قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
29 سورة العنكبوت - 41 - 55
مَثَلُ الّذِينَ اتخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكبُوتِ
اتخَذَت بَيْتاً وَ إِنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْت الْعَنكبُوتِ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (41) إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شىْءٍ وَ
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكيمُ (42) وَ تِلْك الأَمْثَلُ نَضرِبُهَا لِلنّاسِ وَ
مَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَلِمُونَ (43) خَلَقَ اللّهُ السمَوَتِ وَ الأَرْض
بِالْحَقِّ إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِىَ
إِلَيْك مِنَ الْكِتَبِ وَ أَقِمِ الصلَوةَ إِنّ الصلَوةَ تَنهَى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَ الْمُنكَرِ وَ لَذِكْرُ اللّهِ أَكبرُ وَ اللّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصنَعُونَ (45) وَ لا تجَدِلُوا أَهْلَ الْكتَبِ إِلا بِالّتى هِىَ أَحْسنُ
إِلا الّذِينَ ظلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا ءَامَنّا بِالّذِى أُنزِلَ
إِلَيْنَا وَ أُنزِلَ إِلَيْكمْ وَ إِلَهُنَا وَ إِلَهُكُمْ وَحِدٌ وَ نحْنُ
لَهُ مُسلِمُونَ (46) وَ كَذَلِك أَنزَلْنَا إِلَيْك الْكتَب فَالّذِينَ
ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَب يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ
وَ مَا يجْحَدُ بِئَايَتِنَا إِلا الْكفِرُونَ (47) وَ مَا كُنت تَتْلُوا مِن
قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَ لا تخُطهُ بِيَمِينِك إِذاً لارْتَاب الْمُبْطِلُونَ
(48) بَلْ هُوَ ءَايَت بَيِّنَتٌ فى صدُورِ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ مَا
يجْحَدُ بِئَايَتِنَا إِلا الظلِمُونَ (49) وَ قَالُوا لَوْ لا أُنزِلَ
عَلَيْهِ ءَايَتٌ مِّن رّبِّهِ قُلْ إِنّمَا الاَيَت عِندَ اللّهِ وَ إِنّمَا
أَنَا نَذِيرٌ مّبِينٌ (50) أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنزَلْنَا عَلَيْك
الْكتَب يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنّ فى ذَلِك لَرَحْمَةً وَ ذِكرَى لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللّهِ بَيْنى وَ بَيْنَكمْ شهِيداً يَعْلَمُ
مَا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ الّذِينَ ءَامَنُوا بِالْبَطِلِ وَ كفَرُوا
بِاللّهِ أُولَئك هُمُ الْخَسِرُونَ (52) وَ يَستَعْجِلُونَك بِالْعَذَابِ وَ
لَوْ لا أَجَلٌ مّسمّى لجَّاءَهُمُ الْعَذَاب وَ لَيَأْتِيَنهُم بَغْتَةً وَ
هُمْ لا يَشعُرُونَ (53) يَستَعْجِلُونَك بِالْعَذَابِ وَ إِنّ جَهَنّمَ
لَمُحِيطةُ بِالْكَفِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذَاب مِن فَوْقِهِمْ وَ
مِن تحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
بيان
تتضمن الآيات تذييلا لقصص أولئك الأمم الماضية الهالكة بمثل ضربه الله سبحانه
لاتخاذهم أولياء من دون الله فبين فيه أن بناءهم ذلك أوهن البناء ينادي ببطلانه
و فساده خلق السماوات و الأرض و أنهم ليس لهم من دونه من ولي كما يذكره هذا
الكتاب.
و من هنا ينتقل إلى أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلاوة هذا الكتاب
الذي أوحي إليه و إقامة الصلاة و دعوة أهل الكتاب بقول لين و مجادلة حسناء و
يجيب عن اقتراح المشركين على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم بآيات
غير القرآن و أن يعجلهم بالعذاب الذي ينذرهم به.
قوله تعالى: "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا"
إلى آخر الآية، العنكبوت معروف و يطلق على الواحد و الجمع و يذكر و يؤنث.
العناية في قوله: "مثل الذين اتخذوا" إلخ، باتخاذ الأولياء من دون الله و لذا
جيء بالموصول و الصلة كما أن العناية في قوله: "كمثل العنكبوت اتخذت بيتا" إلى
اتخاذها البيت فيئول المعنى إلى أن صفة المشركين في اتخاذهم من دون الله أولياء
كصفة العنكبوت في اتخاذها بيتا له نبأ، و هو الوصف الذي يدل عليه تنكير "بيتا".
و يكون قوله: "إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت" بيانا لصفة البيت الذي أخذته
العنكبوت و لم يقل: إن أوهن البيوت لبيتها كما هو مقتضى الظاهر أخذا للجملة
بمنزلة المثل السائر الذي لا يتغير.
و المعنى: أن اتخاذهم من دون الله أولياء و هم آلهتهم الذين يتولونهم و يركنون
إليهم كاتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت إذ ليس له من آثار البيت إلا اسمه
لا يدفع حرا و لا بردا و لا يكن شخصا و لا يقي من مكروه كذلك ليس لولاية
أوليائهم إلا الاسم فقط لا ينفعون و لا يضرون و لا يملكون موتا و لا حياة و لا
نشورا.
و مورد المثل هو اتخاذ المشركين آلهة من دون الله، فتبديل الآلهة من الأولياء
لكون السبب الداعي لهم إلى اتخاذ الآلهة زعمهم أن لهم ولاية لأمرهم و تدبيرا
لشأنهم من جلب الخير إليهم و دفع الشر عنهم و الشفاعة في حقهم.
و الآية - مضافا إلى إيفاء هذه النكتة - تشمل بإطلاقها كل من اتخذ في أمر من
الأمور و شأن من الشئون وليا من دون الله يركن إليه و يراه مستقلا في أثره الذي
يرجوه منه و إن لم يعد من الأصنام إلا أن يرجع ولايته إلى ولاية الله كولاية
الرسول و الأئمة و المؤمنين كما قال تعالى: "و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم
مشركون": يوسف: 106.
و قوله: "لو كانوا يعلمون" أي لو كانوا يعلمون أن مثلهم كمثل العنكبوت ما
اتخذوهم أولياء.
كذا قيل.
قوله تعالى: "إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء و هو العزيز الحكيم" يمكن
أن يكون "ما" في "ما يدعون" موصولة أو نافية أو استفهامية أو مصدرية و "من" في
"من شيء" على الاحتمال الثاني زائدة للتأكيد و على الباقي للتبيين و أرجح
الاحتمالات الأولان و أرجحهما أولهما.
و المعنى: على الثاني أن الله يعلم أنهم ليسوا يدعون من دونه شيئا أي إن الذي
يعبدونه من الآلهة لا حقيقة له فيكون كما قال صاحب الكشاف توكيدا للمثل و زيادة
عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا.
و المعنى: على الأول أن الله يعلم الشيء الذي يدعون من دونه و لا يجهل ذلك
فيكون كناية عن أن المثل الذي ضربه في محله، و ليس لأوليائهم من الولاية إلا
اسمها.
و يؤكد هذا المعنى الاسمان الكريمان: العزيز الحكيم في آخر الآية فهو تعالى
العزيز الذي لا يغلبه شيء فلا يشاركه في تدبير ملكه أحد كما لا يشاركه في الخلق
و الإيجاد أحد، الحكيم الذي يأتي بالمتقن من الفعل و التدبير فلا يفوض تدبير
خلقه إلى أحد، و هذا كالتمهيد لما سيبين في قوله: "خلق الله السماوات و الأرض
بالحق".
قوله تعالى: "و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون" يشير إلى
أن الأمثال المضروبة في القرآن على أنها عامة تقرع أسماع عامة الناس، لكن
الإشراف على حقيقة معانيها و لب مقاصدها خاصة لأهل العلم ممن يعقل حقائق الأمور
و لا ينجمد على ظواهرها.
و الدليل على هذا المعنى قوله: "و ما يعقلها" دون أن يقول: و ما يؤمن بها أو ما
في معناه.
فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف الناس في تلقيها باختلاف أفهامهم فمن
سامع لا حظ له منها إلا تلقي ألفاظها و تصور مفاهيمها الساذجة من غير تعمق فيها
و سبر لأغوارها، و من سامع يتلقى بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثم يغور في مقاصدها
العميقة و يعقل حقائقها الأنيقة.
و فيه تنبيه على أن تمثيل اتخاذهم أولياء من دون الله باتخاذ العنكبوت بيتا هو
أوهن البيوت ليس مجرد تمثيل شعري و دعوى خالية من البينة بل متك على حجة
برهانية و حقيقة حقة ثابتة و هي التي تشير إليه الآية التالية.
قوله تعالى: "خلق الله السماوات و الأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين" المراد
بكون خلق السماوات و الأرض بالحق نفي اللعب في خلقها، كما قال تعالى: "و ما
خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم
لا يعلمون": الدخان: 39.
فخلق السماوات و الأرض على نظام ثابت لا يتغير و سنة إلهية جارية لا تختلف و لا
تتخلف، و الخلق و التدبير لا يختلفان حقيقة و لا ينفك أحدهما عن الآخر، و إذ
كان الخلق و الصنع ينتهي إليه تعالى انتهاء ضروريا و لا محيص فالتدبير أيضا له
و لا محيص و ما من شيء غيره تعالى إلا و هو مخلوقة القائم به المملوك له لا
يملك لنفسه نفعا و لا ضرا، و من المحال قيامه بشيء من تدبير أمر نفسه أو غيره
بحيث يستقل به مستغنيا في أمره عنه تعالى هذا هو الحق الذي لا لعب فيه و الجد
الذي لا هزل فيه.
فلما تولى بعض خلقه أمر بعض لم يكن ذلك منه ولاية حق لكونه لا يملك شيئا بحقيقة
معنى الملك بل كان ذلك منه جاريا على اللعب و تفويضه تعالى أمر التدبير إليه
لعبا منه تعالى و تقدس إذ ليس إلا فرضا لا حقيقة له و وهما لا واقع له و هو
معنى اللعب.
و منه يظهر أن ولاية من يدعون ولايته ليس لها إلا اسم الولاية من غير مسمى كما
أن بيت العنكبوت كذلك.
و قوله: "إن في ذلك لآية للمؤمنين" تخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الآية لهم و
لغيرهم لكون المنتفعين بها هم المؤمنون دون غيرهم.
قوله تعالى: "اتل ما أوحي إليك من الكتاب و أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن
الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر" إلخ، لما ذكر إجمال قصص الأمم و ما انتهى
إليه شركهم و ارتكابهم الفحشاء و المنكر من الشقاء اللازم و الخسران الدائم
انتقل من ذلك - مستأنفا للكلام - إلى أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلاوة ما
أوحي إليه من الكتاب لكونه خير رادع عن الشرك و ارتكاب الفحشاء و المنكر بما
فيه من الآيات البينات التي تتضمن حججا نيرة على الحق و تشتمل على القصص و
العبر و المواعظ و التبشير و الإنذار و الوعد و الوعيد يرتدع بتلاوة آياته
تاليه و من سمعه.
و شفعه بالأمر بإقامة الصلاة التي هي خير العمل و علل ذلك بقوله: "إن الصلاة
تنهى عن الفحشاء و المنكر" و السياق يشهد أن المراد بهذا النهي ردع طبيعة العمل
عن الفحشاء و المنكر بنحو الاقتضاء دون العلية التامة.
فلطبيعة هذا التوجه العبادي - إذ أتى به العبد و هو يكرره كل يوم خمس مرات و
يداوم عليه و خاصة إذا زاول عليه في مجتمع صالح يؤتى فيه بمثل ما أتى به و يهتم
فيه بما اهتم - به أن يردعه عن كل معصية كبيرة يستشنعه الذوق الديني كقتل النفس
عدوانا و أكل مال اليتيم ظلما و الزنا و اللواط، و عن كل ما ينكره الطبع السليم
و الفطرة المستقيمة ردعا جامعا بين التلقين و العمل.
و ذلك أنه يلقنه أولا بما فيه من الذكر الإيمان بوحدانيته تعالى و الرسالة و
جزاء يوم الجزاء و أن يخاطب ربه بإخلاص العبادة و الاستعانة به و سؤال الهداية
إلى صراطه المستقيم متعوذا من غضبه و من الضلال، و يحمله ثانيا على أن يتوجه
بروحه و بدنه إلى ساحة العظمة و الكبرياء و يذكر ربه بحمده و الثناء عليه و
تسبيحه و تكبيره ثم السلام على نفسه و أترابه و جميع الصالحين من عباد الله.
مضافا إلى حمله إياه على التطهر من الحدث و الخبث في بدنه و الطهارة في لباسه و
التحرز عن الغصب في لباسه و مكانه و استقبال بيت ربه فالإنسان لو داوم على
صلاته مدة يسيرة و استعمل في إقامتها بعض الصدق أثبت ذلك في نفسه ملكة الارتداع
عن الفحشاء و المنكر البتة، و لو أنك وكلت على نفسك من يربيها تربية صالحة تصلح
بها لهذا الشأن و تتحلى بأدب العبودية لم يأمرك بأزيد مما تأمرك به الصلاة و لا
روضك بأزيد مما تروضك به.
و قد استشكل على الآية بأنا كثيرا ما نجد من المصلين من لا يبالي ارتكاب
الكبائر و لا يرتدع عن المنكرات فلا تنهاه صلاته عن الفحشاء و المنكر.
و لذلك ذكر بعضهم أن الصلاة في الآية بمعنى الدعاء و المراد الدعوة إلى أمر
الله و المعنى: أقم الدعوة إلى أمر الله فإن ذلك يردع الناس عن الفحشاء و
المنكر.
و فيه أنه صرف الكلام عن ظاهره.
و ذكر آخرون أن الصلاة في الآية في معنى النكرة و المعنى أن بعض أنواع الصلاة
أو أفرادها يوجب الانتهاء عن الفحشاء و المنكر و هو كذلك و ليس المراد
الاستغراق حتى يرد الإشكال.
و ذكر قوم أن المراد نهيها عن الفحشاء و المنكر ما دامت قائمة و المصلي في
صلاته كأنه قيل: إن المصلي ما دام مصليا في شغل من معصية الله بإتيان الفحشاء و
المنكر.
و قال بعضهم: إن الآية على ظاهرها و الصلاة بمنزلة من ينهى و يقول: لا تفعل كذا
و لا تقترف كذا لكن النهي لا يستوجب الانتهاء فليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه
تعالى كما في قوله: "إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى
عن الفحشاء و المنكر": النحل: 90، و نهيه تعالى لا يستوجب الانتهاء و ليس
الإشكال إلا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء و هو توهم باطل.
و عن بعضهم في دفع الإشكال أن الصلاة تقام لذكر الله كما قال تعالى: "أقم
الصلاة لذكري" و من كان ذاكرا لله تعالى منعه ذلك عن الإتيان بما يكرهه و كل من
تراه يصلي و يأتي بالفحشاء و المنكر فهو بحيث لو لم يصل لكان أشد إتيانا فقد
أثرت الصلاة في تقليل فحشائه و منكره.
و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأجوبة لا يلائم سياق الحكم و التعليل في الآية
فإن الذي يعطيه السياق أن الأمر بإقامة الصلاة إنما علل بقوله: "إن الصلاة تنهى
عن الفحشاء و المنكر" ليفيد أن الصلاة عمل عبادي يورث إقامته صفة روحية في
الإنسان تكون رادعة له عن الفحشاء و المنكر فتتنزه النفس عن الفحشاء و المنكر و
تتطهر عن قذارة الذنوب و الآثام.
فالمراد به التوسل إلى ملكة الارتداع التي هي من آثار طبيعة الصلاة بنحو
الاقتضاء لا أنها أثر بعض أفراد طبيعة الصلاة كما في الجواب الثاني، و لا أنها
أثر الاشتغال بالصلاة ما دام مشتغلا بها كما في الجواب الثالث، و لا أن المراد
هو التوسل إلى تلقي نهي الصلاة فحسب من غير نظر إلى الانتهاء عن نهيها كأنه قيل
أقم الصلاة لتسمع نهيها كما في الجواب الرابع، و لا أن المراد أقم الصلاة
لينهاك الذكر الذي تشتمل عليه عن الفحشاء و المنكر كما في الجواب الخامس.
فالحق في الجواب أن الردع أثر طبيعة الصلاة التي هي توجه خاص عبادي إلى الله
سبحانه و هو بنحو الاقتضاء دون الاستيجاب و العلية التامة فربما تخلف عن أثرها
لمقارنة بعض الموانع التي تضعف الذكر و تقربه من الغفلة و الانصراف عن حاق
الذكر فكلما قوي الذكر و كمل الحضور و الخشوع و تمحض الإخلاص زاد أثر الردع عن
الفحشاء و المنكر و كلما ضعف ضعف الأثر.
و أنت إذا تأملت حال بعض من تسمى بالإسلام من الناس و هو تارك الصلاة وجدته
يضيع بإضاعة الصلاة فريضة الصوم و الحج و الزكاة و الخمس و عامة الواجبات
الدينية و لا يفرق بين طاهر و نجس و حلال و حرام فيذهب لوجهه لا يلوي على شيء
ثم إذا قست إليه حال من يأتي بأدنى مراتب الصلاة مما يسقط به التكليف، وجدته
مرتدعا عن كثير مما يقترفه تارك الصلاة غير مكترث به ثم إذا قست إليه من هو
فوقه في الاهتمام بأمر الصلاة وجدته أكثر ارتداعا منه و على هذا القياس.
و قوله: "و لذكر الله أكبر" قال الراغب في المفردات:، الذكر تارة يقال و يراد
به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلا
أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره.
و تارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول و لذلك قيل: الذكر ذكران ذكر عن نسيان
و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، و كل قول يقال له ذكر.
انتهي.
و الظاهر أن الأصل في معناه هو المعنى الأول و تسمية اللفظ ذكرا إنما هو
لاشتماله على المعنى القلبي و الذكر القلبي بالنسبة إلى اللفظي كالأثر المترتب
على سببه و الغاية المقصودة من الفعل.
و الصلاة تسمى ذكرا لاشتمالها على الأذكار القولية من تهليل و تحميد و تنزيه و
هي باعتبار آخر مصداق من مصاديق الذكر لأنها بمجموعها ممثل لعبودية العبد لله
سبحانه كما قال: "إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله": الجمعة:
9، و هي باعتبار آخر أمر يترتب عليه الذكر ترتب الغاية على ذي الغاية يشير إليه
قوله تعالى: "و أقم الصلاة لذكري": طه: 14.
