قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
29 سورة العنكبوت - 1 - 13
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الم (1) أَ حَسِب النّاس أَن يُترَكُوا أَن
يَقُولُوا ءَامَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنّ
الْكَذِبِينَ (3) أَمْ حَسِب الّذِينَ يَعْمَلُونَ السيِّئَاتِ أَن يَسبِقُونَا
ساءَ مَا يحْكُمُونَ (4) مَن كانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ
اللّهِ لاَتٍ وَ هُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَ مَن جَهَدَ فَإِنّمَا يجَهِدُ
لِنَفْسِهِ إِنّ اللّهَ لَغَنىّ عَنِ الْعَلَمِينَ (6) وَ الّذِينَ ءَامَنُوا
وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لَنُكَفِّرَنّ عَنْهُمْ سيِّئَاتِهِمْ وَ
لَنَجْزِيَنّهُمْ أَحْسنَ الّذِى كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَ وَصيْنَا الانسنَ
بِوَلِدَيْهِ حُسناً وَ إِن جَهَدَاك لِتُشرِك بى مَا لَيْس لَك بِهِ عِلْمٌ
فَلا تُطِعْهُمَا إِلىّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
(8) وَ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لَنُدْخِلَنّهُمْ فى
الصلِحِينَ (9) وَ مِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُوذِى
فى اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَ لَئن جَاءَ نَصرٌ مِّن
رّبِّك لَيَقُولُنّ إِنّا كنّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْس اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا
فى صدُورِ الْعَلَمِينَ (10) وَ لَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ
لَيَعْلَمَنّ الْمُنَفِقِينَ (11) وَ قَالَ الّذِينَ كفَرُوا لِلّذِينَ
ءَامَنُوا اتّبِعُوا سبِيلَنَا وَ لْنَحْمِلْ خَطيَكُمْ وَ مَا هُم بحَمِلِينَ
مِنْ خَطيَهُم مِّن شىْءٍ إِنّهُمْ لَكَذِبُونَ (12) وَ لَيَحْمِلُنّ
أَثْقَالهَُمْ وَ أَثْقَالاً مّعَ أَثْقَالهِِمْ وَ لَيُسئَلُنّ يَوْمَ
الْقِيَمَةِ عَمّا كانُوا يَفْترُونَ (13)
بيان
يلوح من سياق آيات السورة و خاصة ما في صدرها من الآيات أن بعضا ممن آمن بالنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة رجع عنه خوفا من فتنة كانت تهدده من
قبل المشركين فإن المشركين كانوا يدعونهم إلى العود إلى ملتهم و يضمنون لهم أن
يحملوا خطاياهم إن اتبعوا سبيلهم فإن أبوا فتنوهم و عذبوهم ليعيدوهم إلى ملتهم.
يشير إلى ذلك قوله تعالى: "و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و
لنحمل خطاياكم" الآية، و قوله: "و من الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في
الله جعل فتنة الناس كعذاب الله" الآية.
و كان في هؤلاء الراجعين عن إيمانهم من كان رجوعه بمجاهدة من والديه على أن
يرجع و إلحاح منهما عليه في الارتداد كبعض أبناء المشركين على ما يستشم من قوله
تعالى: "و وصينا الإنسان بوالديه حسنا و إن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم
فلا تطعهما" الآية، و قد نزلت السورة في شأن هؤلاء.
فغرض السورة على ما يستفاد من بدئها و ختامها و السياق الجاري فيها أن الذي
يريده الله سبحانه من الإيمان ليس هو مجرد قولهم: آمنا بالله بل هو حقيقة
الإيمان التي لا تحركها عواصف الفتن و لا تغيرها غير الزمن و هي إنما تتثبت و
تستقر بتوارد الفتن و تراكم المحن، فالناس غير متروكين بمجرد أن يقولوا: آمنا
بالله دون أن يفتنوا و يمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة الإيمان أو وصمة
الكفر فليعلمن الله الذين صدقوا و يعلم الكاذبين.
فالفتنة و المحنة سنة إلهية لا معدل عنها تجري في الناس الحاضرين كما جرت في
الأمم الماضين كقوم نوح و عاد ثمود و قوم إبراهيم و لوط و شعيب و موسى فاستقام
منهم من استقام و هلك منهم من هلك و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فعلى من يقول: آمنت بالله أن يصبر على إيمانه و يعبد الله وحده فإن تعذر عليه
القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة و لا يخف
عسر المعاش فإن الرزق على الله و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و
إياه.
و أما المشركون الذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه إلا أن يقولوا ربنا
الله فلا يحسبوا أنهم يعجزون الله و يسبقونه فأما فتنتهم للمؤمنين و إيذاؤهم و
تعذيبهم فإنما هي فتنة لهم و للمؤمنين غير خارجة عن علم الله و تقديره، فهي
فتنة و هي محفوظة عليهم إن شاء أخذهم بوبالها في الدنيا و إن شاء أخرهم إلى يوم
يرجعون فيه إليه و ما لهم من محيص.
و أما ما لفقوه من الحجة و ركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود إليهم و
الحجة قائمة تامة عليهم.
فهذا محصل غرض السورة و مقتضى ذلك كون السورة كلها مكية، و قول القائل: إنها
مدنية كلها أو معظمها أو بعضها - و سيجيء في البحث الروائي التالي - غير سديد،
فمضامين آيات السورة لا تلائم إلا زمن العسرة و الشدة قبل الهجرة.
قوله تعالى: "الم أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون"
الحسبان هو الظن، و جملة "أن يتركوا" قائمة مقام مفعوليه، و قوله: "أن يقولوا"
بتقدير باء السببية، و الفتنة الامتحان و ربما تطلق على المصيبة و العذاب، و
الأوفق للسياق هو المعنى الأول، و الاستفهام للإنكار.
و المعنى: أ ظن الناس أن يتركوا فلا يتعرض لحالهم و لا يمتحنوا بما يظهر به
صدقهم أو كذبهم في دعوى الإيمان بمجرد قولهم: آمنا؟ و قيل: المعنى: أ ظن الناس
أن يتركوا فلا يبتلوا ببلية و لا تصيبهم مصيبة لقولهم: آمنا بأن تكون لهم على
الله كرامة بسبب الإيمان يسلموا بها من كل مكروه يصيب الإنسان مدى حياته؟ و لا
يخلو من بعد بالنظر إلى سياق الآيات.
قوله تعالى: "و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن
الكاذبين" اللامان للقسم، و قوله: "و لقد فتنا الذين من قبلهم" حال من الناس في
قوله: "أ حسب الناس" أو من ضمير الجمع في قوله "لا يفتنون" و على الأول
فالإنكار و التوبيخ متوجه إلى ظنهم أنهم لا يفتنون مع جريان السنة الإلهية على
الفتنة و الامتحان و على الثاني إلى ظنهم الاختلاف في فعله تعالى حيث يفتن قوما
و لا يفتن آخرين، و لعل الوجه الأول أوفق للسياق.
فالظاهر أن المراد بقوله: "و لقد فتنا الذين من قبلهم" أن الفتنة و الامتحان
سنة جارية لنا و قد جرت في الذين من قبلهم و هي جارية فيهم و لن تجد لسنة الله
تبديلا.
و قوله: "فليعلمن الله الذين صدقوا" إلخ تعليل لما قبله، و المراد بعلمه تعالى
بالذين صدقوا بالكاذبين ظهور آثار صدقهم و كذبهم في مقام العمل بسبب الفتنة و
الامتحان الملازم لثبوت الإيمان في قلوبهم حقيقة و عدم ثبوته فيها حقيقة فإن
السعادة التي تترتب على الإيمان المدعو إليه و كذا الثواب إنما تترتب على حقيقة
الإيمان الذي له آثار ظاهرة من الصبر عند المكاره و الصبر على طاعة الله و
الصبر عن معصية الله لا على دعوى الإيمان المجردة.
و يمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى الفعلي الذي هو نفس الأمر الخارجي فإن
الأمور الخارجية بنفسها من مراتب علمه تعالى، و أما علمه تعالى الذاتي فلا
يتوقف على الامتحان البتة.
و المعنى: أ حسبوا أن يتركوا و لا يفتنوا بمجرد دعوى الإيمان و إظهاره و الحال
أن الفتنة سنتنا و قد جرت في الذين من قبلهم فمن الواجب أن يتميز الصادقون من
الكاذبين بظهور آثار صدق هؤلاء و آثار كذب أولئك الملازم لاستقرار الإيمان في
قلوب هؤلاء و زوال صورته الكاذبة عن قلوب أولئك.
و الالتفات في قوله: "فليعلمن الله" إلى اسم الجلالة قيل: للتهويل و تربية
المهابة و الظاهر أنه في أمثال المقام لإفادة نوع من التعليل و ذلك أن الدعوة
إلى الإيمان و الهداية إليه و الثواب عليه لما كانت راجعة إلى المسمى بالله
الذي منه يبدأ كل شيء و به يقوم كل شيء و إليه ينتهي كل شيء بحقيقته فمن الواجب
أن يتميز عنده حقيقة الإيمان من دعواه الخالية و يخرج عن حال الإبهام إلى حال
الصراحة و لذلك عدل عن مثل قولنا: فلنعلمن إلى قوله: "فليعلمن الله".
