره من أفراد المجتمع كالخباز يأخذ لنفسه من
الخبز ما يقتات به و يعوض الزائد عليه من الثوب الذي نسجه النساج و هكذا فإنما
أعمال المجتمعين في ظرف اجتماعهم بيع و شرى و مبادلة و معاوضة.
و الذي يتحصل من الأبحاث الاقتصادية أن الإنسان الأولي كان يعوض في معاملاته
العين بالعين من غير أن يكونوا متنبهين لأزيد من ذلك غير أن النسب بين الأعيان
كانت تختلف عندهم باشتداد الحاجة و عدمه، و بوفور الأعيان المحتاج إليها و
اعوازها فكلما كانت العين أمس بحاجة الإنسان أو قل وجودها توفرت الرغبات إلى
تحصيلها، و ارتفعت نسبتها إلى غيرها، و كلما بعدت عن مسيس الحاجة أو ابتذلت
بالكثرة و الوفور انصرفت النفوس عنها و انخفضت نسبتها إلى غيرها و هذا هو أصل
القيمة.
ثم إنهم عمدوا إلى بعض الأعيان العزيزة الوجود عندهم فجعلوها أصلا في القيمة
تقاس إليه سائر الأعيان المالية بمالها من مختلف النسب كالحنطة و البيضة و
الملح فصارت مدارا تدور عليها المبادلات السوقية، و هذه السليقة دائرة بينهم في
بعض المجتمعات الصغيرة في القرى و بين القبائل البدوية حتى اليوم.
و لم يزالوا على ذلك حتى ظفروا ببعض الفلزات كالذهب و الفضة و النحاس و نحوها
فجعلوها أصلا إليه يعود نسب سائر الأعيان من جهة قيمها، و مقياسا واحدا يقاس
إليها غيرها فهي النقود القائمة بنفسها و غيرها يقوم بها ثم آل الأمر إلى أن
يحوز الذهب المقام أول و الفضة تتلوه، و يتلوها غيرهما، و سكت الجميع بالسكك
الملوكية أو الدولية فصارت دينارا و درهما و فلسا و غير ذلك بما يطول شرحه على
خروجه من غرض البحث.
فلم يلبث النقدان حتى عادا أصلا في القيمة بهما يقوم كل شيء، و إليهما يقاس ما
عند الإنسان من مال أو عمل، و فيهما يرتكز ارتفاع كل حاجة حيوية، و هما ملاك
الثروة و الوجد كالمتعلق بهما روح المجتمع في حياته يختل أمره باختلال أمرهما،
إذا جريا في سوق المعاملات جرت المعاملات بجريانهما، و إذا وقفا وقفت.
و قد أوضحت ما عليهما من الوظيفة المحولة إليهما في المجتمعات الإنسانية من حفظ
قيم الأمتعة و الأعمال، و تشخيص نسب بعضها إلى بعض، الأوراق الرسمية الدائرة
اليوم فيما بين الناس كالبوند و الدولار و غيرهما و الصكوك البنجية المنتشرة
فإنها تمثل قيم الأشياء من غير أن تتضمن عينية لها قيمة في نفسها فهي قيم خالصة
مجردة تقريبا.
فالتأمل في مكانة الذهب و الفضة الاجتماعية بما هما نقدان حافظان للقيم و
مقياسان يقاس إليهما الأمتعة و الأموال بما لها من النسب الدائرة بينها تنور
أنهما ممثلان لنسب الأشياء بعضها إلى بعض، و إذ كانت بحسب الاعتبار ممثلات
للنسب - و إن شئت فقل: نفس النسب - تبطل النسب ببطلان اعتبارها، و تحبس بحبسها
و منع جريانها و تقف بوقوفها.
و قد شاهدنا في الحربين العالميين الأخيرين ما ذا أوجده بطلان اعتبار نقود بعض
الدول؟ كالمنات في الدولة التزارية و المارك في الجرمن من البلوى و سقوط الثروة
و اختلال أمر الناس في حياتهم، و الحال في كنزهما و منع جريانهما بين الناس هذا
الحال.
و إلى ذلك يشير قول أبي جعفر (عليه السلام) في رواية الأمالي المتقدمة: "جعلها
الله مصلحة لخلقه و بها يستقيم شئونهم و مطالبهم".