و الذكر الذي هو غاية مترتبة على الصلاة أعني الذكر القلبي بمعنى استحضار
المذكور في ظرف الإدراك بعد غيبته نسيانا أو إدامة استحضاره، أفضل عمل يتصور
صدوره عن الإنسان و أعلاه كعبا و أعظمه قدرا و أثرا فإنه السعادة الأخيرة التي
هيئت للإنسان و مفتاح كل خير.
ثم إن الظاهر من سياق قوله: "و أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر"
إن قوله: "و لذكر الله أكبر" متصل به مبين لأثر آخر للصلاة و هو أكبر مما بين
قبله، فيقع قوله: "و لذكر الله أكبر" موقع الإضراب و الترقي و يكون المراد
الذكر القلبي الذي يترتب على الصلاة ترتب الغاية على ذي الغاية فكأنه قيل: أقم
الصلاة لتردعك عن الفحشاء و المنكر بل الذي تفيده من ذكر الله الحاصل بها أكبر
من ذلك أي من النهي عن الفحشاء و المنكر لأنه أعظم ما يناله الإنسان من الخير و
هو مفتاح كل خير و النهي عن الفحشاء و المنكر بعض الخير.
و من المحتمل أن يراد بالذكر ما تشتمل عليه الصلاة من الذكر أو نفس الصلاة.
و الجملة أيضا واقعة موقع الإضراب، و المعنى: بل الذي تشتمل عليه الصلاة من ذكر
الله أو نفس الصلاة التي هي ذكر الله أكبر من هذا الأثر الذي هو النهي عن
الفحشاء و المنكر لأن النهي أثر من آثارها الحسنة و "ذكر الله" على الاحتمالين
جميعا من المصدر المضاف إلى مفعوله و المفضل عليه لقوله: "أكبر" هو النهي عن
الفحشاء و المنكر.
و لهم في معنى الذكر و كون المضاف إليه فاعلا أو مفعولا للمصدر و كون المفضل
عليه خاصا أو عاما أقوال أخر.
فقيل: معنى الآية: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى و ذلك أن الله
تعالى يذكر من ذكره لقوله: "فاذكروني أذكركم": البقرة: 152، و قيل: المعنى: ذكر
الله تعالى العبد أكبر من الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر الله العبد أكبر من كل
شيء.
و قيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، و قيل:
المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من ذكره خارج الصلاة، و قيل: المعنى:
لذكر العبد لله أكبر من سائر أعماله، و قيل: المعنى: للصلاة أكبر من سائر
الطاعات و قيل: المعنى: لذكر العبد لله عند الفحشاء و المنكر و ذكر نهيه عنهما
أكبر من زجر الصلاة و ردعها، و قيل: إن قوله: "أكبر" معرى من معنى التفضيل لا
يحتاج إلى مفضل عليه كقوله: "ما عند الله خير من اللهو".
فهذه أقوال لهم متفرقة أغمضنا عن البحث عما فيها إيثارا للاختصار، و التدبر في
الآية يكفي مئونة البحث على أن التحكم في بعضها ظاهر لا يخفى.
و قوله: "و الله يعلم ما تصنعون" أي ما تفعلونه من خير أو شر فعليكم أن تراقبوه
و لا تغفلوا عنه ففيه حث و تحريض على المراقبة و خاصة على القول الأول.
قوله تعالى: "و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم"
لما أمر في قوله: "اتل ما أوحي إليك" إلخ، بالتبليغ و الدعوة من طريق تلاوة
الكتاب عقبه ببيان كيفية الدعوة فنهى عن مجادلة أهل الكتاب و هم على ما يقتضيه
الإطلاق اليهود و النصارى و يلحق بهم المجوس و الصابئون - إلا بالمجادلة - التي
هي أحسن المجادلة.
و المجادلة إنما تحسن إذا لم تتضمن إغلاظا و طعنا و إهانة، فمن حسنها أن تقارن
رفقا و لينا في القول لا يتأذى به الخصم و أن يقترب المجادل من خصمه و يدنو منه
حتى يتفقا و يتعاضدا لإظهار الحق من غير لجاج و عناد فإذا اجتمع فيها لين
الكلام و الاقتراب بوجه زادت حسنا على حسن فكانت أحسن.
و لهذا لما نهى عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن استثنى منه الذين ظلموا منهم،
فإن المراد بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق و اللين و
الاقتراب في المطلوب بل يتلقى حسن الجدال نوع مذلة و هوان للمجادل و يعتبره
تمويها و احتيالا لصرفه عن معتقده فهؤلاء الظالمون لا ينجح معهم المجادلة
بالأحسن.
و لهذا أيضا عقب الكلام ببيان كيفية الاقتراب معهم و بناء المجادلة على كلمة
يجتمع فيها الخصمان فيتقاربان معه و يتعاضدان على ظهور الحق فقال: "و قولوا
آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد و نحن له مسلمون" و
المعنى ظاهر.
قوله تعالى: "و كذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به و من
هؤلاء من يؤمن به و ما يجحد بآياتنا إلا الكافرون" أي على تلك الصفة و هي
الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله أنزلنا إليك القرآن.
و قيل: المعنى: مثل ما أنزلنا إلى موسى و عيسى الكتاب أنزلنا إليك الكتاب و هو
القرآن.
فقوله: "فالذين آتيناهم الكتاب" إلخ، تفريع على نحو نزول الكتاب أي لما كان
القرآن نازلا في الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله فأهل الكتاب يؤمنون به بحسب
الطبع لما عندهم من الإيمان بالله و تصديق كتبه و رسله، و من هؤلاء و هم
المشركون من عبدة الأوثان من يؤمن به و ما يجحد بآياتنا و لا ينكرها من أهل
الكتاب و هؤلاء المشركين إلا الكافرون و هم الساترون للحق بالباطل.
و قد احتمل أن يكون المراد بالذين آتيناهم الكتاب المسلمين و المشار إليه
بهؤلاء أهل الكتاب و هو بعيد، و مثله في البعد إرجاع الضمير في "يؤمن به" إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في قوله: "و من هؤلاء من يؤمن به" نوع استقلال لمن آمن به من المشركين.
قوله تعالى: "و ما كنت تتلوا من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك إذا لارتاب
المبطلون" التلاوة هي القراءة سواء كانت عن حفظ أو عن كتاب مخطوط و المراد به
في الآية الثاني بقرينة المقام، و الخط الكتابة، و المبطلون جمع مبطل و هو الذي
يأتي بالباطل من القول، و يقال أيضا للذي يبطل الحق أي يدعي بطلانه، و الأنسب
في الآية المعنى الثاني و إن جاز أن يراد المعنى الأول.
و ظاهر التعبير في قوله: "و ما كنت تتلوا" إلخ، نفي العادة أي لم يكن من عادتك
أن تتلو و تخط كما يدل عليه قوله في موضع آخر: "فقد لبثت فيكم عمرا من قبله":
يونس: 16.
و قيل المراد به نفي القدرة أي ما كنت تقدر أن تتلو و تخط من قبله و الوجه
الأول أنسب بالنسبة إلى سياق الحجة و قد أقامها لتثبيت حقية القرآن و نزوله من
عنده.
و تقييد قوله: "و لا تخطه" بقوله: "بيمينك" نوع من التمثيل يفيد التأكيد كقول
القائل: رأيته بعيني و سمعته بأذني.
و المعنى: و ما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتابا و لا كان من عادتك
أن تخط كتابا و تكتبه - أي ما كنت تحسن القراءة و الكتابة لكونك أميا - و لو
كان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الذين يبطلون الحق بدعوى أنه باطل لكن لما لم
تحسن القراءة و الكتابة و استمرت على ذلك و عرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم و
معاشرتك معهم لم يبق محل ريب لهم في أمر القرآن النازل إليك أنه كلام الله
تعالى و ليس تلفيقا لفقته من كتب السابقين و نقلته من أقاصيصهم و غيرهم حتى
يرتاب المبطلون و يعتذروا به.
قوله تعالى: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم و ما يجحد بآياتنا
إلا الظالمون" إضراب عن مقدر يستفاد من الآية السابقة كأنه لما نفى عنه (صلى
الله عليه وآله وسلم) التلاوة و الخط معا تحصل من ذلك أن القرآن ليس بكتاب مؤلف
مخطوط فأضرب عن هذا المقدر بقوله: "بل هو - أي القرآن - آيات بينات في صدور
الذين أوتوا العلم".
و قوله: "و ما يجحد بآياتنا إلا الظالمون" المراد بالظلم بقرينة المقام الظلم
لآيات الله بتكذيبها و الاستكبار عن قبولها عنادا و تعنتا.
قوله تعالى: "و قالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله و
إنما أنا نذير مبين" لما ذكر الكتاب و أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
يتلوه و يدعوهم إليه به و أن منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و هم
الكافرون الظالمون أشار في هذه الآية و الآيتين بعدها إلى عدم اعتنائهم بالقرآن
الذي هو آية النبوة و اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم
بآيات غيره و الجواب عنه.
فقوله: "و قالوا لو لا أنزل عليه آيات من ربه" اقتراح منهم أن يأتيهم بآيات غير
القرآن تعريضا منهم أنه ليس بآية و زعما منهم أن النبي يجب أن يكون ذا قوة
إلهية غيبية يقوى على كل ما يريد، و في قولهم: لو لا أنزل عليه، دون أن يقولوا:
لو لا يأتينا بآيات نوع سخرية كقولهم: "يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون
لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين": الحجر: 7.
و قوله: "قل إنما الآيات عند الله" جواب عن زعمهم أن من يدعي الرسالة يدعي قوة
غيبية يقدر بها على كل ما أراد بأن الآيات عند الله ينزلها متى ما أراد و كيفما
شاء لا يشاركه في القدرة عليها غيره فليس إلى النبي شيء إلا أن يشاء الله ثم
زاده بيانا بقصر شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإنذار فحسب بقوله:
"إنما أنا نذير مبين".
قوله تعالى: "أ و لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم" إلى آخر الآية
توطئة و تمهيد للجواب عن تعريضهم بالقرآن أنه ليس بآية، و الاستفهام للإنكار و
الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي يكفيهم آية هذا الكتاب الذي أنزلناه
عليك و هو يتلى عليهم فيسمعونه و يعرفون مكانته من الإعجاز و هو مملو رحمة و
تذكرة للمؤمنين.
قوله تعالى: "قل كفى بالله بيني و بينكم شهيدا" إلقاء جواب إلى النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) ليجيبهم به و هو أن الله سبحانه شهيد بيني و بينكم فيما نتخاصم
فيه و هو أمر الرسالة فإنه سبحانه يشهد في كلامه الذي أنزله علي برسالتي و هو
تعالى يعلم ما في السماوات و الأرض من غير أن يجهل شيئا و كفى بشهادته لي دليلا
على دعواي.
و ليس لهم أن يقولوا إنه ليس بكلام الله لمكان تحديه مرة بعد مرة في خلال
الآيات و منه يعلم أن قوله: "قل كفى بالله بيني و بينكم شهيدا" ليس دعوى مجردة
أو كلاما خطابيا بل هو بيان استدلالي و حجة قاطعة على ما عرفت.
و قوله: "و الذين آمنوا بالباطل و كفروا بالله أولئك هم الخاسرون" قصر الخسران
فيهم لعدم إيمانهم بالله بالكفر بكتابه الذي فيه شهادته على الرسالة و هم
بكفرهم بالله الحق يؤمنون بالباطل و لذلك خسروا في إيمانهم.
قوله تعالى: "و يستعجلونك بالعذاب و لو لا أجل مسمى لجاءهم العذاب و ليأتينهم
بغتة و هم لا يشعرون" إشارة إلى قولهم كقول متقدميهم: ائتنا بعذاب الله إن كنت
من الصادقين، و قد حكى الله عنهم استعجالهم في قوله: "و لئن أخرنا عنهم العذاب
إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه": هود: 8.
و المراد بالأجل المسمى هو الذي قضاه لبني آدم حين أهبط آدم إلى الأرض فقال: "و
لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين": البقرة: 36، و قال: "و لكل أمة أجل فإذا
جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون": الأعراف: 34.
و هذا العذاب الذي يحول بينه و بينهم الأجل المسمى هو الذي يستحقونه لمطلق
أعمالهم السيئة كما قال عز من قائل: "و ربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما
كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا": الكهف: 58، و لا
ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال و
إنظار، قال تعالى: "و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون":
إسراء: 59.
قوله تعالى: "يستعجلونك بالعذاب و إن جهنم لمحيطة بالكافرين، يوم يغشاهم
العذاب" إلى آخر الآية، تكرار "يستعجلونك" للدلالة على كمال جهلهم و فساد فهمهم
و أن استعجالهم استعجال لأمر مؤجل لا معجل أولا و استعجال لعذاب واقع لا صارف
له عنهم لأنهم مجزيون بأعمالهم التي لا تفارقهم ثانيا.
و الغشاوة و الغشاية التغطية بنحو الإحاطة، و قوله: "يوم يغشاهم" ظرف لقوله:
"محيطة" و الباقي ظاهر.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: "و ما يعقلها إلا العالمون": روى الواحدي بالإسناد
عن جابر قال: تلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية و قال: العالم
الذي يعقل عن الله فعمل بطاعته و اجتنب سخطه.
و فيه،: في قوله تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر": روى أنس بن مالك
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم
يزدد من الله إلا بعدا: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عمران بن الحصين و
ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و رواه القمي في
تفسيره مضمرا مرسلا.
و فيه، و أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا صلاة لمن لم تطع الصلاة
و طاعة الصلاة أن تنتهي عن الفحشاء و المنكر: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن
ابن مسعود و غيره.
و فيه، و روى أنس: أن فتى من الأنصار كان يصلي الصلوات مع رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) و يرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فقال: إن صلاته تنهاه يوما ما.
و فيه، روى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أحب أن يعلم قبلت
صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء و المنكر فبقدر ما منعته
قبلت صلاته.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لذكر الله أكبر": في رواية أبي الجارود
عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "و لذكر الله أكبر" يقول: ذكر الله لأهل
الصلاة أكبر من ذكرهم إياه أ لا ترى أنه يقول: "اذكروني أذكركم".
أقول: و هذا أحد المعاني التي تقدم نقلها.
و في نور الثقلين، عن مجمع البيان، و روى أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: ذكر الله عند ما أحل و حرم.
و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أي
الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أن تموت و لسانك رطب من ذكر الله عز و جل.
و فيه، و قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معاذ إن السابقين الذين يسهرون
بذكر الله عز و جل و من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله عز و جل.
و في الكافي، بإسناده عن العبدي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز
و جل: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" قال: هم الأئمة.
أقول: و هذا المعنى مروي في الكافي، و في بصائر الدرجات، بعدة طرق: و هو من
الجري بمعنى انطباق الآية على أكمل المصاديق بدليل الرواية الآتية.
و في البصائر، بإسناده عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت
له: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" فقال: أنتم هم من عسى أن
يكونوا؟.
و في الدر المنثور، أخرج الإسماعيلي في معجمه و ابن مردويه من طريق يحيى بن
جعدة عن أبي هريرة قال: كان ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يكتبون من التوراة فذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن
أحمق الحمق و أضل الضلالة قوم رغبوا عما جاء به نبيهم إلى نبي غير نبيهم و إلى
أمة غير أمتهم ثم أنزل الله: "أ و لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم"
الآية.
و فيه، أخرج ابن عساكر عن ابن أبي مليكة قال: أهدى عبد الله بن عامر بن كريز
إلى عائشة هدية فظنت أنه عبد الله بن عمر فردتها و قالت: يتتبع الكتب و قد قال
الله: "أ و لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم" فقيل لها: إنه عبد
الله بن عامر فقبلها.
أقول: ظاهر الروايتين و خاصة الأولى الآية في بعض الصحابة و سياق الآيات يأبى
ذلك.
29 سورة العنكبوت - 56 - 60
يَعِبَادِى الّذِينَ ءَامَنُوا إِنّ أَرْضى وَسِعَةٌ فَإِيّىَ فَاعْبُدُونِ
(56) كلّ نَفْسٍ ذَائقَةُ الْمَوْتِ ثمّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَ
الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لَنُبَوِّئَنّهُم مِّنَ الجَْنّةِ
غُرَفاً تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ
الْعَمِلِينَ (58) الّذِينَ صبرُوا وَ عَلى رَبهِمْ يَتَوَكلُونَ (59) وَ
كَأَيِّن مِّن دَابّةٍ لا تحْمِلُ رِزْقَهَا اللّهُ يَرْزُقُهَا وَ إِيّاكُمْ
وَ هُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
بيان
لما استفرغ الكلام في توبيخ من ارتد عن دينه من المؤمنين خوف الفتنة عطف الكلام
على بقية المؤمنين ممن استضعفه المشركون بمكة و كانوا يهددونهم بالفتنة و
العذاب فأمرهم أن يصبروا و يتوكلوا على ربهم و أن يهاجروا منها إن أشكل عليهم
أمر الدين و إقامة فرائضه، و أن لا يخافوا أمر الرزق فإن الرزق على الله سبحانه
و هو يرزقهم إن ارتحلوا و هاجروا كما كان يرزقهم في مقامهم.
قوله تعالى: "يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون" توجيه للخطاب
إلى المؤمنين الذين وقعوا في أرض الكفر لا يقدرون على التظاهر بالدين الحق و
الاستنان بسنته و يدل على ذلك ذيل الآية.
و قوله: "إن أرضي واسعة" الذي يظهر من السياق أن المراد بالأرض هذه الأرض التي
نعيش عليها و إضافتها إلى ضمير التكلم للإشارة إلى أن جميع الأرض لا فرق عنده
في أن يعبد في أي قطعة منها كانت، و وسعة الأرض كناية عن أنه إن امتنع في ناحية
من نواحيها أخذ الدين الحق و العمل به فهناك نواح غيرها لا يمتنع فيها ذلك
فعبادته تعالى وحده ليست بممتنعة على أي حال.