قوله تعالى: "أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون" أم
منقطعة، و المراد بقوله: "الذين يعملون السيئات" المشركون الذين كانوا يفتنون
المؤمنين و يصدونهم عن سبيل الله كما أن المراد بالناس في قوله: "أ حسب الناس"
هم الذين قالوا: آمنا و هم في معرض الرجوع عن الإيمان خوفا من الفتنة و
التعذيب.
و المراد بقوله: "أن يسبقونا" الغلبة و التعجيز بسبب فتنة المؤمنين و صدهم عن
سبيل الله - على ما يعطيه السياق.
و قوله: "ساء ما يحكمون" تخطئة لظنهم أنهم يسبقون الله بما يمكرون من فتنة و صد
فإن ذلك بعينه فتنة من الله لهم أنفسهم و صد لهم عن سبيل السعادة و لا يحيق
المكر السيىء إلا بأهله.
و قيل: مفاد الآية توبيخ العصاة من المؤمنين و هم المراد بقوله: "الذين يعملون
السيئات" و المراد بالسيئات المعاصي التي يقترفونها غير الشرك، و أنت خبير بأن
السياق لا يساعد عليه.
و قيل: المراد بعمل السيئات أعم من الشرك و اقتراف سائر المعاصي فالآية عامة لا
موجب لتخصيصها بخصوص الشرك أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك.
و فيه أن اعتبار الآية من حيث وقوعها في سياق خاص من السياقات أمر و اعتبارها
مستقلة في نفسها أمر آخر و الذي يقتضيه الاعتبار الأول و هو العمدة بالنظر إلى
غرض السورة هو ما قدمناه من المعنى، و أما الاعتبار الثاني: فمقتضاه العموم و
لا ضير فيه على ذلك التقدير.
قوله تعالى: "من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت و هو السميع العليم" إلى
تمام ثلاث آيات.
لما وبخ سبحانه الناس على استهانتهم بأمر الإيمان و رجوعهم عنه بأي فتنة و
إيذاء من المشركين و وبخ المشركين على فتنتهم و إيذائهم المؤمنين و صدهم عن
سبيل الله إرادة لإطفاء نور الله و تعجيزا له فيما شاء و خطأ الفريقين فيما
ظنوا.
رجع إلى بيان الحق الذي لا معدل عنه و الواجب الذي لا مخلص منه، فبين في هذه
الآيات الثلاث أن من يؤمن بالله لتوقع الرجوع إليه و لقائه فليعلم أنه آت لا
محالة و أن الله سميع لأقواله عليم بأحواله و أعماله فليأخذ حذره و ليؤمن حق
الإيمان الذي لا يصرفه عنه فتنة و لا إيذاء و ليجاهد في الله حق جهاده، و ليعلم
أن الذي ينتفع بجهاده هو نفسه و لا حاجة لله سبحانه إلى إيمانه و لا إلى غيره
من العالمين و ليعلم أنه إن آمن و عمل صالحا فإن الله سيكفر عنه سيئاته و يجزيه
بأحسن أعماله، و العلمان الأخيران يؤكدان العلم الأول و يستوجبان لزومه الإيمان
و صبره على الفتن و المحن في جنب الله.
فقوله: "من كان يرجوا لقاء الله" رجوع إلى بيان حال من يقول: آمنت فإنه إنما
يؤمن لو صدق بعض الصدق لتوقعه الرجوع إلى الله سبحانه يوم القيامة إذ لو لا
المعاد لغا الدين من أصله، فالمراد بقوله: "من كان يرجوا لقاء الله" من كان
يؤمن بالله أو من كان يقول: آمنت بالله، فالجملة من قبيل وضع السبب موضع
المسبب.
و المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفا لا حجاب بينه و بين ربه كما هو الشأن يوم
القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى: "و يعلمون أن الله هو الحق
المبين".
و قيل: المراد بلقاء الله هو البعث، و قيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء ملك
الموت و الحساب و الجزاء، و قيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب و
قيل: ملاقاة حكمه يوم القيامة، و الرجاء على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف.
و هذه وجوه مجازية بعيدة لا موجب لها إلا أن يكون من التفسير بلازم المعنى.
و قوله: "فإن أجل الله لآت" الأجل هو الغاية التي ينتهي إليها زمان الدين و
نحوه و قد يطلق على مجموع ذلك الزمان و الغالب في استعماله هو المعنى الأول.
و "أجل الله" هو الغاية التي عينها الله تعالى للقائه، و هو آت لا ريب فيه و قد
أكد القول تأكيدا بالغا، و لازم تحتم إتيان هذا الأجل و هو يوم القيامة أن لا
يسامح في أمره و لا يستهان بأمر الإيمان بالله حق الإيمان و الصبر عليه عند
الفتن و المحن من غير رجوع و ارتداد، و قد زاد في تأكيد القول بتذييله بقوله:
"و هو السميع العليم" إذ هو تعالى لما كان سميعا لأقوالهم عليما بأحوالهم فلا
ينبغي أن يقول القائل: آمنت بالله إلا عن ظهر القلب و مع الصبر على كل فتنة و
محنة.
و من هنا يظهر أن ذيل الآية: "فإن أجل الله لآت" إلخ، من قبيل وضع السبب موضع
المسبب كما كان صدرها: "من كان يرجوا لقاء الله" أيضا كذلك، و الأصل من قال:
آمنت بالله.
فليقله مستقيما صابرا عليه مجاهدا في ربه.
و قوله: "و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين" المجاهدة و
الجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، و فيه تنبيه لهم أن مجاهدتهم في الله
بلزوم الإيمان و الصبر على المكاره دونه ليست مما يعود نفعه إلى الله سبحانه
حتى لا يهمهم و يلغو بالنسبة إليهم أنفسهم بل إنما يعود نفعه إليهم أنفسهم
لغناه تعالى عن العالمين فعليهم أن يلزموا الإيمان و يصبروا على المكاره دونه.
فقوله: "و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه" تأكيد لحجة الآية السابقة، و قوله: "إن
الله لغني عن العالمين" تعليل لما قبله.
و الالتفات من سياق التكلم بالغير إلى اسم الجلالة في الآيتين نظير ما مر من
الالتفات في قوله: "فليعلمن الله الذين صدقوا" الآية.
و قوله: "و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم و لنجزينهم أحسن
الذي كانوا يعملون" بيان لعاقبة إيمانهم حق الإيمان المقارن للجهاد و يتبين به
أن نفع إيمانهم يعود إليهم لا إلى الله سبحانه و أنه عطية من الله و فضل.
و على هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أن الجهاد في الله هو الإيمان و
العمل الصالح فإنها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة: "و من جاهد" من قوله
في هذه الآية: "و الذين آمنوا و عملوا الصالحات".
و تكفير السيئات هو العفو عنها و الأصل في معنى الكفر هو الستر، و قيل: تكفير
السيئات هو تبديل كفرهم السابق إيمانا و معاصيهم السابقة طاعات، و ليس بذاك.
و جزاؤهم بأحسن الذي كانوا يعملون هو رفع درجتهم إلى ما يناسب أحسن أعمالهم أو
عدم المناقشة في أعمالهم عند الحساب إذا كانت فيها جهات رداءة و خسة فيعاملون
في كل واحد من أعمالهم معاملة من أتى بأحسن عمل من نوعه فتحتسب صلاتهم أحسن
الصلاة و إن اشتملت على بعض جهات الرداءة و هكذا.
قوله تعالى: "و وصينا الإنسان بوالديه حسنا و إن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به
علم فلا تطعهما" إلخ، التوصية العهد و هو هاهنا الأمر، و قوله: "حسنا" مصدر في
معنى الوصف قائم مقام مفعول مطلق محذوف و التقدير: و وصينا الإنسان بوالديه
توصية حسنة أو ذات حسن أي أمرناه أن يحسن إليهما و هذا مثل قوله: "و قولوا
للناس حسنا" أي قولا حسنا أو ذا حسن، و يمكن أن يكون وضع المصدر موضع الوصف
للمبالغة نحو زيد عدل، و ربما وجه بتوجيهات أخر.
و قوله: "و إن جاهداك لتشرك بي" إلخ، تتميم للتوصية بخطاب شفاهي للإنسان بنهيه
عن إطاعة والديه إن دعواه إلى الشرك و الوجه في ذلك أن التوصية في معنى الأمر
فكأنه قيل: و قلنا للإنسان أحسن إلى والديك و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس
لك به علم فلا تطعهما.
و لم يقل: و أن لا يطيعهما إن جاهداه على أن يشرك إلخ، لما في الخطاب من
الصراحة و ارتفاع الإبهام و لذلك قال أيضا: "لتشرك بي" بضمير المتكلم وحده
فافهمه و يئول معنى الجملة إلى أنا نهيناه عن الشرك طاعة لهما و رفعنا عنه كل
إبهام.
و في قوله: "ما ليس لك به علم" إشارة إلى علة النهي عن الطاعة فإن دعوتهما إلى
الشرك بعبادة إله من دون الله دعوة إلى الجهل و عبادة ما ليس له به علم افتراء
على الله و قد نهى الله عن اتباع غير العلم قال: "و لا تقف ما ليس لك به علم":
إسراء: 38، و بهذه المناسبة ذيلها بقوله: "إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون"
أي سأعلمكم ما معنى أعمالكم و منها عبادتكم الأصنام و شرككم بالله سبحانه.
و معنى الآية: و عهدنا إلى الإنسان في والديه عهدا حسنا - و أمرناه أن أحسن إلى
والديك - و إن بذلا جهدهما أن تشرك بي فلا تطعهما لأنه اتباع ما ليس لك به علم.
