قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
9 سورة التوبة - 36 - 37
إِنّ عِدّةَ الشهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشرَ شهْراً فى كتَبِ اللّهِ يَوْمَ
خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض مِنهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِك الدِّينُ
الْقَيِّمُ فَلا تَظلِمُوا فِيهِنّ أَنفُسكمْ وَ قَتِلُوا الْمُشرِكينَ كافّةً
كمَا يُقَتِلُونَكُمْ كافّةً وَ اعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ (36)
إِنّمَا النّسىءُ زِيَادَةٌ فى الْكفْرِ يُضلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا
يحِلّونَهُ عَاماً وَ يحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ
اللّهُ فَيُحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سوءُ أَعْمَلِهِمْ وَ
اللّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكفِرِينَ (37)
بيان
في الآيتين بيان حرمة الأشهر الحرم ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم و رجب الفرد
و تثبيت حرمتها و إلغاء نسيء الجاهلية، و فيها الأمر بقتال المشركين كافة.
قوله تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق
السموات و الأرض" الشهر كالسنة و الأسبوع مما يعرفه عامة الناس منذ أقدم أعصار
الإنسانية، و كان لبعضها تأثيرا في تنبههم للبعض فقد كان الإنسان يشاهد تحول
السنين و مرورها بمضي الصيف و الشتاء و الربيع و الخريف و تكررها بالعود ثم
العود ثم تنبهوا لانقسامها إلى أقسام هي أقصر منها مدة حسب ما ساقهم إليه
مشاهدة اختلاف أشكال القمر من الهلال إلى الهلال، و ينطبق على ما يقرب من
ثلاثين يوما و تنقسم بذلك السنة إلى اثني عشر شهرا.
و السنة التي ينالها الحس شمسية تتألف من ثلاثمائة و خمسة و ستين يوما و بعض
يوم لا تنطبق على اثني عشر شهرا قمريا هي ثلاثمائة و أربعة و خمسون يوما تقريبا
إلا برعاية حساب الكبيسة غير أن ذلك هو الذي يناله الحس و ينتفع به عامة الناس
من الحاضر و البادي و الصغير و الكبير و العالم و الجاهل.
ثم قسموا الشهر إلى الأسابيع و إن كان هو أيضا لا ينطبق عليها تمام الانطباق
لكن الحس غلب هناك أيضا الحساب الدقيق، و هو الذي أثبت اعتبار الأسبوع و أبقاه
على حاله من غير تغيير مع ما طرأ على حساب السنة من الدقة من جهة الإرصاد، و
على حساب الشهور من التغيير فبدلت الشهور القمرية شمسية تنطبق عليها السنة
الشمسية تمام الانطباق.
و هذا بالنسبة إلى النقاط الاستوائية و ما يليها من النقاط المعتدلة أو ما يتصل
بها من الأرض إلى عرض سبع و ستين الشمالي و الجنوبي تقريبا، و فيها معظم
المعمورة و أما ما وراء ذلك إلى القطبين الشمالي و الجنوبي فيختل فيها حساب
السنة و الشهر و الأسبوع، و السنة في القطبين يوم و ليلة، و قد اضطر ارتباط بعض
أجزاء المجتمع الإنساني ببعض سكان هذه النقاط - و هم شرذمة قليلون - أن يراعوا
في حساب السنة و الشهر و الأسبوع و اليوم ما يعتبره عامة سكان المعمورة فحساب
الزمان الدائر بيننا إنما هو بالنسبة إلى جل سكان المعمورة من الأرض.
على أن هذا إنما هو بالنسبة إلى أرضنا التي نحن عليها، و أما سائر الكواكب
فالسنة - و هي زمان الحركة الانتقالية من الكوكب حول الشمس دورة واحدة كاملة -
فيها تختلف و تتخلف عن سنتنا نحن، و كذلك الشهر القمري فيما كان له قمر أو
أقمار منها على ما فصلوه في فن الهيئة.
فقوله تعالى: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا" إلخ ناظر إلى الشهور
القمرية التي تتألف منها السنون و هي التي لها أصل ثابت في الحس و هو التشكلات
القمرية بالنسبة إلى أهل الأرض.
و الدليل على كون المراد بها الشهور القمرية - أولا - قوله بعد: "منها أربعة
حرم" لقيام الضرورة على أن الإسلام لم يحرم إلا أربعة من الشهور القمرية التي
هي ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب، و الأربعة من القمرية دون الشمسية.
و ثانيا: قوله: "عند الله" و قوله: "في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض" فإن
هذه القيود تدل على أن هذه العدة لا سبيل للتغير و الاختلاف إليها لكونها عند
الله كذلك و لا يتغير علمه، و كونها في كتاب الله كذلك يوم خلق السماوات و
الأرض فجعل الشمس تجري لمستقر لها، و القمر قدره منازل حتى عاد كالعرجون القديم
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر و لا الليل سابق النهار و كل في فلك يسبحون
فهو الحكم المكتوب في كتاب التكوين، و لا معقب لحكمه تعالى.
و من المعلوم أن الشهور الشمسية وضعية اصطلاحية و إن كانت الفصول الأربعة و
السنة الشمسية على غير هذا النعت فالشهور الاثنا عشر التي هي ثابتة ذات أصل
ثابت هي الشهور القمرية.
فمعنى الآية إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا تتألف منها السنون، و هذه العدة هي
التي في علم الله سبحانه، و هي التي أثبتها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات و
الأرض و أجرى الحركات العامة التي منها حركة الشمس و حركة القمر حول الأرض و هي
الأصل الثابت في الكون لهذه العدة.
و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بكتاب الله في الآية القرآن
أو كتاب مكتوب فيه عدة الشهور على حد الكتب و الدفاتر التي عندنا المؤلفة من
قراطيس و أوراق يضبط فيها الألفاظ بخطوط خاصة وضعية.
قوله تعالى: "منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم" الحرم
جمع حرام و هو الممنوع منه، و القيم هو القائم بمصلحة الناس المهيمن على إدارة
أمور حياتهم و حفظ شئونها.
و قوله: "منها أربعة حرم" هي الأشهر الأربعة: ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و
رجب بالنقل القطعي، و الكلمة كلمة تشريع بدليل قوله: "ذلك الدين القيم" إلخ.
و إنما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حرما ليكف الناس فيها عن القتال و ينبسط
عليهم بساط الأمن، و يأخذوا فيها الأهبة للسعادة، و يرجعوا إلى ربهم بالطاعات و
القربات.
و كانت حرمتها من شريعة إبراهيم، و كانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية حينما
كانوا يعبدون الأوثان غير أنهم ربما كانوا يحولون الحرمة من شهر إلى شهر سنة أو
أزيد منها بالنسيء الذي تتعرض له الآية التالية.
و قوله: "ذلك الدين القيم"، الإشارة إلى حرمة الأربعة المذكورة، و الدين كما
تطلق على مجموع ما أنزله الله على أنبيائه تطلق على بعضها فالمعنى أن تحريم
الأربعة من الشهور القمرية هو الدين الذي يقوم بمصالح العباد.
كما يشير إليه في قوله: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و الشهر
الحرام" الآية: المائدة: - 97 و قد تقدم الكلام فيه في الجزء السادس من الكتاب.
و قوله: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" الضمير إلى الأربعة إذ لو كان راجعا إلى
"اثنا عشر" المذكور سابقا لكان الظاهر أن يقال "فيها" كما نقل عن الفراء، و
أيضا لو كان راجعا إلى "اثنا عشر" و هي تمام السنة لكان قوله: "فلا تظلموا فيهن
أنفسكم" كما قيل في معنى قولنا: فلا تظلموا أبدا أنفسكم، و كان الكلام متفرعا
على كون عدة الشهور عند الله اثني عشر شهرا، و لا تفرع له عليه ظاهرا فالمعنى
لما كانت هذه الأربعة حرما تفرع على حرمتها عند الله أن تكفوا فيها عن ظلم
أنفسكم رعاية لحرمتها و عظم منزلتها عند الله سبحانه.
فالنهي عن الظلم فيها يدل على عظم الحرمة و تأكدها لتفرعها على حرمتها أولا و
لأنها نهي خاص بعد النهي العام كما يفيده قولنا: لا تظلم أبدا و لا تظلم في
زمان كذا.
و الجملة أعني قوله: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" و إن كانت بحسب إطلاق لفظها نهيا
عن كل ظلم و معصية لكن السياق يدل على كون المقصود الأهم منها النهي عن القتال
في الأشهر الحرم.
قوله تعالى: "و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة و اعلموا أن الله مع
المتقين" قال الراغب في المفردات،: الكف كف الإنسان و هي ما بها يقبض و يبسط، و
كففته أصبت كفه، و كففته أصبته بالكف و دفعته بها، و تعورف الكف بالدفع على أي
وجه كان، بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره.
و قوله: "و ما أرسلناك إلا كافة للناس أي كافا لهم عن المعاصي، و الهاء فيه
للمبالغة كقولهم: راوية و علامة و نسابة، و قوله: "و قاتلوا المشركين كافة كما
يقاتلونكم كافة" قيل: معناه كافين لهم كما يقاتلونكم كافين و قيل معناه جماعة
كما يقاتلونكم جماعة، و ذلك أن الجماعة يقال لهم: الكافة كما يقال لهم: الوازعة
لقوتهم باجتماعهم، و على هذا قوله: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة"
انتهى.
و قال في المجمع،: كافة بمعنى الإحاطة مأخوذ من كفة الشيء و هي طرفه و إذا
انتهى الشيء إلى ذلك كف عن الزيادة، و أصل الكف المنع.
انتهى.
و قوله: "كافة" في الموضعين حال عن الضمير الراجع إلى المسلمين أو المشركين أو
في الأول عن الأول و في الثاني عن الثاني أو بالعكس فهناك وجوه أربعة، و
المتبادر إلى الذهن هو الوجه الرابع للقرب اللفظي الذي بين الحال و ذي الحال
حينئذ، و معنى الآية على هذا: و قاتلوا المشركين جميعهم كما يقاتلونكم جميعكم.
فالآية توجب قتال جميع المشركين فتصير نظيره قوله تعالى: "فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم" الآية ينسخ هذه ما ينسخ تلك و تتخصص أو تتقيد بما تخصص أو تقيد به
هي.
و الآية مع ذلك إنما تتعرض لحال القتال مع المشركين و هم عبدة الأوثان غير أهل
الكتاب فإن القرآن و إن كان ربما نسب الشرك تصريحا أو تلويحا إلى أهل الكتاب
لكنه لم يطلق المشركين على طريق التوصيف إلا على عبدة الأوثان، و أما الكفر
فعلا أو وصفا فقد نسب إلى أهل الكتاب و أطلق عليهم كما نسب و أطلق إلى عبدة
الأوثان.
فالآية أعني قوله: "و قاتلوا المشركين كافة" الآية لا هي ناسخة لآية أخذ الجزية
من أهل الكتاب، و لا هي مخصصة أو مقيدة بها.
و قد قيل في الآية بعض وجوه أخر تركناه لعدم جدوى في التعرض له.
و قوله: "و اعلموا أن الله مع المتقين" تعليم و تذكير و فيه حث على الاتصاف
بصفة التقوى يترتب عليه من الفائدة: أولا: الوعد الجميل بالنصر الإلهي و الغلبة
و الظفر فإن حزب الله هم الغالبون.
و ثانيا: منعهم أن يتعدوا حدود الله في الحروب و المغازي بقتل النساء و الصبيان
و من ألقى إليهم السلام كما قتل خالد في غزوة حنين مرأة فأرسل إليه النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) ينهاه عن ذلك و قتل رجالا من بني جذيمة و قد أسلموا
فوداهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تبرأ إلى الله من فعله ثلاثا، و قتل
أسامة يهوديا أظهر له الإسلام فنزل قوله تعالى: "و لا تقولوا لمن ألقى إليكم
السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة: النساء: -
94 و قد تقدم.
قوله تعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر" إلى آخر الآية يقال: نسأ الشيء ينسؤه
نسأ و منسأة و نسيئا إذا أخره تأخيرا، و قد يطلق النسيء على الشهر الذي أخر
تحريمه على ما كانت العرب تفعله في الجاهلية فإنهم ربما كانوا يؤخرون حرمة بعض
الأشهر الحرم إلى غيره و أما أنه كيف كان ذلك فقد اختلف فيه كلام المفسرين كأهل
التاريخ.
و الذي يظهر من خلال الكلام المسرود في الآية أنه كانت لهم فيما بينهم سنة
جاهلية في أمر الأشهر الحرم و هي المسماة بالنسيء، و هو يدل بلفظه على تأخير
الحرمة من شهر حرام إلى بعض الشهور غير المحرمة الذي بعده، و أنهم إنما كانوا
يؤخرون الحرمة و لا يبطلونها برفعها من أصلها لإرادتهم بذلك أن يتحفظوا على سنة
قومية ورثوها عن أسلافهم عن إبراهيم (عليه السلام).
فكانوا لا يتركون أصل التحريم لغي و إنما يؤخرونه إلى غير الشهر سنة أو أزيد
ليواطئوا عدة ما حرم الله، و هي الأربعة ثم يعودون و يعيدون الحرمة إلى مكانها
الأول.
و هذا نوع تصرف في الحكم الإلهي بعد كفرهم بالله باتخاذ الأوثان شركاء له تعالى
و تقدس، و لذا عده الله سبحانه في كلامه زيادة في الكفر.
و قد ذكر الله سبحانه من الحكم الخاص بحرمة الأشهر الحرم النهي عن ظلم الأنفس
حيث قال: "فلا تظلموا فيهن أنفسكم" و أظهر مصاديقه القتال كما أنه المصداق
الوحيد الذي استفتوا فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحكاه الله سبحانه
بقوله: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه" الآية: البقرة: - 217 و كذا ما في
معناه من قوله: "لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام:" المائدة: - 2 و قوله:
"جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و الشهر الحرام و الهدي و القلائد:"
المائدة: - 97.
و كذلك الأثر الظاهر من حرمة البيت أو الحرم هو جعل الأمن فيه كما قال: "و من
دخله كان آمنا:" آل عمران: - 97 و قال: "أ و لم نمكن لهم حرما آمنا: القصص: -
57.
فالظاهر أن النسيء الذي تذكره الآية عنهم إنما هو تأخير حرمة الشهر الحرام.
للتوسل بذلك إلى قتال فيه لا لتأخير الحج الذي هو عبادة دينية مختصة ببعضها.
و هذا كله يؤيد ما ذكروه أن العرب كانت تحرم هذه الأشهر الحرم، و كان ذلك مما
تمسكت به من ملة إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام)، و هم كانوا أصحاب غارات و
حروب فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا
يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه و يستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم
يعود التحريم إلى المحرم، و لا يفعلون ذلك أي إنساء حرمة المحرم إلى صفر إلا في
ذي الحجة.
و أما ما ذكره بعضهم أن النسيء هو ما كانوا يؤخرون الحج من شهر إلى شهر فمها لا
ينطبق على لفظ الآية البتة، و سيجيء تفصيل الكلام فيه في البحث الروائي الآتي
إن شاء الله.
و لنرجع إلى ما كنا فيه.
فقوله تعالى: "إنما النسيء زيادة في الكفر" أي تأخير الحرمة التي شرعها الله
لهذه الأشهر الحرم من شهر منها إلى شهر غير حرام زيادة في الكفر لأنه تصرف في
حكم الله المشروع و كفر بآياته بعد الكفر بالله من جهة الشرك فهو زيادة في
الكفر.
و قوله: "يضل به الذين كفروا" أي ضلوا فيه بإضلال غيرهم إياهم بذلك، و في
الكلام إشعار أو دلالة على أن هناك من يحكم بالنسيء، و قد ذكروا أن المتصدي
لذلك كان بعض بني كنانة، و سيجيء تفصيله في البحث الروائي إن شاء الله.
و قوله: "يحلونه عاما و يحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم
الله في موضع التفسير للإنساء، و الضمير للشهر الحرام المعلوم من سياق الكلام
أي و هو أنهم يحلون الشهر الحرام الذي نسئوه بتأخير حرمته عاما و يحرمونه عاما،
أي يحلونه عاما بتأخير حرمته إلى غيره، و يحرمونه عاما بإعادة حرمته إليه.
و إنما يعملون على هذه الشاكلة بالتأخير سنة و الإثبات أخرى ليواطئوا و يوافقوا
عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله في حال حفظهم أصل العدد أي إنهم يريدون
التحفظ على حرمة الأشهر الأربعة بعددها مع التغيير في محل الحرمة ليتمكنوا مما
يريدونه من الحروب و الغارات مع الاستنان بالحرمة.
و قوله: "زين لهم سوء أعمالهم و الله لا يهدي القوم الكافرين" المزين هو
الشيطان كما وقع في آيات من الكتاب، و ربما نسب إلى الله سبحانه كما في آيات
أخر، و لا ينسب الشر إليه سبحانه إلا ما قصد به الجزاء على الشر كما قال تعالى:
"يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين:" البقرة: - 26.
و ذلك بأن يفسق العبد فيمنعه الله الهداية فيكون ذلك إذنا لداعي الضلال و هو
الشيطان أن يزين له سوء عمله فيغويه و يضله، و لذلك قال تعالى: "زين لهم سوء
أعمالهم" ثم عقبه بقوله: "و الله لا يهدي القوم الكافرين" كأنه لما قيل: زين
لهم سوء أعمالهم قيل: كيف أذن الله فيه و لم يمنع ذلك قيل: إن هؤلاء كافرون و
الله لا يهدي القوم الكافرين.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن أبي خالد الواسطي في حديث ثم قال يعني أبا جعفر (عليه
السلام) حدثني أبي عن علي بن الحسين عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما ثقل في مرضه قال: أيها الناس إن السنة اثنا
عشر شهرا منها أربعة حرم ثم قال بيده: رجب مفرد و ذو القعدة و ذو الحجة و
المحرم ثلاث متواليات.
أقول: و قد ورد في عدة روايات تأويل الشهور الاثني عشر، بالأئمة الاثني عشر، و
تأويل الأربعة الحرم بعلي أمير المؤمنين و علي بن الحسين و علي بن موسى و علي
بن محمد (عليهما السلام)، و تأويل السنة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
و انطباقها على الآية بما لها من السياق لا يخلو عن خفاء.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و أبو داود و ابن المنذر و ابن
أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة: أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب في حجته فقال: ألا إن الزمان قد استدار
كهيئته يوم خلق الله السماوات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم
ثلاثة متواليات ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم، و رجب مفرد الذي بين جمادى و
شعبان.
أقول: و هي من خطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المشهورة، و قد رويت بطرق
أخرى عن أبي هريرة و ابن عمر و ابن عباس و عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه و كانت
له صحبة و غيرهم.
و المراد باستدارة الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات و الأرض استقرار
الأحكام الدينية على ما تقتضيه الفطرة و الخلقة و تمكن الدين القيم من الرقابة
في أعمال الناس، و من ذلك حرمة الأشهر الأربعة الحرم و إلغاء النسيء الذي هو
زيادة في الكفر.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عمر قال: وقف رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) بالعقبة فقال: إن النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به
الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما فكانوا يحرمون المحرم عاما و يحرمون
صفر عاما و يستحلون و هو النسيء. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي
حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان جنادة بن عوف الكناني يوفي الموسم كل
عام و كان يكنى أبا ثمادة فينادي: ألا إن أبا ثمادة لا يخاف و لا يعاب ألا إن
صفر الأول حلال. و كان طوائف من العرب إذا أرادوا أن يغيروا على بعض عدوهم أتوه
فقالوا: أحل لنا هذا الشهر يعنون صفر، و كانت العرب لا تقاتل في الأشهر الحرم
فيحله لهم عاما، و يحرمه عليهم في العام الآخر، و يحرم المحرم في قابل ليواطئوا
عدة ما حرم الله يقول: ليجعلوا الحرم أربعة غير أنهم جعلوا صفر عاما حلالا و
عاما حراما. و فيه، أخرج ابن المنذر عن قتادة: في قوله: "إنما النسيء زيادة في
الكفر" الآية قال: عمد أناس من أهل الضلالة فزادوا صفر في الأشهر الحرم، و كان
يقوم قائمهم في الموسم فيقول: إن آلهتكم قد حرمت صفر فيحرمونه ذلك العام و كان
يقال لهما الصفران. و كان أول من نسأ النسيء بنو مالك من كنانة، و كانوا ثلاثة
أبو ثمامة صفوان بن أمية و أحد بني فقيم بن الحارث، ثم أحد بني كنانة. و فيه،
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي: في الآية قال: كان رجل من بني كنانة يقال له جنادة
بن عوف يكنى أبا أمامة ينسىء الشهور، و كانت العرب يشتد عليهم أن يمكثوا ثلاثة
أشهر لا يغير بعضهم على بعض فإذا أراد أن يغير على أحد قام يوما بمنى فخطب
فقال: إني قد أحللت المحرم و حرمت صفر مكانه فيقاتل الناس في المحرم فإذا كان
صفر عمدوا و وضعوا الأسنة ثم يقوم في قابل فيقول: إني قد أحللت صفر و حرمت
المحرم فيواطئوا أربعة أشهر فيحلوا المحرم. و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن
عباس: في قوله: "يحلونه عاما و يحرمونه عاما" قال: هو صفر كانت هوازن و غطفان
يحلونه سنة و يحرمونه سنة.
أقول: محصل الروايات - كما ترى - أن العرب كانت تدين بحرمة الأشهر الحرم
الأربعة رجب و ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم ثم إنهم ربما كانوا يتحرجون من
القعود عن الحروب و الغارات ثلاثة أشهر متواليات فسألوا بعض بني كنانة أن يحل
لهم ثالث الشهور الثلاثة فقام فيهم بعض أيام الحج بمنى و أحل لهم المحرم و نسأ
حرمته إلى صفر فذهبوا لوجههم عامهم ذلك يقاتلون العدو ثم رد الحرمة إلى مكانه
في قابل و هذا هو النسيء.
و كان يسمى المحرم صفر الأول و صفر الثاني و هما صفران كالربيعين و الجماديين و
النسيء إنما ينال صفر الأول و لا يتعدى صفر الثاني فلما أقر الإسلام الحرمة
لصفر الأول عبروا عنه بشهر الله المحرم ثم لما كثر الاستعمال خففت و قيل:
المحرم، و اختص اسم صفر بصفر الثاني فالمحرم من الألفاظ الإسلامية كما ذكره
السيوطي في المزهر.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد: في
قوله: "إنما النسيء زيادة في الكفر" قال: فرض الله الحج في ذي الحجة، و كان
المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة و المحرم و صفر و ربيع و ربيع و جمادى و جمادى
و رجب و شعبان و رمضان و شوال و ذا القعدة و ذا الحجة ثم يحجون فيه. ثم يسكتون
عن المحرم فلا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفر صفر ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ثم
يسمون شعبان رمضان و رمضان شوال، و يسمون ذا القعدة شوال ثم يسمون ذا الحجة ذا
القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه و اسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا
إلى مثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عاما حتى وافق حجة أبي بكر الآخرة من
العام في ذي القعدة ثم حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجته التي حج فيها
فوافق ذو الحجة فذلك حين يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته: إن الزمان
قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات و الأرض.
أقول: و محصله على ما فيه من التشويش و الاضطراب أن العرب كانت قبل الإسلام يحج
البيت في ذي الحجة غير أنهم أرادوا أن يحجوا كل عام في شهر فكانوا يدورون بالحج
الشهور شهرا بعد شهر و كل شهر وصلت إليه النوبة عامهم ذلك سموه ذا الحجة و
سكتوا عن اسمه الأصلي.
و لازم ذلك أن يتألف كل سنة فيها حجة من ثلاثة عشر شهرا و أن يتكرر اسم بعض
الشهور مرتين أو أزيد كما يشعر به الرواية، و لذا ذكر الطبري أن العرب كانت
تجعل السنة ثلاثة عشر شهرا، و في رواية اثني عشر شهرا و خمسة و عشرين يوما.
و لازم ذلك أيضا أن تتغير أسماء الشهور كلها، و أن لا يواطىء اسم الشهر نفس
الشهر إلا في كل اثنتي عشرة سنة مرة إن كان التأخير على نظام محفوظ، و ذلك على
نحو الدوران.
و مثل هذا لا يقال له الإنساء و التأخير فإن أخذ السنة ثلاثة عشر و تسمية آخرها
ذا الحجة تغيير لأصل التركيب لا تأخير لبعض الشهور بحسب الحقيقة.
على أنه مخالف لسائر الأخبار و الآثار المنقولة و لا مأخذ لذلك إلا هذه الرواية
و ما ضاهاها كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت العرب يحلون عاما
شهرا و عاما شهرين، و لا يصيبون الحج إلا في كل ستة و عشرين سنة مرة و هو
النسيء الذي ذكر الله تعالى في كتابه فلما كان عام الحج الأكبر ثم حج رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله
السماوات و الأرض، و هو في الاضطراب كخبر مجاهد.
على أن الذي ذكره من حجة أبي بكر في ذي القعدة هو الذي ورد من طرق أهل السنة أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل أبا بكر أميرا للحج عام تسع فحج بالناس، و
قد ورد في بعض روايات أخر أيضا أن الحجة عامئذ كانت في ذي القعدة.
و هذه الحجة على أي نعت فرضت كانت بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
إمضائه، و لا يأمر بشيء و لا يمضي أمرا إلا ما أمر به ربه تعالى، و حاشا أن
يأمر الله سبحانه بحجة في شهر نسيء ثم يسميها زيادة في الكفر.
فالحق أن النسيء هو ما تقدم أنهم كانوا يتحرجون من توالي شهور ثلاثة محرمة
فينسئون حرمة المحرم إلى صفر ثم يعيدونها مكانها في العام المقبل.
و أما حجهم في كل شهر سنة أو في كل شهر سنتين أو في شهر سنة و في شهر سنتين فلم
يثبت عن مأخذ واضح يوثق به، و ليس من البعيد أن تكون عرب الجاهلية مختلفين في
ذلك لكونهم قبائل شتى و عشائر متفرقة كل متبع لهوى نفسه غير أن الحج كان عبادة
ذات موسم لا يتخلفون عنه لحاجتها إلى أمن لنفوسهم و حرمة لدمائهم، و ما كانوا
يتمكنون من ذلك لو كان أحل الشهر بعضهم و حرمه آخرون على اختلاف في شاكلة
التحريم، و هو ظاهر.