و قوله: "فإياي فاعبدون" الفاء الأولى للتفريع على سعة الأرض أي إذا كان كذلك
فاعبدوني وحدي و الفاء الثانية فاء الجزاء للشرط المحذوف المدلول عليه بالكلام
و الظاهر أن تقديم "إياي" لإفادة الحصر فيكون قصر قلب و المعنى: لا تعبدوا غيري
بل اعبدوني، و قوله: "فاعبدون" قائم مقام الجزاء.
و محصل المعنى: أن أرضي واسعة إن امتنع عليكم عبادتي في ناحية منها تسعكم
لعبادتي أخرى منها فإذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و لا تعبدوا غيري فإن لم يمكنكم
عبادتي في قطعة منها فهاجروا إلى غيرها و اعبدوني وحدي فيها.
قوله تعالى: "كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون" الآية تأكيد للأمر السابق في
قوله: "فإياي فاعبدون" و كالتوطئة لقوله الآتي: "الذين صبروا" إلخ.
و قوله: "كل نفس ذائقة الموت" من الاستعارة بالكناية و المراد أن كل نفس ستموت
لا محالة، و الالتفات في قوله: "ثم إلينا ترجعون" من سياق التكلم وحده إلى سياق
التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.
و محصل المعنى: أن الحياة الدنيا ليست إلا أياما قلائل و الموت وراءه ثم الرجوع
إلينا للحساب فلا يصدنكم زينة الحياة الدنيا - و هي زينة فانية - عن التهيؤ
للقاء الله بالإيمان و العمل ففيه السعادة الباقية و في الحرمان منه هلاك مؤبد
مخلد.
قوله تعالى: "و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا" إلخ،
بيان لأجر الإيمان و العمل الصالح بعد الموت و الرجوع إلى الله و فيه حث و
ترغيب للمؤمنين على الصبر في الله و التوكل على الله، و التبوئة الإنزال على
وجه الإقامة، و الغرف جمع غرفة و هي في الدار، العلية العالية.
و قد بين تعالى أولا ثواب الذين آمنوا و عملوا الصالحات ثم سماهم عاملين إذ
قال: "نعم أجر العاملين" ثم فسر العاملين بقوله: "الذين صبروا و على ربهم
يتوكلون" فعاد بذلك الصبر و التوكل سمة خاصة للمؤمنين فدل بذلك كله أن المؤمن
إنما يرضى عن إيمانه إذا صبر في الله و توكل عليه، فعلى المؤمن أن يصبر في الله
على كل أذى و جفوة ما يجد إلى العيشة الدينية سبيلا فإذا تعذرت عليه إقامة
مراسم الدين في أرضه فليخرج و ليهاجر إلى أرض غيرها و ليصبر على ما يصيبه من
التعب و العناء في الله.
قوله تعالى: "الذين صبروا و على ربهم يتوكلون" وصف للعالمين، و الصبر أعم من
الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر على المعصية، و إن كان المورد
مورد الصبر عند المصيبة فهو المناسب لحال المؤمنين بمكة المأمورين بالهجرة.
قوله تعالى: "و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياكم و هو السميع
العليم" كأين للتكثير، و حمل الرزق هو ادخاره كما يفعله الإنسان و النمل و
الفأر و النحل من سائر الحيوان.
و في الآية تطييب لنفس المؤمنين و تقوية لقلوبهم أنهم لو هاجروا في الله أتاهم
رزقهم أينما كانوا و لا يموتون جوعا فرازقهم ربهم دون أوطانهم، يقول: و كثير من
الدواب لا رزق مدخر لها يرزقها الله و يرزقكم معاشر الآدميين الذين يدخرون
الأرزاق و هو السميع العليم.
و في تذييل الآية بالاسمين الكريمين السميع العليم إشارة إلى الحجة على مضمونها
و هو أن الإنسان و سائر الدواب محتاجون إلى الرزق يسألون الله ذلك بلسان حاجتهم
إليه و الله سبحانه سميع للدعاء عليم بحوائج خلقه و مقتضى الاسمين الكريمين أن
يرزقهم.
بحث روائي
في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله
تعالى: "يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة" يقول: لا تطيعوا أهل الفسق من
الملوك فإن خفتموهم أن يفتنوكم عن دينكم فإن أرضي واسعة، و هو يقول: "فيم كنتم
قالوا كنا مستضعفين في الأرض" فقال: "أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها".
و في المجمع:، و قال أبو عبد الله (عليه السلام): معناه إذا عصي الله في أرض
أنت بها فاخرج منها إلى غيرها.
و في العيون، بإسناده إلى الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): لما نزلت "إنك ميت و إنهم ميتون" قلت: يا رب أ يموت الخلائق
كلهم و يبقى الأنبياء؟ فنزلت "كل نفس ذائقة الموت": أقول: و رواه أيضا في الدر
المنثور، عن ابن مردويه عن علي، و لا يخلو متنه عن شيء فإن قوله: "إنك ميت و
إنهم ميتون" يخبر عن موته (صلى الله عليه وآله وسلم) و موت سائر الناس، و كان
(صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم أن الأنبياء المتقدمين عليه ماتوا فلا معنى
لقوله: أ يموت الخلائق كلهم و يبقى الأنبياء.
و في الجمع، عن عطاء عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) حتى دخلنا بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر و يأكل فقال لي: يا ابن
عمر ما لك لا تأكل؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول الله. قال: أنا أشتهيه و هذه صبح
رابعة منذ لم أذق طعاما و لو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى و قيصر فكيف
بك يا ابن عمر إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين فوالله ما برحنا
حتى نزلت "و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياكم - و هو السميع
العليم" أقول: و قد روى الرواية في الدر المنثور، و ضعف سندها و هي مع ذلك لا
تلائم وقوع الآية في سياق ما تقدمها.
29 سورة العنكبوت - 61 - 69
وَ لَئن سأَلْتَهُم مّنْ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض وَ سخّرَ الشمْس وَ
الْقَمَرَ لَيَقُولُنّ اللّهُ فَأَنى يُؤْفَكُونَ (61) اللّهُ يَبْسط الرِّزْقَ
لِمَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنّ اللّهَ بِكلِّ شىْءٍ
عَلِيمٌ (62) وَ لَئن سأَلْتَهُم مّن نّزّلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا
بِهِ الأَرْض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ للّهِ
بَلْ أَكثرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَ مَا هَذِهِ الْحَيَوةُ الدّنْيَا إِلا
لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنّ الدّارَ الاَخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكبُوا فى الْفُلْكِ دَعَوُا اللّهَ مخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمّا نجّاهُمْ إِلى الْبرِّ إِذَا هُمْ يُشرِكُونَ (65)
لِيَكْفُرُوا بِمَا ءَاتَيْنَهُمْ وَ لِيَتَمَتّعُوا فَسوْف يَعْلَمُونَ (66)
أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَامِناً وَ يُتَخَطف النّاس مِنْ
حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْبَطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ
(67) وَ مَنْ أَظلَمُ مِمّنِ افْترَى عَلى اللّهِ كذِباً أَوْ كَذّب بِالْحَقِّ
لَمّا جَاءَهُ أَ لَيْس فى جَهَنّمَ مَثْوًى لِّلْكفِرِينَ (68) وَ الّذِينَ
جَهَدُوا فِينَا لَنهْدِيَنهُمْ سبُلَنَا وَ إِنّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
(69)
بيان
الآيات تصرف الخطاب عن المؤمنين إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في
المعنى خطاب عام يشمل الجميع و إن كان في اللفظ خاصا به (صلى الله عليه وآله
وسلم) لأن الحجج المذكورة فيها مما يناله الجميع.
و الآيات تذكر مناقضات في آراء المشركين فيما ألقي في الفصل السابق على
المؤمنين فآمنوا به فإنهم يعترفون أن خالق السماوات و الأرض و مدبر الشمس و
القمر - و عليهما مدار الأرزاق - هو الله و أن منزل الماء من السماء و محيي
الأرض بعد موتها هو الله سبحانه ثم يدعون غيره ليرزقهم و هم يعبدونه تعالى إذا
ركبوا البحر ثم إذا أنجاهم عبدوا غيره و يقيمون في حرم آمن و هو نعمة لهم
فيؤمنون بالباطل و يجحدون الحق و يكفرون بنعمة الله.
و ما ختمت به السورة من قوله: "و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" يلائم ما
في مفتتح السورة "أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون - إلى
أن قال - و من جاهد فإنما يجاهد لنفسه" إلخ.
قوله تعالى: "و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض و سخر الشمس و القمر ليقولن
الله فأنى يؤفكون".
خلق السماوات و الأرض من الإيجاد و تسخير الشمس و القمر - و ذلك بتحويل
حالاتهما بالطلوع و الغروب و القرب و البعد من الأرض - من التدبير الذي يتفرع
عليه كينونة أرزاق الإنسان و سائر الحيوان و هذا الخلق و التدبير لا ينفك
أحدهما عن الآخر فمن اعترف بأحدهما فليعترف بالآخر.
و إذا كان الله هو الخالق و بيده تدبير السماوات و يتبعه تدبير الأرض و كينونة
الأرزاق كان هو الذي يجب أن يدعى للرزق و سائر التدبير فمن العجب حينئذ أن يصرف
عنه الإنسان إلى غيره ممن لا يملك شيئا و هو قوله: "فأنى يؤفكون" أي فإذا كان
الخلق و تدبير الشمس و القمر إليه تعالى فكيف يصرف هؤلاء إلى دعوة غيره من
الأصنام و عبادته.
قوله تعالى: "الله يبسط الرزق لمن يشاء من عبادسرابيةه و يقدر له إن الله بكل
شيء عليم" في الآية تصريح بما تلوح إليه الآية السابقة، و القدر التضييق و
يقابله البسط و المراد به لازم معناه و هو التوسعة، و وضع الظاهر موضع المضمر
في قوله: "إن الله بكل شيء عليم" للدلالة على تعليل الحكم، و المعنى: و هو بكل
شيء عليم لأنه الله.
و المعنى: الله يوسع الرزق على من يشاء من عباده و يضيقه على من يشاء - و لا
يشاء إلا على طبق المصلحة - لأنه بكل شيء عليم لأنه الله الذي هو الذات
المستجمع لجميع صفات الكمال.
قوله تعالى: "و لئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها"
- إلى قوله - لا يعقلون" المراد بإحياء الأرض بعد موتها إنبات النبات في
الربيع.
و قوله: "قل الحمد لله" أي احمد الله على تمام الحجة عليهم باعترافهم بأن الله
هو المدبر لأمر خلقه فلزمهم أن يعبدوه دون غيره من الأصنام و أرباب الأصنام.
و قوله: "بل أكثرهم لا يعقلون" أي لا يتدبرون الآيات و لا يحكمون العقول حتى
يعرفوا الله و يميزوا الحق من الباطل فهم لا يعقلون حق التعقل.
قوله تعالى: "و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي
الحيوان لو كانوا يعلمون" اللهو ما يلهيك و يشغلك عما يهمك فالحياة الدنيا من
اللهو لأنها تلهي الإنسان و تشغله بزينتها المزوقة الفانية عن الحياة الخالدة
الباقية.
و اللعب فعل أو أفعال منتظمة انتظاما خياليا لغاية خيالية كملاعب الصبيان و
الحياة الدنيا لعب لأنها فانية سريعة البطلان كلعب الصبيان يجتمعون عليه و
يتولعون به ساعة ثم يتفرقون و سرعان ما يتفرقون.
على أن عامة المقاصد التي يتنافس فيها المتنافسون و يتكالب عليه الظالمون أمور
وهمية سرابية كالأموال و الأزواج و البنين و أنواع التقدم و التصدر و الرئاسة و
المولوية و الخدم و الأنصار و غيرها فالإنسان لا يملك شيئا منها إلا في ظرف
الوهم و الخيال.
و أما الحياة الآخرة التي يعيش فيها الإنسان بكماله الواقعي الذي اكتسبه
بإيمانه و عمله الصالح فهي المهمة التي لا لهو في الاشتغال بها و الجد الذي لا
لعب فيها و لا لغو و لا تأثيم، و البقاء الذي لا فناء معه، و اللذة التي لا
ألم، عندها و السعادة التي لا شقاء دونها، فهي الحياة بحقيقة معنى الكلمة.
و هذا معنى قوله سبحانه: "و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار
الآخرة لهي الحيوان".
و في الآية - كما ترى - قصر الحياة الدنيا في اللهو و اللعب و الإشارة إليها
بهذه المفيدة للتحقير و قصر الحياة الآخرة في الحيوان و هو الحياة و تأكيده
بأدوات التأكيد كان و اللام و ضمير الفصل و الجملة الاسمية.
و قوله: "لو كانوا يعلمون" أي لو كانوا يعلمون لعلموا أن الأمر كما وصفنا.
قوله تعالى: "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى
البر إذا هم يشركون" تفريع على ما تحصل من الآيات السابقة من شأنهم و هو أنهم
يؤفكون و أن كثيرا منهم لا يعقلون أي لما كانوا يؤفكون و يصرفون عن عبادته إلى
عبادة غيره و أكثرهم لا يعقلون و يناقضون أنفسهم بالاعتراف و الجحد فإذا ركبوا
"إلخ".
و الركوب الاستعلاء بالجلوس على الشيء المتحرك و هو متعد بنفسه و تعديته في
الآية بفي لتضمنه معنى الاستقرار أو ما يشبهه، و المعنى: فإذا ركبوا مستقرين في
الفلك أو استقروا في الفلك راكبين، و معنى الآية ظاهر و هي تحكي عنهم تناقضا
آخر و كفرانا للنعمة.
قوله تعالى: "ليكفروا بما آتيناهم و ليتمتعوا فسوف يعلمون" اللام في "ليكفروا"
و "ليتمتعوا" لام الأمر و أمر الآمر بما لا يرتضيه تهديد و إنذار كقولك لمن
تهدده: "افعل ما شئت"، قال تعالى: "اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير": حم
السجدة: 40.
و احتمل كون اللام للغاية، و المعنى: أنهم يأتون بهذه الأعمال لتنتهي بهم إلى
كفران النعمة التي آتيناهم و إلى التمتع، و أول الوجهين أوفق لقوله في ذيل
الآية: "فسوف يعلمون"، و يؤيده قوله في موضع آخر: "ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا
فسوف تعلمون": الروم: 34، و لذا قرأه من قرأ "و ليتمتعوا" بسكون اللام إذ لا
يسكن غير لام الأمر.
قوله تعالى: "أ و لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا و يتخطف الناس من حولهم" الحرم
الأمن هو مكة و ما حولها و قد جعله الله مأمنا بدعاء إبراهيم (عليه السلام) و
التخطف كالخطف استلاب الشيء بسرعة و اختلاسه و قد كانت العرب يومئذ تعيش في
التغاور و التناهب و لا يزالون يغير بعضهم على بعض بالقتل و السبي و النهب
لكنهم يحترمون الحرم و لا يتعرضون لمن أقام بها فيها.
و المعنى: أ و لم ينظروا أنا جعلنا حرما آمنا لا يتعرض لمن فيه بقتل أو سبي أو
نهب و الحال أن الناس يختلسون من حولهم خارج الحرم.
و قوله: "أ فبالباطل يؤمنون و بنعمة الله يكفرون" توبيخ آخر لهم حيث يقابلون
هذه النعمة و هي نعمة عظيمة بالكفران لكنهم يؤمنون بالأصنام و هي باطلة ليس لها
إلا الاسم.
قوله تعالى: "و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أ ليس
في جهنم مثوى للكافرين" تهديد لهم بالنار بتوسيمهم بأشد الظلم و أعظمه و هو
افتراء الكذب على الله بالقول بالآلهة و أن الله اتخذهم شركاء لنفسه، و تكذيب
الإنسان بالحق لما جاءه و الوصفان جميعا موجودان فيهم فقد عبدوا الأصنام و
كذبوا بالقرآن لما جاءهم فهم كافرون و مثوى الكافرين و محل إقامتهم في الآخرة
جهنم.
قوله تعالى: "و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين"
الجهد الوسع و الطاقة و المجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو و الجهاد ثلاثة
أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، و مجاهدة الشيطان، و مجاهدة النفس كذا ذكره الراغب.
و قوله: "جاهدوا فينا" أي استقر جهادهم فينا و هو استعارة كنائية عن كون جهده
مبذولا فيما يتعلق به تعالى من اعتقاد عمل، فلا ينصرف عن الإيمان به و الائتمار
بأوامره و الانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه.
و قوله: "لنهدينهم سبلنا" أثبت لنفسه سبلا و هي أيا ما كانت تنتهي إليه تعالى
فإنما السبيل سبيل لتأديته إلى ذي السبيل و هو غايتها فسبله هي الطرق المقربة
منه و الهادية إليه تعالى، و إذ كانت نفس المجاهدة من الهداية كانت الهداية إلى
السبل هداية على هداية فتنطبق على مثل قوله تعالى: "و الذين اهتدوا زادهم هدى":
محمد: 17.
و مما تقدم يظهر أن لا حاجة في قوله: "فينا" إلى تقدير مضاف كشأن و التقدير في
شأننا.
و قوله: "و إن الله لمع المحسنين" قيل أي معية النصرة و المعونة و تقدم الجهاد
المحتاج إليهما قرينة قوية على إرادة ذلك.
انتهي.
و هو وجه حسن و أحسن منه أن يفسر بمعية الرحمة و العناية فيشمل معية النصرة و
المعونة و غيرهما من أقسام العنايات التي له سبحانه بالمحسنين من عباده لكمال
عنايته بهم و شمول رحمته لهم، و هذه المعية أخص من معية الوجود الذي ينبىء عنه
قوله تعالى: "و هو معكم أينما كنتم": الحديد: 4.
و قد تقدمت الإشارة إلى أن الآية خاتمة للسورة منعطفة على فاتحتها.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي جعفر
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عجبا كل العجب للمصدق بدار
الحيوان و هو يسعى لدار الغرور.
و فيه، أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن
ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا و العرب أكثر منا فمتى بلغهم
أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس فأنزل الله: "أ و لم يروا أنا
جعلنا حرما آمنا" الآية.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و الذين جاهدوا فينا - لنهدينهم سبلنا و إن
الله لمع المحسنين": في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: هذه
الآية لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و لأشياعهم.
