قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
30 سورة الروم - 40 - 47
اللّهُ الّذِى خَلَقَكُمْ ثُمّ رَزَقَكُمْ ثُمّ يُمِيتُكمْ ثُمّ يحْيِيكُمْ
هَلْ مِن شرَكائكُم مّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شىْءٍ سبْحَنَهُ وَ تَعَلى
عَمّا يُشرِكُونَ (40) ظهَرَ الْفَسادُ فى الْبرِّ وَ الْبَحْرِ بِمَا كَسبَت
أَيْدِى النّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْض الّذِى عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ
(41) قُلْ سِيرُوا فى الأَرْضِ فَانظرُوا كَيْف كانَ عَقِبَةُ الّذِينَ مِن
قَبْلُ كانَ أَكثرُهُم مّشرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَك لِلدِّينِ الْقَيِّمِ
مِن قَبْلِ أَن يَأْتىَ يَوْمٌ لا مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئذٍ
يَصدّعُونَ (43) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صلِحاً
فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِى الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا
الصلِحَتِ مِن فَضلِهِ إِنّهُ لا يحِب الْكَفِرِينَ (45) وَ مِنْ ءَايَتِهِ أَن
يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشرَتٍ وَ لِيُذِيقَكم مِّن رّحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِى
الْفُلْك بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضلِهِ وَ لَعَلّكمْ تَشكُرُونَ (46)
وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا مِن قَبْلِك رُسلاً إِلى قَوْمِهِمْ فجَاءُوهُم
بِالْبَيِّنَتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقاّ
عَلَيْنَا نَصرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
بيان
هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة التي يحتج فيها بالأفعال الخاصة به و إن
شئت فقل: بأسماء الأفعال على إبطال الشركاء و نفي ربوبيتهم و ألوهيتهم و على
إثبات المعاد.
قوله تعالى: "الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من
يفعل من ذلكم من شيء" إلخ، اسم الجلالة مبتدأ و "الذي خلقكم" خبره، و كذا قوله:
"من يفعل" إلخ مبتدأ خبره "من شركائكم" المقدم عليه و الاستفهام إنكاري و قد
ذكر في تركيب الآية احتمالات أخر.
و المعنى: أن الله سبحانه هو الذي اتصف بكذا و كذا وصفا من أوصاف الألوهية و
الربوبية فهل من الآلهة الذين تدعون أنهم آلهة من يفعل شيئا من ذلكم يعني من
الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء و إذ ليس منهم من يفعل شيئا من ذلكم فالله
سبحانه هو إلهكم و ربكم لا إله إلا هو.
و لعل الوجه في ذكر الخلق مع الرزق و الإحياء و الإماتة مع تكرر تقدم ذكره في
سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أن الرزق لا ينفك عن الخلق بمعنى أن بعض
الخلق يسمى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقا فالرزق في الحقيقة من الخلق
فالذي يخلق الخلق هو الذي يرزق الرزق.
فليس لهم أن يقولوا: إن الرازق و كذا المحيي و المميت بعض آلهتنا كما ربما
يدعيه بعضهم أن مدبر عالم الإنسان بعض الآلهة و مدبر كل شأن من شئون العالم من
الخيرات و الشرور بعضهم لكنهم لا يختلفون أن الخلق و الإيجاد منه تعالى لا
يشاركه في ذلك أحد فإذا سلم ذلك و من المسلم أن الرزق مثلا خلق و كذا سائر
الشئون لا تنفك عن الخلق رجع الأمر كالخلق إليه تعالى و لم يبق لآلهتهم شأن من
الشئون.
ثم نزه سبحانه نفسه عن شركهم فقال: "سبحانه و تعالى عما يشركون".
قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي
عملوا لعلهم يرجعون" الآية بظاهر لفظها عامة لا تختص بزمان دون زمان أو بمكان
أو بواقعة خاصة، فالمراد بالبر و البحر معناهما المعروف و يستوعبان سطح الكرة
الأرضية.
و المراد بالفساد الظاهر المصائب و البلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من
مناطق الأرض من الزلازل و قطع الأمطار و السنين و الأمراض السارية و الحروب و
الغارات و ارتفاع الأمن و بالجملة كل ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم
الأرضي سواء كان مستندا إلى اختيار الناس أو غير مستند إليه.
فكل ذلك فساد ظاهر في البر أو البحر مخل بطيب العيش الإنساني.