و في الآية - كما تقدمت الإشارة إليه - توبيخ تعريضي لبعض من كان قد آمن ثم رجع
عن إيمانه بمجاهدة من والديه.
قوله تعالى: "و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين" معنى الآية
ظاهر، و في وقوعها بعد الآية السابقة و في سياقها، دلالة على وعد جميل منه
تعالى و تطييب نفس لمن ابتلي من المؤمنين بوالدين مشركين يجاهدانه على الشرك
فعصاهما و فارقهما، يقول سبحانه: إن جاهداه على الشرك فعصاهما و هجرهما ففاتاه
لم يكن بذلك بأس فإنا سنرزقه خيرا منهما و ندخله بإيمانه و عمله الصالح في
الصالحين و هم العباد المنعمون في الجنة، قال تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة
ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي": الفجر: 30.
و أما إرادة المجتمع الصالح في الدنيا فبعيد من السياق.
قوله تعالى: "و من الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس
كعذاب الله" إلى آخر الآية، لما كان إيمان هؤلاء مقيدا بالعافية و السلامة مغيى
بالإيذاء و الابتلاء لم يعده إيمانا بقول مطلق و لم يقل: و من الناس من يؤمن
بالله بل قال: "و من الناس من يقول آمنا بالله" فالآية بوجه نظيرة قوله: "و من
الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به و إن أصابته فتنة انقلب على
وجهه": الحج: 11.
و قوله: "فإذا أوذي في الله" أي أوذي لأجل الإيمان بالله بناء على أن في
للسببية كما قيل و فيه عناية كلامية لطيفة بجعله تعالى - أي جعل الإيمان بالله
- ظرفا للإيذاء و لمن يقع عليه الإيذاء ليفيد أن الإيذاء منتسب إليه تعالى
انتساب المظروف إلى ظرفه و ينطبق على معنى السببية و الغرضية و نظيره قوله: "يا
حسرتا على ما فرطت في جنب الله": الزمر: 56، و قوله: "و الذين جاهدوا فينا":
العنكبوت: 69.
و قيل: معنى الإيذاء في الله هو الإيذاء في سبيل الله و كأنه مبني على تقدير
مضاف محذوف.
و فيه أن العناية الكلامية مختلفة فالإيذاء في الله ما كان السبب فيه محض
الإيمان بالله و هو قولهم: ربنا الله، و الإيذاء في سبيل الله ما كان سببه سلوك
السبيل التي هي الدين قال تعالى: "فالذين هاجروا و أخرجوا من ديارهم و أوذوا في
سبيلي": آل عمران: 195 و من الشاهد على تغاير الاعتبارين قوله في آخر السورة:
"و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" حيث جعل الجهاد في الله طريقا إلى
الاهتداء إلى سبله و لو كانا بمعنى واحد لم يصح ذلك.
و قوله: "جعل فتنة الناس كعذاب الله" أي نزل العذاب و الإيذاء الذي يصيبه من
الناس في وجوب التحرز منه منزلة عذاب الله الذي يجب أن يتحرز منه فرجع عن
الإيمان إلى الشرك خوفا و جزعا من فتنتهم مع أن عذابهم يسير منقطع الآخر بنجاة
أو موت و لا يقاس ذلك بعذاب الله العظيم المؤبد الذي يستتبع الهلاك الدائم.
و قوله: "و لئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم" أي لئن أتاكم من قبله
تعالى ما فيه فرج و يسر لكم من بعد ما أنتم فيه من الشدة و العسرة من قبل أعداء
الله ليقولن هؤلاء إنا كنا معكم فلنا منه نصيب.
و "ليقولن" بضم اللام صيغة جمع، و الضمير راجع إلى "من" باعتبار المعنى كما أن
ضمائر الإفراد الأخر راجعة إليها باعتبار اللفظ.
و قوله: "أ و ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين" استفهام إنكاري فيه رد
دعواهم أنهم مؤمنون بأن الله أعلم بما في الصدور و لا تنطوي قلوب هؤلاء على
إيمان.
و المراد بالعالمين الجماعات من الإنسان أو الجماعات المختلفة من أولي العقل
إنسانا كان أو غيره كالجن و الملك، و لو كان المراد به جميع المخلوقات من ذوي
الشعور و غيرهم كان المراد بالصدور البواطن و هو بعيد.
قوله تعالى: "و ليعلمن الله الذين آمنوا و ليعلمن المنافقين" من تتمة الكلام في
الآية السابقة و المحصل أن الله مع ذلك يميز بين المؤمنين و المنافقين بالفتنة
و الامتحان.
و في الآية إشارة إلى كون هؤلاء منافقين و ذلك لكون إيمانهم مقيدا بعدم الفتنة
و هم يظهرونه مطلقا غير مقيد و الفتنة سنة إلهية جارية لا معدل عنها.
و قد استدل بالآيتين على أن السورة أو خصوص هذه الآيات مدنية و ذلك أن الآية
تحدث عن النفاق و النفاق إنما ظهر بالمدينة بعد الهجرة و أما مكة قبل الهجرة
فلم يكن للإسلام فيها شوكة و لا للمسلمين فيها إلا الذلة و الإهانة و الشدة و
الفتنة و لا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المجتمع العربي يومئذ و خاصة
عند قريش عزة و لا منزلة فلم يكن لأحد منهم داع يدعوه إلى أن يتظاهر بالإيمان و
هو ينوي الكفر.
على أن قوله في الآية: "و لئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم" يخبر عن
النصر و هو الفتح و الغنيمة و قد كان ذلك بالمدينة دون مكة.
و نظير الآيتين قوله السابق: "و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه" ضرورة إن الجهاد و
القتال إنما كان بالمدينة بعد الهجرة.
و هو سخيف: أما حديث النفاق فالذي جعل في الآية ملاكا للنفاق و هو قولهم: آمنا
بالله حتى إذا أوذوا في الله راجعوا عن قولهم كان جائز التحقق في مكة كما في
غيرها و هو ظاهر بل الذي ذكر من الإيذاء و الفتنة إنما كان بمكة فلم تكن في
المدينة بعد الهجرة فتنة.
و أما حديث النصر فالنصر غير منحصر في الفتح و الغنيمة فله مصاديق أخر يفرج
الله بها عن عباده.
على أن الآية لا تخبر عنه بما يدل على التحقق فقوله: "فإذا أوذي في الله جعل
فتنة الناس كعذاب الله و لئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم" يدل على تحقق
الإيذاء و الفتنة حيث عبر بإذا الدالة على تحقق الوقوع بخلاف مجيء النصر حيث
عبر عنه بأن الشرطية الدالة على إمكان الوقوع دون تحققه.
و أما قوله تعالى: "و من جاهد" إلخ فقد اتضح مما تقدم أن المراد به جهاد النفس
دون مقاتلة الكفار فالحق أن لا دلالة في شيء من الآيات على كون السورة أو بعضها
مدنية.
قوله تعالى: "و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم و
ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون" المراد بالذين كفروا مشركوا مكة
الذين أبدوا الكفر أول مرة بالدعوة الحقة، و بالذين آمنوا المؤمنون بها أول مرة
و قولهم لهم: "اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم" نوع استمالة لهم و تطييب لنفوسهم
أن لو رجعوا إلى الشرك و اتبعوا سبيلهم لم تكن عليهم تبعة على أي حال: إذ لو لم
تكن في ذلك خطيئة فهو، و إن كانت فهم حاملون لها عنهم، و لذلك لم يقولوا: و
لنحمل خطاياكم لو كانت بل أطلقوا القول من غير تقييد.
فكأنهم قالوا: لنفرض أن اتباعكم لسبيلنا خطيئة فإنا نحملها عنكم و نحمل كل ما
يتفرع عليه من الخطايا أو أنا نحمل عنكم خطاياكم عامة و من جملتها هذه الخطيئة.
و قوله: "و ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء" رد لقولهم: "و لنحمل خطاياكم" و
هو رد محفوف بحجة إذ لو كان اتباعهم لسبيلهم و رجوعهم عن الإيمان بالله خطيئة
كان خطيئة عند الله لاحقة بالراجعين و انتقالها عن عهدتهم إلى غيرهم يحتاج إلى
إذن من الله و رضى فهو الذي يؤاخذهم به و يجازيهم و هو سبحانه يصرح و يقول: "ما
هم بحاملين من خطاياهم من شيء" و قد عمم النفي لكل شيء من خطاياهم.
و قوله: "إنهم لكاذبون" تكذيب لهم لما أن قولهم: "و لنحمل خطاياكم" يشتمل على
دعوى ضمني أن خطاياهم تنتقل إليهم لو احتملوها و أن الله يجيز لهم ذلك.
قوله تعالى: "و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم و ليسألن يوم القيامة عما
كانوا يفترون" من تمام القول السابق في ردهم و هو في محل الاستدراك أي إنهم لا
يحملون خطاياهم بعينها فهي لازمة لفاعليها لكنهم حاملون أثقالا و أحمالا من
الأوزار مثل أوزار فاعليها من غير أن ينقص من فاعليها فيحملونها مضافا إلى
أثقال أنفسهم و أحمالها لما أنهم ضالون مضلون.
فالآية في معنى قوله تعالى: "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار
الذين يضلونهم بغير علم": النحل: 25.