30 سورة الروم - 1 - 19
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرّومُ (2) فى أَدْنى
الأَرْضِ وَ هُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سيَغْلِبُونَ (3) فى بِضع سِنِينَ
للّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَ مِن بَعْدُ وَ يَوْمَئذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ
(4) بِنَصرِ اللّهِ يَنصرُ مَن يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ (5) وَعْدَ
اللّهِ لا يخْلِف اللّهُ وَعْدَهُ وَ لَكِنّ أَكْثرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ
(6) يَعْلَمُونَ ظهِراً مِّنَ الحَْيَوةِ الدّنْيَا وَ هُمْ عَنِ الاَخِرَةِ
هُمْ غَفِلُونَ (7) أَ وَ لَمْ يَتَفَكّرُوا فى أَنفُسِهِم مّا خَلَقَ اللّهُ
السمَوَتِ وَ الأَرْض وَ مَا بَيْنهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مّسمّى وَ
إِنّ كَثِيراً مِّنَ النّاسِ بِلِقَاى رَبِّهِمْ لَكَفِرُونَ (8) أَ وَ لَمْ
يَسِيرُوا فى الأَرْضِ فَيَنظرُوا كَيْف كانَ عَقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
كانُوا أَشدّ مِنهُمْ قُوّةً وَ أَثَارُوا الأَرْض وَ عَمَرُوهَا أَكثرَ مِمّا
عَمَرُوهَا وَ جَاءَتْهُمْ رُسلُهُم بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كانَ اللّهُ
لِيَظلِمَهُمْ وَ لَكِن كانُوا أَنفُسهُمْ يَظلِمُونَ (9) ثُمّ كانَ عَقِبَةَ
الّذِينَ أَسئُوا السوأَى أَن كذّبُوا بِئَايَتِ اللّهِ وَ كانُوا بهَا
يَستَهْزِءُونَ (10) اللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثمّ يُعِيدُهُ ثمّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ يُبْلِس الْمُجْرِمُونَ (12) وَ
لَمْ يَكُن لّهُم مِّن شرَكائهِمْ شفَعَؤُا وَ كانُوا بِشرَكائهِمْ كفِرِينَ
(13) وَ يَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ يَوْمَئذٍ يَتَفَرّقُونَ (14) فَأَمّا
الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ فَهُمْ فى رَوْضةٍ يُحْبرُونَ (15)
وَ أَمّا الّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا وَ لِقَاى الاَخِرَةِ
فَأُولَئك فى الْعَذَابِ محْضرُونَ (16) فَسبْحَنَ اللّهِ حِينَ تُمْسونَ وَ
حِينَ تُصبِحُونَ (17) وَ لَهُ الْحَمْدُ فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ عَشِيّا
وَ حِينَ تُظهِرُونَ (18) يخْرِجُ الْحَىّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يخْرِجُ
الْمَيِّت مِنَ الْحَىِّ وَ يحْىِ الأَرْض بَعْدَ مَوْتهَا وَ كَذَلِك
تخْرَجُونَ (19)
بيان
تفتتح السورة بوعد من الله و هو أن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد انهزامهم
أيام نزول السورة عن الفرس ثم تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر و هو الوعد بيوم
يرجع الكل فيه إلى الله و تقيم الحجة على المعاد ثم تنعطف إلى ذكر آيات
الربوبية و تصف صفاته تعالى الخاصة به ثم تختتم السورة بوعد النصر للنبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) و تؤكد القول فيه إذ تقول: "فاصبر إن وعد الله حق و لا
يستخفنك الذين لا يوقنون" و قد قيل قبيل ذلك: "و كان حقا علينا نصر المؤمنين".
فغرض السورة هو الوعد القطعي منه تعالى بنصرة دينه و قد قدم عليه نصر الروم على
الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدل بإنجاز هذا الوعد على إنجاز ذلك الوعد،
و كذا يحتج به و من طريق العقل على أنه سينجز وعده بيوم القيامة لا ريب فيه.
قوله تعالى: "غلبت الروم في أدنى الأرض" الروم جيل من الناس على ساحل البحر
الأبيض بالمغرب كانت لهم إمبراطورية وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم و بين
الفرس حرب عوان في بعض نواحي الشام قريبا من الحجاز فغلبت الفرس و انهزمت
الروم، و الظاهر أن المراد بالأرض أرض الحجاز و اللام للعهد.
قوله تعالى: "و هم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين" ضمير الجمع الأول للروم و
كذا الثالث و أما الثاني فقد قيل إنه للفرس و المعنى: و الروم من بعد غلبة
الفرس سيغلبون، و يمكن أن يكون الغلب من المصدر المبني للمفعول و الضمير للروم
كالضميرين قبلها و بعدها فلا تختلف الضمائر و المعنى: و الروم من بعد مغلوبيتهم
سيغلبون.
و البضع من العدد من ثلاثة إلى تسعة.
قوله تعالى: "لله الأمر من قبل و من بعد" قبل و بعد مبنيان على الضم فهناك مضاف
إليه مقدر و التقدير لله الأمر من قبل أن غلبت الروم و من بعد أن غلبت يأمر بما
يشاء فينصر من يشاء و يخذل من يشاء.
و قيل: المعنى لله الأمر من قبل كونهم غالبين و هو وقت كونهم مغلوبين و من بعد
كونهم مغلوبين و هو وقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين و وقت كونهم غالبين
و المعنى الأول أرجح إن لم يكن راجحا متعينا.
قوله تعالى: "و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء و هو العزيز
الرحيم" الظرف متعلق بيفرح و كذا قوله "ينصر" و المعنى: و يوم إذ يغلب الروم
يفرح المؤمنون بنصر الله الروم، ثم استأنف و قال: "ينصر من يشاء" تقريرا لقوله:
"لله الأمر من قبل و من بعد".
و قوله: "و هو العزيز الرحيم" أي عزيز يعز بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته من
يشاء.
و في الآية وجوه أخر ضعيفة ذكروها: منها: أن قوله "و يومئذ" عطف على قوله: "من
قبل" و المراد به شمول سلطنته تعالى لجميع الأزمنة الثلاثة: الماضي و المستقبل
و الحال كأنه قيل: لله الأمر من قبل و من بعد و يومئذ ثم ابتداء و قيل: يفرح
المؤمنون بنصر الله.
و فيه أنه يبطل انسجام الآية و ينقطع به آخرها عن أولها.
و منها: أن قوله: "بنصر" متعلق بقوله: "المؤمنون" دون "يفرح" و يدل بالملازمة
المقامية أن غلبة الروم بنصر من الله.
و فيه أن لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس و يوم غلبة الروم جميعا فإن في
الغلبة نصرا و كل نصر من الله قال تعالى: "و ما النصر إلا من عند الله العزيز
الحكيم": آل عمران: 126 فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا
مرجح فافهمه.
و منها: أن المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصر الروم
على الفرس و إن توافق النصران زمانا فكأنه قيل: إن الروم سيغلبون في بضع سنين و
يوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله إياهم.
و فيه أن هذا المعنى لا يلائم قوله بعد: "ينصر من يشاء".
و منها: أن المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق إخبارهم بغلبة الروم، و قيل: النصر
هو استيلاء بعض الكفار على بعض و تفرق كلمتهم و انكسار شوكتهم.
و هذان و ما يشبههما وجوه لا يعبأ بها.
قوله تعالى: "وعد الله لا يخلف الله وعده و لكن أكثر الناس لا يعلمون" "وعد
الله" مفعول مطلق محذوف العامل و التقدير وعد الله وعدا و إخلاف الوعد خلاف
إنجازه و قوله: "وعد الله" تأكيد و تقرير للوعد السابق في قوله: "سيغلبون" و
"يفرح المؤمنون" كما أن قوله: "لا يخلف الله وعده" تأكيد و تقرير لقوله: "وعد
الله".
و قوله: "لا يخلف الله وعده" كقوله: "إن الله لا يخلف الميعاد": الرعد: 31 و
خلف الوعد و إن لم يكن قبيحا بالذات لأنه ربما يحسن عند الاضطرار لكنه سبحانه
لا يضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال.
على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما و يستحيل النقص عليه تعالى.
على أنه تعالى أخبر في كلامه بأنه لا يخلف الميعاد و هو أصدق الصادقين و هو
القائل عز من قائل: "و الحق أقول": ص: 84.
و قوله: "و لكن أكثر الناس لا يعلمون" أي هم جهلاء بشئونه تعالى لا يثقون بوعده
و يقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق و يكذب و ينجز و يخلف.
قوله تعالى: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون" جملة
"يعلمون" على ما ذكره في الكشاف، بدل من قوله: "لا يعلمون" و في هذا الإبدال من
النكتة أنه أبدله منه و جعله بحيث يقوم مقامه و يسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين
عدم العلم الذي هو الجهل و بين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا انتهى.
و قيل: الجملة استثنائية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله حق و أن لله الأمر من
قبل و من بعد و أنه ينصر المؤمنين على الكافرين.
انتهى و هذا أظهر.
و تنكير "ظاهرا" للتحقير و ظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها و هو الذي يناله
حواسهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها و العكوف عليها و الإخلاد
إليها و نسيان ما وراءها من الحياة الآخرة و المعارف المتعلقة بها و الغفلة عما
فيه خيرهم و نفعهم بحقيقة معنى الكلمة.
و قيل: الظهور في الآية بمعنى الزوال و استشهد بقوله: و عيرها الواشون أني
أحبها.
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها.
و المعنى: يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له لكنه معنى شاذ الاستعمال.
قوله تعالى: "أ و لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات و الأرض و ما
بينهما إلا بالحق و أجل مسمى" إلخ المراد من خلق السماوات و الأرض و ما بينهما
- و ذلك جملة العالم المشهود - بالحق أنها لم تخلق عبثا لا غاية لها وراءها بأن
يوجد و يعدم ثم يوجد ثم يعدم من غير غرض و غاية فهو تعالى إنما خلقها لغاية
تترتب عليها.
ثم إن العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الآخر حتى يحتمل كون كل جزء
لاحق غاية للجزء السابق و كل آت خلفا لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك غاية
مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم و هذا المعنى هو المراد بتقييد
قوله: "ما خلق الله السماوات و الأرض و ما بينهما" بقوله: "و أجل مسمى" بعد
تقييده بقوله: "إلا بالحق".
فقوله: "أ و لم يتفكروا في أنفسهم" الاستفهام للتعجيب، و كونهم في أنفسهم
استعارة كنائية عن فراغ البال و حضور الذهن كأنهم عند اشتغالهم بأمور الدنيا و
سعيهم للمعيشة و تشوش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين
مستقرين في أنفسهم فيكون تفكرهم حينئذ مجتمعا غير متفرق فيهديهم إلى الحق و
يرشدهم إلى الواقع.
و قيل: المراد بتفكرهم في أنفسهم أن يتفكروا في خلق أنفسهم و أن الواحد منهم
محدث و المحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حي قادر عليم حكيم
فلا يخلق ما يخلق عبثا بل لغاية مطلوبة و ليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل
إلى الخلق و هو الثواب و لا يكون إلا لصالح العمل فلا بد من دين مشرع يميز
العمل الصالح من السيىء فلا بد من دار يمتحنون فيها و هي الدنيا و دار يثابون
فيها و هي الآخرة.
و فيه أن الجملة أعني قوله: "أ و لم يتفكروا في أنفسهم" صالح في نفسه لأن يراد
منها هذا المعنى لكن اتصال قوله: "ما خلق الله السماوات" إلخ، بها يأباه
لاستلزامه بطلان الاتصال لعدم الارتباط بين صدر الآية و ذيلها على هذا التقدير.
و قوله: "ما خلق الله السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى" هو
الفكر الذي يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم و تقريره على ما تقدم أن
الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلا و لا بعضا إلا خلقا ملابسا للحق أو مصاحبا
للحق أي لغاية حقيقية لا عبثا لا غاية له و لا إلى أجل معين فلا يبقى شيء منها
إلى ما لا نهاية له بل يفنى و ينقطع و إذا كان كل من أجزائه و المجموع مخلوقا
ذا غاية تترتب عليها و ليس شيء منها دائم الوجود كانت غايته مترتبة عليه بعد
انقطاع وجوده و فنائه، و هذا هو الآخرة التي ستظهر بعد انقضاء الدنيا و فنائها.
و قوله: "و إن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون" مسوق سوق التعجيب كما بدأت
الآية باستفهام التعجيب، و المراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد، و قد
عبر عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجبا فكيف يمكن أن يبتدئوا منه ثم لا ينتهوا
إليه، و لذلك أكده بإن إشارة إلى أن الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدق
به.
قوله تعالى: "أ و لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم"
إلى آخر الآية، لما ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد و ذلك أمر يلغو معه الدين
الحق ذكرهم حال الأمم الكافرة و ما انتهت إليه من سوء العذاب لعلهم يعتبرون بها
فيرجعوا عما هم عليه من الكفر.
و إثارة الأرض قلبها ظهر البطن للحرث و التعمير و نحو ذلك.
و قوله: "و لكن كانوا أنفسهم يظلمون" أي بالكفر و المعاصي.
قوله تعالى: "ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله و كانوا
بها يستهزءون" بيان لما انتهى إليه أمر أولئك الظالمين و لذا عبر بثم، و
"عاقبة" بالنصب خبر كان و اسمه "السوآى" قدم الخبر عليه لإفادة الحصر و
"أساءوا" مقطوع عن المتعلق بمعنى عملوا السوء، و السوآى الخلة التي يسوء صاحبها
و المراد بها سوء العذاب و "أن كذبوا بآيات الله" بحذف لام التعليل و التقدير
لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.
و المعنى: ثم كان سوء العذاب هو الذي انتهى إليه أمر أولئك الذين عملوا السوء
لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.
و قيل: إن "السوآى" مفعول لقوله: "أساءوا" و خبر كان هو قوله: "أن كذبوا" إلخ،
و المراد أن المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله و الاستهزاء بها.
و فيه: أنه في نفسه معنى صحيح لكن المناسب للمقام هو المعنى الأول لأن المقام
مقام الاعتبار و الإنذار و المناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا
انتهاء معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب و الاستهزاء الذي هو أعظمها.
قوله تعالى: "الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون" بعد ما ذكر الحجة و
تكذيب كثير من الناس لخص القول في نتيجتها و هو أن البدء و العود بيده سبحانه و
سيرجع إليه الجميع، و المراد بالخلق المخلوقون، و لذا أرجع إليه ضمير الجمع في
ترجعون.
قوله تعالى: "و يوم تقوم الساعة يبلس المجرمون" ذكر حال المجرمين بعد قيام
الساعة و هي ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب و الجزاء، و الإبلاس اليأس من الله
و فيه كل الشقاء.
قوله تعالى: "و لم يكن لهم من شركائهم شفعاء و كانوا بشركائهم كافرين" يريد
أنهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الذين
اتخذوهم شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عند الله كما كانوا يقولون في الدنيا:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله و كانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين.
قوله تعالى: "و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون - إلى قوله - محضرون" قال في
المجمع: الروضة البستان المتناهي منظرا و طيبا.
انتهي.
و قال في المفردات: الحبر الأثر المستحسن - إلى أن قال - و قوله عز و جل: "في
روضة يحبرون" أي يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم.
انتهي.
و المراد بتفرق الخلق يومئذ تميز المؤمنين الصالحين من المجرمين و دخول هؤلاء
النار و دخول أولئك الجنة على ما يشير إليه الآيتان التاليتان.
و لزوم هذا التميز و التفرق في الوجود هو الذي أخذه الله سبحانه حجة على ثبوت
المعاد حيث قال: "أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا
الصالحات سواء محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون: الجاثية: 21.
قوله تعالى: "فسبحان الله حين تمسون و حين تصبحون و له الحمد في السماوات و
الأرض و عشيا و حين تظهرون" لما ذكر أنه يبدأ الخلق ثم يعيدهم و يرجعهم للقائه
فيفرقهم طائفتين: أهل الجنة و النعمة و أهل النار و العذاب، أما أهل الجنة فهم
المؤمنون العاملون للصالحات و أما أهل النار فهم الكفار المكذبون لآيات الله و
قد ذكر أنهم كانوا في الدنيا أهل قوة و نعمة لكنهم نسوا الآخرة و كذبوا بآيات
الله و استهزءوا بها حتى انتهى بهم الأمر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء
لظلمهم أنفسهم و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فتحصل من ذلك أن في دار الخلقة تدبيرا إلهيا متقنا صالحا جميلا على أجمل ما
يكون و أن للإنسان على توالي الأزمنة و الدهور آثاما و خطيئات من العقيدة
السيئة في حق ربه و اتخاذ شركاء له و إنكار لقائه إلى سائر المعاصي.
ذيل الكلام بتسبيحه كلما تجدد حين بعد حين و تحميده على صنعه و تدبيره في
السماوات و الأرض و هو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزه عن هذه الاعتقادات
الباطلة و الأعمال الردية و محمود في جميع ما خلقه و دبره في السماوات و الأرض.
و من هناك يظهر: أولا: أن التسبيح و التحميد في الآيتين إنشاء تنزيه و ثناء منه
تعالى لا من غيره حتى يكون المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله فقد
تكرر في كلامه تعالى تسبيحه و تحميده لنفسه كقوله: "سبحان ربك رب العزة":
الصافات: 180 و قوله: "الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده": الفرقان: 1.
و ثانيا: أن المراد بالتسبيح و التحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية
المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدرا.
و المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله.
و ثالثا: أن قوله: "و له الحمد في السماوات و الأرض" معترضة واقعة بين المعطوف
و المعطوف عليه، و قوله: "و عشيا و حين تظهرون" معطوفان على محل "حين تمسون" لا
على قوله: "في السماوات و الأرض" حتى يختص المساء و الصباح بالتسبيح و السماوات
و الأرض و العشي و الظهيرة بالتحميد بل الأوقات و ما فيها للتسبيح و الأمكنة و
ما فيها للتحميد.
فالسياق يشير إلى أن ما في السماوات و الأرض من خلق و أمر هو لله يستدعي بحسنه
حمدا و ثناء لله سبحانه و أن للإنسان على مر الدهور و تغير الأزمنة و الأوقات
من الشرك و المعصية ما يتنزه عنه ساحة قدسه تعالى و تقدس.