9 سورة التوبة - 38 - 48
يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكمْ إِذَا قِيلَ لَكمُ انفِرُوا فى سبِيلِ
اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلى الأَرْضِ أَ رَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدّنْيَا مِنَ
الاَخِرَةِ فَمَا مَتَعُ الْحَيَوةِ الدّنْيَا فى الاَخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38)
إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكمْ عَذَاباً أَلِيماً وَ يَستَبْدِلْ قَوْماً
غَيرَكمْ وَ لا تَضرّوهُ شيْئاً وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلا
تَنصرُوهُ فَقَدْ نَصرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كفَرُوا ثَانىَ
اثْنَينِ إِذْ هُمَا فى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصحِبِهِ لا تحْزَنْ إِنّ
اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سكينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيّدَهُ بِجُنُودٍ
لّمْ تَرَوْهَا وَ جَعَلَ كلِمَةَ الّذِينَ كفَرُوا السفْلى وَ كلِمَةُ اللّهِ
هِىَ الْعُلْيَا وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انفِرُوا خِفَافاً وَ ثِقَالاً
وَ جَهِدُوا بِأَمْوَلِكمْ وَ أَنفُسِكُمْ فى سبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيرٌ
لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سفَراً
قَاصِداً لاتّبَعُوك وَ لَكِن بَعُدَت عَلَيهِمُ الشقّةُ وَ سيَحْلِفُونَ
بِاللّهِ لَوِ استَطعْنَا لخََرَجْنَا مَعَكُمْ يهْلِكُونَ أَنفُسهُمْ وَ
اللّهُ يَعْلَمُ إِنهُمْ لَكَذِبُونَ (42) عَفَا اللّهُ عَنك لِمَ أَذِنت
لَهُمْ حَتى يَتَبَينَ لَك الّذِينَ صدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكَذِبِينَ (43) لا
يَستَئْذِنُك الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ أَن
يُجَهِدُوا بِأَمْوَلِهِمْ وَ أَنفُسِهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمُ بِالْمُتّقِينَ
(44) إِنّمَا يَستَئْذِنُك الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ
الاَخِرِ وَ ارْتَابَت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فى رَيْبِهِمْ يَترَدّدُونَ (45) وَ
لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدّوا لَهُ عُدّةً وَ لَكِن كرِهَ اللّهُ
انبِعَاثَهُمْ فَثَبّطهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَعِدِينَ (46) لَوْ
خَرَجُوا فِيكم مّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَ لأَوْضعُوا خِلَلَكُمْ
يَبْغُونَكمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكمْ سمّعُونَ لهَُمْ وَ اللّهُ عَلِيمُ
بِالظلِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَ قَلّبُوا لَك
الأُمُورَ حَتى جَاءَ الْحَقّ وَ ظهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَ هُمْ كرِهُونَ (48)
بيان
تعرض للمنافقين و فيه بيان لجمل أوصافهم و علائمهم، و شرح ما لقي الإسلام و
المسلمون من كيدهم و مكرهم و ما قاسوه من المصائب من جهة نفاقهم، و في مقدمها
عتاب المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد، و حديث خروج النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) من مكة و ذكر الغار.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله
اثاقلتم إلى الأرض" الآية اثاقلتم أصله تثاقلتم على وزان اداركوا و غيره، و
كأنه أشرب معنى الميل و نحوه فعدي بإلى و قيل: اثاقلتم إلى الأرض أي ملتم إلى
الأرض متثاقلين أو تثاقلتم مائلين إلى الأرض و المراد بالنفر في سبيل الله
الخروج إلى الجهاد.
و قوله: "أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة" كان الرضا أشرب معنى القناعة فعدي
بمن كما يقال: رضيت من المال بطيبه، و رضيت من القوم بخلة فلان، و على هذا ففي
الكلام نوع من العناية المجازية كأن الحياة الدنيا نوع حقير من الحياة الآخرة
قنعوا بها منها، و يشعر بذلك قوله بعده: "فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا
قليل".
فمعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قال لكم النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) - لم يصرح باسمه صونا و تعظيما - اخرجوا إلى الجهاد أبطأتم كأنكم لا
تريدون الخروج أقنعتم بالحياة الدنيا راضين بها من الآخرة فما متاع الحياة
الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة إلا قليل.
و في الآية و ما يتلوها عتاب شديد للمؤمنين و تهديد عنيف و هي تقبل الانطباق
على غزوة تبوك كما ورد ذلك في أسباب النزول.
قوله تعالى: "إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما و يستبدل قوما غيركم" إلى آخر
الآية العذاب الذي أنذروا به مطلق غير مقيد فلا وجه لتخصيصه بعذاب الآخرة بل هو
على إبهامه، و ربما أيد السياق كون المراد به عذاب الدنيا أو عذاب الدنيا و
الآخرة جميعا.
و قوله: "يستبدل قوما غيركم" أي يستبدل بكم قوما غيركم لا يتثاقلون في امتثال
أوامر الله و النفر في سبيل الله إذا قيل لهم: انفروا، و الدليل على هذا المعنى
قرينة المقام.
و قوله: "و لا تضروه شيئا" إشارة إلى هوان أمرهم على الله سبحانه لو أراد أن
يذهب بهم و يأتي بآخرين فإن الله لا ينتفع بهم بل نفعهم لأنفسهم فضررهم على
أنفسهم، و قوله: "و الله على كل شيء قدير" تعليل لقوله: "يعذبكم عذابا أليما و
يستبدل قوما غيركم".
قوله تعالى: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما
في الغار" ثاني اثنين أي أحدهما، و الغار الثقبة العظيمة في الجبل، و المراد به
غار جبل ثور قرب مني و هو غير غار حراء الذي ربما كان النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) يأوي إليه قبل البعثة للأخبار المستفيضة، و المراد بصاحبه هو أبو
بكر للنقل القطعي.
و قوله: "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" أي لا تحزن خوفا مما تشاهده من
الوحدة و الغربة و فقد الناصر و تظاهر الأعداء و تعقيبهم إياي فإن الله سبحانه
معنا ينصرني عليهم.
و قوله: "فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها" أي أنزل الله سكينته
على رسوله و أيد رسوله بجنود لم تروها يصرفون القوم عنهم بوجوه من الصرف بجميع
العوامل التي عملت في انصراف القوم عن دخول الغار و الظفر به (صلى الله عليه
وآله وسلم)، و قد روي في ذلك أشياء ستأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
و الدليل على رجوع الضمير في قوله: "فأنزل الله سكينته عليه" إلى النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) أولا: رجوع الضمائر التي قبله و بعده إليه (صلى الله عليه
وآله وسلم) كقوله: "إلا تنصروه" و "نصره" و "أخرجه" و "يقول" و "لصاحبه" و
"أيده" فلا سبيل إلى رجوع ضمير "عليه" من بينها وحده إلى غيره من غير قرينة
قاطعة تدل عليه.
و ثانيا: أن الكلام في الآية مسوق لبيان نصر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه
وآله وسلم) حيث لم يكن معه أحد ممن يتمكن من نصرته إذ يقول تعالى: "إلا تنصروه
فقد نصره الله إذ" الآية و إنزال السكينة و التقوية بالجنود من النصر فذاك له
(صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة.
و يدل على ذلك تكرار "إذ" و ذكرها في الآية ثلاث مرات كل منها بيان لما قبله
بوجه فقوله "إذ أخرجه الذين كفروا" بيان لوقت قوله: "فقد نصره الله" و قوله:
"إذ هما في الغار" بيان لتشخيص الحال الذي هو قوله: "ثاني اثنين" و قوله: "إذ
يقول لصاحبه" بيان لتشخيص الوقت الذي يدل عليه قوله: "إذ هما في الغار".
و ثالثا: أن الآية تجري في سياق واحد حتى يقول: "و جعل كلمة الذين كفروا السفلى
و كلمة الله هي العليا" و لا ريب أنه بيان لما قبله، و أن المراد بكلمة الذين
كفروا هي ما قضوا به في دار الندوة و عزموا عليه من قتله (صلى الله عليه وآله
وسلم) و إطفاء نور الله، و بكلمة الله هي ما وعده من نصره و إتمام نوره، و كيف
يجوز أن يفرق بين البيان و المبين و جعل البيان راجعا إلى نصره تعالى إياه (صلى
الله عليه وآله وسلم)، و المبين راجعا إلى نصره غيره.
فمعنى الآية: إن لم تنصروه أنتم أيها المؤمنون فقد أظهر الله نصره إياه في وقت
لم يكن له أحد ينصره و يدفع عنه و قد تظاهرت عليه الأعداء و أحاطوا به من كل
جهة و ذلك إذ هم المشركون به و عزموا على قتله فاضطر إلى الخروج من مكة في حال
لم يكن إلا أحد رجلين اثنين، و ذلك إذ هما في الغار إذ يقول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لصاحبه و هو أبو بكر: لا تحزن مما تشاهده من الحال إن الله
معنا بيده النصر فنصره الله.
حيث أنزل سكينته عليه و أيده بجنود غائبة عن أبصاركم، و جعل كلمة الذين كفروا -
و هي قضاؤهم بوجوب قتله و عزيمتهم عليه - كلمة مغلوبة غير نافذة و لا مؤثرة، و
كلمة الله - و هي الوعد بالنصر و إظهار الدين و إتمام النور - هي العليا
العالية القاهرة و الله عزيز لا يغلب حكيم لا يجهل و لا يغلط في ما شاءه و
فعله.
و قد تبين مما تقدم أولا أن قوله: "فأنزل الله سكينته عليه" متفرع على قوله:
"فقد نصره الله" في عين أنه متفرع على قوله: "إذ يقول لصاحبه لا تحزن" فإن
الظرف ظرف للنصرة على ما تقدم، و الكلام مسوق لبيان نصره تعالى إياه (صلى الله
عليه وآله وسلم) لا غيره فالتفريع تفريع على الظرف بمظروفه الذي هو قوله: "فقد
نصره الله" لا على قوله: "يقول لصاحبه لا تحزن".
و ربما استدل لذلك بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل على سكينة من
ربه فإنزال السكينة في هذا الظرف خاصة يكشف عن نزوله على صاحبه.
و يدفعه أولا قوله تعالى: "ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين" في
قصة حنين، و القول بأن نفسه الشريفة اضطربت بعض الاضطراب في وقعة حنين فناسب
نزول السكينة بخلاف الحال في الغار.
يدفعه أنه من الافتعال بغير علم فالآية لا تذكر منه (صلى الله عليه وآله وسلم)
حزنا و لا اضطرابا و لا غير ذلك إلا ما تذكر من فرار المؤمنين.
على أنه يبطل أصل الاستدلال أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل على
سكينة من ربه لا يتجدد له شيء منها فكيف جاز له أن يضطرب في حنين فتنزل عليه
سكينة جديدة اللهم إلا أن يريدوا به أنه لم يزل في الغار كذلك.
و نظيرتها الآية الناطقة بنزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و على
المؤمنين في سورة الفتح: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية
فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:" الفتح: - 26.
و يدفعه ثانيا: لزوم تفرع قوله: "و أيده بجنود لم تروها" على أثر تفرع قوله:
"فأنزل الله سكينته عليه" لأنهما في سياق واحد، و لازمه عدم رجوع التأييد
بالجنود إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو التفكيك في السياق الواحد من غير
مجوز يجوزه.
و ربما التزم بعضهم - فرارا من شناعة لزوم التفكيك - أن الضمير في قوله تعالى:
"و أيده" أيضا راجع إلى صاحبه، و لازمه كون إنزال السكينة و التأييد بالجنود
عائدين إلى أبي بكر دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و ربما أيده بعض آخر بأن الوقائع التي تذكر الآيات فيها نزول جنود لم يروها
كوقعة حنين و الأحزاب و كذا نزول الملائكة لوقعة بدر و إن لم تذكر نزولهم على
المؤمنين و لم تصرح بتأييدهم بهم لكنهم حيث كانوا إنما نزلوا للنصر و فيه نصر
المؤمنين و إمدادهم فلا مانع من القول بأن الجنود التي لم يروها إنما أيدت أبا
بكر، و تأييدهم المؤمنين جميعا أو أبا بكر خاصة تأييد منهم في الحقيقة للنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم).
و الأولى على هذا البيان أن يجعل الفرع الثالث الذي هو قوله: "و جعل كلمة الذين
كفروا السفلى" الآية مترتبا على ما تقدمه من الفرعين لئلا يلزم التفكيك في
السياق.
و لا يخفى عليك أن هذا الذي التزموا به يخرج الآية عن مستقر معناها الوحداني
إلى معنى متهافت الأطراف يدفع آخره أوله، و ينقض ذيله صدره فقد بدئت الآية بأن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكرم على الله و أعز من أن يستذله و يحوجه إلى
نصرة هؤلاء بل هو تعالى وليه القائم بنصره حيث لم يكن أحد من هؤلاء الحافين
حوله المتبعين أثره ثم إذا شرعت في بيان نصره تعالى إياه بين نصره غيره بإنزال
السكينة عليه و تأييده بجنود لم يروها إلى آخر الآية.
هب أن نصره تعالى بعض المؤمنين به (صلى الله عليه وآله وسلم) أو جميعهم نصر منه
له بالحقيقة لكن الآية في مساق يدفعه البتة فإن الآية السابقة يجمع المؤمنين في
خطاب واحد - يا أيها الذين آمنوا - و يعاتبهم و يهددهم على التثاقل عن إجابة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ما أمرهم به من النفر في سبيل الله و
الخروج إلى الجهاد ثم الآية الثانية تهددهم بالعذاب و الاستبدال إن لم ينفروا و
تبين لهم أن الله و رسوله في غنى عنهم و لا يضرونه شيئا، ثم الآية الثالثة توضح
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غنى عن نصرهم لأن ربه هو وليه الناصر
له، و قد نصره حيث لم يكن لأحد منهم صنع فيه و هو نصره إياه إذ أخرجه الذين
كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.
و من البين الذي لا مرية فيه أن مقتضى هذا المقام بيان نصره (صلى الله عليه
وآله وسلم) الخاص به المتعلق بشخصه من الله سبحانه خاصة من دون صنع لأحد من
المؤمنين في ذلك لا بيان نصره إياه بالمؤمنين أو ببعضهم و قد جمعهم في خطاب
المعاتبة، و لا بيان نصره بعض المؤمنين به ممن كان معه.
و لا أن المقام مقام يصلح لأن يشار بقوله: "إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين"
إشارة إجمالية إلى نصره العزيز لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يؤخذ في
تفصيل ما خص به صاحبه من الخصيصة بإنزال السكينة و التأييد بالجنود فإن المقام
على ما تبين لك يأبى ذلك.
و يدفعه ثالثا: أن فيه غفلة عن حقيقة معنى السكينة و قد تقدم الكلام فيها في
ذيل قوله تعالى: "ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:" الآية: - 26
من السورة.
و الأمر الثاني: أن المراد بتأييده (صلى الله عليه وآله وسلم) بجنود لم يروها
تأييده بذلك يومئذ على ما يفيده السياق، و أما قول بعضهم: إن المراد به ما أيده
بالجنود يوم الأحزاب و يوم حنين على ما نطقت به الآيات فمما لا دليل عليه من
اللفظ البتة.
و الأمر الثالث: أن المراد بالكلمة في قوله: "و جعل كلمة الذين كفروا السفلى،
هو ما قضوا به في دار الندوة و عزموا عليه من قتله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
إبطال دعوته الحقة بذلك، و بقوله: "و كلمة الله هي العليا" هو ما وعد الله نبيه
(صلى الله عليه وآله وسلم) من النصر و إظهار دينه على الدين كله.
و ذلك أن هذه الآية بما تتضمنه من قوله: "فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا"
تشير إلى ما يقصه قوله تعالى: "و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو
يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين: "الأنفال: - 30، و الذي في
ذيل الآية من إبطال كلمتهم و إحقاق الكلمة الإلهية مرتبط بما في صدر الآية من
حديث الإخراج أي الاضطرار إلى الخروج لا محالة، و الذي اضطره (صلى الله عليه
وآله وسلم) إلى الخروج هو عزمهم على قتله حسب ما اتفقوا عليه من القضاء بقتله
فهذه هي الكلمة التي أبطلها الله سبحانه و جعلها السفلى و تقابلها كلمة الله و
ليست إلا النصر و الإظهار.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم إن المراد بكلمة الذين كفروا الشرك و الكفر، و
بكلمة الله تعالى التوحيد و الإيمان غير سديد فإن الشرك و إن كان كلمة لهم، و
التوحيد كلمة لله لكنه لا يستلزم كونهما المرادين كلما ذكرت الكلمتان حتى مع
وجود القرينة على الخلاف.
قوله تعالى: "انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن
كنتم تعلمون" الخفاف و الثقال جمعا خفيف و ثقيل، و الثقل بقرينة المقام كناية
عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة
المشاغل المالية و حب الأهل و الولد و الأقرباء و الأصدقاء الذي يوجب كراهة
مفارقتهم، و فقد الزاد و الراحلة و السلاح و نحو ذلك، و الخفة كناية عن خلاف
ذلك.
فالأمر بالنفر خفافا و ثقالا و هما حالان متقابلان في معنى الأمر بالخروج على
أي حال، و عدم اتخاذ شيء من ذلك عذرا يعتذر به لترك الخروج كما أن الجمع بين
الأموال و الأنفس في الذكر في معنى الأمر بالجهاد بأي وسيلة أمكنت.
و قد ظهر بذلك أن الأمر في الآية مطلق لا يأبى التقييد بالأعذار التي يسقط معها
وجوب الجهاد كالمرض و العمى و العرج و نحو ذلك فإن المراد بالخفة و الثقل أمر
وراء ذلك.
قوله تعالى: "لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك" إلى آخر الآية.
العرض ما يسرع إليه الزوال و يطلق على المال الدنيوي و هو المراد في الآية
بقرينة السياق، و المراد بقربه كونه قريبا من التناول، و القاصد من القصد و هو
التوسط في الأمر، و المراد بكون السفر قاصدا كونه غير بعيد المقصد سهلا على
المسافر، و الشقة: المسافة لما في قطعها من المشقة.
و الآية كما يلوح من سياقها تعيير و ذم للمنافقين المتخلفين عن الخروج مع النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الجهاد في غزوة تبوك إذ الغزوة التي خرج فيها
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تخلف عنه المنافقون و هي على بعد من المسافة
هي غزوة تبوك لا غيرها.
و معنى الآية: لو كان ما أمرتهم به و دعوتهم إليه عرضا قريب التناول و غنيمة
حاضرة و سفرا قاصدا قريبا هينا لاتبعوك يا محمد و خرجوا معك طمعا في الغنيمة و
لكن بعدت عليهم الشقة و المسافة فاستصعبوا السير و تثاقلوا فيه.
و سيحلفون بالله إذا رجعتم إليهم و لمتموهم على تخلفهم: لو استطعنا الخروج
لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم بما أخذوه من الطريقة: من الخروج إلى القتال طمعا في
عرض الدنيا إذا استيسروا القبض عليه، و التخلف عنه إذا شق عليهم ثم الاعتذار
بالعذر الكاذب على نبيهم و الحلف في ذلك بالله كاذبين، أو يهلكون أنفسهم بهذا
الحلف الكاذب، و الله يعلم إنهم لكاذبون.
قوله تعالى: "عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم
الكاذبين" الجملة الأولى دعاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعفو نظير
الدعاء على الإنسان بالقتل في قوله: "قتل الإنسان ما أكفره:" عبس: - 17، و
قوله: "فقتل كيف قدر": المدثر: - 19 و قوله: "قاتلهم الله أنى يؤفكون:" التوبة:
- 30.
و الجملة متعلقة بقوله: "لم أذنت لهم" أي في التخلف و القعود، و لما كان
الاستفهام للإنكار أو التوبيخ كان معناه: كان ينبغي أن لا تأذن لهم في التخلف و
القعود، و يستقيم به تعلق الغاية التي يشتمل عليها قوله: "حتى يتبين لك الذين
صدقوا" الآية.
بقوله: "لم أذنت لهم" فالتعلق إنما هو بالمستفهم عنه دون الاستفهام و إلا أفاد
خلاف المقصود، و الكلام مسوق لبيان ظهور كذبهم و أن أدنى الامتحان كالكف عن
إذنهم في القعود يكشف عن فصاحتهم.
و معنى الآية: عفا الله عنك لم أذنت لهم في التخلف و القعود؟ و لو شئت لم تأذن
لهم - و كانوا أحق به - حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين فيتميز عندك
كذبهم و نفاقهم.
و الآية - كما ترى و تقدمت الإشارة إليه - في مقام دعوى ظهور كذبهم و نفاقهم و
أنهم مفتضحون بأدنى امتحان يمتحنون به، و من مناسبات هذا المقام إلقاء العتاب
إلى المخاطب و توبيخه و الإنكار عليه كأنه هو الذي ستر عليهم فضائح أعمالهم و
سوء سريرتهم، و هو نوع من العناية الكلامية يتبين به ظهور الأمر و وضوحه لا
يراد أزيد من ذلك فهو من أقسام البيان على طريق: "إياك أعني و اسمعي يا جارة".
فالمراد بالكلام إظهار هذه الدعوى لا الكشف عن تقصير النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) و سوء تدبيره في إحياء أمر الله، و ارتكابه بذلك ذنبا - حاشاه - و أولوية
عدم الإذن لهم معناها كون عدم الإذن أنسب لظهور فضيحتهم و أنهم أحق بذلك لما
بهم من سوء السريرة و فساد النية لا لأنه كان أولى و أحرى في نفسه و أقرب و أمس
بمصلحة الدين.
و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعد ثلاث آيات: "لو خرجوا فيكم ما
زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة و فيكم سماعون لهم" إلى آخر
الآيتين، فقد كان الأصلح أن يؤذن لهم في التخلف ليصان الجمع من الخبال و فساد
الرأي و تفرق الكلمة، و المتعين أن يقعدوا فلا يفتنوا المؤمنين بإلقاء الخلاف
بينهم و التفتين فيهم و فيهم ضعفاء الإيمان و مرضى القلوب و هم سماعون لهم
يسرعون إلى المطاوعة لهم و لو لم يؤذن لهم فأظهروا الخلاف كانت الفتنة أشد و
التفرق في كلمة الجماعة أوضح و أبين.
و يؤكد ذلك قوله تعالى بعد آيتين: "و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة و لكن كره
الله انبعاثهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين" فقد كان تخلفهم و نفاقهم ظاهرا
لائحا من عدم إعدادهم العدة يتوسمه في وجوههم كل ذي لب، و لا يخفى مثل ذلك على
مثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد نبأه الله بأخبارهم قبل نزول هذه
السورة كرارا فكيف يصح أن يعاتب هاهنا عتابا جديا بأنه لم لم يكف عن الإذن و لم
يستعلم حالهم حتى يتبين له نفاقهم و يميز المنافقين من المؤمنين، فليس المراد
بالعتاب إلا ما ذكرناه.
و مما تقدم يظهر فساد قول من قال: إن الآية تدل على صدور الذنب عنه (صلى الله
عليه وآله وسلم) لأن العفو لا يتحقق من غير ذنب، و إن الإذن كان قبيحا منه (صلى
الله عليه وآله وسلم) و من صغائر الذنوب لأنه لا يقال في المباح لم فعلته؟
انتهى.
و هذا من لعبهم بكلام الله سبحانه، و لو اعترض معترض على ما يهجون به في مثل
المقام الذي سيقت الآية فيه لم يرضوا بذلك، و قد أوضحنا أن الآية مسوقة لغرض
غير غرض الجد في العتاب.
على أن قولهم: إن المباح لا يقال فيه: لم فعلت؟ فاسد فإن من الجائز إذا شوهد من
رجح غير الأولى على الأولى أن يقال له: لم فعلت ذلك و رجحته على ما هو أولى
منه؟ على أنك قد عرفت أن الآية غير مسوقة لعتاب جدي.
و نظيره ما ذكره بعض آخر حيث قال: إن بعض المفسرين و لا سيما الزمخشري قد
أساءوا الأدب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)
في هذه الآية، و كان يجب أن يتعلموا أعلى الأدب معه (صلى الله عليه وآله وسلم)
إذ أخبره ربه و مؤدبه بالعفو قبل الذنب، و هو منتهى التكريم و اللطف.
و بالغ آخرون كالرازي في الطرف الآخر فأرادوا أن يثبتوا أن العفو لا يدل على
الذنب، و غايته أن الإذن الذي عاتبه الله عليه هو خلاف الأولى.
و هو جمود مع الاصطلاحات المحدثة و العرف الخاص في معنى الذنب و هو المعصية، و
ما كان ينبغي لهم أن يهربوا من إثبات ما أثبته الله في كتابه تمسكا باصطلاحاتهم
و عرفهم المخالف له و المدلول اللغة أيضا.
فالذنب في اللغة كل عمل يستتبع ضررا أو فوت منفعة أو مصلحة، مأخوذ من ذنب
الدابة، و ليس مرادفا للمعصية بل أعم منها.
و الإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية و هي تبين الذين
صدقوا و العلم بالكاذبين، و قد قال تعالى: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك
الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر" الآية: الفتح: - 2.
ثم ذكر في كلام له طويل أن ذلك كان اجتهادا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما
لا وحي فيه من الله و هو جائز و واقع من الأنبياء (عليهم السلام) و ليسوا
بمعصومين من الخطإ فيه و إنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحي ببيانه و
العمل به فيستحيل على الرسول أن يكذب أو يخطىء فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه
بالعمل.
و منه ما تقدم في سورة الأنفال من عتابه تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في أخذ الفدية من أسارى بدر حيث قال: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى
يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة:" الأنفال: - 67 ثم بين
أنه كان مقتضيا لنزول عذاب أليم لو لا كتاب من الله سبق فكان مانعا انتهى كلامه
بنوع من التلخيص.
و ليث شعري ما الذي زاد في كلامه على ما تفصى به الرازي و غيره حيث ذكروا أن
ذلك من ترك الأولى، و لا يسمونه ذنبا في عرف المتشرعين و هو الذي يستتبع عقابا،
و ذكر هو أنه من ترك الأصلح و سماه ذنبا لغة.
على أنك قد عرفت فيما تقدم أنه لم يكن ذنبا لا عرفا و لا لغة بدلالة ناصة من
الآيات على أن عدم خروجهم كان هو الأصلح لحال جيش المسلمين لتخلصهم بذلك عن
غائلة وقوع الفتنة و اختلاف الكلمة، و كانت هذه العلة بعينها موجودة لو لم يأذن
لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ظهر منهم ما كانوا أبطنوه من الكفر و
الخلاف و أن الذي ذكره الله بقوله: "و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة" إن عدم
إعدادهم العدة كان يدل على عدم إرادتهم الخروج، كان رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) أجل من أن يخفى عليه ذلك و هم بمرأى منه و مسمع.
مضافا إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرفهم في لحن القول كما قال
تعالى: "و لتعرفنهم في لحن القول:" سورة محمد: - 30 و كيف يخفى على من سمع من
أحدهم مثل قوله: "ائذن لي و لا تفتني" أو يقول للنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): "هو أذن" أو يلمزه في الصدقات و لا ينصح له (صلى الله عليه وآله وسلم)
إن ذلك من طلائع النفاق يطلع منهم و ما وراءه إلا كفر و خلاف.
فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوسم منهم النفاق و الخلاف و يعلم
بما في نفوسهم، و مع ذلك فعتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لم لم يكف عن
الإذن و لم يستعلم حالهم و لم يميزهم من غيرهم؟ ليس إلا عتابا غير جدي للغرض
الذي ذكرناه.
و أما قوله: "إن الإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية و
هي تبين الذين صدقوا و العلم بالكاذبين" ففيه أن الذي تشتمل عليه الآية من
المصلحة هو تبين الذين صدقوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علمه هو
بالكاذبين لا مطلق تبينهم و لا مطلق العلم بالكاذبين، و قد ظهر مما تقدم أنه
(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يخفى عليه ذلك، و أن حقيقة المصلحة إنما كانت
في الإذن و هي سد باب الفتنة و اختلاف الكلمة فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يعلم من حالهم أنهم غير خارجين البتة سواء أذن لهم في القعود أم لم يأذن
فبادر إلى الإذن حفظا على ظاهر الطاعة و وحدة الكلمة.
و ليس لك أن تتصور أنه لو بان نفاقهم يومئذ و ظهر خلافهم بعدم إذن النبي لهم
بالقعود لتخلص الناس من تفتينهم و إلقائهم الخلاف لما في الإسلام يومئذ - و هو
يوم خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة تبوك - من الشوكة و القوة،
و له (صلى الله عليه وآله وسلم) من نفوذ الكلمة.
فإن الإسلام يومئذ إنما كان يملك القوة و المهابة في أعين الناس من غير
المسلمين كانوا يرتاعون شوكته و يعظمون سواد أهله و يخافون حد سيوفهم، و أما
المسلمون في داخل مجتمعهم و بين أنفسهم فلم يخلصوا بعد من النفاق و مرض القلوب،
و لم يستول عليهم بعد وحدة الكلمة و جد الهمة و العزيمة، و الدليل على ذلك نفس
هذه الآيات و ما يتلوها إلى آخر السورة تقريبا.
و قد كانوا تظاهروا بمثل ذلك يوم أحد و قد هجم عليهم العدو في عقر دارهم فرجع
ثلث الجيش الإسلامي من المعركة و لم يؤثر فيهم عظة و لا إلحاح حتى قالوا: لو
نعلم قتالا لاتبعناكم، فكان ذلك أحد الأسباب العاملة في انهزام المسلمين.
و أما قوله: و من عتابه تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطئه في
اجتهاده ما تقدم في سورة الأنفال من عتابه في أخذ الفدية من أسارى بدر حيث قال:
"ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض" الآية.
ففيه أولا: أنه من سوء الفهم فمن البين الذي لا يرتاب فيه أن الآية بلفظها لا
تعاتب على أخذ الفدية من الأسرى و إنما تعاتب على نفس أخذ الأسرى - ما كان لنبي
أن يكون له أسرى - و لم تنزل آية و لا وردت رواية في أن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) كان أمرهم بالأسر بل روايات القصة تدل على أن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) لما أمر بقتل بعض الأسرى خاف الناس أن يقتلهم عن آخرهم فكلموه و
ألحوا عليه في أخذ الفدية منهم ليتقووا بذلك على أعداء الدين و قد رد الله
عليهم ذلك بقوله: "تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة".
و هذا من أحسن الشواهد على أن العتاب في الآية متوجه إلى المؤمنين خاصة من غير
أن يختص به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يشاركهم فيه و أن أكثر ما ورد
من الأخبار في هذا المعنى موضوعة أو مدسوسة.
و ثانيا: أن العتاب في الآية لو اختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو شمله
و غيره لم يكن من العتاب على ما ذكره على الذنب بمعناه اللغوي و هو تفويت
المصلحة بوجه فإن هذا العتاب مذيل بقوله تعالى في الآية التالية: "لو لا كتاب
من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم:" الأنفال: - 68 فلا يرتاب ذو لب في أن
التهديد بالعذاب العظيم لا يتأتى إلا مع كون المهدد عليه من المعصية المصطلحة
بل و من كبائر المعاصي، و هذا أيضا من الشواهد على أن العتاب في الآية متوجه
إلى غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: "لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله و اليوم الآخر" إلى آخر الآيتين
تذكر الآيتان أحد ما يعرف به المنافق و يتميز به من المؤمن و هو الاستيذان في
التخلف عن الجهاد في سبيل الله.
و قد بين الله سبحانه ذلك بأن الجهاد في سبيل الله بالأموال و الأنفس من لوازم
الإيمان بالله و اليوم الآخر بحقيقة الإيمان لما يورثه هذا الإيمان من صفة
التقوى، و المؤمن لما كان على تقوى من قبل الإيمان بالله و اليوم الآخر كان على
بصيرة من وجوب الجهاد في سبيل الله بماله و نفسه.
و لا يدعه ذلك أن يتثاقل عنه فيستأذن في القعود لكن المنافق لعدم الإيمان بالله
و اليوم الآخر فقد صفة التقوى فارتاب قلبه و لا يزال يتردد في ريبة فيحب
التطرف، و يستأذن في التخلف و القعود عن الجهاد.
قوله تعالى: "و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة" إلى آخر الآية، العدة الأهبة،
و الانبعاث - على ما في المجمع، - الانطلاق بسرعة في الأمر، و التثبيط التوقيف
عن الأمر بالتزهيد فيه.
و الآية معطوفة على ما تقدم من قوله: "و الله يعلم إنهم لكاذبون" بحسب المعنى
أي هم كاذبون في دعواهم عدم استطاعتهم الخروج بل ما كانوا يريدونه و لو أرادوه
لأعدوا له عدة لأن من آثار من يريد أمرا من الأمور أن يتأهب له بما يناسبه من
العدة و الأهبة و لم يظهر منهم شيء من ذلك.
و قوله: "و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم" أي جزاء بنفاقهم و امتنانا عليك و
على المؤمنين لئلا يفسدوا جمعكم، و يفرقوا كلمتكم بالتفتين و إلقاء الخلاف.
و قوله: "و قيل اقعدوا مع القاعدين" أمر غير تشريعي لا ينافي الأمر التشريعي
بالنفر و الخروج، فقد أمرهم الله بلسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنفر
و الخروج - و هو أمر تشريعي - و أمرهم من ناحية سريرتهم الفاسدة و الريب
المتردد في قلوبهم و سجاياهم الباطنية الخبيثة بالقعود - و هو أمر غير تشريعي -
و لا تنافي بينهما.
و لم ينسب قول: "اقعدوا مع القاعدين" إلى نفسه تنزيها لنفسه عن الأمر بما لا
يرتضيه و هناك أسباب متخللة آمرة بذلك كالشيطان و النفس، و إنما ينسب إليه
تعالى بالواسطة لانطباق معنى الجزاء و الامتنان على المؤمنين عليه.
و ليتوافق الأمران المتخالفان صورة في السياق أعني قوله: "قيل لكم انفروا في
سبيل الله" و قوله: "قيل اقعدوا مع القاعدين".
قوله تعالى: "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم" الآية
الخبال هو الفساد و اضطراب الرأي، و الإيضاح: الإسراع في الشر، و الخلال:
البين! و البغي هو الطلب فمعنى يبغونكم الفتنة أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنة
على ما قيل، و الفتنة هي المحنة كالفرقة و اختلاف الكلمة على ما يناسب الآية من
معانيها، و السماع السريع الإجابة و القبول.
و الآية في مقام التعليل لقوله: "و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم" امتنانا، و
لذا جيء بالفصل من غير عطف، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: "لقد ابتغوا الفتنة من قبل و قلبوا لك الأمور حتى جاء الحق و ظهر
أمر الله و هم كارهون" أي أقسم لقد طلبوا المحنة و اختلاف الكلمة و تفرق
الجماعة من قبل هذه الغزوة - و هي غزوة تبوك - كما في غزوة أحد حين رجع عبد
الله بن أبي بن سلول بثلث القوم و خذل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و
قلبوا لك الأمور بدعوة الناس إلى الخلاف و تحريضهم على المعصية و خذلانهم عن
الجهاد و بعث اليهود و المشركين على قتال المؤمنين و التجسس و غير ذلك حتى جاء
الحق - و هو الحق الذي يجب أن يتبع - و ظهر أمر الله - و هو الذي يريده من
الدين - و هم كارهون لجميع ذلك.
و الآية تستشهد على الآية السابقة بذكر الأمثال كما يستدل على الأمر بمثله، و
توجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة بعد عمومه في الآية
السابقة لاختصاص الأمر فيه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعني تقليب الأمور
عليه بخلاف ما في الآية السابقة من خروجهم في الناس.
بحث روائي في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "إلا تنصروه فقد نصره الله" الآية: أخرج ابن
مردويه و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) من الليل لحق بغار ثور قال: و تبعه أبو بكر فلما سمع رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) حسه خلفه خاف أن يكون الطلب فلما رأى ذلك أبو بكر
تنحنح فلما سمع ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عرفه فقام له حتى تبعه
فأتيا الغار. فأصبحت قريش في طلبه فبعثوا إلى رجل من قافة بني مدلج فتبع الأثر
حتى انتهى إلى الغار و على بابه شجرة فبال في أصلها القائف ثم قال: ما جاز
صاحبكم الذي تطلبون هذا المكان قال فعند ذلك حزن أبو بكر فقال له رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): لا تحزن إن الله معنا. قال: فمكث هو و أبو بكر في
الغار ثلاثة أيام يختلف إليهم بالطعام عامر بن فهيرة و علي يجهزهم فاشتروا
ثلاثة أباعر من إبل البحرين و استأجر لهم دليلا فلما كان بعض الليل من الليلة
الثالثة أتاهم علي بالإبل و الدليل فركب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
راحلته و ركب أبو بكر أخرى فتوجهوا نحو المدينة، و قد بعثت قريش في طلبه. و
فيه، أخرج ابن سعد عن ابن عباس و علي و عائشة بنت أبي بكر و عائشة بنت قدامة و
سراقة بن جعشم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) و القوم جلوس على بابه فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرها على رءوسهم و
يتلو: "يس و القرآن الحكيم" الآيات و مضى. فقال لهم قائل ما تنتظرون؟ قالوا:
محمدا. قال: قد و الله مر بكم قالوا: و الله ما أبصرناه و قاموا ينفضون التراب
من رءوسهم، و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبو بكر إلى غار ثور
فدخلاه و ضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض. و طلبته قريش أشد الطلب
حتى انتهوا إلى باب الغار فقال بعضهم: إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد. و في
إعلام الورى،: في حديث سراقة بن جعشم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
الذي اشتهر في العرب يتقاولون فيه الأشعار و يتفاوضونه في الديار أنه تبعه و هو
متوجه إلى المدينة طالبا لغرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحظى بذلك عند قريش،
حتى إذا أمكنته الفرصة في نفسه و أيقن أن قد ظفر ببغيته ساخت قوائم فرسه حتى
تغيبت بأجمعها في الأرض و هو بموضع جدب و قاع صفصف فعلم أن الذي أصابه أمر
سماوي فنادى يا محمد: ادع ربك يطلق لي فرسي و ذمة الله أن لا أدل عليك أحدا،
فدعا له فوثب جواده كأنه أفلت من أنشوطة و كان رجلا داهية، و علم بما رأى أنه
سيكون له نبأ فقال: اكتب لي أمانا فكتب له و انصرف. قال محمد بن إسحاق: إن أبا
جهل قال في أمر سراقة أبياتا فأجابه سراقة نظما: أبا حكم و اللات لو كنت شاهدا.
لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه. عجبت و لم تشكك بأن محمدا. نبي ببرهان فمن ذا
يكاتمه؟. عليك بكف الناس عنه فإنني. أرى أمره يوما ستبدو معالمه: أقول: و رواه
في الكافي، بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و في
الدر المنثور، بعدة طرق، و أورده الزمخشري في ربيع الأبرار. و في الدر المنثور،
أخرج ابن سعد و ابن مردويه عن ابن مصعب قال: أدركت أنس بن مالك و زيد بن أرقم و
المغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة
الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسترته، و
أمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسترته و أمر
الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار. و أقبل فتيان قريش من كل بطن رجل
بعصيهم و أسيافهم و هراويهم حتى إذا كانوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
قدر أربعين ذراعا فعجل بعضهم فنظر في الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما لك لم
تنظر في الغار؟ فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد. الحديث.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر عن الزهري: في قوله: "إذ هما
في الغار" قال: الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثورا.
أقول: و قد استفاضت الروايات بكون الغار المذكور في القرآن الكريم هو غار جبل
ثور، و هو على أربعة فراسخ من مكة تقريبا.
و في إعلام الورى، و قصص الأنبياء،: و بقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
في الغار ثلاثة أيام ثم أذن الله تعالى له بالهجرة، و قال: اخرج من مكة يا محمد
فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و
أقبل راع لبعض قريش يقال له: ابن أريقط فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فقال له: يا ابن أريقط آتمنك على دمي؟ فقال: إذن و الله أحرسك و أحفظك و
لا أدل عليك، فأين تريد يا محمد؟ قال: يثرب. قال: لأسلكن بك مسلكا لا يهتدي
فيها أحد فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ائت عليا و بشره بأن
الله قد أذن لي في الهجرة فهيىء لي زادا و راحلة. و قال له أبو بكر: ائت أسماء
ابنتي و قل لها: تهيئي لي زادا و راحلتين، و أعلم عامر بن فهيرة أمرنا، و كان
من موالي أبي بكر و كان قد أسلم، و قل له: ائتنا بالزاد و الراحلتين. فجاء ابن
أريقط إلى علي (عليه السلام) فأخبره بذلك فبعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) بزاد و راحلة، و بعث ابن فهيرة بزاد و راحلتين، و
خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغار و أخذ به ابن أريقط على طريق
نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقديد فنزلوا على أم معبد هناك.
قال: و قد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم
و كانوا يتوقعون قدومه إلى أن وافى مسجد قبا و نزل فخرج الرجال و النساء
يستبشرون بقدومه.
أقول: و الأخبار في تفاصيل قصص الهجرة بالغة في الكثرة رواها أصحاب النقل و
أرباب السير من الشيعة و أهل السنة، و هي على كثرتها متدافعة مضطربة لا يسع
نقدها و استخراج الصافي منها مجال هذا الكتاب، و للدلالة على إجمال القصة فيما
أوردناه كفاية و هو كالمتفق عليه بين أخبار الفريقين.
و في الدر المنثور، أخرج خيثمة بن سليمان الطرابلسي في فضائل الصحابة و ابن
عساكر عن علي بن أبي طالب قال: إن الله ذم الناس كلهم و مدح أبا بكر فقال: إلا
تنصروه فقد نصره الله - إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار - إذ
يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.
أقول: نقد البحث في مضامين الآيات الحافة بالقصة و ما ينضم إليها من النقل
الصحيح يوجب سوء الظن بهذه الرواية فإن الآيات التي تذم المؤمنين - أو الناس
كلهم كما في الرواية - و إليها تشير آية الغار بما فيها من قوله: "إلا تنصروه"
هي قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله
اثاقلتم إلى الأرض" الآية، و النقل القطعي يدل على أن التثاقل المذكور لم يكن
من عامة المؤمنين و جميعهم، و إن كثيرا منهم سارع إلى إجابة الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) فيما أمر به من النفر، و إنما تثاقل جماعة من الناس من مؤمن و
منافق.
فخطاب "يا أيها الذين آمنوا" الشامل لجميع المؤمنين، و الذم المتعقب له إنما هو
من خطاب الجماعة بشأن بعضهم كخطاب اليهود بقوله: "فلم تقتلون أنبياء الله:"
البقرة: - 91 و غيره، و هو كثير في القرآن غير أن ديدن القرآن في مثل هذه
الموارد أن لا يضيع حق الصالحين و لا أجر المحسنين أعني الأقلين الذين تعمهم
أمثال هذه الخطابات العامة بالذم و التوبيخ فيتدارك أمرهم و يستثنيهم و يذكرهم
بالجميل كما فعل ذلك فيما سيأتي في هذه السورة من الآيات المادحة للمؤمنين
الشاكرة لجميل مساعيهم بقوله: "و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض" الآية،
و غيره.
و إذا كانت الآيات - و قد نزلت في غزوة تبوك - تعم المؤمنين جميعا المسارعين في
الخروج و المتثاقلين فيه من غير استثناء فهي تشمل عامة الصحابة و المؤمنين و
فيهم أبو بكر نفسه غير أنه تعالى تدارك ما لحق بالمسارعين في الطاعة و الإجابة
منهم في آيات تالية و شكر سعيهم.
فلو كان قوله في الآية: "إلا تنصروه" و هو يشير إلى ما تقدم من حديث التثاقل و
يومىء إليه ذما للناس كلهم كان ذما لأبي بكر كما هو ذم لغيره بعدم نصرتهم للنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) أو تثاقلهم في نصره، و مع ذلك لا تسمح الآية
بالدلالة على نصر أبي بكر له (صلى الله عليه وآله وسلم) بما فيها من قوله: "فقد
نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا
تحزن إن الله معنا" بل لو دل لدل على نصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي
بكر حيث طيب قلبه و سلاه بقوله: "لا تحزن إن الله معنا".
على أنك قد عرفت في البيان السابق أن الآية بمقتضى المقام لا تتعرض إلا لنصر
الله سبحانه وحده نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعينه و شخصه، قبال ما يفرض
من عدم نصر كافة المؤمنين له و خذلانهم إياه فدلالة الآية على أن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) يوم الغار لم ينصره إلا الله سبحانه وحده دلالة قطعية.
و هذا المعنى في نفسه أدل شاهد على أن الضمائر في تتمة جمل الآية: "فأنزل الله
سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة الله
هي العليا" للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الجمل مسوقة لبيان قيامه تعالى
وحده بنصره نصرا عزيزا غيبيا لا صنع فيه لأحد من الناس، و هو إنزال السكينة
عليه و تأييده بجنود غائبة عن الأبصار، و جعل كلمة الذين كفروا السفلى و إعلاء
كلمة الحق و الله عزيز حكيم.
و أما غير نصره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المناقب التي يمدح الإنسان
عليها فلو كان هناك شيء من ذلك لكان هو ما في قوله: "ثاني اثنين" و ما في قوله:
"لصاحبه" فلنسلم أن كون الإنسان ثانيا لاثنين أحدهما النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)، و كونه صاحبا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مذكورا في القرآن بالصحبة
من المفاخر التي يتنفس لها لكنها من المناقب الاجتماعية التي تقدر لها في
المجتمعات قيمة و نفاسة، و أما القرآن الكريم فللقيمة فيه ملاك آخر، و للفضل و
الشرف في منطقه معنى آخر متكىء على حقيقة هي أعلى من المقاصد الوضعية
الاجتماعية، و هي كرامة العبودية و درجات القرب و الزلفى.
و مجرد الصحابة الجسمانية و الدخول في العدد لا يدل على شيء من ذلك، و قد تكرر
في كلامه تعالى أن التسمي بمختلف الأسماء و التلبس بما يتنفس فيه عامة الناس و
يستعظمه النظر الاجتماعي لا قيمة له عند الله سبحانه، و أن الحساب على ما في
القلوب دون ما يتراءى من ظواهر الأعمال و تقدمة الأحساب و الأنساب.
و قد أفصح عنه في مورد أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ملازميه خاصة
بأبلغ الإفصاح قوله تعالى: "محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء
بينهم تراهم ركعا سجدا - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات
منهم مغفرة و أجرا عظيما:" الفتح: - 29 فانظر إلى ما في صدر الآية من المدح و
ما في ذيله من القيد و تدبر.
هذه نبذة مما يتعلق بالآية و الرواية من البحث، و الزائد على هذا المقدار
يخرجنا من البحث التفسيري إلى البحث الكلامي الذي هو خارج عن غرضنا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في
الدلائل و ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس: في قوله: "فأنزل الله سكينته عليه"
قال: على أبي بكر لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل السكينة معه. و
فيه، أخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت: "فأنزل الله سكينته عليه"
قال: على أبي بكر فأما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كانت عليه السكينة.
أقول: قد حقق فيما تقدم أن الضمير راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
على ما يهدي إليه السياق، و الروايتان على ما بهما من الوقف ضعيفتان، و لا حجية
لقول ابن عباس و لا حبيب لغيرهما.
و أما الحجة التي أورداهما فيهما و هي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم
تزل السكينة معه فمدخولة يدفعها قوله تعالى في قصة حنين: "ثم أنزل الله سكينته
على رسوله و على المؤمنين" الآية: التوبة: - 26 و نظيرته آية سورة الفتح
المشيرة إلى قصة الحديبية و هما تصرحان بنزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله
وسلم) في خصوص المورد فليكن الأمر على تلك الوتيرة في الغار.
و كان بعضهم أحس بالإشكال فحمل قولهما في الروايتين: أن السكينة لم تزل مع
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على معنى آخر و هو كون السكينة ملازمة للنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار فيكون قرينة على كون التي نزلت فيه إنما
نزلت على صاحبه دونه، و لعل رواية حبيب أقرب دلالة على ما ذكره.
قال بعد إيراد رواية ابن عباس ثم رواية حبيب: و قد أخذ بهذه الرواية بعض مفسري
اللغة و المعقول و وضحوا ما فيها من التعليل بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم
يحدث له وقتئذ اضطراب و لا خوف و لا حزن، و قواها بعضهم بأن الأصل في الضمير أن
يعود إلى أقرب مذكور.
و ليس هذا بشيء.
و ذهب آخرون إلى أن الضمير يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن
إنزال السكينة عليه لا يقتضي أن يكون خائفا أو مضطربا أو منزعجا.
و هذا ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها الدال على وقوعه بعده و ترتبه
عليه، و أن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن.
انتهى.
أما ما ذكروه من عدم طرو خوف و اضطراب عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتئذ
فإن كانوا استفادوه من عدم ذكر شيء من ذلك في الآية أو في رواية معتمد عليها
فكلامه تعالى في قصة حنين و الحديبية أيضا خال عن ذكر النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بخوف أو حزن أو اضطراب، و لم ترد رواية معتمد عليها تدل على ذلك
فكيف استقام ذكر نزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهما؟.
و إن قالوا باستلزام إنزال السكينة الاضطراب و الخوف و الحزن فهو ممنوع كما
تقدم كيف؟ و نزول نعمة من النعم الإلهية لا يتوقف على سبق الاتصاف بحالة مضادة
لها و نقمة مقابلة لها كنزول الرحمة بعد الرحمة و النعمة بعد النعمة و الإيمان
و الهداية بعد الإيمان و الهداية و غير ذلك، و قد نص القرآن الكريم بأمور كثيرة
من هذا القبيل.
و أما قوله: إن رجوع الضمير إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضعيف لعطف
إنزال السكينة على ما قبلها الدال على وقوعه بعده و ترتبه عليه و أن نزولها وقع
بعد قوله لصاحبه: لا تحزن.
انتهى.
ففيه: أنه لا ريب أن فاء التفريع تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها و وقوعه
بعده لكن بعدية رتبية لا بعدية زمانية و لم يقل أحد بوجوب كونها زمانية دائما.
فمن الواجب فيما نحن فيه أن يترتب قوله: "فأنزل الله سكينته عليه و أيده" على
ما تقدم عليه من الكلام لا على ما هو أقرب إليه من غيره إلا على القول بأن
الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، و قد ضعفه في سابق كلامه.
و الذي يصلح من سابق ليتعلق به التفريع المذكور هو قوله: فقد نصره الله في كذا
و كذا وقتا و تفرع هذه الفروع عليه من قبيل تفرع التفصيل على الإجمال و السياق
على استقامته: "فقد نصره الله في وقت كذا فأنزل سكينته عليه و أيده بجنود لم
تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلى.
فظهر أن ما أجاب به أخيرا هو عين ما ضعفه أولا من حديث أصل قرب المرجع من
الضمير - ذاك الأصل الذي لا أصل له - كرره ثانيا بتغيير ما في اللفظ.
و من هنا يظهر جهة المناقشة في رواية أخرى رواها في الدر المنثور، عن ابن
مردويه عن أنس بن مالك "قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبو بكر
غار حراء فقال أبو بكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو أن أحدهم يبصر موضع
قدمه لأبصرني و إياك فقال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما إن الله أنزل سكينته
عليك و أيدني بجنود لم تروها.
على أن الرواية تذكر غار حراء و قد ثبت بالمستفيض المتكاثر من الأخبار أن الغار
كان غار ثور لا غار حراء.
على أن الرواية مشتملة على تفكيك السياق صريحا بما فيها من قوله: أنزل سكينته
عليك و أيدني بجنود، إلخ.
و قد أورد الآلوسي في روح المعاني، الرواية هكذا: "إن الله أنزل سكينته عليك و
أيدك بجنود لم تروها، فأرجع الضميرين إلى أبي بكر دون النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم).
و لا ندري أي اللفظين هو الأصل و أيهما المحرف غير أنه يضاف على رواية "و أيدك
بجنود لم تروها" إلى ما ذكر من الإشكال آنفا إشكالات أخرى تقدمت في البيان
السابق مضافا إلى إشكال آخر جديد من جهة قوله: "لم تروها" بخطاب الجمع و لا
مخاطب يومئذ جمعا.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا": في رواية
أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "لو كان عرضا قريبا و سفرا
قاصدا" يقول: غنيمة قريبة "لاتبعوك". و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و
محمد بن مسلم، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: "لو كان
عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك" الآية إنهم يستطيعون و قد كان في علم الله
أنه لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لفعلوا: أقول: و رواه الصدوق في المعاني،
بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لكن بعدت عليهم الشقة" يعني إلى تبوك و
سبب ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسافر سفرا أبعد منه و لا
أشد منه. و كان سبب ذلك أن الصيافة كانوا يقدمون المدينة من الشام و معهم
الدرموك و الطعام. و هم الأنباط فأشاعوا بالمدينة أن الروم قد اجتمعوا يريدون
غزو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عسكر عظيم، و أن هرقل قد سار في
جمع جنوده، و جلب معهم غسان و جذام و بهراء و عاملة، و قد قدم عساكره البلقاء و
نزل هو حمص. فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه إلى تبوك و هي
من بلاد البلقاء، و بعث إلى القبائل حوله، و إلى مكة، و إلى من أسلم من خزاعة و
مزينة و جهينة فحثهم على الجهاد. و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعسكره فضرب في ثنية الوداع، و أمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوة به، و من كان
عنده شيء أخرجه، و حملوا و قووا و حثوا على ذلك. و خطب رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) و قال بعد حمد الله و الثناء عليه: أيها الناس إن أصدق الحديث
كتاب الله. و أولى القول كلمة التقوى، و خير الملل ملة إبراهيم، و خير السنن
سنة محمد، و أشرف الحديث ذكر الله، و أحسن القصص هذا القرآن، و خير الأمور
عزائمها و شر الأمور محدثاتها، و أحسن الهدى هدى الأنبياء، و أشرف القتلى
الشهداء، و أعمى العمى الضلالة بعد الهدى، و خير الأعمال ما نفع، و خير الهدى
ما اتبع، و شر العمى عمى القلب و اليد العليا خير من اليد السفلى، و ما قل و
كفى خير مما كثر و ألهى، و شر المعذرة محضر الموت، و شر الندامة يوم القيامة، و
من الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا. و منهم من لا يذكر الله إلا هجرا، و من
أعظم الخطايا اللسان الكذب، و خير الغنى غنى النفس، و خير الزاد التقوى، و رأس
الحكمة مخافة الله، و خير ما ألقي في القلب اليقين، و الارتياب من الكفر، و
التباعد من عمل الجاهلية، و الغلول من قيح جهنم، و السكر جمر النار، و الشعر من
إبليس، و الخمر جماع الإثم، و النساء حبائل إبليس، و الشباب شعبة من الجنون، و
شر المكاسب كسب الربا، و شر الأكل أكل مال اليتيم، و السعيد من وعظ بغيره، و
الشقي من شقي في بطن أمه، و إنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، و الأمر إلى
آخره و ملاك الأمر خواتيمه، و أربى الربا الكذب، و كلما هو آت قريب، و سباب
المؤمن فسوق، و قتال المؤمن كفر، و أكل لحمه من معصية الله، و حرمة ماله كحرمة
دمه، و من توكل على الله كفاه، و من صبر ظفر، و من يعف يعف الله عنه، و من كظم
الغيظ آجره الله، و من يصبر على الرزية يعوضه الله، و من تبع السمعة يسمع الله
به، و من يصم يضاعف الله له، و من يعص الله يعذبه، اللهم اغفر لي و لأمتي.