و قوله: "بما كسبت أيدي الناس" أي بسبب أعمالهم التي يعملونها من شرك أو معصية
و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: "و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم
بركات من السماء و الأرض" الآية: الأعراف: 96، و أيضا في مباحث النبوة من الجزء
الثاني من الكتاب أن بين أعمال الناس و الحوادث الكونية رابطة مستقيمة يتأثر
إحداهما من صلاح الأخرى و فسادها.
و قوله: "ليذيقهم بعض الذي عملوا" اللام للغاية، أي ظهر ما ظهر لأجل أن يذيقهم
الله وبال بعض أعمالهم السيئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا و قد ظهر في صورة الوبال
و إنما كان بعض ما عملوا لأن الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال: "و ما
أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير": الشورى: 30.
و الآية ناظرة إلى الوبال الدنيوي و إذاقة بعضه لأكله من غير نظر إلى وبال
الأعمال الأخروي فما قيل: إن المراد إذاقة الوبال الدنيوي و تأخير الوبال
الأخروي إلى يوم القيامة لا دليل عليه و لعله جعل تقدير الكلام: "ليذيقهم بعض
جزاء ما عملوا مع أن التقدير "ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا"، لأن الذي يحوجنا إلى
تقدير المضاف - لو أحوجنا - هو أن الراجع إليهم ثانيا في صورة الفساد هو جزاء
أعمالهم لا نفس أعمالهم فالذي أذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما
عملوا.
و قوله: "لعلهم يرجعون" أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم و معاصيهم
إلى التوحيد و الطاعة.
و وجه اتصال الآية بما قبلها أنه لما احتج في الآية السابقة على التوحيد و نزهه
عن شركهم أشار في هذه الآية إلى ما يستتبع الشرك - و هو معصية - من الفساد في
الأرض و إذاقة وبال السيئات فبين ذلك بيان عام.
و لهم في الآية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالأرض أرض مكة و قول
بعضهم: المراد بالبر القفار التي لا يجري فيها نهر و بالبحر كل قرية على شاطىء
نهر عظيم، و قول بعضهم: البر الفيافي و مواضع القبائل و البحر السواحل و المدن
التي عند البحر و النهر، و قول بعضهم: البر البرية و البحر المواضع المخصبة
الخضرة، و قول بعضهم: إن هناك مضافا محذوفا و التقدير في البر و مدن البحر، و
لعل الذي دعاهم إلى هذه الأقاويل ما ورد أن الآية ناظرة إلى القحط الذي وقع
بمكة إثر دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قريش لما لجوا في كفرهم و
داموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الآية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من
التكلف.
و قول بعضهم: إن المراد بالفساد في البر قتل ابن آدم أخاه و في البحر أخذ كل
سفينة غصبا و هو كما ترى.
قوله تعالى: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم
مشركين" أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمرهم أن يسيروا في الأرض
فينظروا إلى آثار الذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم و عفت آثارهم و بادوا عن
آخرهم و انقطع دابرهم بأنواع من النوائب و البلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم
الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالآية في مقام
الاستشهاد لمضمون الآية السابقة.
قوله تعالى: "فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله
يومئذ يصدعون" تفريع على ما تقدمه أي إذا كان الشرك و الكفر بالحق بهذه المثابة
و له وبال سيلحق بالمتلبس به فأقم وجهك للدين القيم.
و قوله: "من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله" متعلق بقوله: "فأقم" و المرد
مصدر ميمي بمعنى الرد و هو بمعنى الراد و اليوم الذي لا مرد له من الله يوم
القيامة.
و قوله: "يومئذ يصدعون" أصله يتصدعون، و التصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم
استعمل في مطلق التفرق كما قيل، و المراد به - كما قيل - تفرقهم يومئذ إلى
الجنة و النار.
و قيل: المراد تفرق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى: "يوم يكون الناس
كالفراش المبثوث": القارعة: 4. و لكل وجه، و لعل الأظهر امتياز الفريقين كما
سيأتي.
قوله تعالى: "من كفر فعليه كفره و من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون" الظاهر أنه
تفسير لقوله في الآية السابقة: "يتفرقون" و قوله: "من كفر فعليه كفره" أي وبال
كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الذي سينقلب عليه نارا يخلد فيها و هذا أحد
الفريقين.