و قوله: "و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون" فشركهم افتراء على الله
سبحانه و كذا دعواهم القدرة على إنجاز ما وعدوه و أن الله يجيز لهم ذلك.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن الضريس و النحاس و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل
عن ابن عباس و أيضا ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قالا: نزلت سورة العنكبوت
بمكة.
أقول: و قد نقل في روح المعاني، عن البحر عن ابن عباس أن السورة مدنية.
و في المجمع،: قيل نزلت الآية يعني قوله تعالى: "أ حسب الناس أن يتركوا" في
عمار بن ياسر و كان يعذب في الله. عن ابن جريج.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم
عن الشعبي: في قوله: "الم أ حسب الناس أن يتركوا" الآية، قال: أنزلت في أناس
بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار و لا إسلام حتى
تهاجروا. قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم
هذه الآية فكتبوا إليهم أنه نزل فيكم آية كذا و كذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا
أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل و منهم من نجا
فأنزل الله فيهم: "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا
إن ربك من بعدها لغفور رحيم" و فيه، أخرج ابن جرير عن قتادة: "و من الناس من
يقول آمنا بالله إلى قوله و ليعلمن المنافقين" قال هذه الآيات نزلت في القوم
الذين ردهم المشركون إلى مكة، و هذه الآيات العشر مدنية.
و فيه، أخرج ابن جرير عن الضحاك: في قوله: "و من الناس من يقول آمنا بالله"
قال: ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا و أصابهم بلاء من المشركين
رجعوا إلى الكفر و الشرك مخافة من يؤذيهم و جعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب
الله.
و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال:
قالت أمي: لا آكل طعاما و لا أشرب شرابا حتى تكفر بمحمد فامتنعت من الطعام و
الشراب حتى جعلوا يسجرون فاها بالعصا فنزلت هذه الآية "و وصينا الإنسان بوالديه
حسنا" الآية.
و في المجمع، قال الكلبي: نزل قوله: "و من الناس من يقول" الآية في عياش بن أبي
ربيعة المخزومي و ذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة بن أبي جندل
التميمي أن لا تأكل و لا تشرب و لا تغسل رأسها و لا تدخل كنا حتى يرجع إليها
فلما رأى ابناها أبو جهل و الحارث ابنا هشام و هما أخوا عياش لأمه جزعها ركبا
في طلبه حتى أتيا المدينة فلقياه و ذكرا له القصة فلم يزالا به حتى أخذ عليهما
المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه و تبعهما و قد كانت أمه صبرت ثلاثة أيام ثم أكلت
و شربت. فلما خرجوا من المدينة أخذاه و أوثقاه كتافا و جلده كل واحد منهما مائة
جلدة حتى برىء من دين محمد جزعا من الضرب و قال ما لا ينبغي فنزلت الآية و كان
الحارث أشدهما عليه فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه. فلما
رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون
إلى المدينة و هاجر عياش و حسن إسلامه و أسلم الحارث بن هشام و هاجر إلى
المدينة و بايع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الإسلام و لم يحضر عياش
فلقيه عياش يوما بظهر قبا و لم يشعر بإسلامه فضرب عنقه فقيل له: إن الرجل قد
أسلم فاسترجع عياش و بكى ثم أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بذلك
فنزل: "و ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ" الآية.
أقول: و أنت ترى اختلاف الروايات في سبب نزول الآيات و قد تقدم أن الذي يعطيه
سياق آيات السورة أنها مكية محضة.
و في الكافي، عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن معمر بن خلاد قال: سمعت أبا
الحسن (عليه السلام) يقول: "الم أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا - و هم
لا يفتنون". ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين فقال:
"يفتنون كما يفتن الذهب. ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب.
و في المجمع،: قيل: إن معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم و أموالهم: و هو المروي عن
أبي عبد الله (عليه السلام).
و فيه،: في قوله تعالى: "أو يلبسكم شيعا": و في تفسير الكلبي،: أنه لما نزلت
هذه الآية قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتوضأ و أسبغ وضوءه ثم قام و
صلى فأحسن صلاته ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث عذابا من فوقهم أو من تحت
أرجلهم أو يلبسهم شيعا و لا يذيق بعضهم بأس بعض. فنزل جبرئيل و لم يجرهم من
الخصلتين الأخيرتين فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا جبرئيل ما بقاء أمتي مع
قتل بعضهم بعضا؟ فقام و عاد إلى الدعاء فنزل: "الم أ حسب الناس أن يتركوا"
الآيتان فقال: لا بد من فتنة يبتلى بها الأمة بعد نبيها ليتعين الصادق من
الكاذب لأن الوحي انقطع و بقي السيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة.
و في نهج البلاغة،: و قام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة و هل سألت رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) عنها؟ فقال (عليه السلام): لما أنزل الله سبحانه
قوله: "الم أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون" علمت أن
الفتنة لا تنزل بنا و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أظهرنا فقلت: يا
رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها؟ فقال: يا علي إن أمتي سيفتنون من
بعدي.
و في التوحيد، عن علي (عليه السلام) في حديث طويل: و قد سأله رجل عن آيات من
القرآن و قوله: "من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت" يعني بقوله: من كان
يؤمن بأنه مبعوث فإن وعد الله لآت من الثواب و العقاب فاللقاء هاهنا ليس
بالرؤية و اللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فإنه يعني بذلك
البعث.
أقول: مراده (عليه السلام) نفي الرؤية الحسية و التفسير بلازم المعنى.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "من كان يرجوا لقاء الله" الآية قال: من أحب
لقاء الله جاءه الأجل "و من جاهد" نفسه عن اللذات و الشهوات و المعاصي "فإنما
يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين". "و وصينا الإنسان بوالديه حسنا" قال:
هما اللذان ولداه.
و فيه،: في قوله تعالى: "و قال الذين كفروا للذين آمنوا - اتبعوا سبيلنا و
لنحمل خطاياكم" قال: كان الكفار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا فإن الذي تخافون
أنتم ليس بشيء فإن كان حقا نتحمل عنكم ذنوبكم، فيعذبهم الله عز و جل مرتين: مرة
بذنوبهم و مرة بذنوب غيرهم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و ابن المنذر عن ابن الحنفية
قال: كان أبو جهل و صناديد قريش يتلقون الناس إذا جاءوا إلى النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) يسلمون يقولون: إنه يحرم الخمر و يحرم الزنا و يحرم ما كانت
تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية: "و ليحملن أثقالهم و
أثقالا مع أثقالهم" و فيه، أخرج أحمد عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) فأمسك القوم ثم إن رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من سن خيرا فاستن به كان له أجره و من أجور
من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، و من سن شرا فاستن به كان عليه وزره و من
أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر و في بعضها تفسير قوله: "و ليحملن أثقالهم و
أثقالا مع أثقالهم" بذلك.