اللهم اغفر لي و لأمتي أستغفر الله لي و لكم. قال: فرغب الناس في الجهاد لما
سمعوا هذا من رسول الله، و قدمت القبائل من العرب ممن استنفرهم، و قعد عنه قوم
من المنافقين و غيرهم، و لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجد بن قيس
فقال له: يا أبا وهب أ لا تنفر معنا في هذه الغزاة؟ لعلك إن تحتفد من بنات
الأصفر فقال يا رسول الله: و الله إن قومي ليعلمون أن ليس فيهم أشد عجبا
بالنساء مني و أخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر فلا تفتني و
ائذن لي أن أقيم. و قال للجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر. فقال ابنه: ترد
على رسول الله و تقول له ما تقول ثم تقول لقومك: لا تنفروا في الحر و الله
لينزلن الله في هذا قرآنا يقرؤه الناس إلى يوم القيامة فأنزل الله على رسوله
(صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك: "و منهم من يقول ائذن لي و لا تفتني - ألا
في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين". ثم قال الجد بن قيس: أ يطمع محمد
أن حرب الروم مثل حرب غيرهم. لا يرجع من هؤلاء أحد أبدا.
أقول: و قد روي هذه المعاني في روايات أخرى كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة.
و في العيون، بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده
الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) فقال له: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك:
إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فقال له المأمون فيما سأله يا أبا الحسن
فأخبرني عن قول الله تعالى: "عفا الله عنك لم أذنت لهم". قال الرضا (عليه
السلام): "هذا مما نزل: إياك أعني و اسمعي يا جارة، خاطب الله تعالى بذلك نبيه
و أراد به أمته، و كذلك قوله عز و جل: "لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من
الخاسرين"، و قوله تعالى: "و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا".
قال: صدقت يا ابن رسول الله.
أقول: و مضمون الرواية ينطبق على ما قدمناه في بيان الآية، دون ما ذكروه من كون
إذنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم في القعود من قبيل ترك الأولى فإنه لا
يستقيم معه كون الآية من قبيل "إياك أعني و اسمعي يا جارة".
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق في المصنف و ابن جرير، عن عمرو بن ميمون
الأودي قال: اثنتان فعلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يؤمر فيهما
بشيء: إذنه للمنافقين، و أخذه من الأسارى فأنزل الله: "عفا الله عنك لم أذنت
لهم" الآية.
أقول: و قد تقدم الكلام على مضمون الرواية.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة" الآية و
ما بعدها قال: و تخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل نيات و بصائر
لم يكن يلحقهم شك و لا ارتياب و لكنهم قالوا: نلحق برسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم). منهم أبو خيثمة و كان قويا و كان له زوجتان و عريشان، و كانتا
زوجتاه قد رشتا عريشتيه، و بردتا له الماء، و هيأتا له طعاما فأشرف على عريشتيه
فلما نظر إليهما قال: لا و الله ما هذا بإنصاف، رسول الله قد غفر الله له ما
تقدم من ذنبه و ما تأخر قد خرج في الفيح و الريح، و قد حمل السلاح يجاهد في
سبيل الله، و أبو خيثمة قوي قاعد في عريشه و امرأتين حسناوين لا و الله ما هذا
بإنصاف. ثم أخذ ناقته فشد عليها رحله و لحق برسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فنظر الناس إلى راكب على الطريق فأخبروا رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) بذلك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كن أبا خيثمة فأقبل، و
أخبر النبي بما كان منه فجزاه خيرا و دعا له. و كان أبو ذر تخلف عن رسول الله
ثلاثة أيام و ذلك أن جمله كان أعجف، فلحق بعد ثلاثة أيام به و وقف عليه جمله في
بعض الطريق فتركه و حمل ثيابه على ظهره فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص
مقبل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كن أبا ذر فقالوا: هو أبو ذر
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أدركوه فإنه عطشان فأدركوه بالماء.
و وافى أبو ذر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و معه إداوة فيها ماء فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا ذر معك ماء و عطشت؟ قال: نعم يا
رسول الله بأبي أنت و أمي انتهيت إلى صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب
بارد فقلت: لا أشربه حتى يشرب رسول الله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): يا أبا ذر رحمك الله، تعيش وحدك، و تموت وحدك، و تبعث وحدك، و تدخل
الجنة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق يتولون غسلك و تجهيزك و الصلاة عليك و
دفنك. ثم قال: و قد كان تخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوم من
المنافقين و قوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق: منهم كعب بن مالك
الشاعر و مرارة بن الربيع و هلال بن أمية الرافعي فلما تاب الله عليهم قال كعب.
ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
إلى تبوك، و ما اجتمعت لي راحلتان قط إلا في ذلك اليوم، و كنت أقول: أخرج غدا
بعد غد فإني مقوى، و توانيت و ثقلت بعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أياما أدخل السوق و لا أقضي حاجة فلقيت هلال بن أمية و مرارة بن الربيع و قد
كانا تخلفا أيضا فتوافقنا أن نبكر إلى السوق فلم نقض حاجة فما زلنا نقول: نخرج
غدا و بعد غد حتى بلغنا إقبال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فندمنا.
فلما وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استقبلناه نهنئه السلامة فسلمنا
عليه فلم يرد علينا السلام و أعرض عنا، و سلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا
السلام فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا و كنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد و
لا يكلمنا فجاءت نساؤنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلن: قد
بلغنا سخطك على أزواجنا أ فنعتزلهم؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
لا تعتزلنهم و لكن لا يقربوكن. فلما رأى كعب بن مالك و صاحباه ما قد حل بهم
قالوا: ما يقعدنا بالمدينة و لا يكلمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
لا إخواننا و لا أهلونا؟ فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله
علينا أو نموت. فخرجوا إلى ذباب جبل بالمدينة فكانوا يصومون و كان أهلوهم
يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم و لا يكلمونهم. فبقوا على هذا
أياما كثيرة يبكون بالليل و النهار و يدعون الله أن يغفر لهم فلما طال عليهم
الأمر قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا و رسوله، و قد سخط علينا أهلونا،
و إخواننا قد سخطوا علينا فلا يكلمنا أحد فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟ فتفرقوا
في الجبل و حلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه فبقوا
على ذلك ثلاثة أيام، و كل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه و
لا يكلمه. فلما كان في الليلة الثالثة، و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله:
"لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين و الأنصار - الذين اتبعوه في ساعة العسرة"
قال الصادق (عليه السلام): هكذا نزلت و هو أبو ذر و أبو خيثمة و عمير بن وهب
الذين تخلفوا ثم لحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ثم قال في هؤلاء
الثلاثة: "و على الثلاثة الذين خلفوا" فقال العالم (عليه السلام): إنما أنزل:
على الثلاثة الذين خالفوا و لو خلفوا لم يكن عليهم عيب "حتى إذا ضاقت عليهم
الأرض بما رحبت" حيث لا يكلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا
إخوانهم و لا أهلوهم فضاقت عليهم المدينة حتى خرجوا منها "و ضاقت عليهم أنفسهم"
حيث حلفوا أن لا يكلم بعضهم بعضا فتفرقوا و تاب الله عليهم لما عرف من صدق
نياتهم.
أقول: و سيأتي الكلام في الآيتين و ما ورد فيهما من الروايات.
و في تفسير العياشي، عن المغيرة قال: سمعته يقول: في قول الله عز و جل: "و لو
أرادوا الخروج لأعدوا له عدة" قال: يعني بالعدة النية "يقول: "لو كان لهم نية
لخرجوا.
أقول: الرواية على ضعفها و إرسالها و إضمارها لا تنطبق على لفظ الآية و الله
أعلم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن المنذر عن الحسن البصري قال: كان عبد
الله بن أبي و عبد الله بن نبتل و رفاعة بن زيد بن تابوت من عظماء المنافقين، و
كانوا ممن يكيد الإسلام و أهله، و فيهم أنزل الله: "لقد ابتغوا الفتنة من قبل -
و قلبوا لك الأمور" إلى آخر الآية.
9 سورة التوبة - 49 - 63
وَ مِنْهُم مّن يَقُولُ ائْذَن لى وَ لا تَفْتِنى أَلا فى الْفِتْنَةِ سقَطوا
وَ إِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطةُ بِالْكفِرِينَ (49) إِن تُصِبْك حَسنَةٌ تَسؤْهُمْ
وَ إِن تُصِبْك مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَ
يَتَوَلّوا وّ هُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لّن يُصِيبَنَا إِلا مَا كتَب اللّهُ
لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَ عَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ
هَلْ تَربّصونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسنَيَينِ وَ نحْنُ نَترَبّص بِكُمْ أَن
يُصِيبَكمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَترَبّصوا إِنّا
مَعَكم مّترَبِّصونَ (52) قُلْ أَنفِقُوا طوْعاً أَوْ كَرْهاً لّن يُتَقَبّلَ
مِنكُمْ إِنّكُمْ كنتُمْ قَوْماً فَسِقِينَ (53) وَ مَا مَنَعَهُمْ أَن
تُقْبَلَ مِنهُمْ نَفَقَتُهُمْ إِلا أَنّهُمْ كفَرُوا بِاللّهِ وَ بِرَسولِهِ
وَ لا يَأْتُونَ الصلَوةَ إِلا وَ هُمْ كسالى وَ لا يُنفِقُونَ إِلا وَ هُمْ
كَرِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْك أَمْوَلُهُمْ وَ لا أَوْلَدُهُمْ إِنّمَا
يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبهُم بهَا فى الْحَيَوةِ الدّنْيَا وَ تَزْهَقَ
أَنفُسهُمْ وَ هُمْ كَفِرُونَ (55) وَ يحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنهُمْ لَمِنكمْ وَ
مَا هُم مِّنكمْ وَ لَكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يجِدُونَ
مَلْجَئاً أَوْ مَغَرَتٍ أَوْ مُدّخَلاً لّوَلّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يجْمَحُونَ
(57) وَ مِنهُم مّن يَلْمِزُك فى الصدَقَتِ فَإِنْ أُعْطوا مِنهَا رَضوا وَ إِن
لّمْ يُعْطوْا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسخَطونَ (58) وَ لَوْ أَنّهُمْ رَضوا مَا
ءَاتَاهُمُ اللّهُ وَ رَسولُهُ وَ قَالُوا حَسبُنَا اللّهُ سيُؤْتِينَا اللّهُ
مِن فَضلِهِ وَ رَسولُهُ إِنّا إِلى اللّهِ رَغِبُونَ (59) إِنّمَا الصدَقَت
لِلْفُقَرَاءِ وَ الْمَسكِينِ وَ الْعَمِلِينَ عَلَيهَا وَ الْمُؤَلّفَةِ
قُلُوبهُمْ وَ فى الرِّقَابِ وَ الْغَرِمِينَ وَ فى سبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ
السبِيلِ فَرِيضةً مِّنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكيمٌ (60) وَ مِنهُمُ
الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبىّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيرٍ لّكمْ
يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِّلّذِينَ
ءَامَنُوا مِنكمْ وَ الّذِينَ يُؤْذُونَ رَسولَ اللّهِ لهَُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(61) يحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيرْضوكمْ وَ اللّهُ وَ رَسولُهُ أَحَقّ أَن
يُرْضوهُ إِن كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنّهُ مَن يحَادِدِ
اللّهَ وَ رَسولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَلِداً فِيهَا ذَلِك الْخِزْى
الْعَظِيمُ (63)
بيان
الآيات تعقب القول في المنافقين و بيان حالهم و فيها ذكر أشياء من أقوالهم و
أفعالهم، و البحث عما يكشف عنه من خبائث أوصافهم الباطنة و اعتقاداتهم المبنية
على الضلال.
قوله تعالى: "و منهم من يقول ائذن لي و لا تفتني ألا في الفتنة سقطوا" الآية
الفتنة هاهنا - على ما يهدي إليه السياق - إما الإلقاء إلى ما يفتتن و يغر به،
و إما الإلقاء في الفتنة و البلية الشاملة.
و المراد على الأول: ائذن لي في القعود و عدم الخروج إلى الجهاد، و لا تلقني في
الفتنة بتوصيف ما في هذه الغزوة من نفائس الغنائم و مشتهيات الأنفس فافتتن بها
و اضطر إلى الخروج، و على الثاني ائذن لي و لا تلقني إلى ما في هذه الغزوة من
المحنة و المصيبة و البلية.
فأجاب الله عن قولهم بقولهم: "ألا في الفتنة سقطوا" و معناه أنهم يحترزون بحسب
زعمهم عن فتنة مترقبة من قبل الخروج، و قد أخطئوا فإن الذي هم عليه من الكفر و
النفاق و سوء السريرة، و من آثاره هذا القول الذي تفوهوا به هو بعينه فتنة
سقطوا فيها فقد فتنهم الشيطان بالغرور، و وقعوا في مهلكة الكفر و الضلال و
فتنته.
هذا حالهم في هذه النشأة الدنيوية و أما في الآخرة فإن جهنم لمحيطة بالكافرين
على حذو إحاطة الفتنة بهم في الدنيا و سقوطهم فيها فقوله: "ألا في الفتنة
سقطوا" و قوله: "و إن جهنم لمحيطة بالكافرين" كأنهما معا يفيدان معنى واحدا و
هو أن هؤلاء واقعون في الفتنة و التهلكة أبدا في الدنيا و الآخرة.
و يمكن أن يفهم من قوله: "و إن جهنم لمحيطة بالكافرين" الإحاطة بالفعل دون
الإحاطة الاستقبالية كما تهدي إليه الآيات الدالة على تجسم الأعمال.
قوله تعالى: "إن تصبك حسنة تسؤهم و إن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من
قبل" المراد بالحسنة و السيئة بقرينة السياق ما تتعقبه الحروب و المغازي لأهلها
من حسنة الفتح و الظفر و الغنيمة و السبي، و من سيئة القتل و الجرح و الهزيمة.
و قوله: "يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل" كناية عن الاحتراز عن الشر قبل وقوعه
كأن أمرهم كان خارجا من أيديهم فأخذوه و قبضوا و تسلطوا عليه فلم يدعوه يفسد و
يضيع.
فمعنى الآية إن هؤلاء المنافقين هواهم عليك: إن غنمت و ظفرت في وجهك هذا ساءهم
ذلك، و إن قتلت أو جرحت أو أصبت بأي مصيبة أخرى قالوا قد احترزنا عن الشر من
قبل و تولوا و هم فرحون.
و قد أجاب الله سبحانه عن ذلك بجوابين اثنين في آيتين: قوله: "قل لن يصيبنا"
إلخ و قوله: "قل هل تربصون" إلخ.
قوله تعالى: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل
المؤمنون" محصله أن ولاية أمرنا إنما هي لله سبحانه فحسب - على ما يدل عليه
قوله: "هو مولانا" من الحصر - لا إلى أنفسنا و لا إلى شيء من هذه الأسباب
الظاهرة، بل حقيقة الأمر لله وحده و قد كتب كتابة حتم ما سيصيبنا من خير أو شر
أو حسنة أو سيئة، و إذا كان كذلك فعلينا امتثال أمره و السعي لإحياء أمره و
الجهاد في سبيله و لله المشية فيما يصيبنا في ذلك من حسنة أو سيئة فما على
العبيد إلا ترك التدبير و امتثال الأمر و هو التوكل.
و بذلك يظهر: أن المراد بقوله: "و على الله فليتوكل المؤمنون" ليس كلاما
مستأنفا بل معطوف على ما قبله متمم له، و المعنى أن ولاية أمرنا لله و نحن
مؤمنون به، و لازمه أن نتوكل عليه و نرجع الأمر إليه من غير أن نختار لأنفسنا
شيئا من الحسنة و السيئة فلو أصابتنا حسنة كان المن له و إن أصابتنا سيئة كانت
المشية و الخيرة له، و لا لوم علينا و لا شماتة تتعلق بنا، و لا حزن و لا مساءة
يطرأ على قلوبنا.
و قد قال تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل
أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما
آتاكم:" الحديد: - 23، و قال: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله و من يؤمن بالله
يهد قلبه:" التغابن: - 11 و قال: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا:" سورة محمد:
- 11، و قال: "و الله ولي المؤمنين:" آل عمران: - 68، و قال: "فالله هو الولي:"
الشورى: - 9.
و الآيات - كما ترى - تتضمن أصول هذه الحقيقة التي تنبىء عنه الآية التي نتكلم
فيها جوابا عن وهم المنافقين، و هي أن حقيقة الولاية لله سبحانه ليس إلى أحد من
دونه من الأمر شيء فإذا آمن الإنسان به و عرف مقام ربه علم ذلك و كان عليه أن
يتوكل على ربه و يرجع إليه حقيقة المشية و الخيرة فلا يفرح بحسنة أصابته، و لا
يحزن لسيئة أصابته.
و من الجهل أن يسوء الإنسان ما أصابت عدوه من حسنة أو يسره ما أصابته من سيئة
فليس له من الأمر شيء، و هذا هو الجواب الأول عن مساءتهم بما أصاب المؤمنين من
الحسنة و فرحهم بما أصابتهم من السيئة.
و ظاهر كلام بعض المفسرين أن المولى في الآية بمعنى الناصر، و كذا ظاهر كلام
بعضهم: أن قوله: "و على الله فليتوكل المؤمنون" جملة مستأنفة أمر الله فيها
المؤمنين بالتوكل عليه، و السياق المشهود من الآيتين لا يساعد عليه.
قوله تعالى: "قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين و نحن نتربص بكم" الآية
الحسنيان هما الحسنة و السيئة على ما يدل عليه الآية الأولى الحاكية أنهم
يسوؤهم ما أصاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حسنة، و تسرهم ما أصابه من
سيئة فيقولون قد أخذنا أمرنا من قبل فهم على حال تربص ينتظرون ما يقع به و
بالمؤمنين من الحسنة أو السيئة.
و الحسنة و السيئة كلتاهما حسنيان بحسب النظر الديني فإن في الحسنة حسنة الدنيا
و عظيم الأجر عند الله، و في السيئة التي هي الشهادة أو أي تعب و عناء أصابهم
مرضاة الله و ثواب خالد دائم.
و معنى الآية أنا نحن و أنتم كل يتربص بصاحبه غير أنكم تتربصون بنا إحدى خصلتين
كل واحدة منهما خصلة حسنى و هما: الغلبة على العدو مع الغنيمة، و الشهادة في
سبيل الله، و نحن نتربص بكم أن يعذبكم الله بعذاب من عنده كالعذاب السماوي أو
بعذاب يجري بأيدينا كأن يأمرنا بقتالكم و تطهير الأرض من قذارة وجودكم فنحن
فائزون على أي حال، إن وقع شيء مما تربصتم سعدنا، و إن وقع ما تربصنا سعدنا
فتربصوا إنا معكم متربصون، و هذا جواب ثان عن المنافقين.
و قد ذكر في الآية الأولى إصابة الحسنة و السيئة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)، و في مقام الجواب في الآيتين الثانية و الثالثة إصابتهما النبي و
المؤمنين جميعا لملازمتهم إياه و مشاركتهم إياه فيما أصابه من حسنة أو سيئة.
قوله تعالى: "قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين" لفظ
أمر في معنى الشرط.
و الترديد للتعميم و لفظ الأمر في هذه الموارد كناية عن عدم النهي و سد السبيل
إيماء إلى أن الفعل لغو لا يترتب عليه أثر، و قوله: "لن يتقبل منكم" تعليل
للأمر كما أن قوله تعالى: "إنكم كنتم قوما فاسقين" تعليل لعدم القبول.
و معنى الآية: لا نمنعكم عن الإنفاق في حال من طوع أو كره فإنه لغو غير مقبول
لأنكم فاسقون، و لا يقبل عمل الفاسقين، قال تعالى: "إنما يتقبل الله من
المتقين:" المائدة: - 27 و التقبل أبلغ من القبول.
قوله تعالى: "و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله و برسوله"
إلخ الآية تعليل تفصيلي لعدم تقبل نفقاتهم، و بعبارة أخرى بمنزلة الشرح لفسقهم،
و قد عدت الكفر بالله تعالى و رسوله و الكسل في إقامة الصلاة و الكره في
الإنفاق أركانا لنفاقهم.
قوله تعالى: "فلا تعجبك أموالهم و لا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها" إلى
آخر الآية، الإعجاب بالشيء السرور بما يشاهد فيه من جمال أو كمال أو نحوهما، و
الزهوق خروج الشيء بصعوبة و أصله الهلاك على ما قيل.
و قد نهى الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الإعجاب بأموال
المنافقين و أولادهم أي بكثرتها على ما يعطيه السياق، و علل ذلك بأن هذه
الأموال و الأولاد - و هي شاغلة للإنسان لا محالة - ليست من النعمة التي تهتف
لهم بالسعادة بل من النقمة التي تجرهم إلى الشقاء فإن الله و هو الذي خولهم
إياها إنما أراد بها تعذيبهم في الحياة الدنيا، و توفيهم و هم كافرون.
فإن الحياة التي يعدها الموجود الحي سعادة لنفسه و راحة لذاته إنما تكون سعادة
فيها الراحة و البهجة إذا جرت على حقيقة مجراها و هو أن يتلبس الإنسان بواقع
آثارها من العلم النافع و العمل الصالح من غير أن يشتغل بغير ما فيه خيره و
نفعه، فهذه هي الحياة التي لا موت فيها، و الراحة التي لا تعب معها، و اللذة
التي لا ألم دونها، و هي الحياة في ولاية الله، قال تعالى: "ألا إن أولياء الله
لا خوف عليهم و لا هم يحزنون:" يونس: - 62.
و أما من اشتغل بالدنيا و جذبته زيناتها من مال و بنين إلى نفسها و غرته الآمال
و الأماني الكاذبة التي تتراءى له منها و استهوته الشياطين فقد وقع في تناقضات
القوى البدنية و تزاحمات اللذائذ المادية، و عذب أشد العذاب بنفس ما يرى فيه
سعادته و لذته فمن المشاهد المعاين أن الدنيا كلما زادت إقبالا على الإنسان، و
متعته بكثرة الأموال و الأولاد أبعدته عن موقف العبودية و قربته إلى الهلاكة و
عذاب الروح فلا يزال يتقلب بين هذه الأسباب الموافقة و المخالفة، و الأوضاع و
الأحوال الملائمة و المزاحمة، فالذي يسميه هؤلاء المغفلون سعة العيش هو
بالحقيقة ضنك كما قال تعالى: "و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم
القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا
فنسيتها و كذلك اليوم تنسى:" طه: - 126.
فغاية إعراض الإنسان عن ذكر ربه، و انكبابه على الدنيا يبتغي به سعادة الحياة و
راحة النفس و لذة الروح أن يعذب بين أطباق هذه الفتن التي يراها نعما، و يكفر
بربه بالخروج عن زي العبودية كما قال: "إنما يريد الله ليعذبهم بها و تزهق
أنفسهم و هم كافرون" و هو الإملاء و الاستدراج الذين يذكرهما في قوله:
"سنستدرجهم من حيث لا يعلمون و أملي لهم إن كيدي متين:" الأعراف: - 183.
قوله تعالى: "و يحلفون بالله إنهم لمنكم و ما هم منكم" إلى آخر الآيتين، الفرق
انزعاج النفس من ضرر متوقع، و الملجأ الموضع الذي يلتجأ إليه و يتحصن فيه، و
المغار المحل الذي يغور فيه الإنسان فيستره عن الأنظار، و يطلق على الغار و هو
الثقب الذي يكون في الجبال، و المدخل من الافتعال الطريق الذي يتدسس بالدخول
فيه، و الجماح مضي المار مسرعا على وجهه لا يصرفه عنه شيء، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: "و منهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا
منها إذا هم يسخطون" اللمز العيب، و إنما كانوا يعيبونه فيها إذا لم يعطهم منها
لعدم استحقاقهم ذلك أو لأسباب أخر كما يدل عليه ذيل الآية.
قوله تعالى: "و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله" إلى آخر الآية، "لو"
للتمني و قوله: "رضوا ما آتاهم الله" كأن الرضى ضمن معنى الأخذ و لذا عدي بنفسه
أي أخذوا ذلك راضين به أو رضوا آخذين ذلك، و الإيتاء الإعطاء، و حسبنا الله أي
كفانا فيما نرغب إليه و نأمله.
و قوله: "سيؤتينا الله من فضله و رسوله" بيان لما يرغب إليه و يطمع فيه و ليس
إخبارا عما سيكون، و قوله: "إنا إلى الله راغبون" كالتعليل لقوله: "سيؤتينا
الله" إلى آخر الآية.
و المعنى و كان مما يتمنى لهم أن يكونوا أخذوا ما أعطاهم الله و رسوله بأمر منه
من مال الصدقات أو غيره، و قالوا كفانا الله سبحانه من سائر الأسباب و نحن
راغبون في فضله و نطمع أن يؤتينا من فضله و يؤتينا رسوله.
و في الآية ما لا يخفى من لطيف البيان حيث نسب الإيتاء إلى الله و إلى رسوله و
خص الكفاية و الفضل و الرغبة بالله على ما هو لازم دين التوحيد.
قوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة
قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل" الآية، بيان
لموارد تصرف إليها الصدقات الواجبة و هي الزكوات بدليل قوله في آخر الآية:
"فريضة من الله" و هي ثمانية.
وارد على ظاهر ما يعطيه سياق الآية و لازمه أن يكون الفقير و المسكين موردين
أحدهما غير الآخر.