و من هنا يظهر أن كنزهما إبطال لقيم الأشياء و إماتة لما في وسع المكنوز منهما
من إحياء المعاملات الدائرة و قيام السوق في المجتمع على ساقه، و ببطلان
المعاملات و تعطل الأسواق تبطل حياة المجتمع، و بنسبة ما لها من الركود و
الوقوف تقف و تضعف.
لست أريد خزنهما في مخازن تختص بهما فإن حفظ نفائس الأموال و كرائم الأمتعة من
الضيعة من الواجبات التي تهدي إليه الغريزة الإنسانية و يستحسنه العقل السليم
فكلما جرت وجوه النقد في سبيل المعاملات كيفما كان فهو و إذا رجعت فمن الواجب
أن تختزن و تحفظ من الضيعة و ما يهددها من أيادي الغصب و السرقة و الغيلة و
الخيانة.
و إنما أعني به كنزهما و جعلهما في معزل عن الجريان في المعاملات السوقية و
الدوران لإصلاح أي شأن من شئون الحياة و رفع الحوائج العاكفة على المجتمع
كإشباع جائع و إرواء عطشان و كسوة عريان و ربح كاسب و انتفاع عامل و نماء مال و
علاج مريض و فك أسير و إنجاء غريم و الكشف عن مكروب و التفريج عن مهموم و إجابة
مضطر و الدفع عن بيضة المجتمع الصالح و إصلاح ما فسد من الجو الاجتماعي.
و هي موارد لا تحصى واجبة أو مندوبة أو مباحة لا يتعدى فيها حد الاعتدال إلى
جانبي الإفراط و التفريط و البخل و التبذير، و المندوب من الإنفاق و إن لم يكن
في تركه مأثم و لا إجرام شرعا و لا عقلا غير أن التسبب إلى إبطال المندوبات من
رأس و الاحتيال لرفع موضوعها من أشد الجرم و المعصية.
اعتبر ذلك فيما بين يديك من الحياة اليومية بما يتعلق به من شئون المسكن و
المنكح و المأكل و المشرب و الملبس تجد أن ترك النفل المستحب من شئون الحياة و
المعاش و الاقتصار دقيقا على الضروري منها - الذي هو بمنزلة الواجب الشرعي -
يوجب اختلال أمر الحياة اختلالا لا يجبره جابر و لا يسد طريق الفساد فيه ساد.
و بهذا البيان يظهر أن قوله تعالى: "و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا
ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" ليس من البعيد أن يكون مطلقا يشمل
الإنفاق المندوب بالعناية التي مرت فإن في كنز الأموال رفعا لموضوع الإنفاق
المندوب كالإنفاق الواجب لا مجرد عدم الإنفاق مع صلاحية الموضوع لذلك.
و بذلك يتبين أيضا معنى ما خاطب به أبو ذر عثمان بن عفان لما دخل عليه على ما
تقدم في رواية الطبري حيث قال له: "لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا
المعروف، و قد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران و
الإخوان و يصل القرابات".
فإن لفظه كالصريح أو هو صريح في أنه لا يرى كل إنفاق فيما يفضل من المئونة بعد
الزكاة واجبا، و أنه يقسم الإنفاق في سبيل الله إلى ما يجب و ما ينبغي غير أنه
يعترض بانقطاع سبيل الإنفاق من غير جهة الزكاة و انسداد باب الخيرات بالكلية و
في ذلك إبطال غرض التشريع و إفساد المصلحة العامة المشرعة.
يقول: ليست هي حكومة استبدادية قيصرانية أو كسروانية، لا وظيفة لها إلا بسط
الأمن و كف الأذى بالمنع عن إيذاء بعض الناس بعضا ثم الناس أحرار فيما فعلوا
غير ممنوعين عن ما اشتهوا من عمل أفرطوا أو فرطوا، أصلحوا أو أفسدوا، اهتدوا أو
ضلوا و تاهوا، و المتقلد لحكومتهم حر فيما عمل و لا يسأل عما يفعل.