29 سورة العنكبوت - 14 - 40
وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِث فِيهِمْ أَلْف سنَةٍ إِلا
خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطوفَانُ وَ هُمْ ظلِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَهُ
وَ أَصحَب السفِينَةِ وَ جَعَلْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَلَمِينَ (15) وَ
إِبْرَهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتّقُوهُ ذَلِكمْ خَيرٌ
لّكُمْ إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ
أَوْثَناً وَ تخْلُقُونَ إِفْكاً إِنّ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ
لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللّهِ الرِّزْقَ وَ
اعْبُدُوهُ وَ اشكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَ إِن تُكَذِّبُوا
فَقَدْ كذّب أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَ مَا عَلى الرّسولِ إِلا الْبَلَغُ
الْمُبِينُ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كيْف يُبْدِئُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمّ
يُعِيدُهُ إِنّ ذَلِك عَلى اللّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فى الأَرْضِ
فَانظرُوا كيْف بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِئُ النّشأَةَ الاَخِرَةَ
إِنّ اللّهَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّب مَن يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَن
يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَ مَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فى الأَرْضِ
وَ لا فى السمَاءِ وَ مَا لَكم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلىٍّ وَ لا نَصِيرٍ
(22) وَ الّذِينَ كَفَرُوا بِئَايَتِ اللّهِ وَ لِقَائهِ أُولَئك يَئسوا مِن
رّحْمَتى وَ أُولَئك لهَُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كانَ جَوَاب قَوْمِهِ
إِلا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ
إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَ قَالَ إِنّمَا اتخَذْتُم
مِّن دُونِ اللّهِ أَوْثَناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فى الْحَيَوةِ الدّنْيَا ثُمّ
يَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكْفُرُ بَعْضكم بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضكم بَعْضاً وَ
مَأْوَاكُمُ النّارُ وَ مَا لَكم مِّن نّصِرِينَ (25) فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَ
قَالَ إِنى مُهَاجِرٌ إِلى رَبى إِنّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (26) وَ
وَهَبْنَا لَهُ إِسحَقَ وَ يَعْقُوب وَ جَعَلْنَا فى ذُرِّيّتِهِ النّبُوّةَ وَ
الْكِتَب وَ ءَاتَيْنَهُ أَجْرَهُ فى الدّنْيَا وَ إِنّهُ فى الاَخِرَةِ لَمِنَ
الصلِحِينَ (27) وَ لُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنّكمْ لَتَأْتُونَ
الْفَحِشةَ مَا سبَقَكم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَلَمِينَ (28) أَ ئنّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَ تَقْطعُونَ السبِيلَ وَ تَأْتُونَ فى نَادِيكُمُ
الْمُنكرَ فَمَا كانَ جَوَاب قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ
اللّهِ إِن كنت مِنَ الصدِقِينَ (29) قَالَ رَب انصرْنى عَلى الْقَوْمِ
الْمُفْسِدِينَ (30) وَ لَمّا جَاءَت رُسلُنَا إِبْرَهِيمَ بِالْبُشرَى قَالُوا
إِنّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنّ أَهْلَهَا كانُوا ظلِمِينَ
(31) قَالَ إِنّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا
لَنُنَجِّيَنّهُ وَ أَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كانَت مِنَ الْغَبرِينَ (32) وَ
لَمّا أَن جَاءَت رُسلُنَا لُوطاً سىءَ بهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ
قَالُوا لا تخَف وَ لا تحْزَنْ إِنّا مُنَجّوك وَ أَهْلَك إِلا امْرَأَتَك
كانَت مِنَ الْغَبرِينَ (33) إِنّا مُنزِلُونَ عَلى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ
رِجْزاً مِّنَ السمَاءِ بِمَا كانُوا يَفْسقُونَ (34) وَ لَقَد تّرَكنَا
مِنْهَا ءَايَةَ بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَ إِلى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شعَيْباً فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ
الاَخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكذّبُوهُ
فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصبَحُوا فى دَارِهِمْ جَثِمِينَ (37) وَ عَاداً
وَ ثَمُودَا وَ قَد تّبَينَ لَكم مِّن مّسكنِهِمْ وَ زَيّنَ لَهُمُ الشيْطنُ
أَعْمَلَهُمْ فَصدّهُمْ عَنِ السبِيلِ وَ كانُوا مُستَبْصِرِينَ (38) وَ
قَرُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هَمَنَ وَ لَقَدْ جَاءَهُم مّوسى بِالْبَيِّنَتِ
فَاستَكبرُوا فى الأَرْضِ وَ مَا كانُوا سبِقِينَ (39) فَكُلاّ أَخَذْنَا
بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مّنْ أَرْسلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَ مِنْهُم مّنْ
أَخَذَتْهُ الصيْحَةُ وَ مِنْهُم مّنْ خَسفْنَا بِهِ الأَرْض وَ مِنْهُم مّنْ
أَغْرَقْنَا وَ مَا كانَ اللّهُ لِيَظلِمَهُمْ وَ لَكِن كانُوا أَنفُسهُمْ
يَظلِمُونَ (40)
بيان
لما ذكر سبحانه في صدر السورة أن الفتنة سنة إلهية لا معدل عنها و قد جرت في
الأمم السابقة عقب ذلك بالإشارة إلى قصص سبعة من الأنبياء الماضين و أممهم و
هم: نوح و إبراهيم و لوط و شعيب و هود و صالح و موسى (عليه السلام) فتنهم الله
و امتحنهم فنجا منهم من نجا و هلك، منهم من هلك و قد ذكر سبحانه في الثلاثة
الأول النجاة و الهلاك معا و في الأربعة الأخيرة الهلاك فحسب.
قوله تعالى: "و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما
فأخذهم الطوفان و هم ظالمون"، في المجمع:، الطوفان الماء الكثير الغامر لأنه
يطوف بكثرته في نواحي الأرض، انتهى.
و قيل: هو كل ما يطوف بالشيء على كثرة و شدة من السيل و الريح و الظلام و
الغالب استعماله في طوفان الماء.
و التعبير بألف سنة إلا خمسين عاما دون أن يقال: تسعمائة و خمسين سنة للتكثير و
الآية ظاهرة في أن الألف إلا خمسين مدة دعوة نوح (عليه السلام) ما بين بعثته
إلى أخذ الطوفان فيغاير ما في التوراة الحاضرة أنها مدة عمره (عليه السلام) و
قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في قصصه (عليه السلام) في تفسير سورة هود، و الباقي
ظاهر.
قوله تعالى: "فأنجيناه و أصحاب السفينة و جعلناها آية للعالمين" أي فأنجينا
نوحا و أصحاب السفينة الراكبين معه فيها و هم أهله و عدة قليلة من المؤمنين به
و لم يكونوا ظالمين.
و قوله: "و جعلناها آية للعالمين" الظاهر أن الضمير للواقعة أو للنجاة و أما
رجوعه إلى السفينة فلا يخلو من بعد، و العالمين الجماعات الكثيرة المختلفة من
الأجيال اللاحقة بهم.
قوله تعالى: "و إبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله و اتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم
تعلمون" معطوف على قوله: "نوحا" أي و أرسلنا إبراهيم إلى قومه.
و قوله لقومه: "اعبدوا الله و اتقوه" دعوة إلى التوحيد و إنذار بقرينة الآيات
التالية فتفيد الجملة فائدة الحصر.
على أن الوثنية لا يعبدون الله سبحانه و إنما يعبدون غيره زعما منهم أنه تعالى
لا يمكن أن يعبد إلا من طريق الأسباب الفعالة في العالم المقربة عنده كالملائكة
و الجن و لو عبد لكان معبودا وحده من غير شريك فدعوتهم إلى عبادة الله بقوله:
"اعبدوا الله" تفيد الدعوة إليه وحده و إن لم تقيد بأداة الحصر.
قوله تعالى: "إنما تعبدون من دون الله أوثانا و تخلقون إفكا" إلى آخر الآية،
الأوثان جمع وثن بفتحتين و هو الصنم، و الإفك الأمر المصروف عن وجهه قولا أو
فعلا.
و قوله: "إنما تعبدون من دون الله أوثانا" بيان لبطلان عبادة الأوثان و يظهر به
كون عبادة الله هي العبادة الحقة و بالجملة انحصار العبادة الحقة فيه تعالى
"أوثانا" منكر للدلالة على وهن أمرها و كون ألوهيتها دعوى مجردة لا حقيقة
وراءها، أي لا تعبدون من دون الله إلا أوثانا من أمرها كذا و كذا.
و لذا عقب الجملة بقوله: "و تخلقون إفكا" أي و تفتعلون كذبا بتسميتها آلهة و
عبادتها بعد ذلك فهناك إله تجب عبادته لكنه هو الله الواحد دون الأوثان.
و قوله: "إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا" تعليل لما ذكر من
افتعالهم الكذب بتسمية الأوثان آلهة و عبادتها و محصله أن هؤلاء الذين تعبدون
من دون الله و هم الأوثان بما هم تماثيل المقربين من الملائكة و الجن إنما
تعبدونهم لجلب النفع و هو أن يرضوا عنكم فيرزقوكم و يدروا عليكم الرزق لكنهم
ليسوا يملكون لكم رزقا فإن الله هو الذي يملك رزقكم الذي هو السبب الممد
لبقائكم لأنه الذي خلقكم و خلق رزقكم فجعله ممدا لبقائكم و الملك تابع للخلق و
الإيجاد.
و لذلك عقبه بقوله: "فابتغوا عند الله الرزق و اعبدوه و اشكروا له" أي فاطلبوا
الرزق من عند الله لأنه هو الذي يملكه فلا تعبدوهم بل اعبدوا الله و اشكروا له
على ما رزقكم و أنعم عليكم بألوان النعم فمن الواجب شكر المنعم على ما أنعم.
و قوله: "إليه ترجعون" في مقام التعليل لقوله: "و اعبدوه و اشكروا له" و لذا
جيء بالفصل من غير عطف، و في هذا التعليل صرفهم عن عبادة الإله ابتغاء للرزق
إلى عبادته للرجوع و الحساب إذ لو لا المعاد لم يكن لعبادة الإله سبب محصل لأن
الرزق و ما يجري مجراه له أسباب خاصة كونية غير العبادات و القربات و لا يزيد و
لا ينقص بإيمان أو كفر لكن سعادة يوم الحساب تختلف بالإيمان و الكفر و العبادة
و الشكر و خلافهما فليكن الرجوع إلى الله هو الباعث إلى العبادة و الشكر دون
ابتغاء الرزق.
قوله تعالى: "و إن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم و ما على الرسول إلا البلاغ
المبين" الظاهر أنه من تمام كلام إبراهيم (عليه السلام)، و ذكر بعضهم أنه خطاب
منه تعالى لمشركي قريش و لا يخلو من بعد.
و معنى الشرط و الجزاء في صدر الآية أن التكذيب هو المتوقع منكم لأنه كالسنة
الجارية في الأمم المشركة و قد كذب من قبلكم و أنتم منهم و في آخرهم و ليس علي
بما أنا رسول إلا البلاغ المبين.
و يمكن أن يكون المراد أن حالكم في تكذيبكم كحال الأمم من قبلكم لم ينفعهم
تكذيبهم شيئا حل بهم عذاب الله و لم يكونوا بمعجزين في الأرض و لا في السماء و
لم يكن لهم من دون الله من ولي و لا نصير، فكذلكم أنتم، و قوله: "و ما على
الرسول" يناسب الوجهين جميعا.
قوله تعالى: "أ و لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير"
هذه الآية إلى تمام خمس آيات من كلامه تعالى واقعة في خلال القصة تقيم الحجة
على المعاد و ترفع استبعادهم له متعلقه بما تقدم من حيث إن العمدة في تكذيبهم
الرسل إنكارهم للمعاد كما يشير إليه قول إبراهيم: "إليه ترجعون و إن تكذبوا فقد
كذب أمم من قبلكم".