و قد اختلفوا في الفقير و المسكين أنهما صنف واحد أو صنفان، ثم على الثاني في
معناهما على أقوال كثيرة لا ينتهي أكثرها إلى حجة بينة، و الذي يعطيه ظاهر
لفظهما أن الفقير هو الذي اتصف بالعدم و فقدان ما يرفع حوائجه الحيوية من المال
قبال الغني الذي اتصف بالغنى و هو الجدة و اليسار.
و أما المسكين فهو الذي حلت به المسكنة و الذلة مضافة إلى فقدان المال و ذلك
إنما يكون بأن يصل فقره إلى حد يستذله بذلك كمن لا يجد بدا من أن يبذل ماء وجهه
و يسأل كل كريم و لئيم من شدة الفقر و كالأعمى و الأعرج فالمسكين أسوأ حالا من
الفقير.
و الفقير و المسكين و إن كانا بحسب النسبة أعم و أخص فكل مسكين من جهة الحاجة
المالية فقير و لا عكس غير أن العرف يراهما صنفين متقابلين لمكان مغايرة
الوصفين في نفسهما فلا يرد أن ذكر الفقير على هذا المعنى مغن عن ذكر المسكين
لمكان أعميته و ذلك أن المسكنة هي وصف الذلة كالزمانة و العرج و العمى و إن كان
بعض مصاديقه نهاية الذلة من جهة فقد المال.
و أما العاملون عليها أي على الصدقات فهم الساعون لجمع الزكوات و جباتها.
و أما المؤلفة قلوبهم فهم الذين يؤلف قلوبهم بإعطاء سهم من الزكاة ليسلموا أو
يدفع بهم العدو أو يستعان بهم على حوائج الدين.
و أما قوله: "و في الرقاب" فهو متعلق بمقدر و التقدير: و المصرف في الرقاب أي
في فكها كما في المكاتب الذي لا يقدر على تأدية ما شرطه لمولاه على نفسه لعتقه
أو الرق الذي كان في شدة.
و قوله: "و الغارمين" أي و للصرف في الغارمين الذين ركبتهم الديون فيقضى ديونهم
بسهم من الزكاة.
و قوله: "و في سبيل الله" أي و للصرف في سبيل الله، و هو كل عمل عام يعود
عائدته إلى الإسلام و المسلمين و تحفظ به مصلحة الدين و من أظهر مصاديقه الجهاد
في سبيل الله، و يلحق به سائر الأعمال التي تعم نفعه و تشمل فائدته كإصلاح
الطرق و بناء القناطر و نظائر ذلك.
و قوله: "و ابن السبيل" أي و للصرف في ابن السبيل و هو المنقطع عن وطنه الفاقد
لما يعيش به و إن كان غنيا ذا يسار في بلده فيرفع حاجته بسهم من الزكاة.
و قد اختلف سياق العد فيما ذكر في الآية من الأصناف الثمانية فذكرت الأربعة
الأول باللام: "للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم" ثم غير
السياق في الأربعة الباقية فقيل: "و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن
السبيل" فإن ظاهر السياق الخاص بهذه الأربعة أن التقدير: و في الرقاب و في
الغارمين و في سبيل الله و في ابن السبيل.
أما الأربعة الأول: "للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم"
فاللام فيها للملك بمعنى الاختصاص في التصرف فإن الآية بحسب السياق كالجواب عن
المنافقين الذين كانوا يطمعون في الصدقات و هم غير مستحقين لها و كانوا يلمزون
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حرمانهم منها فأجيبوا بالآية أن للصدقات
مواضع خاصة تصرف فيها و لا تتعداها، و الآية ليست بظاهرة في أزيد من هذا
المقدار من الاختصاص.
و أما كون ملكهم للصدقات هو الملك بمعناه المعروف فقها؟ و كذا حقيقة هذا الملك
مع كون المالكين أصنافا بعناوينهم الصنفية لا ذوات شخصية؟ و نسبة سهم كل صنف
إلى بقية السهام؟ فإنما هي مسائل فقهية خارجة عن غرضنا، و قد اختلفت أقوال
الفقهاء فيها اختلافا شديدا فليرجع إلى الفقه.
و أما الأربعة الباقية: "و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل"
فقد قيل في تغيير السياق فيها و في تأخيرها عن الأربعة الأول وجوه: منها: أن
الترتيب لبيان الأحق فالأحق من الأصناف، فأحق الأصناف بها الفقراء ثم المساكين
و هكذا على الترتيب، و لكون الأربعة الأخيرة بحسب ترتيب الأحقية واقعة في
المراتب الأربع الأخيرة وضع كل في موضعه الخاص، و لو لا هذا الترتيب لكان
الأنسب أن يذكر الأصناف ثم تذكر موارد المصالح فيقال: للفقراء و المساكين و
العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و الغارمين و ابن السبيل ثم يقال: و في الرقاب
و سبيل الله.
و الحق أن دلالة الترتيب بما فيه من التقديم و التأخير على أهمية الملاك و قوة
المصلحة في أجزاء الترتيب لا ريب فيه فإن كان مراده بالأحق فالأحق الأهم ملاكا
فالأهم فهو، و لو كان المراد التقدم و التأخر من حيث الإعطاء و الصرف و ما يشبه
ذلك فلا دلالة من جهة اللفظ عليه البتة كما لا يخفى و الذي أيده به من الوجه لا
جدوى فيه.
و منها: أن العدول عن اللام في الأربعة الأخيرة إلى "في" للإيذان بأنهم أرسخ في
استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره لأن "في" للوعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن
توضع فيهم الصدقات و يجعلوا مظنة لها و مصبا، و ذلك لما في فك الرقاب من
الكتابة أو الرق و الأسر، و في فك الغارمين من الغرم و التخليص و الإنقاذ، و
لجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر و العبادة، و كذلك ابن السبيل
جامع بين الفقر و الغربة عن الأهل و المال.
و تكرير "في" في قوله: "و في سبيل الله و ابن السبيل" فيه فضل ترجيح لهذين على
الرقاب و الغارمين.
كذا ذكره في الكشاف.
و فيه: أنه معارض بكون الأربعة الأول مدخولة للام الملك فإن المملوك أشد لزوما
و اتصالا بالنسبة إلى مالكه من المظروف بالنسبة إلى ظرفه، و هو ظاهر.
و منها: أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، و إنما يأخذونه
ملكا فكان دخول اللام لائقا بهم، و أما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف
نحوهم بل و لا يصرف إليهم و لكن في مصالح تتعلق بهم.
فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون و البائعون فليس
نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف
نحوهم، و إنما هم محال لهذا الصرف و المصلحة المتعلقة به، و كذلك الغارمون إنما
يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم، و أما سبيل الله فواضح ذلك
فيه، و أما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله، و إنما أفرد بالذكر
تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا و عطفه على المجرور باللام
ممكن و لكنه على القريب منه أقرب.
و هذا الوجه لا يخلو عن وجه غير أن إجراءه في ابن السبيل لا يخلو عن تكلف، و ما
ذكر من دخوله في سبيل الله هو وجه مشترك بينه و بين غيره.
و لو قال قائل بكون الغارمين و ابن السبيل معطوفين على المجرور باللام ثم ذكر
الوجه الأول بالمعنى الذي ذكرناه وجها للترتيب و الوجه الأخير وجها لاختصاص
الرقاب و سبيل الله بدخول "في" لم يكن بعيدا عن الصواب.
و قوله في ذيل الآية: "فريضة من الله و الله عليم حكيم" إشارة إلى كون الزكاة
فريضة واجبة مشرعة على العلم و الحكمة لا تقبل تغيير المغير، و لا يبعد أن
يتعلق الفرض بتقسمها إلى الأصناف الثمانية كما ربما يؤيده السياق فإن الغرض في
الآية إنما تعلق ببيان مصارف الصدقات لا بفرض أصلها فالأنسب أن يكون قوله:
"فريضة من الله" إشارة إلى أن تقسمها إلى الأصناف الثمانية أمر مفروض من الله
لا يتعدى عنه على خلاف ما كان يطمع فيه المنافقون في لمزهم النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم).
و من هنا يظهر أن الآية لا تخلو عن إشعار بكون الأصناف الثمانية على سهمها من
غير اختصاص بزمان دون زمان خلافا لما ذكره بعضهم: أن المؤلفة قلوبهم كانوا
جماعة من الأشراف في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف قلوبهم بإعطاء
سهم من الصدقات إياهم، و أما بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد ظهر الإسلام
على غيره، و ارتفعت الحاجة إلى هذا النوع من التأليفات، و هو وجه فاسد و ارتفاع
الحاجة ممنوع.
قوله تعالى: "و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن
بالله و يؤمن للمؤمنين و رحمة للذين آمنوا منكم" الأذن جارحة السمع المعروفة، و
قد أطلقوا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) الأذن و سموه بها إشارة إلى أنه يصغي
لكل ما قيل له و يستمع إلى كل ما يذكر له فهو أذن.
و قوله: "قل أذن خير لكم" من الإضافة الحقيقية أي سماع يسمع ما فيه خيركم حيث
يسمع من الله سبحانه الوحي و فيه خير لكم، و يسمع من المؤمنين النصيحة و فيها
خير لكم و يمكن أن يكون من إضافة الموصوف إلى الصفة أي أذن هي خير لكم لأنه لا
يسمع إلا ما ينفعكم و لا يضركم.
و الفرق بين الوجهين أن اللازم على الأول أن يكون مسموعه خيرا لهم كالوحي من
الله و النصيحة من المؤمنين، و اللازم على الثاني أن يكون استماعه استماع خير و
إن لم يكن مسموعه خيرا كأن يستمع إلى بعض ما ليس خيرا لهم لكنه يستمع إليه
فيحترم بذلك قائله ثم يحمل ذلك القول منه على الصحة فلا يهتك حرمته و لا يسيء
الظن به ثم لا يرتب أثر الخبر الصادق المطابق للواقع عليه فلا يؤاخذ من قيل فيه
بما قيل فيه فيكون قد احترم إيمانه كما احترم إيمان القائل الذي جاءه بالخبر.
و من هنا يظهر أن الأنسب بسياق الآية هو الوجه الثاني لما عقبه بقوله: "يؤمن
بالله و يؤمن للمؤمنين" الآية.
و ذلك أن الإيمان هو التصديق، و قد ذكر متعلق الإيمان في قوله: "يؤمن بالله" و
أما قوله: "و يؤمن للمؤمنين" فلم يذكر متعلقه و إنما ذكر أن هذا التصديق لنفع
المؤمنين لمكان اللام، و التصديق الذي يكون فيه نفع المؤمنين حتى في الخبر الذي
يتضمن ما يضرهم إنما هو التصديق بمعنى إعطاء الصدق المخبري دون الخبري أي فرض
أن المخبر صادق بمعنى أنه معتقد بصدق خبره و إن كان كاذبا لا يطابق الواقع.
و هذا كما في قوله تعالى: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و
الله يعلم إنك لرسوله و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون:" المنافقون: - 1 فالله
سبحانه يكذب المنافقين لا من حيث خبرهم برسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بل من حيث إخبارهم بخلاف ما يعتقدونه و هذا بخلاف قول المؤمنين فيما حكى الله
سبحانه: "و لما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق
الله و رسوله:" الأحزاب: - 22 فهم يصدقون الله و رسوله في الخبر لا في
الاعتقاد.
و بالجملة ظاهر قوله: "يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين" إنه يصدق الله فيما أخبره
به من الوحي، و يصدق لنفع المؤمنين كل من ألقى إليه منهم خبرا بحمل فعله على
الصحة و عدم رميه بالكذب و سوء النية من غير أن يرتب أثرا على كل ما يسمعه و
يستمع إليه و إلا لم يكن تصديقه لنفع المؤمنين و اختل الأمر، و هذا المعنى كما
ترى يؤيد الوجه الثاني المذكور.
و كأن المراد بالمؤمنين المجتمع المنسوب إليهم و إن اشتمل على أفراد من غيرهم
كالمنافقين و على هذا كان المراد بالذين آمنوا منهم المؤمنون من قومهم حقا
فمعنى الكلام أنه يصدق ربه و يصدق كل فرد من أفراد مجتمعكم احتراما لظاهر حاله
من الانتساب إلى المؤمنين و هو رحمة للذين آمنوا منكم حقا لأنه يهديهم إلى
مستقيم الصراط.
و إن كان المراد من الذين آمنوا هم الذين آمنوا في أول البعثة قبل الفتح - كما
تقدم سابقا أن "الذين آمنوا" اسم تشريفي في القرآن للمؤمنين الأولين في الإسلام
- كان المراد بالمؤمنين في قوله: "و يؤمن للمؤمنين" المؤمنون منهم حقا كما أطلق
بهذا المعنى في قوله: "و لما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله و
رسوله:" الأحزاب: - 22.
و ربما قيل: إن اللام في قوله: "و يؤمن للمؤمنين" للتعدية كما في قوله: "يؤمن
بالله" فالإيمان يتعدى بالحرفين جميعا كما في قوله: "فآمن له لوط:" العنكبوت: -
26 و قوله: "فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه:" يونس: - 83 و قوله: "أ نؤمن لك و
اتبعك الأرذلون": الشعراء: - 111.
و ربما قيل: إن اللفظ جار على طريقة التضمين بتضمين الإيمان معنى الجنوح
المتعدي باللام و المعنى يجنح للمؤمنين مؤمنا بهم أو يؤمن جانحا لهم و الوجهان
و إن كانا لا بأس بهما في نفسهما لكن يبعد ذلك لزوم التفكيك في قوله: "يؤمن
بالله و يؤمن للمؤمنين" بين "يؤمن" الأول و الثاني من غير نكتة ظاهرة إلا أن
يحمل على التفنن في التعبير و مع ذلك فالنتيجة هي النتيجة السابقة فإن إيمانه
بالمؤمنين لا يختص بالمخبرين خاصة حتى يصدق خبرهم و يؤاخذ آخرين إذا أخبر بما
يضرهم بل إيمان يعم جميع المؤمنين فيصدق المخبر في خبره بمعنى إعطاء الصدق
المخبري و يصدق المخبر عنه بحمل فعله على الصحة فافهم ذلك.
و عده تعالى نبيه في قوله: "و رحمة للذين آمنوا منكم" رحمة لقوم خاص في هذه
الآية مع عده رحمة للناس كلهم في قوله عز و جل: "و ما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين:" الأنبياء: - 107 إنما هو لاختلاف المراد بالرحمة في الآيتين فالمراد
بها هاهنا الرحمة الفعلية و هناك الرحمة الشأنية.
و بعبارة أخرى هو (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لمن آمن به حقا بمعنى أن الله
سبحانه أنقذه به من الضلالة و ختم له بالسعادة و الكرامة، و رحمة للناس كلهم
مؤمنهم و كافرهم، من معاصريه و ممن يأتي بعده بمعنى أن الله بعثه (صلى الله
عليه وآله وسلم) بملة بيضاء و سنة طيبة فحول المجتمع البشري و صرفه عن مسيره
المنحرف عن الاستقامة إلى طريق الشقاوة و الهلاك، و أنار بمشعلته صراط الفطرة
الإلهية فمن راكب على السبيل فائز بالغاية المطلوبة، و من خارج عن مسير الردى و
الهلكة و لما يركب متن الصراط الفطري، و من قاصد للخروج و الورود و لما يخرج و
هذا حال المجتمع العام البشري بعد طلوع الإسلام و بسطة معارفه بين الناس و
إيصاله إلى سمع كل سامع و تأثيره في كل من السنن الاجتماعية بما في وسعه أن
يتأثر به، و هذا مما لا يرتاب فيه باحث عن طبيعة المجتمع الإنساني، و هذا الوجه
قريب المأخذ من الوجه السابق أو راجع إليه بالحقيقة.
قوله تعالى: "يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه إن كانوا
مؤمنين" قال في المجمع:، "الفرق بين الأحق و الأصلح أن الأحق قد يكون من غير
صفات الفعل كقولك: زيد أحق بالمال، و الأصلح لا يقع هذا الموقع لأنه من صفات
الفعل و تقول: الله أحق بأن يطاع و لا تقول أصلح".
انتهى.
و السبب الأصلي فيه أن الصلاحية و الصلوح يحمل معنى الاستعداد و التهيؤ، و الحق
يحمل معنى الثبوت و اللزوم، و الله سبحانه لا يتصف بشيء من معنى الاستعداد و
القبول المستلزم لتأثير الغير فيه و تأثره عنه.
و قد حول الله الخطاب في الآية عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المؤمنين
التفاتا و كأن الوجه فيه التلويح لهم بما يشتمل عليه قوله: "و الله و رسوله أحق
أن يرضوه إن كانوا مؤمنين" من الحكم و هو أن من الواجب على كل مؤمن أن يرضي
الله و رسوله، و لا يحاد الله و رسوله فإن فيه خزيا عظيما نار جهنم خالدا فيها.
و من أدب التوحيد في الآية ما في قوله: "أحق أن يرضوه" من إفراد الضمير و لم
يقل: أحق أن يرضوهما صونا لمقامه تعالى من أن يعدل به أحد فإن أمثال هذه الحقوق
و كذا الأوصاف التي يشاركه تعالى غيره من حيث الإطلاق و الإجراء، له تعالى
بالذات و لنفسه و لغيره بالتبع أو بالعرض و من جهته كوجوب الإرضاء و التعظيم و
الطاعة و غيرها، و كالاتصاف بالعلم و الحياة و الإحياء و الإماتة و غيرها.
و قد روعي نظير هذا الأدب في القرآن في موارد كثيرة فيما يشارك النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) غيره من الأمة من الشئون فأخرج النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) من بينهم و أفرد بالذكر كما في قوله: "يوم لا يخزي الله النبي و الذين
آمنوا:" التحريم: - 8 و قوله: "فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:"
الفتح: - 26 و قوله: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون": البقرة: -
285 و غير ذلك.
قوله تعالى: "أ لم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله فإن له نار جهنم" إلى آخر
الآية قال في المجمع،: المحادة مجاوزة الحد بالمشاقة، و هي و المخالفة و
المجانبة و المعاداة نظائر، و أصله المنع و المحادة ما يلحق الإنسان من النزق
لأنه يمنعه من الواجب و قال: و الخزي الهوان و ما يستحيى منه.
انتهى.
و الاستفهام في الآية للتعجيب، و الكلام مسوق لبيان كونه تعالى و كون رسوله أحق
بالإرضاء و محصله أنهم يعلمون أن محادة الله و رسوله و المشاقة و المعاداة مع
الله و رسوله و الإسخاط يوجب خلود النار، و إذا حرم إسخاط الله و رسوله وجب
إرضاؤه و إرضاء رسوله على من كان مؤمنا بالله و رسوله.
بحث روائي في تفسير القمي، عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: "و
إن تصبك حسنة تسؤهم و إن تصبك مصيبة" الآية أما الحسنة فهي الغنيمة و العافية،
و أما المصيبة فالبلاء و الشدة. و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن جابر
بن عبد الله قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) أخبار السوء، و يقولون: إن محمدا و أصحابه قد جهدوا في
سفرهم و هلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم و عافية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
أصحابه فساءهم ذلك فأنزل الله تعالى: "إن تصبك حسنة تسؤهم" الآية. و في الكافي،
بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله عز و جل
"هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين" قال: إما موت في طاعة الإمام أو إدراك ظهور
إمام "و نحن نتربص بكم" مع ما نحن فيه من المشقة "أن يصيبكم الله بعذاب من
عنده" قال: هو المسخ "أو بأيدينا" و هو القتل، قال الله عز و جل لنبيه:
"فتربصوا إنا معكم متربصون".
أقول: و هو من الجري دون التفسير.
في المحاسن، بإسناده عن يوسف بن ثابت عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا
يضر مع الإيمان عمل، و لا ينفع مع الكفر عمل. ثم قال: أ لا ترى أن الله تبارك و
تعالى قال: "و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم - إلا أنهم كفروا بالله و
برسوله". أقول: و رواه العياشي و القمي عنه و كذا الكليني في الكافي، عنه في
حديث مفصل و الرواية تبينها آيات و روايات أخرى فالإيمان ما دام باقيا لا يضره
معصية بإيجاب خلود النار، و الكفر ما دام كفرا لا ينفع معه حسنة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "مدخلا" الآية قال: سربا: عن أبي جعفر (عليه
السلام). و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن غالب قال: قال أبو عبد الله (عليه
السلام): يا إسحاق كم ترى أهل هذه الآية: فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا
منها إذا هم يسخطون" قال: هم أكثر من ثلثي الناس: أقول: و رواه العياشي في
تفسيره و الحسين بن سعيد في كتاب الزهد عن إسحاق عنه (عليه السلام). و في الدر
المنثور، أخرج البخاري و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو
الشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: بينما النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل. يا رسول الله فقال:
ويلك و من يعدل إذا لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب
عنقه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم
صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية
فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يرى فيه شيء، ثم ينظر في
رصافه فلا يرى فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث و الدم
آيتهم رجل أسود إحدى ثديه أو قال: ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدر در
يخرجون على حين فرقة من الناس قال: فنزلت فيهم: "و منهم من يلمزك في الصدقات"
الآية. قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، و أشهد أن عليا حين قتلهم و أنا معه جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و في تفسير القمي،: في الآية: أنها نزلت لما
جاءت الصدقات و جاء الأغنياء و ظنوا أن الرسول يقسمها بينهم فلما وضعها رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفقراء تغامزوا رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) و لمزوه، و قالوا: نحن الذين نقوم في الحرب و نغزو معه و نقوي أمره
ثم يدفع الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه و لا يغنون عنه شيئا فأنزل الله:
"و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله - و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من
فضله و رسوله - إنا إلى الله راغبون". ثم فسر الله عز و جل الصدقات لمن هي و
على من يجب؟ فقال: "إنما الصدقات للفقراء و المساكين - و العاملين عليها و
المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين - و في سبيل الله و ابن السبيل فريضة من
الله و الله عليم حكيم" فأخرج الله من الصدقات جميع الناس إلا هذه الثمانية
الأصناف الذين سماهم. و بين الصادق (عليه السلام) من هم؟ فقال: الفقراء هم
الذين لا يسألون و عليهم مئونات من عيالهم، و الدليل على أنهم لا يسألون قول
الله تعالى في سورة البقرة: "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون
ضربا في الأرض - يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون
الناس إلحافا. و المساكين هم أهل الزمانة من العميان و العرجان و المجذومين و
جميع أصناف الزمنى من الرجال و النساء و الصبيان. و العاملين عليها هم السعاة و
الجباة في أخذها و جمعها و حفظها حتى يؤديها إلى من يقسمها. و المؤلفة قلوبهم
قوم وحدوا الله و لم يدخل المعرفة قلوبهم أن محمدا رسول الله فكان رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) يتألفهم و يعلمهم كيما يعرفوا فجعل الله لهم نصيبا
في الصدقات كي يعرفوا و يرغبوا.
أقول: و قد وردت في تأييد هذا الذي أرسله من الرواية روايات كثيرة مسندة من طرق
أهل البيت (عليهم السلام).
و في بعض الروايات تعارض ما، و ليرجع في تفصيل الروايات على كثرتها و تنقيح
المطلب إلى جوامع الحديث و كتب الفقه.
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي سعيد
الخدري قال: بعث علي بن أبي طالب من اليمن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بذهبية فيها تربتها فقسمها بين أربعة من المؤلفة: الأقرع بن حابس الحنظلي و
علقمة بن علاثة العامري و عيينة بن بدر الفزاري و زيد الخيل الطائي، فقالت قريش
و الأنصار: أ تقسم بين صناديد أهل نجد و تدعنا؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): إنما أتألفهم. و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن
أبي حاتم و ابن مردويه عن يحيى بن أبي كثير قال: المؤلفة قلوبهم من بني هاشم
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، و من بني أمية أبو سفيان بن حرب، و من بني
مخزوم الحارث بن هشام و عبد الرحمن بن يربوع و من بني أسد حكيم بن حزام، و من
بني عامر سهيل بن عمرو و حويطب بن عبد العزى، و من بني جمح صفوان بن أمية، و من
بني سهم عدي بن قيس، و من ثقيف العلاء بن جارية أو حارثة، و من بني فزارة عيينة
بن حصن، و من بني تميم الأقرع بن حابس، و من بني نصر مالك بن عوف، و من بني
سليم العباس بن مرداس. أعطى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كل رجل منهم مائة
ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع و حويطب بن عبد العزى فإنه أعطى كل واحد منهما
خمسين.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
المؤلفة قلوبهم: أبو سفيان بن حرب بن أمية، و سهيل بن عمرو و هو من بني عامر بن
لؤي و هشام ابن عمرو أخوه: أخو بني عامر بن لؤي و صفوان بن أمية بن خلف القرشي
ثم الجمحي، و الأقرع بن حابس التميمي أحد بني حازم و عيينة بن حصن الفزاري و
مالك بن عوف و علقمة بن علاثة. بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يعطي الرجل منهم مائة من الإبل و رعاتها و أكثر من ذلك و أقل.
أقول: و هؤلاء هم المؤلفة قلوبهم الذين أعطاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
تأليفا لقلوبهم، و ليس المراد حصر المؤلفة قلوبهم و هم صنف من الأصناف الثمانية
المذكور في الآية في هؤلاء الأشخاص بأعيانهم.
و في تفسير العياشي، عن ابن إسحاق عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليه السلام) قال:
سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته و قد أدى بعضها، قال: يؤدى من مال الصدقة إن الله
يقول في كتابه: "و في الرقاب" و فيه، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): عبد زنى؟ قال: يجلد نصف الحد، قال: قلت: فإن هو عاد؟ قال: يضرب مثل
ذلك، قال: قلت: فإن هو عاد؟ قال: لا يزاد على نصف الحد. قال: قلت: فهل يجب عليه
الرجم في شيء من فعله؟ قال: نعم يقتل في الثامنة إن فعل ذلك ثمان مرات. قال:
قلت: فما الفرق بينه و بين الحر و إنما فعلهما واحد؟ فقال له: إن الله رحمه أن
يجمع عليه ربق الرق و حد الحر. قال: ثم قال: و على إمام المسلمين أن يدفع ثمنه
إلى مولاه من سهم الرقاب. و فيه، عن الصباح بن سيابة قال: أيما مسلم مات و ترك
دينا لم يكن في فساد و على إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن لم يقض فعليه إثم
ذلك إن الله يقول: "إنما الصدقات للفقراء و المساكين - و العاملين عليها و
المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين" فهو من الغارمين و له سهم عند الإمام
فإن حبسه فإثمه عليه. و فيه، عن محمد بن القسري عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: سألته عن الصدقة فقال: اقسمها فيمن قال الله و لا يعطي من سهم الغارمين
الذين يغرمون في مهور النساء و لا الذين ينادون نداء الجاهلية قال: قلت: و ما
نداء الجاهلية؟ قال: الرجل يقول: يا آل بني فلان فيقع بينهم القتل و لا يؤدى
ذلك من سهم الغارمين، و لا الذين لا يبالون ما صنعوا بأموال الناس. و فيه، عن
الحسن بن محمد قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام) إن رجلا أوصى لي في
السبيل قال: فقال لي: اصرف في الحج قال: قلت: إنه أوصى في السبيل! قال: اصرفه
في الحج فإني لا أعلم سبيلا من سبله أفضل من الحج.