نعم هاهنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد و التسبيح و هو أن الأزمنة و الأوقات
على تغيرها و تصرمها من جملة ما في السماوات و الأرض فهي بوجودها يثني على الله
تعالى، ثم كل ما في السماوات و الأرض بفقرها إليه تعالى و ذلتها دونه و نقصها
بالنسبة إلى كماله تعالى تسبحه كما قال: "و إن من شيء إلا يسبح بحمده": إسراء:
44، لكن هذا الاعتبار غير منظور إليه في الآيتين اللتين نحن فيهما.
و للمفسرين في الآيتين أقوال أخر متفرقة أشرنا إلى المهم منها في الوجوه التي
قدمناها.
و تغيير السياق في قوله: "و عشيا" لكون العشي لم يبن منه فعل من باب الإفعال
بخلاف المساء و الصباح و الظهيرة حيث بني منها الإمساء و الإصباح و الإظهار
بمعنى الدخول في المساء و الصباح و الظهيرة كذا قيل.
و الخطاب الذي في الآيتين في قوله: "تمسون و تصبحون و تظهرون" ليس من الالتفات
في شيء بل تعميم للخطاب الذي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ شرعت السورة،
و المعنى: فإذا كان الأمر على هذه السبيل فالله منزه حينما دخلتم أنتم معاشر
البشر في مساء و حينما دخلتم في صباح و في العشي و حينما دخلتم في ظهيرة و له
الثناء الجميل في السماوات و الأرض.
و نظير هذا التعميم ما في قوله سابقا: "ثم إليه ترجعون" و لاحقا في قوله: "و
كذلك تخرجون".
قوله تعالى: "يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي و يحيي الأرض بعد موتها
و كذلك تخرجون" ظاهر إخراج الحي من الميت و بالعكس خلق ذوي الحياة من الأرض
الميتة ثم تبديل ذوي الحياة أرضا ميتة، و قد فسر بخلق المؤمن من الكافر و خلق
الكافر من المؤمن فإنه يعد المؤمن حيا و الكافر ميتا، قال تعالى: "أ و من كان
ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا": الأنعام: 122.
و أما إحياء الأرض بعد موتها فهو انتعاش الأرض و ابتهاجها بالنبات في الربيع و
الصيف بعد خمودها في الخريف و الشتاء، و قوله: "و كذلك تخرجون" أي تبعثون و
تخرجون من قبوركم بإحياء جديد كإحياء الأرض بعد موتها، و قد تقدم تفسير نظير
صدر الآية و ذيلها مرارا.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و حسنه و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي
حاتم و الطبراني في الكبير و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل
و الضياء عن ابن عباس: في قوله: "الم غلبت الروم" قال: غلبت و غلبت. قال: كان
المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم، لأنهم أصحاب أوثان، و كان المسلمون
يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر فذكره أبو بكر
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): أما إنهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا و بينك أجلا فإن
ظهرنا كان لنا كذا و كذا و إن ظهرتم كان لكم كذا و كذا فجعل لهم خمس سنين فلم
يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أ لا
جعلته أراه قال: دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله: الم غلبت الروم
فغلبت ثم غلبت بعد. يقول الله: "لله الأمر من قبل و من بعد - و يومئذ يفرح
المؤمنون بنصر الله" قال سفيان: سمعت أنهم قد ظهروا يوم بدر.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر مختلفة المضامين في الجملة ففي بعضها أن
المقامرة كانت بين أبي بكر و أبي بن خلف و في بعضها أنها كانت بين المسلمين و
المشركين و كان أبو بكر من قبل المسلمين و أبي من قبل المشركين، و في بعضها
أنها كانت بين الطائفتين، و في بعضها بين أبي بكر و بين المشركين كما في هذه
الرواية.
ثم الأجل المضروب في بعضها ثلاث سنين، و في بعضها خمس، و في بعضها ست، و في
بعضها سبع سنين.
و في بعضها أن الأجل المضروب أولا انقضى بمكة و هو سبع سنين فمادهم أبو بكر
سنتين بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فغلبت الروم، و في بعضها خلافه.
ثم في بعضها أن الأجل الثاني انقضى بمكة و في بعضها أنه انقضى بعد الهجرة و
كانت غلبة الروم يوم بدر، و في بعضها يوم الحديبية.
و في بعضها أن أبا بكر لما قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر و هو مائة قلوص و
جاء به إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إنه سحت تصدق به.
و الذي تتفق فيه الروايات أنه قامرهم فقمرهم و كان القمار بإشارة من النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) و وجه ذلك بأنه كان قبل تحريم القمار فإنه حرم مع الخمر
في سورة المائدة و قد نزلت في آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قد تحقق بما قدمناه في تفسير آية الخمر و الميسر أن الخمر كانت محرمة من أول
البعثة و كان من المعروف من الدين أنه يحرم الخمر و الزنا.
على أن الخمر و الميسر من الإثم بنص آية البقرة: "يسألونك عن الخمر و الميسر قل
فيهما إثم كبير" الآية: البقرة: 219. و الإثم محرم بنص آية الأعراف: "قل إنما
حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي" الآية: الأعراف: 33، و
الأعراف من العتائق النازلة بمكة فمن الممتنع أن يشير النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بالمقامرة.
و على تقدير تأخر الحرمة إلى آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشكل
قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر لما أتى بالخطر إليه أنه سحت ثم قوله:
تصدق به.
فلا سبيل إلى تصحيح شيء من ذلك بالموازين الفقهية و قد تكلفوا في توجيه ذلك بما
لا يزيد إلا إشكالا.
ثم إن ما في الرواية أن الفرس كانوا عبدة الأوثان لا يوافق ما كان عليه القوم
فإنهم و إن كانوا مشركين لكنهم كانوا لا يتخذون أوثانا.
و في تفسير القمي،: في قوله: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا - و هم عن الآخرة
هم غافلون" قال: يرون حاضر الدنيا و يتغافلون عن الآخرة.
و في الخصال،: و سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله تعالى: "أ و لم يسيروا
في الأرض" فقال: أ و لم ينظروا في القرآن.
و في تفسير القمي،: و قوله عز و جل: "و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون" قال:
إلى الجنة و النار.
30 سورة الروم - 20 - 26
وَ مِنْ ءَايَتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمّ إِذَا أَنتُم بَشرٌ
تَنتَشِرُونَ (20) وَ مِنْ ءَايَتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَجاً لِّتَسكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكم مّوَدّةً وَ رَحْمَةً
إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ (21) وَ مِنْ ءَايَتِهِ خَلْقُ
السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اخْتِلَف أَلْسِنَتِكمْ وَ أَلْوَنِكمْ إِنّ فى ذَلِك
لاَيَتٍ لِّلْعَلِمِينَ (22) وَ مِنْ ءَايَتِهِ مَنَامُكم بِالّيْلِ وَ
النهَارِ وَ ابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضلِهِ إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ لِّقَوْمٍ
يَسمَعُونَ (23) وَ مِنْ ءَايَتِهِ يُرِيكمُ الْبرْقَ خَوْفاً وَ طمَعاً وَ
يُنزِّلُ مِنَ السمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الأَرْض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنّ فى
ذَلِك لاَيَتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَ مِنْ ءَايَتِهِ أَن تَقُومَ
السمَاءُ وَ الأَرْض بِأَمْرِهِ ثمّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ
إِذَا أَنتُمْ تخْرُجُونَ (25) وَ لَهُ مَن فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ كلّ لّهُ
قَنِتُونَ (26)
بيان
يذكر في هذا الفصل عدة من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية و
الألوهية، و يشار فيها إلى امتزاج الخلق و التدبير و تداخلهما ليتضح بذلك أن
الربوبية بمعنى ملك التدبير و الألوهية بمعنى المعبودية بالحق لا يستحقهما إلا
الله الذي خلق الأشياء و أوجدها، لا كما يزعم الوثني أن الخلق لله وحده و
التدبير و العبادة لأرباب الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و ليس له سبحانه
إلا أنه رب الأرباب و إله الآلهة.
قوله تعالى: "و من آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون" المراد
بالخلق من تراب انتهاء خلقة الإنسان إلى الأرض فإن مراتب تكون الإنسان من مضغة
أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضية تنتهي إلى العناصر الأرضية.
و قوله: "ثم إذا أنتم بشر تنتشرون" إذا فجائية أي يفاجئكم أنكم أناسي تنتشرون
في الأرض أي يخلقكم من تركيبات أرضية المترقب منها كينونة أرضية ميتة أخرى
مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنه يصير بشرا ذوي حياة و شعور عقلي ينتشرون في الأرض
في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله: "ثم إذا أنتم بشر تنتشرون" في معنى قوله: "ثم
أنشأناه خلقا آخر": المؤمنون: 14.
فخلق الإنسان أي جمع أجزائه من الأرض و تأليفها آية و كينونة هذا المجموع
إنسانا ذا حياة و شعور عقلي آية أو آيات أخر تدل على صانع حي عليم يدبر الأمر و
يجري هذا النظام العجيب.
و قد ظهر بهذا المعنى أن "ثم" للتراخي الرتبي و الجملة معطوفة على قوله:
"خلقكم" لا على قوله: "أن خلقكم".
قوله تعالى: "و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها" إلى آخر
الآية، قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر و الأنثى من الحيوانات
المتزاوجة: زوج و لكل قرينين فيها و في غيرها: زوج، قال تعالى: "فجعل منه
الزوجين الذكر و الأنثى" و قال: "و زوجك الجنة" و زوجة لغة رديئة و جمعها زوجات
- إلى أن قال - و جمع الزوج أزواج.
انتهي.
فقوله: "أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها" أي خلق لأجلكم - أو
لينفعكم - من جنسكم قرائن و ذلك أن كل واحد من الرجل و المرأة مجهز بجهاز
التناسل تجهيزا يتم فعله بمقارنة الآخر و يتم بمجموعهما أمر التوالد و التناسل
فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر و يحصل من المجموع واحد تام له أن
يلد و ينسل، و لهذا النقص و الافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر حتى إذا
اتصل به سكن إليه لأن كل ناقص مشتاق إلى كماله و كل مفتقر مائل إلى ما يزيل
فقره و هذا هو الشبق المودع في كل من هذين القرينين.
و قوله: "و جعل بينكم مودة و رحمة" المودة كأنها الحب الظاهر أثره في مقام
العمل فنسبة المودة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى
الخشوع الذي هو نوع تأثر نفساني عن العظمة و الكبرياء.
و الرحمة نوع تأثر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال و حاجته إلى رفع
نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان و رفع نقصه.
و من أجل موارد المودة و الرحمة المجتمع المنزلي فإن الزوجين يتلازمان بالمودة
و المحبة و هما معا و خاصة الزوجة يرحمان الصغار من الأولاد لما يريان ضعفهم و
عجزهم عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيوية فيقومان بواجب العمل في
حفظهم و حراستهم و تغذيتهم و كسوتهم و إيوائهم و تربيتهم و لو لا هذه الرحمة
لانقطع النسل و لم يعش النوع قط.
و نظير هذه المودة و الرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدني بين أفراد المجتمع
فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودة و يرحم المساكين و العجزة و الضعفاء الذين لا
يستطيعون القيام بواجبات الحياة.
و المراد بالمودة و الرحمة في الآية الأوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أو
الأخيرتان على ما يعطيه إطلاق الآية.
و قوله: "لآيات لقوم يتفكرون" لأنهم إذا تفكروا في الأصول التكوينية التي يبعث
الإنسان إلى عقد المجتمع من الذكورة و الأنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزلي
و المودة و الرحمة الباعثتين على الاجتماع المدني ثم ما يترتب على هذا الاجتماع
من بقاء النوع و استكمال الإنسان في حياتيه الدنيا و الأخرى عثروا من عجائب
الآيات الإلهية في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم و تدهش به
أحلامهم.
قوله تعالى: "و من آياته خلق السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم" إلى
آخر الآية.
الظاهر أن يكون المراد باختلاف الألسن اختلاف اللغات من العربية و الفارسية و
الأردوية و غيرها و باختلاف الألوان اختلاف الأمم في ألوانهم كالبياض و السواد
و الصفرة و الحمرة.
و يمكن أن يستفاد اختلاف الألسنة من جهة النغم و الأصوات و نحو التكلم و النطق
و باختلاف الألوان اختلاف كل فردين من أفراد الإنسان بحسب اللون لو دقق فيه
النظر على ما يقول به علماء هذا الشأن.
فالباحثون عن العالم الكبير يعثرون في نظام الخلقة على آيات دقيقة دالة على أن
الصنع و الإيجاد مع النظام الجاري فيه لا يقوم إلا بالله و لا ينتهي إلا إليه.
قوله تعالى: "و من آياته منامكم بالليل و النهار و ابتغاؤكم من فضله" إلى آخر
الآية، الفضل الزيادة على مقدار الحاجة و يطلق على العطية لأن المعطي إنما يعطي
ما فضل من مقدار حاجته، و المراد به في الآية الكريمة الرزق فابتغاء الفضل طلب
الرزق.
و في خلق الإنسان ذا قوى فعالة تبعثه إلى طلب الرزق و رفع حوائج الحياة للبقاء
بالحركة و السعي ثم هدايته إلى الاستراحة و السكون لرفع متاعب السعي و تجديد
تجهيز القوى و تخصيص الليل و النهار المتعاقبين للسعي و السكون و التسبيب إلى
وجود الليل و النهار بأوضاع سماوية قائمة بالأرض و الشمس لآيات نافعة لمن له
سمع واع يعقل ما يسمع فإذا وجده حقا اتبعه.
قال في الكشاف، في الآية: هذا من باب اللف و ترتيبه: و من آياته منامكم و
ابتغاؤكم من فضله بالليل و النهار إلا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين
الآخرين لأنهما زمانان و الزمان و الواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على
الاتحاد و يجوز أن يراد منامكم في الزمانين و ابتغاؤكم فيهما، و الظاهر هو
الأول لتكرره في القرآن و أسد المعاني ما دل عليه القرآن.
انتهي.
و قد ظهر مما تقدم معنى تذييل الآية بقوله: "إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون".
قوله تعالى: "و من آياته يريكم البرق خوفا و طمعا و ينزل من السماء ماء فيحيي
به الأرض بعد موتها" الظاهر أن الفعل نزل منزلة المصدر و لذلك لم يصدر بأن
المصدرية كما صدر به قوله: "أن خلقكم" و قوله: "أن خلق لكم" و تنزيل الفعل
منزلة المصدر لغة عربية جيدة و عليه يحمل المثل السائر: "و تسمع بالمعيدي خير
من أن تراه" و لا ضير في حمل كلامه تعالى عليه فهو تعالى يأتي في مفتتح هذه
الآيات بفنون التعبير كقوله: "منامكم" "يريكم" "أن تقوم".
و احتمل في قوله: "يريكم" أن يكون بحذف أن المصدرية و التقدير أن يريكم البرق و
أيد بقراءة النصب في يريكم.
و احتمل أن يكون من حذف المضاف، و التقدير: و من آياته آية أن يريكم البرق، و
احتمل أن يكون التقدير و من آياته آية البرق ثم استونف فقيل: يريكم البرق إلخ،
و احتمل أن يكون "من آياته" متعلقا بقوله: "يريكم"، و التقدير: و يريكم من
آياته البرق، و احتمل أن يكون "من آياته" حالا من البرق، و التقدير: و يريكم
البرق حال كون البرق من آياته.
و هذه وجوه متفرقة لا يخفى عليك بعدها على أن بعضها يخرج الكلام في الآية عن
موافقة السياق في الآيات السابقة النظيرة له كالوجهين الأخيرين.
و قوله: "خوفا و طمعا" أي خوفا من الصاعقة و طمعا في المطر، و قوله: "و ينزل من
السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها" تقدم تفسيره كرارا، و قوله: "إن في ذلك
لآيات لقوم يعقلون" أي إن أهل التعقل يفقهون أن هناك عناية متعلقه بهذه المصالح
فليس مجرد اتفاق و صدفة.
قوله تعالى: "و من آياته أن تقوم السماء و الأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من
الأرض إذا أنتم تخرجون" القيام مقابل القعود و لما كان أعدل حالات الإنسان حيث
يقوى به على عامة أعماله استعير لثبوت الشيء و استقراره على أعدل حالاته كما
يستعار لتدبير الأمر، قال تعالى: "أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت": الرعد:
33.
و المراد بقيام السماء و الأرض بأمر من الله ثبوتهما على حالهما من حركة و سكون
و تغير و ثبات بأمره تعالى و قد عرف أمره بقوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن
يقول له كن فيكون": يس: 82.
و قوله: "ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون" "إذا" الأولى شرطية و
"إذا" الثانية فجائية قائمة مقام فاء الجزاء و "من الأرض" متعلق بقوله: "دعوة"
و الجملة معطوفة على محل الجملة الأولى لأن المراد بالجملة أعني قوله: "ثم إذا
دعاكم" إلخ البعث و الرجوع إلى الله و ليس في عداد الآيات بل الجملة إخبار بأمر
احتج عليه سابقا و سيحتج عليه لاحقا.
و أما قول القائل: إن الجملة على تأويل المفرد و هي معطوفة على "أن تقوم" و
التقدير و من آياته قيام السماء و الأرض بأمره ثم خروجكم إذا دعاكم دعوة من
الأرض.
فلازمه كون البعث معدودا من الآيات و ليس منها على أن البعث أحد الأصول الثلاثة
التي يحتج بالآيات عليه، و لا يحتج به على التوحيد مثلا بل لو احتج فبالتوحيد
عليه فافهم ذلك.
و لما كانت الآيات المذكورة من خلق البشر من تراب و خلقهم أزواجا و اختلاف
ألسنتهم و ألوانهم و منامهم و ابتغائهم من فضله و إراءة البرق و تنزيل الماء من
السماء كلها آيات راجعة إلى تدبير أمر الإنسان كان المراد بقوله: "أن تقوم
السماء و الأرض" بمعونة السياق ثبات السماء و الأرض على وضعهما الطبيعي و
حالهما العادية ملائمتين لحياة النوع الإنساني المرتبطة بهما و كان قوله: "ثم
إذا دعاكم" إلخ مترتبا على ذلك ترتب التأخير أي إن خروجهم من الأرض متأخر عن
هذا القيام مقارن لخرابهما كما ينبىء به آيات كثيرة في مواضع مختلفة من كلامه
تعالى.
و يظهر بذلك أيضا أن المراد من قوله السابق "و من آياته خلق السماوات و الأرض"
خلقهما من جهة ما يرتبطان بالحياة البشرية و ينفعانها.