فقوله: "أ و لم يروا" إلخ الضمير فيه للمكذبين من جميع الأمم من سابق و لاحق و
المراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصرية، و قوله: "كيف يبدىء الله
الخلق ثم يعيده" في موضع المفعول لقوله: "يروا" بعطف "يعيده" على موضع "يبدىء"
خلافا لمن يرى عطفه على "أ و لم يروا" و الاستفهام للتوبيخ.
و المعنى: أ و لم يعلموا كيفية الإبداء ثم الإعادة أي إنهما من سنخ واحد هو
إنشاء ما لم يكن، و قوله: "إن ذلك على الله يسير" الإشارة فيه إلى الإعادة بعد
الإبداء و فيه رفع الاستبعاد لأنه إنشاء بعد إنشاء و إذ كانت القدرة المطلقة
تتعلق بالإيجاد فهي جائزة التعلق بالإنشاء بعد الإنشاء و هي في الحقيقة نقل
للخلق من دار إلى دار و إنزال للسائرين إليه في دار القرار.
و قول بعضهم: إن المراد بالإبداء ثم الإعادة إنشاء الخلق ثم إعادة أمثالهم بعد
إفنائهم غير سديد لعدم ملائمة الاحتجاج على المعاد الذي هو إعادة عين ما فنى
دون مثله.
قوله تعالى: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة
الآخرة إن الله على كل شيء قدير" الآية إلى تمام ثلاث آيات أمر للنبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) أن يخاطبهم بما يتم به الحجة عليهم فيرشدهم إلى السير في الأرض
لينظروا إلى كيفية بدء الخلق و إنشائهم على اختلاف طبائعهم و تفاوت ألوانهم و
أشكالهم من غير مثال سابق و حصر أو تحديد في عدتهم و عدتهم ففيه دلالة على عدم
التحديد في القدرة الإلهية فهو ينشىء النشأة الآخرة كما أنشأ النشأة الأولى
فالآية في معنى قوله: "و لقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون": الواقعة: 62.
قوله تعالى: "يعذب من يشاء و يرحم من يشاء و إليه تقلبون" من مقول القول، و
الظاهر أنه بيان لقوله: "ينشىء النشأة الآخرة" و قلب الشيء تحويله عن وجهه أو
حاله كجعل أسفله أعلاه و جعل باطنه ظاهره و هذا المعنى الأخير يناسب قوله
تعالى: "يوم تبلى السرائر": الطارق: 9.
و فسروا القلب بالرد قال في المجمع:، و القلب هو الرجوع و الرد فمعناه أنكم
تردون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع و الضر إلا الله.
انتهى و هذا معنى لطيف يفسر به معنى الرجوع إلى الله و الرد إليه و هو وقوفهم
موقفا تنقطع فيه عنهم الأسباب و لا يحكم فيه إلا الله سبحانه فالآية في معنى
قوله: "و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون": يونس: 30.
و محصل المعنى: أن النشأة الآخرة هي نشأة يعذب الله فيها من يشاء و هم المجرمون
و يرحم من يشاء و هم غيرهم و إليه تردون فلا يحكم فيكم غيره.
قوله تعالى: "و ما أنتم بمعجزين في الأرض و لا في السماء و ما لكم من دون الله
من ولي و لا نصير" من مقول القول و توصيف لشأنهم يوم القيامة كما أن الآية
السابقة توصيف لشأنه تعالى يومئذ.
فقوله: "و ما أنتم بمعجزين في الأرض و لا في السماء أي أنكم لا تقدرون أن
تعجزوه تعالى يومئذ بالفوت منه و الخروج من حكمه و سلطانه بالفرار و الخروج من
ملكه و النفوذ من أقطار الأرض و السماء، فالآية تجري مجرى قوله: "يا معشر الجن
و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات و الأرض فانفذوا": الرحمن: 33.
و قيل: الكلام في معنى "من في السماء" فحذف من لدلالة الكلام عليه و التقدير و
ما أنتم بمعجزين في الأرض و لا من في السماء بمعجزين في السماء.
و هو بعيد و دلالة الكلام عليه غير مسلمة و لو بني عليه لكفى فيه أن الخطاب
للأعم من البشر بتغليب جانب البشر المخاطبين على غيرهم من الجن و الملك و
المعنى: و ما أنتم معاشر الخلق بمعجزين في الأرض و لا في السماء.
و قوله: "و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير" أي ليس لكم اليوم ولي من دون
الله يتولى أمركم فيغنيكم من الله و لا نصير ينصركم فيقوي جانبكم و يتمم ناقص
قوتكم فيظهركم عليه سبحانه.
فالآية - كما ترى - تنفي ظهورهم على الله و تعجيزهم له بالخروج و الامتناع عن
حكمه بأقسامه فلا هم يستقلون بذلك و هو قوله: "و ما أنتم بمعجزين" إلخ و لا
غيرهم يستقل بذلك و هو قوله: "و ما لكم من دون الله من ولي" و لا المجموع منهم
و من غيرهم يعجزه تعالى و هو قوله: "و لا نصير".
قوله تعالى: "و الذين كفروا بآيات الله و لقائه أولئك يئسوا من رحمتي و أولئك
لهم عذاب أليم" خطاب مصروف إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خارج من مقول
القول السابق "قل سيروا في الأرض" إلخ و المطلوب فيه أن ينبئه (صلى الله عليه
وآله وسلم) صريح الحق فيمن يشقى و يهلك يوم القيامة فإنه أبهم ذلك في قوله
أولا: "يعذب من يشاء و يرحم من يشاء".
و من الدليل عليه الخطاب في "أولئك" مرتين و لو كان من كلام النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لقيل: أولئكم".
و يؤيد ذلك أيضا قوله: "من رحمتي" فإن الانتقال من مثل قولنا: أولئك يئسوا من
رحمة الله أو من رحمته بسياق الغيبة على ما يقتضيه المقام إلى قوله: "أولئك
يئسوا من رحمتي" يفيد التصديق و الاعتراف مضافا إلى أصل الإخبار فيفيد صريح
التعيين لأهل العذاب، و يؤيد ذلك أيضا تكرار الإشارة و ما في السياق من
التأكيد.
و كان في تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الإخبار تقوية لنفسه
الشريفة و عزلا لهم عن صلاحية السمع لمثله و هم لا يؤمنون.
و المراد بآيات الله - على ما يفيده إطلاق اللفظ - جميع الأدلة الدالة على
الوحدانية و النبوة و المعاد من الآيات الكونية و المعجزات النبوية و منها
القرآن فالكفر بآيات الله يشمل بعمومه الكفر بالمعاد فذكر الكفر باللقاء و هو
المعاد بعد الكفر بالآيات من ذكر الخاص بعد العام و الوجه فيه الإشارة إلى
أهمية الإيمان بالمعاد إذ مع إنكار المعاد يلغو أمر الدين الحق من أصله و هو
ظاهر.
و المراد بالرحمة ما يقابل العذاب و يلازم الجنة و قد تكرر في كلامه تعالى
إطلاق الرحمة عليها بالملازمة كقوله: "فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات
فيدخلهم ربهم في رحمته": الجاثية: 30، و قوله: "يدخل من يشاء في رحمته و
الظالمين أعد لهم عذابا أليما": الإنسان: 31.
و المراد بإسناد اليأس إليهم إما تلبسهم به حقيقة فإنهم لجحدهم الحياة الآخرة
آيسون من السعادة المؤبدة و الجنة الخالدة و إما أنه كناية عن قضائه تعالى
المحتوم أن الجنة لا يدخلها كافر.
و المعنى: و الذين جحدوا آيات الله الدالة على الدين الحق و خاصة المعاد أولئك
يئسوا من الرحمة و الجنة و أولئك لهم عذاب أليم.
قوله تعالى: "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من
النار" إلخ، تفريع على قوله في صدر القصة: "و إبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله
و اتقوه.
و ظاهر قوله: "قالوا اقتلوه أو حرقوه" أن كلا من طرفي الترديد قول طائفة منهم و
المراد بالقتل القتل بالسيف و نحوه فهو قولهم أول ما ائتمروا ليجازوه و إن
اتفقوا بعد ذلك على إحراقه كما قال "قالوا حرقوه و انصروا آلهتكم": الأنبياء:
68، و يمكن أن يكون الترديد من الجميع لترددهم في أمره أولا ثم اتفاقهم على
إحراقه.
و قوله: "فأنجاه الله من النار" فيه حذف و إيجاز و تقديره ثم اتفقوا على إحراقه
فأضرموا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها، و قد فصلت القصة في مواضع من كلامه
تعالى.
قوله تعالى: "و قال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة
الدنيا" إلى آخر الآية إذ كان لا حجة عقلية لهم على اتخاذ الأوثان لم يبق لهم
مما يستنون به إلا الاستنان بسنة من يعظمونه و يحترمون جانبه كالآباء للأبناء و
الرؤساء المعظمين لأتباعهم و الأصدقاء لأصدقائهم و بالأخرة الأمة لأفرادها فهذا
السبب الرابط هو عمدة ما يحفظ السنن القومية معمولا بها قائمة على ساقها.
فالاستنان بسنة الوثنية بالحقيقة من آثار الموت الاجتماعية يرى العامة ذلك
بعضهم من بعض فتبعثه المودة القومية على تقليده و الاستنان به مثله ثم هذا
الاستنان نفسه يحفظ المودة القومية و يقيم الاتحاد و الاتفاق على ساقه.