أقول: و الروايات في الباب أكثر من أن تحصى، و إنما أوردنا منها ما يجري مجرى
الأنموذج.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "و منهم الذين يؤذون النبي" الآية:، أخرج
ابن إسحاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحارث
يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيجلس إليه فيسمع ثم ينقل حديثه إلى
المنافقين، و هو الذي قال لهم: إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه، فأنزل الله
فيه: "و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن" الآية. و في تفسير القمي،: في
الآية قال: سبب نزولها أن عبد الله بن نبتل كان منافقا و كان يقعد إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسمع كلامه و ينقله إلى المنافقين فينم عليه
فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد إن رجلا من
المنافقين ينم و ينقل حديثك إلى المنافقين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): من هو؟ قال: الرجل الأسود الوجه الكثير شعر الرأس ينظر بعينين كأنهما
قدران، و ينطق بلسان شيطان. فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره
فحلف أنه لم يفعل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد قبلت منك فلا
تفعل فرجع إلى أصحابه فقال: إن محمدا أذن. أخبره الله أني أنم عليه و أنقل
أخباره فقبله، و أخبرته أني لم أقل و لم أفعل فقبله!. فأنزل الله على نبيه: "و
منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن - قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن
للمؤمنين" أي يصدق الله فيما يقول له، و يصدقكم فيما تعتذرون إليه و لا يصدقكم
في الباطن، و يؤمن للمؤمنين يعني المقرين بالإيمان من غير اعتقاد.
أقول: و روي ما يقرب منه في نهج البيان، عن الصادق (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: اجتمع ناس من المنافقين
فيهم جلاس بن سويد بن صامت و جحش بن حمير و وديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهى بعضهم بعضا، و قالوا: إنا نخاف أن يبلغ
محمدا فيقع بكم، و قال بعضهم: إن محمدا أذن نحلف له فيصدقنا فنزل: "و منهم
الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن" الآية. و في تفسير العياشي، عن حماد بن
سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إني أردت أن أستبضع فلانا بضاعة إلى
اليمن فأتيت إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: إني أريد أن أستبضع فلانا فقال
لي. أ ما علمت أنه يشرب الخمر؟ فقلت: قد بلغني من المؤمنين إنهم يقولون ذلك،
فقال: صدقهم إن الله عز و جل يقول: "يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين" فقال: يعني
يصدق الله و يصدق للمؤمنين لأنه كان رءوفا رحيما بالمؤمنين.
9 سورة التوبة - 64 - 74
يحْذَرُ الْمُنَفِقُونَ أَن تُنزّلَ عَلَيْهِمْ سورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فى
قُلُوبهِمْ قُلِ استهْزِءُوا إِنّ اللّهَ مخْرِجٌ مّا تحْذَرُونَ (64) وَ لَئن
سأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كنّا نخُوض وَ نَلْعَب قُلْ أَ بِاللّهِ وَ
ءَايَتِهِ وَ رَسولِهِ كُنتُمْ تَستهْزِءُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ
كَفَرْتم بَعْدَ إِيمَنِكمْ إِن نّعْف عَن طائفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّب طائفَةَ
بِأَنهُمْ كانُوا مجْرِمِينَ (66) اَلْمُنَفِقُونَ وَ الْمُنَفِقَت بَعْضهُم
مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكرِ وَ يَنهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ
يَقْبِضونَ أَيْدِيهُمْ نَسوا اللّهَ فَنَسِيهُمْ إِنّ الْمُنَفِقِينَ هُمُ
الْفَسِقُونَ (67) وَعَدَ اللّهُ الْمُنَفِقِينَ وَ الْمُنَفِقَتِ وَ
الْكُفّارَ نَارَ جَهَنّمَ خَلِدِينَ فِيهَا هِىَ حَسبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ
اللّهُ وَ لَهُمْ عَذَابٌ مّقِيمٌ (68) كالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كانُوا أَشدّ
مِنكُمْ قُوّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوَلاً وَ أَوْلَداً فَاستَمْتَعُوا بخَلَقِهِمْ
فَاستَمْتَعْتُم بِخَلَقِكمْ كمَا استَمْتَعَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُم
بخَلَقِهِمْ وَ خُضتُمْ كالّذِى خَاضوا أُولَئك حَبِطت أَعْمَلُهُمْ فى
الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ أُولَئك هُمُ الْخَسِرُونَ (69) أَ لَمْ يَأْتهِمْ
نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ
إِبْرَهِيمَ وَ أَصحَبِ مَدْيَنَ وَ الْمُؤْتَفِكتِ أَتَتْهُمْ رُسلُهُم
بِالبَيِّنَتِ فَمَا كانَ اللّهُ لِيَظلِمَهُمْ وَ لَكِن كانُوا أَنفُسهُمْ
يَظلِمُونَ (70) وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَت بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَ
يُقِيمُونَ الصلَوةَ وَ يُؤْتُونَ الزّكَوةَ وَ يُطِيعُونَ اللّهَ وَ رَسولَهُ
أُولَئك سيرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللّهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَتِ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ
خَلِدِينَ فِيهَا وَ مَسكِنَ طيِّبَةً فى جَنّتِ عَدْنٍ وَ رِضوَنٌ مِّنَ
اللّهِ أَكبرُ ذَلِك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَأَيهَا النّبىّ جَهِدِ
الْكفّارَ وَ الْمُنَفِقِينَ وَ اغْلُظ عَلَيهِمْ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَ
بِئْس الْمَصِيرُ (73) يحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَ لَقَدْ قَالُوا
كلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كفَرُوا بَعْدَ إِسلَمِهِمْ وَ هَمّوا بِمَا لَمْ
يَنَالُوا وَ مَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَ رَسولُهُ مِن
فَضلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَك خَيراً لهُّمْ وَ إِن يَتَوَلّوْا يُعَذِّبهُمُ
اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ مَا لهَُمْ فى
الأَرْضِ مِن وَلىٍّ وَ لا نَصِيرٍ (74)
بيان
تذكر الآيات شأنا آخر من شئون المنافقين، و تكشف عن سوأة أخرى من سوءاتهم ستروا
عليها بالنفاق، و كانوا يحذرون أن تظهر عليهم و تنزل فيها سورة تقص ما هموا به
منها.
و الآيات تنبىء عن أنهم كانوا جماعة ذوي عدد كما يدل عليه قوله: "إن نعف عن
طائفة منكم نعذب طائفة" و أنه كان لهم بعض الاتصال و التوافق مع جماعة آخرين من
المنافقين كما في قوله: "المنافقون و المنافقات بعضهم من بعض" الآية و أنهم
كانوا على ظاهر الإسلام و الإيمان حتى اليوم و إنما نافقوا يومئذ أي تفوهوا
بكلمة الكفر فيما بينهم و أسروا بها يومئذ كما في قوله: "قد كفرتم بعد
إيمانكم".
و أنهم تواطئوا على أمر دبروه فيما بينهم فأظهروا عند ذلك كلمة الكفر و هموا
على أمر عظيم فحال الله بينهم و بينه فخاب سعيهم و لم يؤثر كيدهم كما في قوله:
"و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا".
و أنه ظهر مما هموا به بعض ما يستدل عليه من الآثار و القرائن فسألوا عن ذلك
فاعتذروا بما هو مثله قبحا و شناعة كما في قوله: "و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا
نخوض و نلعب" و الآيات التالية لهذه الآيات في سياق متصل منسجم تدل على أن هذه
الوقعة أيا ما كانت وقعت بعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة
تبوك و لما يرجع إلى المدينة كما يدل عليه قوله: "فإن رجعك الله إلى طائفة
منهم" الآية: آية: - 83 من السورة: و قوله: "سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم
إليهم" آية: - 95 من السورة.
فيتلخص من الآيات أن جماعة ممن خرج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تواطئوا
على أن يمكروا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أسروا عند ذلك فيما بينهم
بكلمات كفروا بها بعد إسلامهم ثم هموا أن يفعلوا ما اتفقوا عليه بفتك أو نحوه
فأبطل الله كيدهم و فضحهم و كشف عنهم فلما سئلوا عن ذلك قالوا: إنما كنا نخوض و
نلعب فعاتبهم الله بلسان رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه استهزاء بالله و
آياته و رسوله، و هددهم بالعذاب إن لم يتوبوا، و أمر نبيه (صلى الله عليه وآله
وسلم) أن يجاهدهم و يجاهد الكافرين.
فالآيات - كما ترى - أوضح انطباقا على حديث العقبة منها على غيره من القصص التي
تتضمنها الروايات الآخر الواردة في بيان سبب نزول الآيات، و سنورد جلها في
البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم" إلى آخر
الآية.
كان المنافقون يشاهدون أن جل ما يستسرون به من شئون النفاق و يناجي به بعضهم
بعضا من كلمة الكفر و وجوه الهمز و اللمز و الاستهزاء أو جميع ذلك لا يخفى على
الرسول، و يتلى على الناس في آيات من القرآن يذكر النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أنه من وحي الله، و لا محالة كانوا لا يؤمنون بأنه وحي نزل به الروح
الأمين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يقدرون أن ذلك مما يتجسسه
المؤمنون فيخبرون به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخرجه لهم في صورة كتاب
سماوي نازل عليهم و هم مع ذلك كانوا يخافون ظهور نفاقهم و خروج ما خبوه في
سرائرهم الخبيثة لأن السلطنة و الظهور كانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
عليهم يجري فيهم ما يأمر به و يحكم عليه.
فهم كانوا يحذرون نزول سورة يظهر بها ما أضمروه من الكفر و هموا به من تقليب
الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قصده بما يبطل به نجاح دعوته و
تمام كلمته فأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم أن الله عالم
بما في صدورهم مخرج ما يحذرون خروجه و ظهوره بنزول سورة من عنده أي يخبرهم بأن
الله منزل سورة هذا نعتها.
و بهذا يستنير معنى الآية فقوله: "يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة" الخطاب
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و وجه الكلام إليه، و هو يعلم بتعليم الله أن
هذا الكلام الذي يتلوه على الناس كلام إلهي و قرآن منزل من عنده فيصف سبحانه
الكلام الذي يخاف منه المنافقون بما له من الوصف عند النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) و هو أنه سورة منزلة من الله على الناس و منهم المنافقون لا على ما يراه
المنافقون أنه كلام بشري يدعى كونه كلام الله.
فهم كانوا يحذرون أن يتلو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم و على الناس
كلاما هذا نعته الواقعي و هو أنه سورة منزلة عليهم بما أنها متوجهة بمضمونها
إليهم قاصدة نحوهم ينبئهم هذه السورة النازلة بما في قلوبهم فيظهر على الناس و
يفشو بينهم ما كانوا يسرونه من كفرهم و سوء نياتهم، و هذا الظهور في الحقيقة هو
الذي كانوا يحذرونه من نزول السورة.
و قوله: "قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون" كأن المراد بالاستهزاء هو نفاقهم
و ما يلحق به من الآثار فإن الله سمى نفاقهم استهزاء حاكيا في ذلك قولهم حيث
قال: "و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا
معكم إنما نحن مستهزءون:" البقرة: - 14 فالمراد بالاستهزاء هو ستر ما يحذرون
ظهوره، و الأمر تعجيزي أي دوموا على نفاقكم و ستركم ما تحذرون خروجه من عندكم
إلى مرأى الناس و مسمعهم فإن الله مخرج ذلك و كاشف عن وجهه الغطاء، و مظهر ما
أخفيتموه في صدوركم.
فصدر الآية و إن كان يذكر أنهم يحذرون تنزيل سورة كذا و كذا لكنهم إنما كانوا
يحذرونها لما فيها من الأنباء التي يحذرون أن يطلع عليها النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و تنجلي للناس، و هذا هو الذي يذكر ذيلها أنهم يحذرونه فالكلام
بمنزلة أن يقال: يحذر المنافقون تنزيل سورة قل إن الله منزلها، أو يقال: يحذر
المنافقون انكشاف باطن أمرهم و ما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله سيكشف ذلك و
ينبىء عما في قلوبكم.
و بما تقدم يظهر سقوط ما أشكل على الآية أولا: بأن المنافقين لكفرهم في الحقيقة
لم يكونوا يرون أن القرآن كلام منزل من عند الله فكيف يصح القول أ يحذرون أن
تنزل عليهم سورة؟.
و ثانيا: أنهم لما لم يكونوا مؤمنين في الواقع فكيف يصح أن يطلق أن سورة قرآنية
نزلت عليهم و لا تنزل السورة إلا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو على
المؤمنين؟.
و ثالثا: أن حذرهم نزول السورة و هو حال داخلي جدي فيهم لا يجامع كونه استهزاء.
و رابعا: أن صدر الآية يذكر أنهم يحذرون أن تنزل سورة و ذيلها يقول: إن الله
مخرج ما تحذرون فهو في معنى أن يقال: إن الله مخرج سورة أو مخرج تنزيل سورة.
و قد يجاب عن الإشكال الأول بأن قوله: يحذر المنافقون "إلخ" إنشاء في صورة خبر
أي ليحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة "إلخ".
و هو ضعيف إذ لا دليل عليه أصلا على أن ذيل الآية لا يلائم ذلك إذ لا معنى
لقولنا: ليحذر المنافقون كذا قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون أي ما يجب
عليكم حذره.
و هو ظاهر.
و قد يجاب عنه بأنهم إنما كانوا يظهرون الحذر استهزاء لا جدا و حقيقة.
و فيه أن لازمه أنهم كانوا على ثقة بأن ما في قلوبهم من الأنباء و ما أبطنوه من
الكفر و الفسوق لا سبيل للظهور و الانجلاء إليه، و لا طريق لأحد إلى الاطلاع
عليه، و يكذبه آيات كثيرة في القرآن الكريم تقص ما عقدوا عليه القلوب من الكفر
و الفسوق و هموا به من الخدعة و المكيدة كالآيات من سورة البقرة و سورة
المنافقين و غيرهما، و إذ كانوا شاهدوا ظهور أنبائهم و مطويات قلوبهم عيانا مرة
بعد مرة فلا معنى لثقتهم بأنها لا تنكشف أصلا و إظهارهم الحذر استهزاء لا جدا،
و قد قال تعالى: "يحسبون كل صيحة عليهم:" المنافقون: - 4.
و قد يجاب عنه بأن أكثر المنافقين كانوا على شك من صدق الدعوة النبوية من غير
أن يستيقنوا كذبه، و هؤلاء كانوا يجوزون تنزيل سورة تنبئهم بما في قلوبهم
احتمالا عقليا، و هذا الحذر و الإشفاق كما ذكروه أثر طبيعي للشك و الارتياب فلو
كانوا موقنين بكذب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خطر لهم هذا الخوف على
بال، و لو كانوا موقنين بصدقه لما كان هناك محل لهذا الخوف و الحذر لأن قلوبهم
مطمئنة بالإيمان.
و هذا الجواب - و هو الذي اعتمد عليه جمهور المفسرين - و إن كان بظاهره لا يخلو
عن وجه غير أن فيه أنه إنما يحسم مادة الإشكال لو كان الواقع من التعبير في
الآية نحوا من قولنا: يخاف المنافقون أن تنزل عليهم سورة، و لذا قرروا الجواب
بأن الخوف يناسب الشك دون اليقين.
لكن الآية تعبر عن شأنهم بالحذر، و يخبر أنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة "إلخ"
و الحذر فيه شيء من معنى الاحتراز و الاتقاء، و لا يتم ذلك إلا بالتوسل إلى
أسباب و وسائل تحفظ الحاذر مما يحذره و يحترز منه، و تصونه من شر مقبل إليه من
ناحية ما يخافه.
و لو كان مجرد شك من غير مشاهدة أثر من الآثار و إصابة شيء مما يتقونه إياهم
لما صح الاحتراز و الاتقاء، فحذرهم يشهد أنهم كانوا يخافون أن يقع بهم هذه
المرة نظير ما وقع بهم قبل ذلك من جهة آيات البقرة و غيرها، فهذا هو الوجه
لحذرهم دون الشك و الارتياب فالمعتمد في الجواب ما قدمناه.
و قد يجاب عن الإشكال الثاني بأن "على" في قوله: "أن تنزل عليهم" بمعنى: في كما
في قوله: "و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان:" البقرة: - 102، و
المعنى: يحذر المنافقون أن تنزل فيهم أي في شأنهم و بيان حالهم سورة تكشف عما
في ضمائرهم.
و فيه أنه لا بأس به لو لا قوله بعده: "تنبئهم بما في قلوبهم" على ما سنوضحه.
و قد يجاب عنه بأن الضمير في قوله: "عليهم" راجع إلى المؤمنين دون المنافقين و
المعنى: يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تنبىء المنافقين بما في قلوب
المنافقين أو تنبىء المؤمنين بما في قلوب المنافقين.
ورد عليه بأنه يستلزم تفكيك الضمائر.
و دفع بأن تفكيك الضمائر غير ممنوع و لا أنه مناف للبلاغة إلا إذا كان المعنى
معه غير مفهوم، و ربما أيد بعضهم هذا الجواب بأنه ليس هاهنا تفكيك للضمائر فإنه
قد سبق أن المنافقين يحلفون للمؤمنين ليرضوهم ثم وبخهم الله بأن الله و رسوله
أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين فقد بين هاهنا بطريقة الاستئناف أنهم يحذرون أن
تنزل على المؤمنين سورة تنبئهم بما في قلوبهم فتبطل ثقتهم بهم فأعيد الضمير إلى
المؤمنين لأن سياق الكلام فيهم فلا أثر من التفكيك.
و فيه أن من الواضح الذي لا يرتاب فيه أن موضوع الكلام في هذه الآيات و آيات
كثيرة مما يتصل بها من قبل و من بعد، هم المنافقون، و السياق سياق الخطاب للنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) لا غيره، و إنما كان خطاب المؤمنين في قوله: "يحلفون
بالله لكم ليرضوكم خطابا التفاتيا للتنبيه على غرض خاص أومأنا إليه ثم عاد
الكلام إلى سياقها الأصلي من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبدل
خطابهم إلى خطابه فلا معنى لقوله: إن سياق الكلام في المؤمنين.
و لو كان السياق هو الذي ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أن تنزل عليكم سورة
تنبئكم بما في قلوبهم، فما معنى العدول إلى ضمير الغيبة، و لم يتقدم في سابق
الكلام ذكر لهم على هذا النعت؟.
على أن قوله: إن الآية - يحذر المنافقون - بيان من طريق الاستئناف لسبب حلفهم
للمؤمنين ليرضوهم، إخراج لهذه الطائفة من الآيات من استقلال غرضها الأصلي الذي
بحثنا عنه في أول الكلام، و يختل بذلك ما يتراءى من فقرات الآيات من الاتصال و
الارتباط.
فالآية - يحذر المنافقون إلخ - ليست بيانا لسبب حلفهم المذكور سابقا بل استئناف
مسوق لغرض آخر يهدي إليه مجموع الآيات الإحدى عشرة.
و بالجملة الآيات السابقة على هذه الآية خالية عن ذكر المؤمنين ذكرا يوجب
انعطاف الذهن إليه حينما يلقي ضميرا يمكن عوده إليهم و هذا هو التفكيك المذكور،
و هو مع ذلك تفكيك ممنوع لإيجابه إبهاما في البيان ينافي بلاغته.
و الحق أن الضمير في قوله: "أن تنزل عليهم" للمنافقين - كما تقدمت الإشارة إليه
- و لا بأس بأن يسمى تنزيل سورة لبيان حالهم و ذكر مثالبهم و توبيخهم على
نفاقهم تنزيلا للسورة عليهم و هم في جماعة المؤمنين غير متميزين منهم كما عبر
بنظير التعبير في مورد المؤمنين حيث قال: "و اذكروا نعمة الله عليكم و ما أنزل
عليكم من الكتاب و الحكمة يعظكم به:" البقرة: - 231.
و قد أتى سبحانه بنظير هذا التعبير في أهل الكتاب حيث قال: "يسألك أهل الكتاب
أن تنزل عليهم كتابا من السماء:" النساء: - 153، و في المشركين حيث حكى عنهم
قولهم: "و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه:" إسراء: - 93، و ليست
نسبة المنافقين و هم في المؤمنين إلى نزول القرآن عليهم بأبعد من نسبة المشركين
و أهل الكتاب إلى نزوله عليهم، و النزول و الإنزال و التنزيل يقبل التعدي بإلى
بعناية الانتهاء و بعلى بعناية الاستعلاء و الإتيان من العلو، و التعدية بكل
واحد منهما كثير في تعبيرات القرآن، و المراد بنزول الكتاب إلى قوم و على قوم
تعرضه لشئونهم و بيانه لما ينفعهم في دنياهم و أخراهم.
و قد يجاب عن الإشكال الثالث بأن قوله تعالى: "قل استهزءوا" دليل على أنهم
كانوا يستهزءون بالحذر و لم يكن من جد الحذر في شيء.
و فيه أن الآيات الكثيرة النازلة في سورة البقرة و النساء و غيرها - و كل ذلك
قبل هذه الآيات نزولا - المخرجة لكثير من خبايا قلوبهم الكاشفة عن أسرارهم تدل
على أن هذا الحذر كان منهم على حقيقته من غير استهزاء و سخرية.
على أنه تعالى وصفهم في سورة المنافقون بمثل قوله: "يحسبون كل صيحة عليهم:"
المنافقون: - 4، و قال في مثل ضربه لهم و فيهم: "يجعلون أصابعهم في آذانهم من
الصواعق حذر الموت:" البقرة: - 19 و قد ذكر في الآية التالية.
و الحق أن استهزاءهم إنما هو نفاقهم و قولهم في الظاهر خلاف ما في باطنهم كما
يؤيده قوله تعالى: "و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم
قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون:" البقرة: - 14.
و الجواب عن الإشكال الرابع أن الشيء الذي كانوا يحذرونه في الحقيقة هو ظهور
نفاقهم و انكشاف ما في قلوبهم، و إنما كانوا يحذرون نزول السورة لأجل ذلك
فالمحذور الذي ذكر في صدر الآية و الذي في ذيل الآية أمر واحد، و معنى قوله "إن
الله مخرج ما تحذرون" إنه مظهر لما أخفيتموه من النفاق و منبىء لما في قلوبكم.
قوله تعالى: "و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب قل أ بالله و آياته و
رسوله كنتم تستهزءون" الخوض - على ما في المجمع، - دخول القدم فيما كان مائعا
من الماء و الطين ثم كثر حتى استعمل في غيره.
و قال الراغب في المفردات:، الخوض هو الشروع في الماء و المرور فيه، و يستعار
في الأمور، و أكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه.
انتهى.
و لم يذكر الله سبحانه متعلق السؤال و أن المسئول عنه الذي إن سأل النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) سأل عنه ما هو؟ غير أن قوله: "ليقولن إنما كنا نخوض و
نلعب" بما له من السياق المصدر بإنما يدل على أنه كان فعلا صادرا منهم له نوع
تعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان أمرا مرئيا يسيء الظن بهم، و لم
يكن في وسعهم أن يعتذروا منه بعد ما تبين و انكشف للنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلا بأنه إنما كان منهم خوضا و لعبا لم يريدوا به غير ذلك.
و الخوض و اللعب الذين اعتذروا بهما من الأعمال السيئة التي لا يعترف بهما
الناس في حالهم العادي و خاصة المؤمنون و سائر المتظاهرين بالإيمان و خاصة إذا
كان ذلك في أمر يرجع إلى الله و رسوله غير أنهم لم يجدوا وصفا يصفون به فعلهم
لإخراجه عن ظاهر ما يدل عليه، دون أن يعنونوه بأنه كان خوضا و لعبا.
و لذا أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوبخهم على ما اعتذروا به فقال:
"قل أ بالله و آياته و رسوله كنتم تستهزءون" ثم فسر عملهم في آخر الآيات بقوله:
"يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما
لم ينالوا" الآية.
و يتحصل من مجموع هذه القرائن أن المنافقين كانوا أرادوا النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بسوء كالفتك به و مفاجأته بما يهلكه و أقدموا على ما قصدوه و تكلموا
عند ذلك بشيء من الكلام الردي لكنهم أخطئوا في ما أوقعوه عليه و اندفع الشر
عنه، و لم يصب السهم هدفه فلما خاب سعيهم و بان أمرهم سألهم النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) عن ذلك و ما تصدوه به اعتذروا بأنهم كانوا يخوضون و يلعبون
فوبخهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "أ بالله و آياته و رسوله كنتم
تستهزءون" و رد الله سبحانه إليهم عذرهم الذي اعتذروا به و بين حقيقة ما قصدوا
بذلك.
و بالجملة معنى الآية: و أقسم لئن سألتهم عن فعلهم الذي شوهد منهم: ما الذي
أرادوا به؟ و كان ظاهره أنهم هموا بأمر فيك ليقولن: لم يكن قصد سوء و لا بالذي
ظننت فأسأت الظن بنا، و إنما كنا نخوض و نلعب خوض الركب في الطريق لا على سبيل
الجد و لكن لعبا.
و هذا اعتذار منهم بالاستهزاء بالله و آياته و رسوله فإنهم يعترفون بأنهم فعلوا
فيك ما فعلوه خوضا و لعبا فقد استهزءوا بالله و رسوله فقل: أ بالله و آياته و
رسوله كنتم تستهزءون أي أ تعتذرون عن سيىء فعلكم بسيئة أخرى هي الاستهزاء بالله
و آياته و رسوله، و هو كفر؟.
و ليس من البعيد أن يكون الغرض الأصيل بيان كونه استهزاء بالرسول، و إنما ذكر
الله و آياته للدلالة على معنى الاستهزاء بالرسول، و أنه لما كان من آيات الله
كان الاستهزاء به استهزاء بآيات الله، و الاستهزاء بآيات الله استهزاء بالله
العظيم فالاستهزاء برسول الله استهزاء بالله و آياته و رسوله.
قوله تعالى: "لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن طائفة منكم نعذب
طائفة" الآية، قال الراغب في المفردات،: الطوف المشي حول الشيء و منه الطائف
لمن يدور حول البيوت حافظا - إلى أن قال - و الطائفة من الناس جماعة منهم و من
الشيء القطعة منه.
و قوله تعالى: "فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين" قال
بعضهم: قد يقع ذلك على الواحد فصاعدا، و على ذلك قوله: "و إن طائفتان من
المؤمنين.
إذ همت طائفتان منكم".
و الطائفة إذا أريد بها الجمع فجمع طائف، "و إذا أريد بها الواحد فيصح أن يكون
جمعا و يكنى به عن الواحد، و يصح أن يجعل كراوية و علامة و نحو ذلك.
انتهى.