و قد رتبت الآيات المذكورة آخذة من بدء خلق الإنسان و تكونه ثم تصنفه صنفين:
الذكر و الأنثى ثم ارتباط وجوده بالسماء و الأرض و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم ثم
السعي في طلب الرزق و سكون المنام ثم إراءة البرق و تنزيل الأمطار حتى تنتهي
إلى قيام السماء و الأرض إلى أجل مسمى ليتم لهذا النوم الإنساني ما قدر له من
أمد الحياة و يعقب ذلك البعث فهذا بعض ما في ترتيب ذكر هذه الآيات من النكات.
و قد رتبت الفواصل أعني قوله "يتفكرون" "للعالمين" "يسمعون" "يعقلون" على هذا
الترتيب لأن الإنسان يتفكر فيصير عالما ثم إذا سمع شيئا من الحقائق وعاه ثم
عقله و الله أعلم.
قوله تعالى: "و له من في السماوات و الأرض كل له قانتون" كانت الآيات المذكورة
مسوقة لإثبات ربوبيته تعالى و ألوهيته كما تقدمت الإشارة إليه و لما انتهى
الكلام إلى ذكر البعث و الرجوع إلى الله عقب ذلك بالبرهان على إمكانه و الحجة
مأخوذة من الخلق و التدبير المذكورين في الآيات السابقة.
فقوله: "و له من في السماوات و الأرض" إشارة إلى إحاطة ملكه الحقيقي لجميع من
في السماوات و الأرض و هم المحشورون إليه و ذلك لأن وجودهم من جميع الجهات قائم
به تعالى قيام فقر و حاجة لا استقلال و لا استغناء لهم عنه بوجه من الوجوه و
هذا هو الملك الحقيقي الذي أثره جواز تصرف المالك في ملكه كيف شاء فله تعالى أن
يتصرف في مملوكيه بنقلهم من النشأة الدنيا إلى النشأة الآخرة.
و قد أكد ذلك بقوله: "كل له قانتون" و القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع - على ما
ذكره الراغب في المفردات -، و المراد بالطاعة مع الخضوع الطاعة التكوينية - على
ما يعطيه السياق - دون التشريعية التي ربما تخلفت.
و ذلك أنهم الملائكة و الجن و الإنس فأما الملائكة فليس عندهم إلا خضوع الطاعة،
و أما الجن و الإنس فهم مطيعون منقادون للعلل و الأسباب الكونية و كلما احتالوا
في إلغاء أثر علة من العلل أو سبب من الأسباب الكونية توسلوا إلى علة أخرى و
سبب آخر كوني ثم علمهم و إرادتهم كاختيارهم جميعا من الأسباب الكونية فلا يكون
إلا ما شاء الله أي الذي تمت علله في الخارج و لا يتحقق مما شاءوا إلا ما أذن
فيه و شاءه فهو المالك لهم و لما يملكونه.
30 سورة الروم - 27 - 39
وَ هُوَ الّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
وَ لَهُ الْمَثَلُ الأَعْلى فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (27) ضرَب لَكُم مّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لّكُم مِّن مّا
مَلَكَت أَيْمَنُكُم مِّن شرَكاءَ فى مَا رَزَقْنَكمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سوَاءٌ
تخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكمْ أَنفُسكُمْ كذَلِك نُفَصلُ الاَيَتِ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتّبَعَ الّذِينَ ظلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيرِ عِلْمٍ
فَمَن يهْدِى مَنْ أَضلّ اللّهُ وَ مَا لهَُم مِّن نّصِرِينَ (29) فَأَقِمْ
وَجْهَك لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَت اللّهِ الّتى فَطرَ النّاس عَلَيهَا لا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِك الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لَكِنّ أَكثرَ النّاسِ
لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصلَوةَ وَ
لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشرِكينَ (31) مِنَ الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وَ
كانُوا شِيَعاً كلّ حِزْبِ بِمَا لَدَيهِمْ فَرِحُونَ (32) وَ إِذَا مَس النّاس
ضرّ دَعَوْا رَبهُم مّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ
رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنهُم بِرَبِّهِمْ يُشرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا
بِمَا ءَاتَيْنَهُمْ فَتَمَتّعُوا فَسوْف تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنزَلْنَا
عَلَيْهِمْ سلْطناً فَهُوَ يَتَكلّمُ بِمَا كانُوا بِهِ يُشرِكُونَ (35) وَ
إِذَا أَذَقْنَا النّاس رَحْمَةً فَرِحُوا بهَا وَ إِن تُصِبْهُمْ سيِّئَةُ
بِمَا قَدّمَت أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطونَ (36) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّ
اللّهَ يَبْسط الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ
لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَئَاتِ ذَا الْقُرْبى حَقّهُ وَ الْمِسكِينَ وَ
ابْنَ السبِيلِ ذَلِك خَيرٌ لِّلّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ وَ أُولَئك
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَ مَا ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيرْبُوَا فى
أَمْوَلِ النّاسِ فَلا يَرْبُوا عِندَ اللّهِ وَ مَا ءَاتَيْتُم مِّن زَكَوةٍ
تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولَئك هُمُ الْمُضعِفُونَ (39)
بيان
لما انساق الاحتجاج على الوحدانية و المعاد من طريق عد الآيات الدالة على ذلك
بقوله: "و من آياته" إلى قوله: "و له من في السماوات و الأرض" الآية، و هو من
صفات الفعل غير سياق الاحتجاج بالآيات إلى سياق الاحتجاج بصفاته الفعلية و
أوردها إلى آخر السورة في أربعة فصول يورد في كل فصل شيئا من صفات الفعل
المستوجبة للوحدانية و المعاد و هي قوله: "و هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده" إلخ،
و قوله: "الله الذي خلقكم ثم رزقكم" إلخ، و قوله: "الله الذي يرسل الرياح" إلخ،
و قوله: "الله الذي خلقكم من ضعف" إلخ.
و إنما لم يبدأ الفصل الأول باسم الجلالة كما بدأ به في الفصول الأخر لسبق ذكره
في الآية السابقة عليه المتصلة به أعني قوله: "و له من في السماوات و الأرض كل
له قانتون" الذي هو كالبرزخ المتوسط بين السياقين، فقوله: "و هو الذي يبدأ
الخلق ثم يعيده" فصل في صورة الوصل.
قوله تعالى: "و هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه" إلى آخر الآية،
بدء الخلق إنشاؤه ابتداء من غير مثال سابق و الإعادة إنشاء بعد إنشاء.
و قوله: "و هو أهون عليه" الضمير الأول للإعادة المفهوم من قوله: "يعيد" و
الضمير الثاني راجع إليه تعالى على ما يتبادر من السياق.
و قد استشكل قوله: "و هو أهون عليه" الدال ظاهرا على كون الإعادة أسهل و أهون
عليه من البدء و هو ينافي كون قدرته مطلقة غير محدودة فإن القدرة اللامتناهية
لا تختلف حالها في تعلقها بشيء دون شيء فتعلقها بالصعب و السهل على السواء فلا
معنى لاسم التفضيل هاهنا.
و قد أجيب عنه بوجوه: منها: أن ضمير "عليه" راجع إلى الخلق دونه تعالى و
الإعادة أهون على الخلق لأنه مسبوق بالابتداء الذي يسهل الفعل على الفاعل
بتحققه منه مرة أو أزيد بخلاف الابتداء الذي لا يسبقه فعل، فالابتداء أصعب
بالطبع بالنسبة إلى الإعادة و الإعادة بالعكس، فالمعنى: أن الإعادة أهون من
البدء بالنسبة إلى الخلق و إذا كان كذلك بالنسبة إلى الخلق فما ظنك بالخالق.
و فيه أن رجوع الضمير إلى الخلق خلاف ظاهر الآية.
و منها: أن أفعل هاهنا منسلخ عن معنى التفضيل فأهون عليه بمعنى هين عليه نظير
قوله: "ما عند الله خير من اللهو".
و فيه أنه تحكم ظاهر لا دليل عليه.
و منها: أن التفضيل إنما هو للإعادة في نفسها بالقياس إلى الإنشاء الابتدائي لا
بالنسبة إليه تعالى و وقوع التفضيل بين فعل منه و فعل لا بأس به كما في قوله
تعالى: "لخلق السماوات و الأرض أكبر من خلق الناس": المؤمن: 57.
و هذا هو الذي يستفاد من كلام الزمخشري إذ يقول: فإن قلت: ما بال الإعادة
استعظمت في قوله: "ثم إذا دعاكم" حتى كأنها فضلت على قيام السماوات و الأرض
بأمره ثم هونت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة لكنها هونت بالقياس إلى
الإنشاء.
انتهي.
و فيه أن تقييد الوصف بقوله: "عليه" أصدق شاهد على أن القياس الواقع بين
الإعادة و الإنشاء إنما هو بالنسبة إليه تعالى لا بين نفس الإعادة و الإنشاء
فالإشكال على ما كان.
و منها: أن التفضيل إنما هو بالنظر إلى الأصول الدائرة بين الناس و الموازين
المتبعة عندهم لا بالنظر إلى الأمر في نفسه، لما يرون أن تكرر الوقوع حتى لمرة
واحدة يوجب سهولته على الفاعل بالنسبة إلى الفعل غير المسبوق بمثله فكأنه قيل:
و الإعادة أهون عليه بالنظر إلى أصولكم العلمية المتبعة عندكم و إلا فالإنشاء و
الإعادة بالنسبة إليه تعالى على السواء.
و فيه أنه معنى صحيح في نفسه لكن الشأن في استفادته من اللفظ و لا شاهد عليه من
جهة لفظ الآية.
و منها: ما ذكره أيضا في الكشاف، قال: و وجه آخر و هو أن الإنشاء من قبيل
التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله و أن لا يفعله و الإعادة من قبيل
الواجب الذي لا بد له من فعله لأنها لجزاء الأعمال و جزاؤها واجب و الأفعال إما
محال و المحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور و أما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف و
هو القبيح و هو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة، و
إما تفضل و التفضل حالة بين بين للفاعل أن يفعله و أن لا يفعله، و إما واجب لا
بد من فعله و لا سبيل إلى الإخلال به.
فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع و أقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من
قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع و إذا كانت أبعدها من الامتناع كانت
أدخلها في التأتي و التسهل فكانت أهون منها و إذا كانت أهون منها كانت أهون من
الإنشاء انتهى.
و فيه أولا: أنه مبني على تحقق الأشياء بالأولوية دون الوجوب و قد تحقق في محله
بطلانه.
و ثانيا: أن القرب و البعد اللذين ذكرهما تصوير عقلي محض و السهولة و الصعوبة
وصفان وجوديان يتصف بهما وجود الشيء من حيث صدوره عن فاعله الموجد له و لا
يبتني الوصف الوجودي على الاعتبار العقلي.
و ثالثا: أن الإنشاء أيضا كالإعادة في الابتناء على المصلحة و هي الغاية فما لم
يكن الإنشاء ذا مصلحة موجبة لم يتحقق كما أن الإعادة كذلك فهما في القرب و
البعد من الامتناع على السواء كما قيل.
و رابعا: أن مقتضى هذا الوجه كون الإعادة أهون من الإنشاء بالنظر إلى أنفسهما
فيعود في الحقيقة إلى الوجه الثالث و يتوجه إليه ما توجه إليه.
و الذي ينبغي أن يقال أن الجملة أعني قوله: "و هو أهون عليه" معلل بقوله بعده:
"و له المثل الأعلى في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم" فهو الحجة المثبتة
لقوله: "و هو أهون عليه".
و المستفاد من قوله: "و له المثل الأعلى" إلخ، إن كل وصف كمالي يمثل به شيء في
السماوات و الأرض كالحياة و القدرة و العلم و الملك و الجود و الكرم و العظمة و
الكبرياء و غيرها فلله سبحانه أعلى ذلك الوصف و أرفعها من مرتبة تلك الموجودات
المحدودة كما قال: "و لله الأسماء الحسنى": الأعراف: 180.
و ذلك أن كل وصف من أوصاف الكمال اتصف به شيء مما في السماوات و الأرض فله في
حد نفسه ما يقابله فإنه مما أفاضه الله عليه و هو في نفسه خال عنه فالحي منها
ميت في ذاته و القادر منها عاجز في ذاته و لذلك كان الوصف فيها محدودا مقيدا
بشيء دون شيء و حال دون حال، و هكذا فالعلم فيها مثلا ليس مطلقا غير محدود بل
محدود مخلوط بالجهل بما وراءه و كذلك الحياة و القدرة و الملك و العظمة و
غيرها.
و الله سبحانه هو المفيض لهذه الصفات من فضله و الذي له من معنى هذه الصفات
مطلق غير محدود و صرف غير مخلوط فلا جهل في مقابل علمه و لا ممات يقابل حياته و
هكذا فله سبحانه من كل صفة يتصف به الموجودات السماوية و الأرضية - و هي صفات
غير ممحضة و لا مطلقة - ما هو أعلاها أي مطلقها و محضها.
فكل صفة توجد فيه تعالى و في غيره من المخلوقات، فالذي فيه أعلاها و أفضلها و
الذي في غيره مفضول بالنسبة إلى ما عنده.
و لما كانت الإعادة متصفة بالهون إذا قيس إلى الإنشاء فيما عند الخلق فهو عنده
تعالى أهون أي هون محض غير مخلوط بصعوبة و مشقة بخلاف ما عندنا معاشر الخلق و
لا يلزم منه أن يكون في الإنشاء صعوبة و مشقة عليه تعالى لأن المشقة و الصعوبة
في الفعل تتبع قدرة الفاعل بالتعاكس فكلما قلت القدرة كثرت المشقة و كلما كثرت
قلت حتى إذا كانت القدرة غير متناهية انعدمت المشقة من رأس، و قدرته تعالى غير
متناهية فلا يشق عليه فعل أصلا و هو المستفاد من قوله: "إن الله على كل شيء
قدير" فإن القدرة إذا جاز تعلقها بكل شيء لم تكن إلا غير متناهية فافهم ذلك.
و قوله: "و له المثل الأعلى في السماوات و الأرض" تقدم أنه في مقام الحجة
بالنسبة إلى قوله: "و هو أهون عليه" و محصله أن كل صفة كمالية يتصف به شيء مما
في السماوات و الأرض من جمال أو جلال فإن لله سبحانه أعلاها أي مطلقها من غير
تقييد و محضها من غير شوب و صرفها من غير خلط.
و قوله: "و هو العزيز الحكيم" في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: "و له المثل
الأعلى" إلخ، أي إنه تعالى عزيز واجد لكل ما يفقده غيره ممتنع من أن يمتنع عليه
شيء حكيم لا يعرض فعله فتور، و لو لم تكن صفة من صفاته مثلا أعلى مما عند غيره
من الممكنات كانت محدودة غير مطلقة و مخلوطة غير صرفة غير خالية من النقص و
القصور فاستذله ذاك القصور فلم يكن عزيزا على الإطلاق و أحدث ذاك النقص في فعله
ثلمة و فتورا فلم يكن حكيما على الإطلاق.
قوله تعالى: "ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما
رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم" إلخ، "من" في قوله: "من
أنفسكم" لابتداء الغاية أي ضرب لكم مثلا متخذا من أنفسكم منتزعا من الحالات
التي لديكم، و قوله: "هل لكم" شروع في المثل المضروب و الاستفهام للإنكار، و
"ما" في "مما ملكت" للنوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد و الإماء، و
"من" في "من شركاء" زائدة و هو مبتدأ، و قوله: "فأنتم فيه سواء" تفريع على
الشركة، و "أنتم" خطاب شامل للمالكين و المملوكين على طريق التغليب، و قوله:
"تخافونهم كخيفتكم أنفسكم" أي تخافون المماليك الشركاء أن تستبدوا في تصرف
المال المشترك من غير إذن منهم و رضى كما تخافون أنفسكم من الشركاء الأحرار.
و هذا مثل ضربه الله لبيان بطلان ما يزعمون أن الله سبحانه مما خلق شركاء في
الألوهية و الربوبية و قد ألقى المثل في صورة الاستفهام الإنكاري: هل يوجد بين
مماليككم من العبيد و الإماء من يكونون شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم - و
الحال أنهم مماليك لكم تملكونهم و ما في أيديهم - بحيث تخافونهم من التصرف في
أموالكم بغير إذن منهم و رضى كما تخافون الشركاء الأحرار من نوع أنفسكم؟!.
لا يكون ذلك أبدا و لا يجوز أن يكون المملوك شريكا لمولاه في ماله و إذا لم يجز
فكيف يجوز أن يكون بعض من خلقه الله كالملائكة و الجن و هم عبيده المملوكون
شركاء له فيما يملك من مخلوقيه و آلهة و أربابا من دونه؟.
ثم تمم الكلام بقوله: "كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون" و فيه تمهيد لما يتلوه من
الكلام.
قوله تعالى: "بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله و ما
لهم من ناصرين" إضراب عما يستفاد من ذيل الآية السابقة و التقدير و هؤلاء
المشركون لم يبنوا شركهم على التعقل بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم.
و كان مقتضى الظاهر أن يقال: بل اتبع الذين أشركوا و إنما بدله من قوله: "بل
اتبع الذين ظلموا" فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال في قوله: "فمن
يهدي من أضل الله" فالظلم يستتبع الإضلال الإلهي، قال تعالى: "يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل
الله ما يشاء": إبراهيم: 27.
فقوله: "فمن يهدي من أضل الله" استفهام إنكاري مدلوله الإيئاس من نعمة الهداية
للمشركين المتبعين لأهوائهم مع ظهور الحق لهم لمكان ظلمهم الموجب لإضلالهم و قد
تكرر في كلامه تعالى: "إن الله لا يهدي القوم الظالمين".
و قوله: "و ما لهم من ناصرين" نفي لنجاتهم بنصرة الناصرين لهم من غيرهم بعد ما
لم ينالوا النجاة من الضلال و تبعاته من عند أنفسهم لإضلال الله لهم و نفي
الجمع دليل على أن لغيرهم ناصرين كالشفعاء.
و قول القائل إن معنى نفي الناصرين لهم أنه ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو
المشهور من مقابلة الجمع بالجمع غير مطرد.
و معنى الآية: بل اتبع الذين ظلموا بشركهم أهواءهم بغير علم و تعقل فأضلهم الله
بظلمهم و لا هادي يهديهم و ليس لهم ناصرون ينصرونهم.