هذه حال العامة منهم و أما الخاصة فربما ركنوا في ذلك إلى ما يحسبونه حجة و ما
هو بحجة كقولهم إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو وهم أو عقل فلا يتعلق
به توجهنا العبادي فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض من له به عناية كالملائكة و
الجن ليقربونا إليه زلفى و يشفعوا لنا عنده.
فقوله: "إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا" خطاب منه
(عليه السلام) لعامة قومه في أمر اتخاذهم الأوثان للمودة القومية ليصلحوا به
شأن حياتهم الدنيا الاجتماعية، و قد أجابوه بذلك حيث سألهم عن شأنهم "إذ قال
لأبيه و قومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها
عابدين": الأنبياء: 53، "قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا
بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون": الشعراء: 74.
و من هنا يظهر أن قوله: "مودة بينكم" صالح لأن يكون منصوبا بنزع الخافض بتقدير
لام التعليل و المودة على هذا سبب مؤد إلى اتخاذ الأوثان، و أن يكون مفعولا له،
و المودة غاية مقصودة من اتخاذ الأوثان، لكن ذيل الآية إنما تلائم الوجه الثاني
على ما سيظهر.
ثم عقب (عليه السلام) بقوله: "إنما اتخذتم" إلخ، بقوله: "ثم يوم القيامة يكفر
بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا" يبين لهم عاقبة اتخاذهم الأوثان للمودة و هو
باطن هذه المودة المقصودة الذي سيظهر يوم تبلى السرائر فإنهم توسلوا إلى هذا
المتاع القليل بالشرك الذي هو أعظم الظلم و أكبر الكبائر الموبقة و اجتمعوا
عليه و توافقوا لكنهم سيبدو لهم حقيقة عملهم و يلحق بهم وباله فيتبرأ بعضهم من
بعض و ينكره بعضهم على بعض.
و المراد بكفر بعضهم ببعض كفر آلهتهم بهم و تبريهم منهم، كما قال تعالى:
"سيكفرون بعبادتهم و يكونون عليهم ضدا": مريم: 82، و قال: "و يوم القيامة
يكفرون بشرككم": فاطر: 14، و في معناه: تبري المتبوعين من تابعيهم، كما قال
تعالى: "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا و رأوا العذاب و تقطعت بهم
الأسباب": البقرة: 166، و المراد بلعن بعضهم بعضا لعن كل بعض صاحبه، قال تعالى:
"كلما دخلت أمة لعنت أختها": الأعراف: 38.
ثم عقب ذلك بقوله: "و مأواكم النار و ما لكم من ناصرين" إشارة إلى لحوق الوبال
و وقوع الجزاء و هو النار التي فيها الهلاك المؤبد و لا ناصر ينصرهم و يدفع
عنهم العذاب فهم إنما توسلوا إلى المودة ليتناصروا و يتعاونوا و يتعاضدوا في
الحياة لكنها عادت يوم القيامة معاداة و مضادة و أورثت تبريا و خذلانا.
قوله تعالى: "فآمن له لوط و قال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم" أي
آمن به لوط و الإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء و المعنى واحد.
و قوله: "و قال إني مهاجر إلى ربي" قيل الضمير راجع إلى لوط، و قيل: راجع إلى
إبراهيم و يؤيده قوله تعالى حكاية عن إبراهيم "و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين":
الصافات: 99.
و كأن المراد بالمهاجرة إلى الله هجره وطنه و خروجه من بين قومه المشركين إلى
أرض لا يعترضه فيها المشركون و لا يمنعونه من عبادة ربه فعد المهاجرة مهاجرة
إلى الله من المجاز العقلي.
و قوله: "إنه هو العزيز الحكيم" أي عزيز لا يذل من نصره حكيم لا يضيع من حفظه.
قوله تعالى: "و وهبنا له إسحاق و يعقوب و جعلنا في ذريته النبوة و الكتاب"
معناه ظاهر.
قوله تعالى: "و آتيناه أجره في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين" الأجر هو
الجزاء الذي يقابل العمل و يعود إلى عامله و الفرق بينه و بين الأجرة أن الأجرة
تختص بالجزاء الدنيوي و الأجر يعم الدنيا و الآخرة، و الفرق بينه و بين الجزاء
أن الأجر لا يقال إلا في الخير و النافع، و الجزاء يعم الخير و الشر و النافع و
الضار.
و الغالب في كلامه تعالى استعمال لفظ الأجر في جزاء العمل العبودي الذي أعده
الله سبحانه لعباده المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب و درجات الولاية و منها
الجنة، نعم وقع في قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): "أنه من يتق و يصبر
فإن الله لا يضيع أجر المحسنين": يوسف: 90، و قوله: "و كذلك مكنا ليوسف في
الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء و لا نضيع أجر المحسنين":
يوسف: 56 إطلاق الأجر على الجزاء الدنيوي الحسن.
فقوله: "و آتيناه أجره في الدنيا" يمكن أن يكون المراد به إيتاء الأجر الدنيوي
الحسن و الأنسب على هذا أن يكون "في الدنيا" متعلقا بالأجر لا بالإيتاء و ربما
تأيد هذا المعنى بقوله تعالى فيه (عليه السلام) في موضع آخر: "و آتيناه في
الدنيا حسنة و إنه في الآخرة لمن الصالحين": النحل: 122، فإن الظاهر أن المراد
بالحسنة الحياة الحسنة أو العيشة الحسنة و إيتاؤها فعلية إعطائها دون تقديرها و
كتابتها.
و يمكن أن يكون المراد به تقديم ما أعد لعامة المؤمنين في الآخرة من مقامات
القرب في حقه (عليه السلام) و إيتاؤه ذلك في الدنيا و قد تقدم إحصاء ما يذكره
القرآن الكريم من مقاماته (عليه السلام) في قصصه من تفسير سورة الأنعام.
و قوله: "و إنه في الآخرة لمن الصالحين" تقدم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى:
"و لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين": البقرة: 130 في
الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: "و لوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من
العالمين" أي و أرسلنا لوطا أو و اذكر لوطا إذ قال لقومه، و قوله: "إنكم لتأتون
الفاحشة" إخبار بداعي الاستعجاب و الإنكار، و المراد بالفاحشة إتيان الذكران.
و قوله: "ما سبقكم بها من أحد من العالمين" استئناف يوضح معنى الفاحشة و يؤكده،
و كأن المراد أن هذا العمل لم يشع في قوم قبلهم هذا الشيوع أو الجملة حال من
فاعل "لتأتون".
قوله تعالى: "أ إنكم لتأتون الرجال و تقطعون السبيل و تأتون في ناديكم المنكر"
إلى آخر الآية، استفهام من أمر من الحري أن لا يصدقه سامع و لا يقبله ذو لب و
لذا أكد بالنون و اللام، و هذا السياق يشهد أن المراد بإتيان الرجل اللواط و
بقطع السبيل إهمال طريق التناسل و إلغاؤها و هي إتيان النساء، فقطع السبيل
كناية عن الإعراض عن النساء و ترك نكاحهن، و بإتيانهم المنكر في ناديهم - و
النادي هو المجلس الذي يجتمعون فيه و لا يسمى نادية إلا إذا كان فيه أهله -
الإتيان بالفحشاء أو بمقدماتها الشنيعة بمرأى من الجماعة.
و قيل: المراد بقطع السبيل قطع سبيل المارة بديارهم فإنهم كانوا يفعلون هذا
الفعل بالمجتازين من ديارهم و كانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف فأيهم
أصابه كان أولى به فيأخذون ماله و ينكحونه و يغرمونه ثلاثة دراهم و كان لهم قاض
يقضي بذلك و قيل: بل كانوا يقطعون الطرق، و قد عرفت أن السياق يقضي بخلاف ذلك.
و قيل: المراد بإتيان المنكر في النادي أن مجالسهم كانت تشتمل على أنواع
المنكرات و القبائح مثل الشتم و السخف و القمار و خذف الأحجار على من مر بهم و
ضرب المعازف و المزامير و كشف العورات و اللواط و نحو ذلك و قد عرفت ما يقتضيه
السياق.
و قوله: "فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين"
استهزاء و سخرية منهم، و يظهر من جوابهم أنه كان ينذرهم بعذاب الله و قد قال
الله في قصته في موضع آخر: "و لقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر": القمر: 36.
قوله تعالى: "قال رب انصرني على القوم المفسدين" سؤال للفتح و دعاء منه عليهم،
و قد عدهم مفسدين لعملهم الذي يفسد الأرض و يقطع النسل و يهدد الإنسانية
بالفناء.
قوله تعالى: "و لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه
القرية إن أهلها كانوا ظالمين" إجمال قصة هلاك قوم لوط، و قد كان ذلك برسل من
الملائكة أرسلهم الله أولا إلى إبراهيم (عليه السلام) فبشروه و بشروا امرأته
بإسحاق و يعقوب ثم أخبروه بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط، و القصة مفصلة في سورة
هود و غيرها.
و قوله: "قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية" أي قالوا لإبراهيم، و في الإتيان
بلفظ الإشارة القريبة - هذه القرية - دلالة على قربها من الأرض التي كان
إبراهيم (عليه السلام) نازلا بها، و هي الأرض المقدسة.
و قوله: "إن أهلها كانوا ظالمين" تعليل لإهلاكهم بأنهم ظالمون قد استقرت فيهم
رذيلة الظلم، و قد كان مقتضى الظاهر أن يقال: إنهم كانوا ظالمين فوضع المظهر
موضع المضمر للإشارة إلى أن ظلمهم ظلم خاص بهم يستوجب الهلاك و ليس من مطلق
الظلم الذي كان الناس مبتلين به يومئذ كأنه قيل: إن أهلها بما أنهم أهلها
ظالمون.