و قد خطأ بعضهم القول بجواز صدق الطائفة على الواحد و الاثنين من الناس كما
تصدق على الثلاثة فصاعدا، و بالغ في ذلك حتى عده غلطا و لا دليل له على ما
ذكره، و مادة اللفظ لا يستوجب شيئا معينا من العدد، و إطلاقها على القطعة من
الشيء يؤيد استعمالها في الواحد.
و قوله: "لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم" نهي عن الاعتذار بدعوى أنه لغو كما
يدل عليه قوله: "قد كفرتم بعد إيمانكم" فإن الاعتذار لا فائدة تترتب عليه بعد
الحكم بكفرهم بعد إيمانهم.
و المراد بإيمانهم هو ظاهر الإيمان الذي كانوا يتظاهرون به لا حقيقة الإيمان
الذي هو من الهداية الإلهية التي لا يعقبها ضلال، و يؤيده قوله تعالى في آخر
هذه الآيات: "و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم" فبدل الإيمان إسلاما
و هو ظاهر الشهادتين.
و يمكن أن يقال: إن من مراتب الإيمان ما هو اعتقاد و إذعان ضعيف غير آب عن
الزوال كإيمان الذين في قلوبهم مرض و قد عدهم الله من المؤمنين و ذكرهم مع
المنافقين لأمنهم، و لا مانع من أن ينسلخوا هذا الإيمان.
و كيف لا؟ و قد سلخ الله الإيمان ممن هو أرسخ إيمانا منهم كالذي يقصه في قوله:
"و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من
الغاوين و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه:" الأعراف: -
176.
و قال أيضا: "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا:"
النساء: - 137 و قد أكثر القرآن الكريم من ذكر الكفر بعد الإيمان فلا مانع من
زوال الاعتقاد القلبي قبل رسوخه و هو اعتقاد.
نعم الإيمان المستقر و الاعتقاد الراسخ لا سبيل إلى عروض الزوال له قال تعالى:
"من يهد الله فهو المهتدي:" الأعراف: - 178 و قال: "فإن الله لا يهدي من يضل:"
النحل: - 37.
و قوله: "إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة" يدل على أن هؤلاء المنافقين
المذكورين في الآيات كانوا ذوي عدد و كثرة، و أن كلمة العذاب وقعت عليهم لا بد
لهم من العذاب فلو شمل بعضهم عفو إلهي لمصلحة في ذلك وقع العذاب على الباقين
فهذا معنى الجملة: "إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة" بحسب ما يفهم من نظمه و
سياقه.
و بعبارة أخرى رابطة اللزوم بين الشرط و الجزاء بترتب الجزاء و تفرعه على الشرط
إنما هي بالتبع و أصله ترتب الجزاء هاهنا على أمر يتعلق به الشرط و هو أن
العذاب وجب على جماعتهم فإن عفي عن بعضهم تعين الباقون من غير تخلف.
و قد ظهر بما قدمناه أولا: وجه ترتب قوله: "نعذب طائفة" على قوله: "إن نعف عن
طائفة" و اندفع ما استشكله بعضهم على الآية أنه لا ملازمة بين العفو عن البعض و
عذاب البعض فما معنى الاشتراط؟.
و الجواب: أن اللزوم بحسب الأصل بين وجوب نزول العذاب على الجماعة و بين نزوله
على بعضهم ثم انتقل إلى ما بين العفو عن البعض و بين نزوله على بعضهم كما
قررناه.
و ثانيا: أن المراد بالعفو هو ترك العذاب لمصلحة من مصالح الدين دون العفو
بمعنى المغفرة المستندة إلى التوبة إذ لا وجه ظاهرا لمثل قولنا: إن غفرنا
لطائفة منكم لتوبتهم نعذب طائفة لجرمهم مع أنهم لو تابوا جميعا لم يعذبوا قطعا.
و قد ندب الله إليهم جميعا أن يتوبوا حيث قال في آخر الآيات: "فإن يتوبوا يك
خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة".
و ثالثا: أن العفو في الآية بل و العذاب المذكور فيها هو العفو عن العذاب
الدنيوي و تركها و كذا القول في العذاب فإن العفو من العذاب الأخروي على ما تنص
عليه الآيات القرآنية إنما يكون لتوبة أو شفاعة، و لا تحقق لواحد منهما فيما
نحن فيه أما التوبة فلما تبين أنها غير مرادة في الآية، و أما الشفاعة فلما ثبت
بآيات الشفاعة أن الشفاعة لا ينالها في الآخرة إلا مؤمن مرضي الإيمان، و قد
استوفينا البحث عنها في الجزء الأول من الكتاب.
و رابعا: أنه لا مانع من كون الآية أعني قوله: "لا تعتذروا قد كفرتم بعد
إيمانكم أن نعف عن طائفة" الآية من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فإن المراد بالعفو و العذاب هو العذاب الدنيوي بالسياسة و تركه، و لا مانع من
نسبتهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
لكن ظاهر الآيات التالية هو كونه من قول الله سبحانه خطابا للمنافقين فيكون
التفاتا من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خطابهم و النكتة فيه
إظهار كمال الغضب و اشتداد السخط من صنعهم حتى كأنه لا يفي بإيذانه و إعلامه
الرسالة فواجههم بنفسه و خاطبهم بشخصه فهددهم بعذاب واقع لا مرد له و لا مفر
منه.
قوله تعالى: "المنافقون و المنافقات بعضهم من بعض" إلى آخر الآيتين، ذكروا أنه
استئناف يتعرض لحال عامة المنافقين بذكر أوصافهم العامة الجامعة و تعريفهم بها
و ما يجازيهم الله في عاقبة أمرهم ثم يتعرض لحال عامة المؤمنين و يعرفهم
بصفاتهم الجامعة و يذكر ما ينبئهم الله به على سبيل المقابلة استتماما للقسمة،
و من الدليل على هذا الاستيفاء ذكر جزاء الكفار مع المنافقين في قوله: "وعد
الله المنافقين و المنافقات و الكفار" الآية.
و الظاهر أن الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: "إن نعف عن طائفة
منكم نعذب طائفة" و سياق مخاطبة المنافقين جار لم ينقطع بعد.
فالآية السابقة لما دلت على أنه تعالى لا يترك المنافقين حتى يعذبهم بأجرامهم
فإن ترك بعضا منهم لحكمة و مصلحة أخذ آخرين منهم بالعذاب كان هناك مظنة أن يسأل
فيقال: ما وجه أخذ البعض إذا ترك غيره؟ و هل هو إلا كأخذ الجار بجرم الجار
فأجيب ببيان السبب و هو أن المنافقين جميعا بعضهم من بعض لاشتراكهم في خبائث
الصفات و الأعمال، و اشتراكهم في جزاء أعمالهم و عاقبة حالهم.
و لعله ذكر المنافقات مع المنافقين مع عدم سبق لذكرهن للدلالة على كمال الاتحاد
و الاتفاق بينهم في نفسيتهم، و ليكون تلويحا على أن من النساء أيضا أجزاء مؤثرة
في هذا المجتمع النفاقي الفاسد المفسد.
فمعنى الآية لا ينبغي أن يستغرب أخذ بعض المنافقين إذا ترك البعض الآخر لأن
المنافقين و المنافقات يحكم عليهم نوع من الوحدة النفسية يوحد كثرتهم فيرجع
بعضهم إلى بعض، فيشركهم في الأوصاف و الأعمال و ما يجازون به بوعد من الله
تعالى.
فهم يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف و يمسكون عن الإنفاق في سبيل الله و
بعبارة أخرى نسوا الله تعالى بالإعراض عن ذكره لأنهم فاسقون خارجون عن زي
العبودية فنسيهم الله فلم يثبهم بما أثاب عباده الذاكرين مقام ربهم.
ثم ذكر ما وعدهم على ذلك فقال: "وعد الله المنافقين و المنافقات و الكفار - و
عطف عليهم الكفار لأنهم جميعا سواء - نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم" من الجزاء
لا يتعدى فيهم إلى غيرها "و لعنهم الله" و أبعدهم "و لهم عذاب مقيم" ثابت لا
يزول عنهم البتة.
و قد ظهر بذلك أن قوله تعالى: "نسوا الله فنسيهم" إلخ؟ بيان لما تقدمه من قوله:
"يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف و يقبضون أيديهم".
و يتفرع على ذلك أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الإنفاق في سبيل الله
من الذكر.
قوله تعالى: "كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة و أكثر أموالا و أولادا
فاستمتعوا بخلاقهم" إلخ، قال الراغب: الخلاق ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة
بخلقه قال تعالى: "و ما له في الآخرة من خلاق" انتهى و فسره غيره بمطلق النصيب.
و الآية من تتمة مخاطبة المنافقين التي في قوله: "لا تعتذروا قد كفرتم بعد
إيمانكم" الآية في سياق واحد متصل و في الآية تشبيه حال المنافقين بحال من كان
قبلهم من الكفار و المنافقين و قياسهم إليهم ليستشهد بذلك على ما قيل: إن
المنافقين و المنافقات بعضهم من بعض و أنهم جميعا و الكفار ذوو طبيعة واحدة في
الإعراض عن ذكر الله و الإقبال على الاستمتاع بما أوتوا من أعراض الدنيا من
أموال و أولاد و الخوض في آيات الله ثم في حبط أعمالهم في الدنيا و الآخرة و
الخسران.
و معنى الآية - و الله أعلم - أنتم كالذين من قبلكم كانت لهم قوة و أموال و
أولاد بل أشد و أكثر في ذلك منكم، فاستمتعوا بنصيبهم و قد تفرع على هذه
المماثلة أنكم استمتعتم كما استمتعوا و خضتم كما خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في
الدنيا و الآخرة و أولئك هم الخاسرون و أنتم أيضا أمثالهم في الحبط و الخسران و
لذا وعدكم النار الخالدة و لعنكم.
و ذكر كون قوة من قبلهم أشد و أموالهم و أولادهم أكثر للإيماء إلى أنهم لم
يعجزوا الله بذلك، و لم يدفع ذلك عنهم غائلة الحبط و الخسران فكيف بكم و أنتم
أضعف قوة و أقل أموالا و أولادا؟.
قوله تعالى: "أ لم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح و عاد و ثمود و قوم
إبراهيم و أصحاب مدين و المؤتفكات" الآية رجوع إلى السياق الأول و هو سياق
مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع افتراض الغيبة في المنافقين، و
تذكير لهم بما قص عليهم القرآن من قصص الأمم الماضين.
فذاك قوم نوح عمهم الله سبحانه بالغرق، و عاد و هم قوم هود أهلكهم بريح صرصر
عاتية، و ثمود و هم قوم صالح عذبهم بالرجفة، و قوم إبراهيم أهلك ملكهم نمرود و
سلب عنهم النعمة، و المؤتفكات و هي القرى المنقلبات على وجهها - من ائتفكت
الأرض إذا انقلبت - قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها.
و قوله: "أتتهم رسلهم بالبينات" أي بالواضحات من الآيات و الحجج و البراهين و
هو بيان إجمالي لنبئهم أي كان نبؤهم أن أتتهم رسلهم بالآيات البينة فكذبوها
فانتهى أمرهم إلى الهلاك، و لم يكن من شأن السنة الإلهية أن يظلمهم لأنه بين
لهم الحق و الباطل، و ميز الرشد من الغي، و الهدى من الضلال، و لكن كان أولئك
الأقوام و الأمم أنفسهم يظلمون بالاستمتاع من نصيب الدنيا و الخوض في آيات الله
و تكذيب رسله.
قوله تعالى: "و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض" إلى آخر الآية.
ثم وصف الله سبحانه حال المؤمنين عامة محاذاة لما وصف به المنافقين فقال: "و
المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض" ليدل بذلك على أنهم مع كثرتهم و تفرقهم
من حيث العدد و من الذكورة و الأنوثة ذوو كينونة واحدة متفقة لا تشعب فيها و
لذلك يتولى بعضهم أمر بعض و يدبره.
و لذلك كان يأمر بعضهم بعضا بالمعروف و ينهى بعضهم بعضا عن المنكر فلولاية بعض
المجتمع على بعض ولاية سارية في جميع الأبعاض دخل في تصديهم الأمر بالمعروفة و
النهي عن المنكر فيما بينهم أنفسهم.
ثم وصفهم بقوله: "و يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة" و هما الركنان الوثيقان في
الشريعة فالصلاة ركن العبادات التي هن الرابطة بين الله و بين خلقه، و الزكاة
في المعاملات التي هي رابطة بين الناس أنفسهم.
ثم وصفهم بقوله: "و يطيعون الله و رسوله" فجمع في إطاعة الله جميع الأحكام
الشرعية الإلهية و جمع في إطاعة رسوله جميع الأحكام الولائية التي يصدرها رسوله
في إدارة أمور الأمة و إصلاح شئونهم كفرامينه في الغزوات، و أحكامه في القضايا
و إجراء الحدود و غير ذلك.
على أن إطاعة شرائع الله النازلة من السماء من جهة أخرى منطوية في إطاعة الرسول
فإن الرسول هو الصادع بالحق القائم بالدعوة إلى أصول الدين و فروعه.
و قوله: "أولئك سيرحمهم الله" إخبار عما في القضاء الإلهي من شمول الرحمة
الإلهية لهؤلاء القوم الموصوفين بما ذكر، و كان في هذه الجملة محاذاة لما سرد
في المنافقين من قوله تعالى: "نسوا الله فنسيهم" و الظاهر أيضا أن قوله: "إن
الله عزيز حكيم" تعليل لما ذكر من الرحمة فلا مانع من رحمته لعزته، و لا اختلال
أو وهنا و جزافا في حكمته.
قوله تعالى: "وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار" إلى
آخر الآية، العدن مصدر بمعنى الإقامة و الاستقرار يقال: عدن بالمكان أي أقام
فيه و استقر و منه المعدن للأرض التي تستقر فيه الجواهر و الفلزات المعدنية، و
على هذا فمعنى جنات عدن جنات إقامة و استقرار و خلود.
و قوله: "و رضوان من الله أكبر" أي رضى الله سبحانه عنهم أكبر من ذلك كله - على
ما يفيده السياق - و قد نكر "رضوان" إيماء إلى أنه لا يقدر بقدر و لا يحيط به
وهم بشر أو لأن رضوانا ما منه و لو كان يسيرا أكبر من ذلك كله لا لأن ذلك كله
مما يتفرع على رضاه تعالى و يترشح منه و إن كان كذلك في نفسه - بل لأن حقيقة
العبودية التي يندب إليها كتاب الله هي عبوديته تعالى حبا له: لا طمعا في جنة،
أو خوفا من نار، و أعظم السعادة و الفوز عند المحب أن يستجلب رضى محبوبه دون أن
يسعى لإرضاء نفسه.
و كأنه للإشارة إلى ذلك ختم الآية بقوله: "ذلك هو الفوز العظيم" و تكون في
الجملة دلالة على معنى الحصر أي إن هذا الرضوان هو حقيقة كل فوز عظيم حتى الفوز
العظيم بالجنة الخالدة إذ لو لا شيء من حقيقة الرضى الإلهي في نعيم الجنة كان
نقمة لا نعمة.
قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و أغلظ عليهم و مأواهم
جهنم و بئس المصير" جهاد القوم و مجاهدتهم بذل غاية الجهد في مقاومتهم و هو
يكون باللسان و باليد حتى ينتهي إلى القتال، و شاع استعماله في الكتاب في
القتال و إن كان ربما استعمل في غيره كما في قوله: "و الذين جاهدوا فينا
لنهدينهم سبلنا" الآية.
و استعماله في قتال الكفار على رسله لكونهم متجاهرين بالخلاف و الشقاق، و أما
المنافقون فهم الذين لا يتظاهرون بكفر و لا يتجاهرون بخلاف، و إنما يبطنون
الكفر و يقلبون الأمور كيدا و مكرا و لا معنى للجهاد معهم بمعنى قتالهم و
محاربتهم؟ و لذلك ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه
المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم فإن اقتضت المصلحة هجروا و لم يخالطوا و
لم يعاشروا، و إن اقتضت وعظوا باللسان، و إن اقتضت أخرجوا و شردوا إلى غير
الأرض أو قتلوا إذا أخذ عليهم الردة، أو غير ذلك.
و ربما شهد لهذا المعنى أعني كون المراد بالجهاد في الآية مطلق بذل الجهد تعقيب
قوله: "جاهد الكفار و المنافقين" بقوله: "و أغلظ عليهم" أي شدد عليهم و عاملهم
بالخشونة.
و أما قوله: "و مأواهم جهنم و بئس المصير" فهو عطف على ما قبله من الأمر، و لعل
الذي هون الأمر في عطف الإخبار على الإنشاء هو كون الجملة السابقة في معنى
قولنا: "إن هؤلاء الكفار و المنافقين مستوجبون للجهاد".
و الله أعلم.
قوله تعالى: "يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد
إسلامهم و هموا بما لم ينالوا" الآية.
سياق الآية يشعر بأنهم أتوا بعمل سيىء و شفعوه بقول تفوهوا به عند ذلك، و أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاتبهم على قولهم مؤاخذا لهم فحلفوا بالله ما
قالوا كما تقدم في قوله: "و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب" إلى آخر
الآية إنهم كانوا يعتذرون بذلك عن عملهم أنه كان خوضا و لعبا لا غير ذلك.
و الله سبحانه يكذبهم في الأمرين جميعا: أما في إنكارهم القول فبقوله: "و لقد
قالوا كلمة الكفر" و فسره ثانيا بقوله: "و كفروا بعد إسلامهم" للدلالة على جد
القول فيتفرع عليه الكفر بعد الإسلام.
و لعله قال هاهنا: "و كفروا بعد إسلامهم" و قد قيل سابقا: "قد كفرتم بعد
إيمانكم" لأن القول السابق للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الجاري على ظاهر
حالهم و هو الإيمان الذي كانوا يدعونه و يتظاهرون به، و القول الثاني لله
العالم بالغيب و الشهادة فيشهد بأنهم لم يكونوا مؤمنين و لم يتعدوا الشهادتين
بلسانهم فهم كانوا مسلمين لا مؤمنين، و قد كفروا بقولهم و خرجوا عن الإسلام إلى
الكفر، و في هذا إيماء إلى أن قولهم كان كلمة فيه الرد على الشهادتين أو
إحداهما.
أو لأن القول الأول في قبال عملهم الذي أرادوا إيقاع الشر بالنبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)، و العمل الخالي من القول و هو لم يصب الغرض لا يضر بالإسلام
الذي هو نصيب اللفظ و الشهادة، و إنما يضر بالإيمان الذي هو نصيب الاعتقاد، و
القول الثاني في قبال قولهم الذي تفوهوا به، و هو ينافي الإسلام الذي يكتسب
باللفظ دون الإيمان الذي هو نوع من الاعتقاد القلبي.
و أما في إنكارهم العمل السيىء الذي أتوا به و تأويلهم إياه إلى الخوض و اللعب
فبقوله: "و هموا بما لم ينالوا".
ثم قال في مقام ذمهم و تعييرهم: "و ما نقموا إلا أن أغناهم الله و رسوله من
فضله" أي بسبب أن أغناهم الله و رسوله، أي كان سبب نقمتهم هذه أن الله أغناهم
من فضله بما رزقهم من الغنائم و بسط عليهم الأمن و الرفاهية فمكنهم من توليد
الثروة و إنماء المال من كل جهة، و كذا رسوله حيث هداهم إلى عيشة صالحة تفتح
عليهم أبواب بركات السماء و الأرض، و قسم بينهم الغنائم و بسط عليهم العدل.
فهو من قبيل وضع الشيء موضع ضده: وضع فيه الإغناء و هو بحسب الطبع سبب للرضى و
الشكر موضع سبب النقمة و السخطة كالظلم و الغضب و إن شئت قلت: وضع فيه الإحسان
موضع الإساءة، ففيه نوع من التهكم المشوب بالذم نظير ما في قوله تعالى: "و
تجعلون رزقكم أنكم تكذبون:" الواقعة: - 82 أي تجعلون رزقكم سببا للتكذيب بآيات
الله و هو سبب بحسب الطبع لشكر النعمة و الرضا بالموهبة على ما قيل: إن المعنى:
و تجعلون بدل شكر رزقكم أنكم تكذبون.
و الضمير في قوله: "من فضله" راجع إلى الله سبحانه، قال في المجمع،: و إنما لم
يقل: من فضلهما لأنه لا يجمع بين اسم الله و اسم غيره في الكناية تعظيما لله، و
لذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن سمعه يقول: "من أطاع الله و
رسوله فقد اهتدى و من عصاهما فقد غوى": بئس خطيب القوم أنت فقال: كيف أقول يا
رسول الله؟ قال: قل: و من يعص الله و رسوله، و هكذا القول في قوله سبحانه: "و
الله و رسوله أحق أن يرضوه" و قيل: إنما لم يقل من فضلهما لأن فضل الله منه و
فضل رسوله من فضله، انتهى كلامه.
و هناك وراء التعظيم أمر آخر قدمنا القول فيه في تفسير قوله تعالى: "لقد كفر
الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة:" المائدة: - 73 في الجزء السادس من الكتاب، و
هو أن وحدته تعالى ليست من سنخ الوحدة العددية حتى يصح بذلك تأليفها مع وحدة
غيره و استنتاج عدد من الأعداد منه.
ثم بين الله سبحانه لهؤلاء المنافقين أن لهم مع هذه الذنوب المهلكة و صريح
كفرهم بالله و همهم بما لم ينالوا أن يرجعوا إلى ربهم، و بين عاقبة أمر هذه
التوبة و عاقبة التولي و الإعراض عنها فقال: "فإن يتوبوا يك خيرا لهم" لأدائه
إلى المغفرة و الجنة "و إن يتولوا" و يعرضوا عن التوبة "يعذبهم الله عذابا
أليما في الدنيا" بالسياسة و النكال أو بإغراء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
عليهم أو بالمكر و الاستدراج، و لو لم يكن من عذابهم إلا أنهم مخالفون بنفاقهم
نظام الأسباب المبني على الصدق و الإيمان فتقادمهم سلسلة الأسباب و تحطمهم و
تفضحهم لكان فيه كفاية، و قد قال الله: "و الله لا يهدي القوم الفاسقين:"
التوبة: - 24 "و الآخرة" بعذاب النار.
و قوله تعالى: "و ما لهم في الأرض من ولي و لا نصير" معناه أن هؤلاء لا ولي لهم
في الأرض يتولى أمرهم و يصرف العذاب عنهم، و لا نصير ينصرهم و يمدهم بما يدفعون
به العذاب الموعود عن أنفسهم لأن سائر المنافقين أيضا منهم و كلمة الفساد
يجمعهم و أصلهم الفاسد منقطع عن سائر الأسباب الكونية فلا ولي لهم يتولى أمرهم
و لا ناصر لهم ينصرهم و لعل هذه الجملة من الآية إشارة إلى ما أومأنا إليه في
معنى عذاب الدنيا.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: "يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة" الآية، قيل:
نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) بذلك، و أمره أن يرسل إليهم و يضرب وجوه رواحلهم. و عمار كان يقود دابة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و حذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب وجوه
رواحلهم، فضربها حتى نحاهم فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم
أعرف منهم أحدا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه فلان و فلان حتى
عدهم كلهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما
ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم: عن ابن كيسان. و روي عن أبي جعفر الباقر (عليه
السلام): مثله إلا أنه قال: ائتمروا بينهم ليقتلوه و قال بعضهم لبعض: إن فطن
نقول: إنما كنا نخوض و نلعب، و إن لم يفطن نقتله.
و قيل: إن جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يظن هذا الرجل أن يفتح قصور
الشام و حصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على
ذلك فقال: احبسوا على الركب، فدعاهم فقال لهم: قلتم كذا و كذا.
فقالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض و نلعب و حلفوا على ذلك فنزلت الآية: "و لئن
سألتهم ليقولن" إلخ، عن الحسن و قتادة.
و قيل: كان ذلك عند منصرفه من غزوة تبوك إلى المدينة و كان بين يديه أربعة نفر
أو ثلاثة يستهزءون و يضحكون، و أحدهم يضحك و لا يتكلم فنزل جبرئيل و أخبر رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك فدعا عمار بن ياسر و قال: إن هؤلاء
يستهزءون بي و بالقرآن أخبرني جبرئيل بذلك، و لئن سألتهم ليقولن: كنا نتحدث
بحديث الركب فاتبعهم عمار و قال: مم تضحكون؟ قالوا: نتحدث بحديث الركب فقال
عمار: صدق الله و رسوله احترقتم أحرقكم الله، فأقبلوا إلى النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) يعتذرون فأنزل الله تعالى الآيات.
عن الكلبي و علي بن إبراهيم و أبي حمزة.
و قيل: إن رجلا قال في غزوة تبوك: ما رأيت أكذب لسانا و لا أجبن عند اللقاء من
هؤلاء يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه، فقال له عوف بن
مالك: كذبت و لكنك منافق، و أراد أن يخبر رسول الله بذلك فجاء و قد سبقه الوحي
فجاء الرجل معتذرا، و قال: إنما كنا نخوض و نلعب ففيه نزلت الآية، عن ابن عمر و
زيد بن أسلم و محمد بن كعب.
و قيل: إن رجلا من المنافقين قال: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا و كذا و
ما يدريه ما الغيب؟ فنزلت الآية، عن مجاهد.
و قيل: نزلت في عبد الله بن أبي و رهطه، عن الضحاك.
و في المجمع، أيضا: في قوله تعالى: "يحلفون بالله ما قالوا" الآية، اختلف في من
نزلت فيه هذه الآية فقيل: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالسا في
ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان، فلم يلبثوا أن طلع
رجل أزرق فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: علام تشتمني أنت و
أصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله: ما قالوا فأنزل الله هذه
الآية: عن ابن عباس.
و قيل: خرج المنافقون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك فكانوا
إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه و طعنوا
في الدين فنقل ذلك حذيفة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لهم: ما
هذا الذي بلغني عنكم فحلفوا بالله: ما قالوا شيئا من ذلك.
عن الضحاك.
و قيل: نزلت في جلاس بن سويد بن الصامت، و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) خطب ذات يوم بتبوك و ذكر المنافقين فسماهم رجسا و عابهم، فقال
الجلاس: و الله لئن كان محمد صادقا فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن
قيس فقال: أجل و الله إن محمدا لصادق و أنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال
الجلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله.
فأمرهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس
عند المنبر فحلف بالله ما قال ثم قام عامر فحلف بالله: لقد قال، ثم قال: اللهم
أنزل على نبيك الصادق منا الصدق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
المؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل (عليه السلام) قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ:
"فإن يتوبوا يك خيرا لهم".
فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس
فيما قال لك لقد قلته و أنا أستغفر الله و أتوب إليه، فقبل رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) ذلك منه.
عن الكلبي و محمد بن إسحاق و مجاهد.
و قيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين قال: "لئن رجعنا إلى المدينة
ليخرجن الأعز منها الأذل" عن قتادة.