قوله تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون" الكلام متفرع على ما
تحصل من الآيات السابقة المثبتة للمبدإ و المعاد أي إذا ثبت أن الخلق و التدبير
لله وحده لا شريك له و هو سيبعث و يحاسب و لا نجاة لمن أعرض عنه و أقبل على
غيره فأقم وجهك للدين و الزمه فإنه الدين الذي تدعو إليه الخلقة الإلهية.
و قيل: الكلام متفرع على معنى التسلية المفهوم من سياق البيان السابق الدال على
ما هو الحق و أن المشركين لظلمهم اتبعوا الأهواء و أعرضوا عن التعقل الصحيح
فأضلهم الله و لم يأذن لناصر ينصرهم بالهداية و لا لمنقذ ينقذهم من الضلال لا
أنت و لا غيرك فاستيئس منهم و اهتم بخاصة نفسك و من تبعك من المؤمنين و أقم
وجهك و من تبعك للدين.
فقوله: "فأقم وجهك للدين" المراد بإقامة الوجه للدين الإقبال عليه بالتوجه من
غير غفلة منه كالمقبل على الشيء بقصر النظر فيه بحيث لا يلتفت عنه يمينا و
شمالا و الظاهر أن اللام في الدين للعهد و المراد به الإسلام.
و قوله: "حنيفا" حال من فاعل أقم و جوز أن يكون حالا من الدين أو حالا من الوجه
و الأول أظهر و أنسب للسياق، و الحنف ميل القدمين إلى الوسط و المراد به
الاعتدال.
و قوله: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" الفطرة بناء نوع من الفطر بمعنى
الإيجاد و الإبداع و "فطرة الله" منصوب على الإغراء أي الزم الفطرة ففيه إشارة
إلى أن هذا الدين الذي يجب إقامة الوجه له هو الذي يهتف به الخلقة و يهدي إليه
الفطرة الإلهية التي لا تبديل لها.
و ذلك أنه ليس الدين إلا سنة الحياة و السبيل التي يجب على الإنسان أن يسلكها
حتى يسعد في حياته فلا غاية للإنسان يتبعها إلا السعادة و قد هدي كل نوع من
أنواع الخليقة إلى سعادته التي هي بغية حياته بفطرته و نوع خلقته و جهز في
وجوده بما يناسب غايته من التجهيز، قال تعالى: "ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم
هدى": طه: 50، و قال: "الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى": الأعلى: 3.
فالإنسان كسائر الأنواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه و رفع
حوائجه و تهتف له بما ينفعه و ما يضره في حياته، قال تعالى: "و نفس و ما سواها
فألهمها فجورها و تقواها": الشمس: 8، و هو مع ذلك مجهز بما يتم له به ما يجب له
أن يقصده من العمل، قال تعالى: "ثم السبيل يسره": عبس: 20.
فللإنسان فطرة خاصة تهديه إلى سنة خاصة في الحياة و سبيل معينة ذات غاية مشخصة
ليس له إلا أن يسلكها خاصة و هو قوله: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" و ليس
الإنسان العائش في هذه النشأة إلا نوعا واحدا لا يختلف ما ينفعه و ما يضره
بالنظر إلى هذه البنية المؤلفة من روح و بدن فما للإنسان من جهة أنه إنسان إلا
سعادة واحدة و شقاء واحد فمن الضروري حينئذ أن يكون تجاه عمله سنة واحدة ثابتة
يهديه إليها هاد واحد ثابت.
و ليكن ذاك الهادي هو الفطرة و نوع الخلقة و لذلك عقب قوله "فطرة الله التي فطر
الناس عليها" بقوله: "لا تبديل لخلق الله".
فلو اختلفت سعادة الإنسان باختلاف أفراده لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن سعادة
الأفراد المجتمعين، و لو اختلفت السعادة باختلاف الأقطار التي تعيش فيها الأمم
المختلفة بمعنى أن يكون الأساس الوحيد للسنة الاجتماعية أعني الدين هو ما
يقتضيه حكم المنطقة كان الإنسان أنواعا مختلفة باختلاف الأقطار، و لو اختلفت
السعادة باختلاف الأزمنة بمعنى أن تكون الأعصار و القرون هي الأساس الوحيد
للسنة الدينية اختلفت نوعية كل قرن و جيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من
أبنائهم و لم يسر الاجتماع الإنساني سير التكامل و لم تكن الإنسانية متوجهة من
النقص إلى الكمال إذ لا يتحقق النقص و الكمال إلا مع أمر مشترك ثابت محفوظ
بينهما.
و ليس المراد بهذا إنكار أن يكون لاختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة بعض
التأثير في انتظام السنة الدينية في الجملة بل إثبات أن الأساس للسنة الدينية
هو البنية الإنسانية التي هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الأفراد، فللإنسانية
سنة واحدة ثابتة بثبات أساسها الذي هو الإنسان و هي التي تدير رحى الإنسانية مع
ما يلحق بها من السنن الجزئية المختلفة باختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة.
و هذا هو الذي يشير إلى قوله بعد: "ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا
يعلمون" و سنزيد المقام إيضاحا في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.
و للقوم في مفردات الآية و معناها أقوال أخر متفرقة: منها: أن المراد بإقامة
الوجه تسديد العمل فإن الوجه هو ما يتوجه إليه و هو العمل و إقامته تسديده.
و فيه: أن وجه العمل هو غايته المقصودة منه و هي غير العمل و الذي في الآية هو
"فأقم وجهك" و لم يقل فأقم وجه عملك.
و منها: أن "فطرة الله" منصوب بتقدير أعني و الفطرة هي الملة، و المعنى: اثبت و
أدم الاستقامة للدين أعني الملة التي خلق الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
و فيه: أنه مبني على اختلاف المراد بالفطرة و هي الملة و "فطر الناس" و هو
الخلقة و التفكيك خلاف ظاهر الآية و لو أخذ "فطر الناس" بمعنى الإدانة أي الحمل
على الدين و هو التوحيد بقي قوله: "لا تبديل لخلق الله" لا يلائم ما قبله.
على أن فيه خلاف ظاهر آخر و هو حمل الدين على التوحيد، و لو أخذ الدين بمعنى
الإسلام أو مجموع الدين كله و أبقيت الفطرة على معناه المتبادر منها و هو
الخلقة لم يستقم تقدير "أعني" فإن الدين بهذا المعنى غير الفطرة بمعنى الخلقة.
و منها: أن "فطرة" بدل من "حنيفا" و الفطرة بمعنى الملة و يرد عليه ما يرد على
سابقه.
و منها: أن "فطرة" مفعول مطلق لفعل محذوف مقدر، و التقدير: فطر الله فطرة فطر
الناس عليها و فساده غني عن البيان.
و منها: أن معناه اتبع من الدين ما دلك عليه فطرة الله و هو ما دلك عليه ابتداء
خلقه للأشياء لأنه خلقهم و ركبهم و صورهم على وجه يدل على أن لهم صانعا قادرا
عالما حيا قديما واحدا لا يشبه شيئا و لا يشبهه شيء.
و فيه أنه مبني على كون "فطرة" منصوبا بتقدير اتبع و قد ذكره أبو السعود و قبله
أبو مسلم المفسر فيكون المراد من اتباع الفطرة اتباع دلالة الفطرة بمعنى الخلقة
و المراد بعدم تبديل الخلق عدم تغيره في الدلالة على الصانع بما له من الصفات
الكريمة، و هذا قريب من المعنى الذي قدمناه للآية بحمل "فطرة" على الإغراء لكن
يبقى عليه أن الآية عامة لا دليل على تخصيصها بالتوحيد.
و منها: أن لا في قوله: "لا تبديل لخلق الله" تفيد النهي أي لا تبدلوا خلق الله
أي دينه الذي أمرتم بالتمسك به، أو لا تبدلوا خلق الله بإنكار دلالته على
التوحيد و منه ما نسب إلى ابن عباس أن المراد به النهي عن الخصاء.
و فيه أن لا دليل على أخذ الخلق بمعنى الدين و لا موجب لتسمية الإعراض عن دلالة
الخلقة أو إنكارها تبديلا لخلق الله.
و أما ما نسب إلى ابن عباس ففساده ظاهر.
و منها: ما ذكره الرازي في التفسير الكبير، قال: و يحتمل أن يقال: خلق الله
الخلق لعبادته و هم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون
المملوك عبدا للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره و يخرج عن ملكه بالعتق بل لا -
خروج للخلق عن العبادة و العبودية.
و هذا لبيان فساد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال و العبد يكمل بالعبادة
فلا يبقى عليه تكليف، و قول المشركين: إن الناقص لا يصلح لعبادة الله و إنما
الإنسان عبد الكواكب و الكواكب عبيد الله، و قول النصارى إن عيسى كان يحل الله
فيه و صار إلها فقال: لا تبديل لخلق الله بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك.
انتهي.
و فيه أنه مغالطة بين الملك و العبادة التكوينيين و الملك و العبادة التشريعيين
فإن ملكه تعالى الذي لا يقبل الانتقال و البطلان ملك تكويني بمعنى قيام وجود
الأشياء به تعالى و العبادة التي بإزائه عبادة تكوينية و هو خضوع ذوات الأشياء
له تعالى و لا تقبل التبديل و الترك كما في قوله: "و إن من شيء إلا يسبح
بحمده": إسراء: 44، و أما العبادة الدينية التي تقبل التبديل و الترك فهي عبادة
تشريعية بإزاء الملك التشريعي المعتبر له تعالى فافهمه.
و لو دل قوله: "لا تبديل لخلق الله" على عدم تبديل الملك و العبادة و العبودية
لدل على التكويني منهما و الذي يبدله القائلون بارتفاع التكليف عن الإنسان
الكامل أو بعبادة الكواكب أو المسيح فإنما يعني به التشريعي منهما.
قوله تعالى: "منيبين إليه و اتقوه و أقيموا الصلاة و لا تكونوا من المشركين"
تعميم للخطاب بعد تخصيصه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نظير قوله: "يا أيها
النبي إذا طلقتم النساء": الطلاق: 1، و قوله: "فاستقم كما أمرت و من تاب معك و
لا تطغوا": هود: 112، فيئول المعنى إلى نحو من قولنا: فأقم وجهك للدين حنيفا
أنت و من معك منيبين إلى الله، و الإنابة الرجوع بالتوبة.
و قوله: "و اتقوه و أقيموا الصلاة" التقوى بحسب دلالة المقام يشمل امتثال
أوامره و الانتهاء عن نواهيه تعالى فاختصاص إقامة الصلاة من بين سائر العبادات
بالذكر للاعتناء بشأنها فهي عمود الدين.
و قوله: "و لا تكونوا من المشركين" القول في اختصاصه من بين المحرمات بالذكر
نظير القول في الصلاة فالشرك بالله أكبر الكبائر الموبقة، و قد قال تعالى: "إن
الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء": النساء: 48، إلى غير ذلك
من الآيات.
قوله تعالى: "من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون" "من"
للتبيين و "من الذين فرقوا دينهم" إلخ، بيان للمشركين و فيه تعريفهم بأخص
صفاتهم في دينهم و هو تفرقهم في دينهم و عودهم شيعة شيعة و حزبا حزبا يفرح و
يسر كل شيعة و حزب بما عندهم من الدين و السبب في ذلك ما ذكره قبيل هذا بقوله:
"بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله و ما لهم من
ناصرين" فبين أنهم بنوا دينهم على أساس الأهواء و أنه لا يهديهم و لا هادي
غيره.
و من المعلوم أن هوى النفس لا يتفق في النفوس بل و لا يثبت على حال واحدة دون
أن يختلف باختلاف الأحوال و إذا كان هو الأساس للدين لم يلبث دون أن يسير بسير
الأهواء و ينزل بنزولها، و لا فرق في ذلك بين الدين الباطل و الدين الحق المبني
على أساس الهوى.
و من هنا يظهر أن النهي عن تفرق الكلمة في الدين نهي في الحقيقة عن بناء الدين
على أساس الهوى دون العقل، و ربما احتمل كون الآية استئنافا من الكلام و هو لا
يلائم السياق.
و في الآية ذم للمشركين بما عندهم من صفة التفرق في الكلمة و التحزب في الدين.
قوله تعالى: "و إذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة
إذا فريق منهم بربهم يشركون" التعبير بالمس للدلالة على القلة و الخفة و تنكير
ضر و رحمة أيضا لذلك و المعنى: إذا أصاب الناس شيء من الضر و لو قليلا كمرض ما
و فقر ما و شدة ما دعوا ربهم و هو الله سبحانه حال كونهم راجعين من غيره ثم إذا
أذاقهم الله من عنده رحمة إذا فريق من هؤلاء الناس بربهم الذي كانوا يدعونه و
يعترفون بربوبيته يشركون باتخاذ الأنداد و الشركاء.
أي إنهم كافرون للنعمة طبعا و إن اعترفوا بها عند الضر و قد أخذ لذلك فريقا
منهم لأن منهم من ليس كذلك.
قوله تعالى: "ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون" تهديد لأولئك المشركين
عند إذاقة الرحمة و اللام في "ليكفروا" للأمر الغائب و قوله: "فتمتعوا" متفرع
على سابقه و هو أمر آخر و الأمران جميعا للتهديد، و الالتفات من الأمر الغائب
إلى الأمر الحاضر لثوران الوجد و السخط من تفريطهم في جنب الله و استهانتهم
بأمره فقد بلغ منهم ذلك أن يتضرعوا عند الضر و يكفروا إذا كشف.
قوله تعالى: "أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون" "أم"
منقطعة و المراد بالإنزال الإعلام أو التعليم مجازا، و السلطان البرهان، و
المراد بالتكلم الدلالة مجازا فالمعنى بل أعلمناهم برهانا فهو يدل على ما كانوا
به يشركون أو بشركهم.
و يمكن أن يراد بالسلطان ذو السلطان و هو الملك فلا مجاز في الإنزال و التكلم و
المعنى: بل أ أنزلنا عليهم ملكا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أو بشركهم.
قوله تعالى: "و إذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها و إن تصبهم سيئة بما قدمت
أيديهم إذا هم يقنطون" الإذاقة كالمس تدل على قليل النيل و يسيره، و القنوط
اليأس.
و إذا الأولى شرطية و الثانية فجائية و المقابلة بين "إذا" في إذاقة الرحمة و
"إن" في إصابة السيئة لأن الرحمة كثيرة قطعية و السيئة قليلة احتمالية، و نسبة
الرحمة إليه تعالى دون السيئة لأن الرحمة وجودية مفاضة منه تعالى و السيئة
عدمية هي عدم الإفاضة و لذا عللها بقوله: "بما قدمت أيديهم"، و في تعليل السيئة
بذلك و عدم التعليل في جانب الرحمة بشيء إشارة إلى أن الرحمة تفضل.
و التعبير في الرحمة بقوله: "فرحوا" و في السيئة بقوله: "إذا هم يقنطون"
للدلالة على حدوث القنوط و لم يكن بمترقب فإن الرحمة و السيئة بيد الله و
الرحمة واسعة و لهذا عبر بالمضارع الدال على الحال لتمثيل حالهم.
و المراد بالآية بيان أن الناس لا يعدو نظرهم ظاهر ما يشاهدونه من النعمة و
النقمة إذا وجدوا فرحوا بها من غير أن يتبصروا و يعقلوا أن الأمر بيد غيرهم و
بمشية من ربهم إذا لم يشأ لم يكن، و إذا فقدوا قنطوا كان ليس ذلك بإذن من ربهم
و إذا لم يشأ لم يأذن و فتح باب النعمة فهم ظاهريون سطحيون.
و بهذا يتضح أن لا تدافع بين هذه الآية و بين قوله السابق: "و إذا مس الناس ضر
دعوا ربهم منيبين إليه" الآية و ذلك أن مدلول هذه الآية أن أفهامهم سطحية إذا
وجدوا فرحوا و إذا فقدوا قنطوا و مدلول تلك أنهم إذا وجدوا فرحوا و إذا فقدوا
دعوا الله و هم قانطون من الشيء و أسبابه منيبين راجعين إلى الله سبحانه فلا
تدافع.
و ربما أجيب بأن المراد بالناس في هذه الآية فريق آخر غير الفريق المراد بالناس
في الآية السابقة و لو فرض اتحادهما كان ما ذكر من دعائهم في حال و قنوطهم في
حال أخرى.
و أجيب عنه أيضا بأن الدعاء لساني جار على العادة و لا ينافي القنوط الذي هو
أمر قلبي و أنت خبير بما في كل من الجوابين من الفتور.
و أجيب أيضا أن المراد بقنوطهم فعلهم فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام
الغلاء.
و فيه مضافا إلى عدم الدليل على ذلك أنه لا يلائم معنى المفاجأة في القنوط.
قوله تعالى: "أ و لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر إن في ذلك لآيات
لقوم يؤمنون" بيان لخطئهم في المبادرة إلى الفرح و القنوط عند إذاقة الرحمة و
إصابة السيئة فإن الرزق في سعته و ضيقه تابع لمشية الله فعلى الإنسان أن يعلم
أن الرحمة التي ذاقها و السيئة التي أصابته ممكنة الزوال بمشية الله سبحانه و
لا موجب للفرح بما لا يؤمن فقده و لا للقنوط مما يرجى زواله.
و أما أنه أمر ظاهر للإنسان مقطوع به كأنه يراه فلأن الرزق الذي يناله الإنسان
أو يكتسبه متوقف الوجود على ألوف و ألوف من الأسباب و الشرائط ليس الإنسان الذي
يراه لنفسه إلا أحد تلك الأسباب و لا السبب الذي يركن إليه و يطيب به نفسا إلا
بعض تلك الأسباب و عامة الأسباب منتهية إليه سبحانه فهو الذي يعطي و يمنع و هو
الذي يبسط و يقدر أي يوسع و يضيق، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: "فآت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل" إلخ، ذو القربى صاحب
القرابة من الأرحام و المسكين أسوأ حالا من الفقير و ابن السبيل المسافر ذو
الحاجة، و إضافة الحق إلى الضمير تدل على أن لذي القربى حقا ثابتا، و الخطاب
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فظاهر الآية بما تحتف به من القرائن أن
المراد بها الخمس و التكليف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يتبعه غيره ممن
كلف بالخمس، و القرابة على أي حال قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما
في آية الخمس، هذا كله على تقدير كون الآية مدنية و أما على تقدير كونها مكية
كسائر آيات السورة فالمراد مطلق الإحسان للقرابة و المسكين و ابن السبيل.