قوله تعالى: "قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا
امرأته كانت من الغابرين" ظاهر السياق أنه (عليه السلام) كان يريد بقوله: "إن
فيها لوطا" أن يصرف العذاب بأن فيها لوطا و إهلاك أهلها يشمله فأجابوه بأنهم لا
يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشمله العذاب و هم أهله إلا امرأته.
لكنه (عليه السلام) لم يكن ليجهل أن الله سبحانه لا يعذب لوطا و هو نبي مرسل، و
إن شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته و لا أنه يخوفه و يزعره و يفزعه بقهره
عليهم بل كان (عليه السلام) يريد بقوله: "إن فيها لوطا" أن يصرف العذاب عن أهل
القرية كرامة للوط لا أن يدفعه عن لوط، فأجيب بأنهم مأمورون بإنجائه و إخراجه
من بين أهل القرية و معه أهله إلا امرأته كانت من الغابرين.
و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصة:
"فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم
لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب
غير مردود": هود: 76، فالآيات أظهر ما يكون في أن إبراهيم (عليه السلام) كان
يدافع عن قوم لوط لا عن لوط نفسه.
فظاهر كلامه (عليه السلام) في الآية التي نحن فيها الدفاع عن لوط و على ذلك
جاراه الرسل فأبقوا كلامه على ظاهره و أجابوا بأنهم ما كانوا ليجهلوا ذلك فهم
أعلم بمن فيها و عالمون بأن فيها لوطا و معه أهله ممن لا ينبغي أن يعذب لكنهم
سينجونه و أهله إلا امرأته، لكن الذي أراده إبراهيم (عليه السلام) بكلامه دفع
العذاب عن أهل القرية فأجيب بأنه من الأمر المحتوم على ما تشير إليه آيات سورة
هود.
و للقوم في قوله: "إن أهلها كانوا ظالمين"، و قوله: "قال إن فيها لوطا" مشاجرات
طويلة أعرضنا عن التعرض لها لعدم الجدوى، من أراد الوقوف عليها فليراجع
المطولات.
قوله تعالى: "و لما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم و ضاق بهم ذرعا و قالوا لا تخف
و لا تحزن" إلى آخر الآية، ضميرا الجمع في "سيء بهم و ضاق بهم" للرسل و الباء
للسببية أي أخذته المساءة و هي سوء الحال بسببهم و ضاقت طاقته بسببهم لكونهم في
صور شبان حسان مرد يخاف عليهم من القوم ثم قصد القوم إياهم بالسوء و ضعف لوط من
أن يدفعهم عنهم و هم ضيف له نازلون بداره.
و قوله: "و قالوا لا تخف و لا تحزن" أي لا خطر محتملا يهددك و لا مقطوعا يقع
عليك فإن الخوف إنما هو في المكروه الممكن و الحزن في المكروه الواقع.
و قوله: "إنا منجوك و أهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين" أي الباقين في العذاب
تعليل لنفي الخوف و الحزن.
قوله تعالى: "إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون"
بيان لما يشير إليه قوله: "إنا منجوك و أهلك" من العذاب، و الرجز العذاب.
قوله تعالى: "و لقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون" ضمير التأنيث للقرية و
الترك الإبقاء أي أبقينا من القرية علامة واضحة لقوم يعقلون ليعتبروا بها
فيتقوا الله و هي الآثار الباقية منها بعد خرابها بنزول العذاب.
و هي اليوم مجهولة المحل لا أثر منها و ربما يقال: إن الماء غمرها بعد و هي بحر
لوط، لكن الآية ظاهرة - كما ترى - أنها كانت ظاهرة معروفة في زمن نزول القرآن و
أوضح منها قوله تعالى: "و إنها لبسبيل مقيم": الحجر: 76، و قوله: "و إنكم
لتمرون عليهم مصبحين و بالليل أ فلا تعقلون": الصافات: 138.
قوله تعالى: "و إلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله و ارجوا اليوم
الآخر و لا تعثوا في الأرض مفسدين" يدعوهم إلى عبادة الله و هو التوحيد و إلى
رجاء اليوم الآخر و هو الاعتقاد بالمعاد و أن لا يفسدوا في الأرض و كانت عمدة
إفسادهم فيها - على ما ذكر في قصتهم في مواضع أخر - نقص الميزان و المكيال.
قوله تعالى: "فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين" الرجفة الاضطراب
الشديد على ما ذكره الراغب، و الجثم و الجثوم في المكان القعود فيه أو البروك
على الأرض و هو كناية عن الموت و المعنى: فكذبوا شعيبا فأخذهم الاضطراب الشديد
أو الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم ميتين لا حراك بهم.
و قال في قصتهم في موضع آخر: "و أخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم
جاثمين": هود: 94، و يستظهر من ذلك أنهم أهلكوا بالصيحة و الرجفة.
قوله تعالى: "و عادا و ثمود و قد تبين لكم من مساكنهم" إلى آخر الآية غير
السياق تفننا فبدأ بذكر عاد و ثمود و كذا في الآية التالية بدأ بذكر قارون و
فرعون و هامان بخلاف قصص الأمم المذكورين سابقا حيث بدأ بذكر أنبيائهم كنوح و
إبراهيم و لوط و شعيب.
و قوله: "و عادا و ثمود" منصوبان بفعل مقدر تقديره و اذكر عادا و ثمود.
و قوله: "و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل و كانوا مستبصرين" تزيين
الشيطان لهم أعمالهم كناية استعارية عن تحبيب أعمالهم السيئة إليهم و تأكيد
تعلقهم بها و صده إياهم عن السبيل صرفهم عن سبيل الله التي هي سبيل الفطرة، و
لذا قال بعضهم: إن المراد بكونهم مستبصرين أنهم كانوا قبل ذلك على الفطرة
الساذجة.
لكن الظاهر كما تقدم في تفسير قوله: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين":
البقرة: 213 أن عهد الفطرة الساذجة كان قبل بعثة نوح (عليه السلام) و عاد و
ثمود كانوا بعد نوح فكونهم مستبصرين قبل انصدادهم عن السبيل هو كونهم يعيشون
على عبادة الله و دين التوحيد و هو دين الفطرة.
قوله تعالى: "و قارون و فرعون و هامان و لقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في
الأرض و ما كانوا سابقين" السبق استعارة كنائية من الغلبة، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: "فكلا أخذنا بذنبه" إلى آخر الآية أي كل واحدة من الأمم المذكورين
أخذناها بذنبها ثم أخذ في التفصيل فقال: "فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا" و الحاصب
الحجارة و قيل: الريح التي ترمي بالحصى و على الأول فهم قوم لوط، و على الثاني
قوم عاد "و منهم من أخذته الصيحة" و هم قوم ثمود و قوم شعيب "و منهم من خسفنا
به الأرض" و هو قارون "و منهم من أغرقنا" و هم قوم نوح و فرعون و هامان و
قومهما.
ثم عاد سبحانه إلى كافة القصص المذكورة و ما انتهى إليه أمر تلك الأمم من الأخذ
و العذاب فبين ببيان عام أن الذي أوقعهم فيما وقعوا لم يكن بظلم منه سبحانه بل
بظلم منهم لأنفسهم فقال: "و ما كان الله ليظلمهم و لكن كانوا أنفسهم يظلمون" أي
فيجازيهم الله على ظلمهم لأن الدار دار الفتنة و الامتحان و هي السنة الإلهية
التي لا معدل عنها فمن اهتدى فقد اهتدى لنفسه و من ضل فعليها.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في
حديث يذكر فيه معاني الكفر قال: و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة قال
تعالى: "و قال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا - مودة بينكم في الحياة الدنيا
ثم يوم القيامة - يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا" يعني يتبرأ بعضكم من بعض
الحديث.
أقول: و روي هذا المعنى في التوحيد، عن علي (عليه السلام): في حديث طويل يجيب
فيه عما سئل عنه من تهافت الآيات و فيه: و الكفر في هذه الآية البراءة يقول:
يتبرأ بعضهم من بعض، و نظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان: "إني كفرت بما
أشركتمون من قبل" و قول إبراهيم خليل الرحمن: "كفرنا بكم" أي تبرأنا".
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر: أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) نهى عن الخذف و هو قول الله: "و تأتون في ناديكم المنكر".
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن أم هاني بنت أبي طالب
و لفظ الحديث: قالت: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله: "و
تأتون في ناديكم المنكر" قال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون ابن السبيل و
يسخرون منهم.
و في الكافي، بإسناده عن أبي زيد الحماد عن أبي عبد الله (عليه السلام): في
حديث نزول الملائكة على إبراهيم بالبشرى قال: فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟
قالوا: في إهلاك قوم لوط. فقال لهم: إن كان فيها مائة من المؤمنين أ تهلكونهم؟
فقال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيها خمسون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها ثلاثون؟
قال: لا. قال: فإن كان فيها عشرون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها عشرة؟ قال: لا.
قال: فإن كان فيها خمسة؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها واحد؟ قال: لا. قال: فإن
فيها لوطا؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من
الغابرين.
قال الحسن بن علي (عليهما السلام): لا أعلم هذا القول إلا و هو يستبقيهم و هو
قول الله عز و جل: "يجادلنا في قوم لوط".
|