و قيل: نزلت في أهل العقبة فإنهم ائتمروا في أن يغتالوا رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) في عقبة عند مرجعهم من تبوك، و أرادوا أن يقطعوا أنساع راحلته
ثم ينخسوا به فأطلعه الله على ذلك، و كان من جملة معجزاته لأنه لا يمكن معرفة
مثل ذلك إلا بوحي من الله تعالى.
فسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة، و عمار و حذيفة معه،
أحدهما يقود ناقته و الآخر يسوقها و أمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي، و كان
الذين هموا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه عرفهم رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سماهم واحدا واحدا، عن الزجاج و الواقدي و
الكلبي، و القصة مشروحة في كتاب الواقدي.
و قال الباقر (عليه السلام): كانت ثمانية منهم من قريش و أربعة من العرب.
أقول: و الذي ذكره رحمه الله مما جمعه و اختاره من الروايات مروية في كتب
التفسير بالمأثور و جوامع الحديث من كتب الفريقين و هناك روايات أخرى تركها و
أحرى بها أن تترك فتركنا أكثرها كما ترك.
و أما الذي أورده من الروايات فشيء منها لا ينطبق على الآيات غير حديث العقبة
الذي أورده تارة في تفسير الآية الأولى: "يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة
الآية، و تارة في تفسير الآية: "يحلفون بالله ما قالوا" الآية.
و أما سائر الروايات الواردة فإنما هي روايات تتضمن من متفرقات القصص و الوقائع
ما لو صحت و ثبتت كانت من قصص المنافقين من غير أن ترتبط بهذه الآيات و هي كما
عرفت في البيان السابق إحدى عشرة آية متصل بعضها ببعض مسرودة لغرض واحد، و هو
الإشارة إلى قصة من قصص المنافقين هموا فيها باغتيال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم)، و تكلموا عند ذلك بكلمة الكفر فحال الله سبحانه بينهم و بين أن
ينالوا ما هموا به فسألهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أمرهم و ما
تفوهوا به فأولوا فعلهم و أنكروا قولهم و حلفوا على ذلك فكذبهم الله تعالى فيه.
فهذا إجمال ما يلوح من خلال الآيات، و لا ينطبق من بين الروايات إلا على
الروايات المشتملة على قصة العقبة في الجملة دون سائرها.
و لا مسوغ للاستناد إليها في تفسير الآيات إلا على مسلك القوم من تحكيم
الروايات بحسب مضمونها على الآيات سواء ساعدت على ذلك ألفاظ الآيات أو لم تساعد
على ما فيها - أعني الروايات - من الاختلاف الفاحش الذي يوجب سوء الظن بها كما
يظهر لمن راجعها.
على أن في الروايات مغمزا آخر و هو ظهورها في تقطع الآيات و تشتت بعضها و
انفصاله عن بعض بنزول كل لسبب آخر و تعقيبه غرضا آخر، و قد عرفت أن الآيات ذات
سياق واحد متصل ليس من شأنه إلا أن يعقب غرضا واحدا.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و أبو الشيخ عن الكلبي: أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أقبل من غزوة تبوك و بين يديه ثلاثة
رهط استهزءوا بالله و رسوله و بالقرآن قال: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث
يسير مجانبا لهم يقال له: يزيد بن وديعة فنزلت: "إن نعف عن طائفة منكم نعذب
طائفة" فسمى طائفة و هو واحد.
أقول: و هذا هو منشأ قول بعضهم: إن الطائفة تطلق على الواحد كما تطلق على
الكثير مع أن الآية جارية مجرى الكناية دون التسمية و نظير ذلك كثير في الآيات
القرآنية كما تقدمت الإشارة إليه.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين
من بني عمرو بن عوف فيهم وديعة بن ثابت، و رجل من أشجع حليف لهم يقال له: مخشي
بن حمير كانوا يسيرون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو منطلق إلى
تبوك فقال بعضهم لبعض: أ تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم و الله لكأنا بكم
غدا تقادون في الحبال. قال مخشي بن حمير لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل
منكم مائة على أن ينجو من أن ينزل فينا قرآن فقال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن هم
أنكروا و كتموا فقل: بلى قد قلتم كذا و كذا فأدركهم فقال لهم فجاءوا يعتذرون
فأنزل الله: "لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن طائفة منكم" الآية
فكان الذي عفا الله عنه مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن، و سأل الله أن يقتل
شهيدا لا يعلم بمقتله فقتل باليمامة لا يعلم مقتله و لا من قتله و لا يرى له
أثر و لا عين.
أقول: و قصة مخشي بن حمير وردت في عدة روايات غير أنها على تقدير صحتها لا
تستلزم نزول الآيات فيها على ما بينها و بين مضامين الآيات من البون البعيد.
و ليس من الواجب علينا إذا عثرنا على شيء من القصص الواقعة في زمن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) أي قصة كانت أن نلجم بها آية من آيات القرآن الكريم ثم
نعود فنفسر الآية بالقصة و نحكمها عليها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن
ابن عباس قال: ما أشبه الليلة بالبارحة: "كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة
إلى قوله و خضتم كالذي خاضوا" هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم، و الذي نفسي بيده
لتتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه: أقول: و رواه في المجمع، أيضا عنه. و
في المجمع، عن تفسير الثعلبي عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) قال: لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع و شبرا
بشبر و باعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول
الله كما صنعت فارس و الروم و أهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلا هم؟ و فيه، أيضا
عن تفسير الثعلبي عن حذيفة قال: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين
الذين كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قلنا: و كيف؟ قال:
أولئك كانوا يخفون نفاقهم و هؤلاء أعلنوه. و في العيون، بإسناده عن القاسم بن
مسلم عن أخيه عبد العزيز بن مسلم قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز
و جل: "نسوا الله فنسيهم" فقال: إن الله تبارك و تعالى لا ينسى و لا يسهو، و
إنما ينسى و يسهو المخلوق المحدث أ لا تسمعه عز و جل يقول: "و ما كان ربك
نسيا"، و إنما يجازي من نسيه و نسي لقاء يومه أن ينسيهم أنفسهم كما قال عز و
جل: "و لا تكونوا كالذين نسوا الله - فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" +" و
"+ قوله عز و جل "فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا" أي نتركهم كما تركوا
الاستعداد للقاء يومهم هذا. و في تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه
السلام): "نسوا الله" قال: تركوا طاعة الله "فنسيهم" قال: فتركهم. و فيه، عن
أبي معمر السعداني قال: قال علي (عليه السلام): في قوله: "نسوا الله فنسيهم"
فإنما يعني أنهم نسوا الله في دار الدنيا فلم يعملوا له بالطاعة و لم يؤمنوا به
و برسوله فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيبا فصاروا منسيين من
الخير: أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبي معمر عنه (عليه
السلام). و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في
حديث قلت: "و المؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات" قال: أولئك قوم لوط ائتفكت عليهم
أي انقلبت و صارت عاليها سافلها. و في التهذيب، بإسناده عن صفوان بن مهران قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) تأتيني المرأة المسلمة قد عرفتني بعملي و
أعرفها بإسلامها ليس لها محرم فأحملها، قال: فاحملها فإن المؤمن محرم للمؤمنة.
ثم تلا هذه الآية: "و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض": أقول: و رواه
العياشي في تفسيره عن صفوان الجمال عنه (عليه السلام). و في تفسير العياشي، عن
ثوير عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: إذا صار أهل الجنة في الجنة و دخل
ولي الله إلى جناته و مساكنه، و اتكأ، كل مؤمن على أريكته حفته خدامه، و تهدلت
عليه الأثمار، و تفجرت حوله العيون، و جرت من تحته الأنهار، و بسطت له الزرابي،
و وضعت له النمارق، و أتته الخدام بما شاءت هواه من قبل أن يسألهم ذلك قال: و
تخرج عليه الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله. ثم إن الجبار يشرف
عليهم فيقول لهم: أوليائي و أهل طاعتي و سكان جنتي في جواري الأهل أنبئكم بخير
مما أنتم فيه؟ فيقولون: ربنا و أي شيء خير مما نحن فيه: فيما اشتهت أنفسنا و
لذت أعيننا من النعم في جوار الكريم؟. قال: فيعود عليهم القول فيقولون ربنا نعم
فأتنا بخير مما نحن فيه فيقول تبارك و تعالى لهم: رضاي عنكم و محبتي لكم خير و
أعظم مما أنتم فيه قال: فيقولون: نعم يا ربنا رضاك عنا و محبتك لنا خير و أطيب
لأنفسنا. ثم قرأ علي بن الحسين (عليهما السلام) هذه الآية: "وعد الله المؤمنين
و المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها و مساكن طيبة في جنات عدن
- و رضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم". و في الدر المنثور، أخرج ابن
مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا دخل أهل
الجنة الجنة قال الله: هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا و هل بقي شيء؟
إلا قد أنلتناه؟ فيقول: نعم رضائي فلا أسخط عليكم أبدا.
أقول: و هذا المعنى وارد في روايات كثيرة من طرق الفريقين.
و في جامع الجوامع، عن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عدن
دار الله التي لم ترها عين و لم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون
و الصديقون و الشهداء يقول الله: طوبى لمن دخلك.
أقول: و لا ينافي خصوص سكنة الجنة في الرواية عمومهم في الآية لدلالة قوله
تعالى: "و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم:"
الحديد: - 19 على أن الله سبحانه سيلحق عامة المؤمنين بالصديقين و الشهداء.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين"
الآية: قال حدثني أبي عن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
جاهد الكفار و المنافقين بإلزام الفرائض. و في الدر المنثور، أخرج البيهقي في
شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: لما نزلت: "يا أيها النبي جاهد الكفار و
المنافقين" أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجاهد بيده فإن لم
يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر.
أقول: و في الرواية تشويش من حيث ترتب أجزائها فالجهاد بالقلب بعد الجميع و قد
تخلل بينها.
9 سورة التوبة - 75 - 80
وَ مِنهُم مّنْ عَهَدَ اللّهَ لَئنْ ءَاتَانَا مِن فَضلِهِ لَنَصدّقَنّ وَ
لَنَكُونَنّ مِنَ الصلِحِينَ (75) فَلَمّا ءَاتَاهُم مِّن فَضلِهِ بخِلُوا بِهِ
وَ تَوَلّوا وّ هُم مّعْرِضونَ (76) فَأَعْقَبهُمْ نِفَاقاً فى قُلُوبهِمْ إِلى
يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ بِمَا كانُوا
يَكْذِبُونَ (77) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرّهُمْ وَ
نَجْوَاهُمْ وَ أَنّ اللّهَ عَلّمُ الْغُيُوبِ (78) الّذِينَ يَلْمِزُونَ
الْمُطوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فى الصدَقَتِ وَ الّذِينَ لا يجِدُونَ إِلا
جُهْدَهُمْ فَيَسخَرُونَ مِنهُمْ سخِرَ اللّهُ مِنهُمْ وَ لهَُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (79) استَغْفِرْ لهَُمْ أَوْ لا تَستَغْفِرْ لهَُمْ إِن تَستَغْفِرْ
لهَُمْ سبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لهَُمْ ذَلِك بِأَنهُمْ كفَرُوا
بِاللّهِ وَ رَسولِهِ وَ اللّهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ (80)
بيان
تذكر الآيات طائفة أخرى من المنافقين تخلفوا عن حكم الصدقات فامتنعوا عن إيتاء
الزكاة، و قد كانوا فقراء فعاهدوا الله إن أغناهم و آتاهم من فضله ليصدقن و
ليكونن من الصالحين فلما آتاهم مالا بخلوا به و امتنعوا.
و تذكر آخرين من المنافقين يعيبون أهل السعة من المؤمنين بإيتاء الصدقات و كذلك
يلمزون أهل العسرة منهم و يسخرون منهم و الله سبحانه يسمي هؤلاء جميعا منافقين،
و يقضي فيهم بعدم المغفرة البتة.
قوله تعالى: "و منهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من
الصالحين" إلى آخر الآيتين.
الإيتاء الإعطاء، و قد كثر إطلاق الإيتاء من الفضل على إعطاء المال، و من
القرائن عليه في الآية قوله "لنصدقن" أي لنتصدقن مما آتانا من المال و كذلك ما
في الآية التالية من ذكر البخل به.
و السياق يفيد أن الكلام متعرض لأمر واقع، و الروايات تدل على أن الآيات نزلت
في ثعلبة في قصة سيأتي نقلها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى، و
معنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: "فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه" الآية.
الأعقاب الإيراث قال في المجمع،: و أعقبه و أورثه و أداه نظائر و قد يكون أعقبه
بمعنى جازاه.
انتهى و هو مأخوذ من العقب، و معناه الإتيان بشيء عقيب شيء.
و الضمير في قوله: "فأعقبهم" راجع إلى البخل أو إلى فعلهم الذي منه البخل، و
على هذا فالمراد بقوله: "يوم يلقونه" يوم لقاء البخل أي جزاء البخل بنحو من
العناية.
و يمكن أن يرجع الضمير إليه تعالى و المراد بيوم يلقونه يوم يلقون الله و هو
يوم القيامة على ما هو المعروف من كلامه تعالى من تسمية يوم القيامة بيوم لقاء
الله أو يوم الموت كما هو الظاهر من قوله تعالى: "من كان يرجوا لقاء الله فإن
أجل الله لآت": العنكبوت: - 5.
و هذا الثاني هو الظاهر على الثاني لأن الأنسب عند الذهن أن يقال: فهم على
نفاقهم إلى أن يموتوا.
دون أن يقال: فهم على نفاقهم إلى أن يبعثوا إذ لا تغير لحالهم فيما بعد الموت
على أي حال.
و قوله: "بما أخلفوا الله ما وعدوه و بما كانوا يكذبون" الباء في الموضعين منه
للسببية أي إن هذا البخل أورثهم نفاقا بما كان فيه من الخلف في الوعد و
الاستمرار على الكذب الموجبين لمخالفة باطنهم لظاهرهم و هو النفاق.
و معنى الآية: فأورثهم البخل و الامتناع عن إيتاء الصدقات نفاقا في قلوبهم يدوم
لهم ذلك و لا يفارقهم إلى يوم موتهم و إنما صار هذا البخل و الامتناع سببا لذلك
لما فيه من خلف الوعد لله و الملازمة و الاستمرار على الكذب.
أو المعنى: جازاهم الله نفاقا في قلوبهم إلى يوم لقائه و هو يوم الموت لأنهم
أخلفوه ما وعدوه و كانوا يكذبون.
و في الآية دلالة أولا: على أن خلف الوعد و كذب الحديث من أسباب النفاق و
أماراته.
و ثانيا: أن من النفاق ما يعرض الإنسان بعد الإيمان كما أن من الكفر ما هو كذلك
و هو الردة، و قد قال الله سبحانه: "ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا
بآيات الله و كانوا بها يستهزءون:" الروم: - 10 فذكر أن الإساءة ربما أدى
بالإنسان إلى تكذيب آيات الله، و التكذيب ربما كان ظاهرا و باطنا معا و هو
الكفر، أو باطنا فحسب و هو النفاق.
قوله تعالى: "أ لم يعلموا أن الله يعلم سرهم و نجواهم" الآية النجوى الكلام
الخفي و الاستفهام للتوبيخ و التأنيب.
قوله تعالى: "الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات و الذين لا يجدون
إلا جهدهم" الآية التطوع الإتيان بما لا تكرهه النفس و لا تحسبه شاقا و لذلك
يستعمل غالبا في المندوبات لما في الواجبات من شائبة التحميل على النفس بعدم
الرضى بالترك.
و مقابلة المطوعين من المؤمنين في الصدقات بالذين لا يجدون إلا جهدهم قرينة على
أن المراد بالمطوعين فيها الذين يؤتون الزكاة على السعة و الجدة كأنهم لسعتهم و
كثرة مالهم يؤتونها على طوع و رغبة من غير أن يشق ذلك عليهم بخلاف الذين لا
يجدون إلا جهدهم أي مبلغ جهدهم و طاقتهم أو ما يشق عليهم القنوع بذلك.
و قوله: "الذين يلمزون" الآية كلام مستأنف أو هو وصف للذين ذكروا بقوله: "و
منهم من عاهد الله" الآية كما قالوا.
و المعنى: الذين يعيبون الذين يتطوعون بالصدقات من المؤمنين الموسرين و الذين
لا يجدون من المال إلا جهد أنفسهم من الفقراء المعسرين فيعيبون المتصدقين
موسرهم و معسرهم و غنيهم و فقيرهم و يسخرون منهم سخر الله منهم و لهم عذاب
أليم، و فيه جواب لاستهزائهم و إيعاد بعذاب شديد.
قوله تعالى: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر
الله لهم" الترديد بين الأمر و النهي كناية عن تساوي الفعل و الترك أي لغوية
الفعل كما مر نظيره في قوله: "أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم:" التوبة: -
53.
فالمعنى أن هؤلاء المنافقين لا تنالهم مغفرة من الله و يستوي فيهم طلب المغفرة
و عدمها لأن طلبها لهم لغو لا أثر له.
و قوله: "إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" تأكيدا لما ذكر قبله من
لغوية الاستغفار لهم، و بيان أن طبيعة المغفرة لا تنالهم البتة سواء سألت
المغفرة في حقهم أو لم تسأل، و سواء كان الاستغفار مرة أو مرات قليلا أو كثيرا.
فذكر السبعين كناية عن الكثرة من غير أن يكون هناك خصوصية للعدد حتى يكون
الواحد و الاثنان من الاستغفار حتى يبلغ السبعين غير مؤثر في حقهم فإذا جاوز
السبعين أثر أثره، و لذلك علله بقوله: "ذلك بأنهم كفروا بالله و رسوله" أي إن
المانع من شمول المغفرة هو كفرهم بالله و رسوله، و لا يختلف هذا المانع بعدم
الاستغفار.
و لا وجوده واحدا أو كثيرا فهم على كفرهم.
و من هنا يظهر أن قوله: "و الله لا يهدي القوم الفاسقين" متمم لسابقه و الكلام
مسوق سوق الاستدلال القياسي و التقدير: أنهم كافرون بالله و رسوله فهم فاسقون
خارجون عن عبودية الله، و الله لا يهدي القوم الفاسقين، لكن المغفرة هداية إلى
سعادة القرب و الجنة فلا تشملهم المغفرة و لا تنالهم البتة.
و استعمال السبعين في الكثرة المجردة عن الخصوصية كاستعمال المائة و الألف فيها
كثير في اللغة.
بحث روائي في المجمع،: قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب، و كان من الأنصار فقال للنبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): ادع الله أن يرزقني مالا فقال: يا ثعلبة قليل تؤدي شكره
خير من كثير لا تطيقه أ ما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ و الذي نفسي بيده لو
أردت أن تسير الجبال معي ذهبا و فضة لسارت. ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله
ادع الله أن يرزقني مالا و الذي بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي
حق حقه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم ارزق ثعلبة مالا فاتخذ غنما
فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها ثم
كثرت نموا حتى تباعد من المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة و الجماعة، و بعث رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه المصدق ليأخذ الصدقة فأبى و بخل و قال: ما
هذه إلا أخت الجزية فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا ويح ثعلبة يا
ويح ثعلبة، و أنزل الله الآيات:. عن أبي أمامة الباهلي و روي ذلك مرفوعا.
و قيل: إن ثعلبة أتى مجلسا من الأنصار فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله
تصدقت منه و آتيت كل ذي حق حقه و وصلت منه القرابة فابتلاه الله فمات ابن عم له
فورثه مالا فلم يف بما قال فنزلت.
عن ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة.
و قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب و معتب بن قشير و هما من بني عمرو بن عوف قالا:
لئن رزقنا الله مالا لنصدقن فلما رزقهما الله المال بخلا به.
عن الحسن و مجاهد.
أقول: ما ذكروه من الروايات لا يدفع بعضها البعض فمن الجائز أن يكون ثعلبة عاهد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك ثم أشهد عليه جماعة من الأنصار، و أن
يكون معه في ذلك غيره فتتأيد الروايات بعضها ببعض.
و تتأيد أيضا بما روي عن الضحاك أن الآيات نزلت في رجال من المنافقين: نبتل بن
الحارث، و جد بن قيس، و ثعلبة بن حاطب، و معتب بن قشير.
و أما ما رواه في المجمع، عن الكلبي: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة كان له
مال بالشام فأبطأ عنه و جهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن آتاه الله ذلك المال
ليصدقن فأتاه الله تعالى ذلك فلم يفعل فهو بعيد الانطباق على الآيات لأن إيصال
المال إلى صاحبه لا يسمى إيتاء من الفضل، و إنما هو الإعطاء و الرزق. و في
تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في الآية
قال: هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف كان محتاجا فعاهد الله فلما آتاه بخل به.
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي عن أبي هريرة عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب و إذا وعد
أخلف و إذا اؤتمن خان.
أقول: و هو مروي بغير واحد من الطرق عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد
تقدم بعضها.
و فيه،: في قوله تعالى: "الذين يلمزون المطوعين" الآية: أخرج البخاري و مسلم و
ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة عن
ابن مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء
كثير فقالوا: مراء، و جاء أبو عقيل بنصف صاع فقال المنافقون: إن الله لغني عن
صدقة هذا فنزلت: "الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات - و الذين لا
يجدون إلا جهدهم" الآية.
أقول: و الروايات في سبب نزول الآية كثيرة و أمثلها ما أوردناه، و في قريب من
معناه روايات أخرى، و ظاهرها أن الآية مستقلة عما قبلها مستأنفة في نفسها و في
الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن عروة: أن عبد الله بن أبي قال
لأصحابه: لو لا أنكم تنفقون على محمد و أصحابه لانفضوا من حوله، و هو القائل:
ليخرجن الأعز منها الأذل فأنزل الله عز و جل: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن
تستغفر لهم سبعين مرة - فلن يغفر الله لهم" قال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): لأزيدن على السبعين فأنزل الله: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر
لهم لن يغفر الله لهم. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر عن
مجاهد قال: لما نزلت: "إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" قال النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم): سأزيد على سبعين فأنزل الله في السورة التي يذكر
فيها المنافقون "لن يغفر الله لهم". و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لما نزلت هذه الآية أسمع ربي قد رخص لي
فيهم فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم فقال الله من شدة
غضبه عليهم: "سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم - لن يغفر الله لهم إن
الله لا يهدي القوم الفاسقين".
أقول: مما لا ريب فيه أن هذه الآيات مما نزلت في أواخر عهد النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) و قد سبقتها في النزول السور المكية عامة و أكثر السور و
الآيات المدنية قطعا، و مما لا ريب فيه لمن يتدبر كتاب الله أنه لا رجاء في
نجاة الكفار و المنافقين و هم أشد منهم إذا ماتوا على كفرهم و نفاقهم، و لا
مطمع في شمول المغفرة الإلهية لهم فهناك آيات كثيرة مكية و مدنية صريحة قاطعة
في ذلك.
و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أجل من أن يخفى عليه ما أنزله الله إليه أو
أن لا يثق بما وعدهم الله من العذاب المخلد وعدا حتميا فيطمع في نقض القضاء
المحتوم بالإصرار عليه تعالى و الإلحاح في طلب الغفران لهم.
أو أن يخفى عليه أن الترديد في الآية لبيان اللغوية و أن لا خصوصية لعدد
السبعين حتى يطمع في مغفرتهم لو زاد على السبعين.
و ليت شعري ما ذا يزيد قوله تعالى في سورة المنافقون: "سواء عليهم أستغفرت لهم
أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين" على قوله
تعالى في هذه الآية "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن
يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله و رسوله و الله لا يهدي القوم الفاسقين" و
قد علل الله سبحانه نفي المغفرة نفيا مؤبدا فيهما بأنهم فاسقون و الله لا يهدي
القوم الفاسقين.
فقد تلخص أن هذه الروايات و ما في معناها موضوعة يجب طرحها.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي و ابن أبي حاتم و
النحاس و ابن حبان و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت
عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أ على عدو الله عبد الله بن أبي القائل
كذا و كذا و القائل كذا و كذا؟ أعدد أيامه و رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) يتبسم حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عني إني قد خيرت قد قيل لي: "استغفر
لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة" فلو أعلم أني إن زدت على
السبعين غفر له لزدت عليها. ثم صلى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
مشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه فعجبت لي و لجرأتي على رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) و الله و رسوله أعلم فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت
هاتان الآيتان: "و لا تصل على أحد منهم مات أبدا و لا تقم على قبره" فما صلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على منافق بعده حتى قبضه الله عز و جل.
أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرواية: "فلو أعلم أني إن زدت على
السبعين" إلخ صريح في أنه كان آئسا من شمول المغفرة له، و هو يشهد بأن المراد
من قوله: "إني قد خيرت قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم" إن الله قد ردد
الأمر و لم ينهه عن الاستغفار لا أنه خيره بين الاستغفار و عدمه تخييرا حقيقيا
حتى ينتج تأثير الاستغفار في حصول المغفرة أو رجاء ذلك.
و من ذلك يعلم أن استغفاره (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبد الله و صلاته عليه و
قيامه على قبره إن ثبت شيء من ذلك لم يكن شيء من ذلك لطلب المغفرة و الدعاء له
جدا كما سيأتي في رواية القمي، و في الروايات كلام سيأتي.
و فيه، عن ابن أبي حاتم عن الشعبي أن عمر بن الخطاب قال: لقد أصبت في الإسلام
هفوة ما أصبت مثلها قط أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصلي على
عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت: و الله ما أمرك الله بهذا لقد قال الله:
"استغفر لهم أو لا تستغفر لهم - إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم"
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد خيرني ربي فقال: استغفر لهم أو
لا تستغفر لهم فقعد رسول الله على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه: يا حباب
افعل كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الحباب
اسم شيطان أنت عبد الله. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "استغفر لهم أو لا
تستغفر لهم" الآية أنها نزلت لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
المدينة و مرض عبد الله بن أبي و كان ابنه عبد الله بن عبد الله مؤمنا فجاء إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبوه يجود بنفسه فقال: يا رسول الله
بأبي أنت و أمي إنك إن لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا فدخل إليه رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) و المنافقون عنده فقال ابنه عبد الله بن عبد الله استغفر
له فاستغفر له. فقال عمر: أ لم ينهك الله يا رسول الله أن تصلي على أحد أو
تستغفر له؟ فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعاد عليه فقال له:
ويلك إني قد خيرت فاخترت إن الله يقول: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم - إن
تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم". فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله إن رأيت أن
تحضر جنازته فحضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام على قبره فقال له
عمر: يا رسول الله أ لم ينهك الله أن تصلي على أحد منهم مات أبدا و أن تقيم على
قبره؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ويلك و هل تدري ما قلت؟ إنما
قلت: اللهم احش قبره نارا و جوفه نارا و أصله النار فبدا من رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) ما لم يكن يحب.
أقول: و في الروايات تتمة كلام سيوافيك في ذيل الآيات التالية.
|