و إنما هي حكومة اجتماعية دينية لا ترضى عن الناس بمجرد كف الأذى بل تسوق الناس
في جميع شئون معيشتهم إلى ما يصلح لهم و يهيىء لكل من طبقات المجتمع من أميرهم
و مأمورهم و رئيسهم و مرءوسهم و مخدومهم و خادمهم و غنيهم و فقيرهم و قويهم و
ضعيفهم ما يسع له من سعادة حياتهم فترفع حاجة الغني بإمداد الفقير و حاجة
الفقير بمال الغني و تحفظ مكانة القوي باحترام الضعيف و حياة الضعيف برأفة
القوي و مراقبته، و مصدرية العالي بطاعة الداني و طاعة الداني بنصفة العالي و
عدله، و لا يتم هذا كله إلا بنشر المبرات و فتح باب الخيرات، و العمل بالواجبات
على ما يليق بها و المندوبات على ما يليق بها و أما القصر على القدر الواجب، و
ترك الإنفاق المندوب من رأس فإن فيه هدما لأساس الحياة الدينية، و إبطالا لغرض
الشارع، و سيرا حثيثا إلى نظام مختل و هرج و مرج و فساد عريق لا يصلحه شيء كل
ذلك عن المسامحة في إحياء غرض الدين، و المداهنة مع الظالمين إلا تفعلوه تكن
فتنة في الأرض و فساد كبير.
و كذلك قول أبي ذر لمعاوية فيما تقدم من رواية الطبري: "ما يدعوك إلى أن تسمي
مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر أ لسنا عباد الله و المال
ماله و الخلق خلقه و الأمر أمره قال: فلا تقله".
فإن الكلمة التي كان يقولها معاوية و عماله و من بعده من خلفاء بني أمية و إن
كانت كلمة حق و قد رويت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يدل عليها كتاب
الله لكنهم كانوا يستنتجون منه خلاف ما يريده الله سبحانه فإن المراد به أن
المال لا يختص به أحد بعزة أو قوة أو سيطرة و إنما هو لله ينفق في سبيله على
حسب ما عينه من موارد إنفاقه فإن كان مما اقتناه الفرد بكسب أو إرث أو نحوهما
فله حكمة، و إن كان مما حصلته الحكومة الإسلامية من غنيمة أو جزية أو خراج أو
صدقات أو نحو ذلك فله أيضا موارد إنفاق معينة في الدين، و ليس في شيء من ذلك
لوالي الأمر أن يخص نفسه أو واحدا من أهل بيته بشيء يزيد على لازم مئونته فضلا
أن يكنز الكنوز و يرفع به القصور و يتخذ الحجاب و يعيش عيشة قيصر و كسرى.
و أما هؤلاء فإنما كانوا يقولونه دفعا لاعتراض الناس عليهم في صرف مال المسلمين
في سبيل شهواتهم و بذله فيما لا يرضى الله، و منعه أهلية و مستحقيه أن المال
للمسلمين تصرفونه في غير سبيلهم! فيقولون: إن المال مال الله و نحن أمناءه نعمل
فيه بما نراه فيستبيحون بذلك اللعب بمال الله كيف شاءوا و يستنتجون به صحة
عملهم فيه بما أرادوا و هو لا ينتج إلا خلافه، و مال الله و مال المسلمين بمعنى
واحد، و قد أخذوهما لمعنيين اثنيين يدفع أحدهما الآخر.
و لو كان مراد معاوية بقوله: "المال مال الله" هو الصحيح من معناه لم يكن معنى
لخروج أبي ذر من عنده و ندائه في الملإ من الناس: بشر الكانزين بكي في الجباه و
كي في الجنوب و كي في الظهور.
على أن معاوية قد قال لأبي ذر إنه يرى أن آية الكنز خاصة بأهل الكتاب و ربما
كان من أسباب سوء ظنه بهم إصرارهم عند كتابة مصحف عثمان أن يحذفوا الواو من
قوله: "و الذين يكنزون الذهب" إلخ حتى هددهم أبي بالقتال إن لم يلحقوا الواو
فألحقوها و قد مرت الرواية.
فالقصة في حديث الطبري عن سيف عن شعيب و إن سيقت بحيث تقضي على أبي ذر بأنه كان
مخطئا في ما اجتهد به كما اعترف به الطبري في أول كلامه غير أن أطراف القصة
تقضي بإصابته.
و بالجملة فالآية تدل على حرمة كنز الذهب و الفضة فيما كان هناك سبيل لله يجب
إنفاقه فيه و ضرورة داعية إليه لمستحقي الزكاة مع الامتناع من تأديتها، و
الدفاع الواجب مع عدم النفقة و انقطاع سبيل البر و الإحسان بين الناس.
و لا فرق في تعلق وجوب الإنفاق بين المال الظاهر الجاري في الأسواق و بين الكنز
المدفون في الأرض غير أن الكنز يختص بشيء زائد و هو خيانة ولي الأمر في ستر
المال و غروره كما تقدم ذكره في البيان المتقدم.
|