و لعموم الآية معنى عمم ذكره أثره الجميل فقال: "ذلك خير للذين يريدون وجه الله
و أولئك هم المفلحون".
قوله تعالى: "و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله، و
ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون" الربا نماء المال، و
قوله: "ليربوا" إلخ، يشير إلى وجه التسمية، فالمراد أن المال الذي تؤتونه الناس
ليزيد في أموالهم لا إرادة لوجه الله - بقرينة ذكر إرادة الوجه في مقابله -
فليس يزيد و ينمو عند الله أي لا تثابون عليه لعدم قصد الوجه.
و قوله: "و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون" المراد
بالزكاة مطلق الصدقة أي إعطاء المال لوجه الله من غير تبذير، و المضعف ذو
الضعف، و المعنى: و ما أعطيتم من المال صدقة تريدون وجه الله فأولئك هم الذين
يضاعف لهم مالهم أو ثوابهم.
فالمراد بالربا و الزكاة بقرينة المقابلة و ما احتف بهما من الشواهد، الربا
الحلال و هو العطية من غير قربة، و الصدقة و هي إعطاء المال مع قصد القربة.
هذا كله على تقدير كون الآية مكية و أما على تقدير كونها مدنية فالمراد بالربا
الربا المحرم و بالزكاة هي الزكاة المفروضة.
و هذه الآية و التي قبلها أشبه بالمدنيات منهما بالمكيات و لا اعتبار بما يدعى
من الرواية أو الإجماع المنقول.
بحث روائي
في العيون، عن عبيد الله بن عباس قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فينا خطيبا فقال في آخر خطبته: نحن كلمة التقوى و سبيل الهدى و المثل الأعلى و
الحجة العظمى و العروة الوثقى.
الحديث.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "ضرب لكم مثلا من أنفسكم" الآية أن سبب
نزولها أن قريشا كانوا يحجون البيت بحج إبراهيم (عليه السلام) و يلبون تلبيته:
لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك
لك. فجاءهم إبليس في صورة شيخ فغير تلبيتهم إلى قول: لبيك اللهم لا شريك لك إلا
شريكا هو لك تملكه و ما ملك. فكانت قريش تلبي هذه التلبية حتى بعث رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) فأنكر عليهم ذلك و قال: إنه شرك. فأنزل الله عز و
جل: "ضرب لكم مثلا من أنفسكم - هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما
رزقناكم - فأنتم فيه سواء" أي أ ترضون أنتم فيما تملكون أن يكون لكم فيه شريك؟
فكيف ترضون أن تجعلوا لي شريكا فيما أملك؟.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله
تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا" قال: هي الولاية.
و فيه، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: "فطرة
الله التي فطر الناس عليها" قال: التوحيد: أقول: و رواه أيضا عن الحلبي و زرارة
عنه (عليه السلام) و رواه الصدوق في التوحيد، عن العلاء بن فضيل و زرارة و بكير
عنه (عليه السلام).
و في روضة الكافي، بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
كانت شريعة نوح (عليه السلام) أن يعبد الله بالتوحيد و الإخلاص و خلع الأنداد،
و هو الفطرة التي فطر الناس عليها.
و في تفسير القمي، بإسناده عن الهيثم الرماني عن الرضا عن أبيه عن جده عن أبيه
محمد بن علي (عليهما السلام): في قوله عز و جل: "فطرة الله التي فطر الناس
عليها" قال: هو لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أمير المؤمنين ولي الله إلى
هاهنا التوحيد.
أقول: و روى هذا المعنى في بصائر الدرجات، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و
رواه في التوحيد، عن عبد الرحمن مولى أبي جعفر عنه (عليه السلام).
و معنى كون الفطرة هي الشهادات الثلاث أن الإنسان مفطور على الاعتراف بالله لا
شريك له بما يجد من الحاجة إلى الأسباب المحتاجة إلى ما وراءها و هو التوحيد و
بما يجد من النقص المحوج إلى دين يدين به ليكمله و هو النبوة، و بما يجد من
الحاجة إلى الدخول في ولاية الله بتنظيم العمل بالدين و هو الولاية و الفاتح
لها في الإسلام هو علي (عليه السلام)، و ليس معناه أن كل إنسان حتى الإنسان
الأولي يدين بفطرته بخصوص الشهادات الثلاث.
و إلى هذا يئول معنى الرواية السابقة أنها الولاية فإنها تستلزم التوحيد و
النبوة و كذا ما مر من تفسيره الفطرة بالتوحيد فإن التوحيد هو القول بوحدانية
الله تعالى المستجمع لصفات الكمال المستلزمة للمعاد و النبوة و الولاية فالمال
في تفسيرها بالشهادات الثلاث و التوحيد و الولاية واحد.
و في المحاسن، بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله
عز و جل "فطرة الله التي فطر الناس عليها" قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم و لو
لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم و من رازقهم؟.
و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن نعيم الصحاف عن أبي عبد الله (عليه السلام)
في حديث قال: فقال (عليه السلام): إن الله عز و جل خلق الناس كلهم على الفطرة
التي فطرهم عليها لا يعرفون إيمانا بشريعة و لا كفرا بجحود ثم بعث الله عز و جل
الرسل يدعو العباد إلى الإيمان به فمنهم من هدى الله و منهم من لم يهده.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر واردة في تفسير قوله تعالى: "كان الناس أمة
واحدة": البقرة: 213 و المراد فيها بالإنسان الفطري الإنسان الساذج الذي يعيش
على الفطرة الإنسانية الذي لم يفسده الأوهام الفكرية و الأهواء النفسانية فإنه
بالقوة القريبة من الفعل بالنسبة إلى أصول العقائد الحقة و كليات الشرائع
الإلهية فإنه يعيش ببعث و تحريك من فطرته و خصوص خلقته.
و أما الاهتداء إلى خصوص العقائد الحقة و تفاصيل الشرائع الإلهية فيتوقف على
هداية خاصة إلهية من طريق النبوة من الجزء الثاني من الكتاب.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمرو الصفار قال: سألت قتادة عن
قوله تعالى: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" فقال: حدثني أنس بن مالك قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "فطرة الله التي فطر الناس عليها"
قال: دين الله.
و فيه، أخرج البخاري و مسلم و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من مولود إلا يولد على
الفطرة فأبواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل
تحسون فيها من جدعاء؟ قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم "فطرة الله التي فطر الناس
عليها" الآية.
أقول: و رواه أيضا عن مالك و أبي داود و ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلى الله
عليه وآله وسلم) و لفظه: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه و ينصرانه
كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء.
و رواه أيضا في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مولود يولد على الفطرة يعني
على المعرفة بأن الله خالقه.
الحديث.
و في التوحيد، بإسناده عن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإن بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا الله،
و أربعة أشهر الصلاة على النبي و أربعة أشهر الدعاء لوالديه.
أقول: هو حديث لطيف و معناه: أن الطفل في الأربعة أشهر الأولى لا يعرف أحدا و
إنما يحس بالحاجة فيطلب بالبكاء رفعها و الرافع لها هو الله سبحانه فهو يتضرع
إليه و يشهد له بالوحدانية.
و في الأربعة أشهر الثانية يعرف من والديه واسطة ما بينه و بين رافع حاجته من
غير أن يعرفهما بشخصيهما و الواسطة بينه و بين ربه هو النبي فبكاؤه طلب الرحمة
من ربه للنبي حتى يصل بتوسطه إليه.
و في الأربعة أشهر الثالثة يميز والديه بشخصيهما عن غيرهما فبكاؤه دعاء منه
لهما و طلب جريان الرحمة من طريقهما إليه.
ففي الحديث ألطف الإشارة إلى كيفية جريان الفيض من مجرى الوسائط فافهم ذلك.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "و آت ذا القربى حقه": و روى أبو سعيد الخدري و
غيره: أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى فاطمة
(عليها السلام) فدكا و سلمه إليها و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله
(عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن إبراهيم اليماني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
الربا رباءان: ربا يؤكل و ربا لا يؤكل، فأما الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب
منه الثواب أفضل منها فذلك الربا الذي يؤكل، و هو قول الله عز و جل: "و ما
آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله" و أما الذي لا يؤكل
فهو الذي نهى الله عنه و أوعد عليه النار: أقول: و رواه أيضا في التهذيب، عن
إبراهيم بن عمر عنه (عليه السلام)، و في تفسير القمي، عن حفص بن غياث عنه (عليه
السلام)، و في المجمع، مرسلا عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في المجمع،: في قوله تعالى: "فأولئك هم المضعفون" قال أمير المؤمنين (عليه
السلام): فرض الله الصلاة تنزيها عن الكبر، و الزكاة تسبيبا للرزق، و الصيام
ابتلاء لإخلاص الخلق، و صلة الأرحام منماة للعدد.
و في الفقيه،: خطبة للزهراء (عليها السلام) و فيها: ففرض الله الإيمان تطهيرا
من الشرك و الصلاة تنزيها عن الكبر و الزكاة زيادة في الرزق.
كلام في معنى كون الدين فطريا، في فصول
1 - إذا تأملنا هذه الأنواع الموجودة التي تتكون و تتكامل تدريجا سواء كانت
ذوات حياة و شعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات أو ميتة غير ذي
حياة كسائر الأنواع الطبيعية - على ما يظهر لنا - وجدنا كل نوع منها يسير في
وجوده سيرا تكوينيا معينا ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض و بعضها بعد بعض يرد
النوع في كل منها بعد المرور بالبعض الذي قبله و قبل الوصول إلى ما بعده و لا
يزال يستكمل بطي هذه المنازل حتى ينتهي إلى آخرها و هو نهاية كماله.
نجد هذه المراتب المطوية بحركة النوع يلازم كل منها مقامه الخاص به لا يستقدم و
لا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهي إلى كماله فبينها رابطة
تكوينية يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى و لا ينتقل إلى غير مكانه و
من هنا يستنتج أن للنوع غاية تكوينية يتوجه إليها من أول وجوده حتى يبلغها.
فالجوزة الواحدة مثلا إذا استقرت في الأرض استقرارا يهيئها للنمو على اجتماع
مما يتوقف عليه النمو من العلل و الشرائط كالرطوبة و الحرارة و غيرهما أخذ لبها
في النمو و شق القشر و شرع في ازدياد من أقطار جسمه و لم يزل يزيد و ينمو حتى
يصل إلى حد يعود فيه شجرة قوية خضراء مثمرة و لا يختلف حاله في مسيره هذا
التكويني و هو في أول وجوده قاصدا قاصدا تكوينيا إلى غايته التكوينية التي هي
مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة.
و كذا الواحد من نوع الحيوان كالواحدة من الضأن مثلا لا نشك في أنها في أول
تكونها جنينا متوجهة إلى غايتها النوعية التي هي مرتبة الضأنة الكاملة التي لها
خواصها فلا تضل عن سبيلها التكوينية الخاصة بها إلى سبيل غيرها و لا تنسى
غايتها يوما فتسير إلى غير غايتها كغاية الفيلة مثلا أو غاية شجرة الجوز مثلا
فكل نوع من الأنواع التكوينية له مسير خاص في استكمال الوجود ذو مراتب خاصة
مترتبة بعضها على بعض تنتهي إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتا يطلبها طلبا تكوينيا
بحركته التكوينية و النوع في وجوده مجهز بما هو وسيلة حركته و بلوغه إلى غايته.
و هذا التوجه التكويني لاستناده إلى الله يسمى هداية عامة إلهية و هي كما عرفت
لا تضل و لا تخطىء في تسيير كل نوع مسيره التكويني و سوقه إلى غايته الوجودية
بالاستكمال التدريجي و بإعمال قواه و أدواته التي جهز بها لتسهيل مسيره إلى
غايته، قال تعالى: "ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه: 50، و قال: "الذي
خلق فسوى و الذي قدر فهدى و الذي أخرج المرعى فجعله غثاء أهوى": الأعلى: 5.
2 - نوع الإنسان غير مستثنى من كلية الحكم المذكور أعني شمول الهداية العامة له
فنحن نعلم أن النطفة الإنسانية من حين تشرع في التكون متوجهة إلى مرتبة إنسان
تام كامل له آثاره و خواصه قد قطع في مسيره مراحل الجنينية و الطفولية و
المراهقة و الشباب و الكهولة و الشيب.
غير أن الإنسان يفارق سائر الأنواع الحيوانية و النباتية و غيرها فيما نعلم في
أمر و هو أنه لسعة حاجته التكوينية و كثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم
نواقصه الوجودية و رفع حوائجه الحيوية وحده بمعنى أن الواحد من الإنسان لا تتم
له حياته الإنسانية و هو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزلي ثم اجتماع مدني يجتمع
فيه مع غيره بالازدواج و التعاون و التعاضد فيسعى الكل بجميع قواهم التي جهزوا
بها للكل ثم يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه على قدر زنته
الاجتماعية.
و قد عرفت في سابق مباحث هذا الكتاب أن المدنية ليست بطبيعية للإنسان بمعنى أن
ينبعث إليه من ناحية طبيعته الإنسانية ابتداء بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع
نفسه ما وجد إليه سبيلا فهو يستخدم الأمور الطبيعية ثم أقسام النبات و الحيوان
في سبيل مقاصده الحيوية فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجرأ لكنه يجد
سائر الأفراد أمثاله في الأميال و المقاصد و في الجهازات و القوى فيضطر إلى
المسالمة و أن يسلم لهم حقوقا مثل ما يراه لنفسه.
و ينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاوني ثم
يقسم الحاصل من الأعمال بين الجميع و يعطى منه لكل ما يستحقه.
و كيف كان فالمجتمع الإنساني لا يتم انعقاده و لا يعمر إلا بأصول علميه و
قوانين اجتماعية يحترمها الكل و حافظ يحفظها من الضيعة و يجريها في المجتمع و
عند ذلك تطيب لهم العيشة و تشرف عليهم السعادة.
أما الأصول العلمية فهي معرفته إجمالا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة و ما
عليه الإنسان من حيث البداية و النهاية فإن المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص
السنن المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الإنسان أنه مادي محض ليس له من
الحياة إلا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت و أن ليس في دار الوجود إلا السبب
المادي الكائن الفاسدة ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة
و الكمالات المادية ما وراءها شيء.
و المعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم و قوانينهم على إرضاء
الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية و المعتقدون بالمبدإ و المعاد يبنون حياتهم
على أساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التي بعد الموت فصور
الحياة الاجتماعية تختلف باختلاف الأصول الاعتقادية في حقيقة العالم و الإنسان
الذي هو جزء من أجزائه.
و أما القوانين و السنن الاجتماعية فلو لا وجود قوانين و سنن مشتركة يحترمها
المجتمعون جميعهم أو أكثرهم و يتسلمونها تفرق الجمع و انحل المجتمع.
و هذه السنن و القوانين قضايا كلية عملية صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو
يحرم أو يجوز و هي أيا ما كانت معتبرة في العمل لغايات مصلحة للاجتماع و
المجتمع تترتب عليها تسمى مصالح الأعمال و مفاسدها.
3 - قد عرفت أن الإنسان إنما ينال ما قدر له من كمال و سعادة بعقد مجتمع صالح
يحكم فيه سنن و قوانين صالحة تضمن بلوغه و نيله سعادته التي تليق به و هذه
السعادة أمر أو أمور كمالية تكوينية تلحق الإنسان الناقص الذي هو أيضا موجود
تكويني فتجعله إنسانا كاملا في نوعه تاما في وجوده.
فهذه السنن و القوانين - و هي قضايا عملية اعتبارية - واقعة بين نقص الإنسان و
كماله متوسطة كالعبرة بين المنزلتين و هي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال
أو كمالات إنسانية، و هذه الكمالات أمور حقيقية مسانخة ملائمة للنواقص التي هي
مصاديق حوائج الإنسان الحقيقية.
فحوائج الإنسان الحقيقية هي التي وضعت هذه القضايا العملية و اعتبرت هذه
النواميس الاعتبارية، و المراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانية بأميالها
و عزائمها و يصدقه العقل الذي هو القوة الوحيدة التي تميز بين الخير و النافع و
بين الشر و الضار دون ما تطلبه الأهواء النفسانية مما لا يصدقه العقل فإنه كمال
حيواني غير إنساني.
فأصول هذه السنن و القوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقة التي هي بحسب الواقع
حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانية.
و قد عرفت أن الصنع و الإيجاد قد جهز كل نوع من الأنواع - و منها الإنسان - من
القوى و الأدوات بما يرتفع بفعاليته حوائجه و يسلك به سبيل الكمال و منه يستنتج
أن للجهازات التكوينية التي جهز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العملية المسماة
بالسنين و القوانين التي بالعمل بها يستقر الإنسان في مقر كماله مثل السنن و
القوانين الراجعة إلى التغذي المعتبرة بما أن الإنسان مجهز بجهاز التغذي و
الراجعة إلى النكاح بما أن الإنسان مجهز بجهاز التوالد و التناسل.
فتبين أن من الواجب أن يتخذ الدين - أي الأصول العلمية و السنن و القوانين
العملية التي تضمن باتخاذها و العمل بها سعادة الإنسان الحقيقية - من اقتضاءات
الخلقة الإنسانية و ينطبق التشريع على الفطرة و التكوين، و هذا هو المراد بكون
الدين فطريا و هو قوله تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس
عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم".
4 - قد عرفت معنى كون الدين فطريا فالإسلام يسمى دين الفطرة لما أن الفطرة
الإنسانية تقتضيه و تهدي إليه.
و يسمى إسلاما لما أن فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، و مصداق الإرادة
و هي صفة الفعل تجمع العلل المؤلفة من خصوص خلقة الإنسان و ما يحتف به من
مقتضيات الكون العام على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى: "إن الدين عند الله
الإسلام".
و يسمى دين الله لأنه الذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مر من معنى
الإرادة.
و يسمى سبيل الله لما أنه السبيل التي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهي به
إلى كماله و سعادته، قال تعالى: "الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا":
الأعراف: 45.
و أما أن الدين الحق يجب أن يؤخذ من طريق الوحي و النبوة و لا يكفي فيه العقل
فقد تقدم بيانه في مباحث النبوة و غيرها من مباحث الكتاب.
|