و قوله: "و من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون" مهد الفراش بسطه و إيطاؤه، و هؤلاء
الفريق الآخر الذين آمنوا و عملوا الصالحات، و قد جيء بالجزاء "فلأنفسهم
يمهدون" جمعا نظرا إلى المعنى، كما أنه جيء به مفردا في الشرطية السابقة "فعليه
كفره" نظرا إلى اللفظ، و اكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح و لم يذكر الإيمان
معه لأن العمل إنما يصلح بالإيمان على أنه مذكور في الآية التالية.
و المعنى: و الذين عملوا عملا صالحا - بعد الإيمان - فلأنفسهم يوطئون ما يعيشون
به و يستقرون عليه.
قوله تعالى: "ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين"
قال الراغب: الجزاء الغناء و الكفاية، قال الله تعالى: "لا تجزي نفس عن نفس
شيئا"، و قال: "لا يجزي والد عن ولده و لا مولود هو جاز عن والده شيئا" و
الجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيرا فخير و إن شرا فشر، يقال: جزيته كذا
و بكذا.
انتهي.
و قوله: "ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات من فضله" اللام للغاية و لا ينافي
عد ما يؤتيهم جزاء - و فيه معنى المقابلة - عده من فضله و فيه معنى عدم
الاستحقاق و ذلك لأنهم بأعيانهم و ما يصدر عنهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه
فلا يملكون لأنفسهم شيئا حتى يستحقوا به أجرا، و أين العبودية من الملك و
الاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق.
لكنه سبحانه بفضله و رحمته اعتبر لهم ملكا لأعمالهم في عين أنه يملكهم و يملك
أعمالهم فجعل لهم بذلك حقا يستحقونه، و جعل ما ينالونه من الجنة و الزلفى أجرا
مقابلا لأعمالهم و هذا الحق المجعول أيضا فضل آخر منه سبحانه.
و منشأ ذلك حبه تعالى لهم لأنهم لما أحبوا ربهم أقاموا وجوههم للدين القيم و
اتبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبهم الله كما قال: "قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله": آل عمران: 31.
و لذا كانت الآية تعد ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء و فيه معنى المقابلة و
المبادلة و تعد ذلك من فضله نظرا إلى أن نفس هذه المقابلة و المبادلة فضل منه
سبحانه و منشؤه حبه تعالى لهم كما يومىء إليه تذييل الآية بقوله: "إنه لا يحب
الكافرين".
و من هنا يظهر أن قوله: "إنه لا يحب الكافرين"، يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبي
النفي و الإثبات جميعا أي أنه تعالى يخص المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل
و يحرم الكافرين منه لأنه يحب هؤلاء و لا يحب هؤلاء.
قوله تعالى: "و من آياته أن يرسل الرياح مبشرات و ليذيقكم من رحمته و لتجري
الفلك بأمره و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون"، المراد بكون الرياح مبشرات
تبشيرها بالمطر حيث تهب قبيل نزوله.
و قوله: "و ليذيقكم من رحمته" عطف على موضع مبشرات لما فيه من معنى التعليل و
التقدير يرسل الرياح لتبشركم و ليذيقكم من رحمته و المراد بإذاقة الرحمة إصابة
أنواع النعم المترتبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار و دفع العفونات و تصفية
الأجواء و غير ذلك مما يشمله إطلاق الجملة.
و قوله: "و لتجري الفلك بأمره" أي لجريان الرياح و هبوبها.
و قوله: "و لتبتغوا من فضله" أي لتطلبوا من رزقه الذي هو من فضله.
و قوله: "و لعلكم تشكرون"، غاية معنوية كما أن الغايات المذكورة من قبل غايات
صورية، و الشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبىء عن إنعام منعمه أو الثناء اللفظي
عليه بذكر إنعامه، و ينطبق بالأخرة على عبادته و لذلك جيء بلعل المفيدة للرجاء
فإن الغايات المعنوية الاعتبارية ربما تخلفت.
قوله تعالى: "و لقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا
من الذين أجرموا و كان حقا علينا نصر المؤمنين" قال الراغب: أصل الجرم - بالفتح
فالسكون - قطع الثمرة عن الشجر - إلى أن قال - و أجرم صار ذا جرم نحو أثمر و
أتمر و ألبن و استعير ذلك لكل اكتساب مكروه، و لا يكاد يقال في عامة كلامهم
للكيس المحمود انتهى.
و الآية كالمعترضة و كأنها مسوقة لبيان أن للمؤمنين حقا على ربهم و هو نصرهم في
الدنيا و الآخرة و منه الانتقام من المجرمين، و هذا الحق مجعول من قبله تعالى
لهم على نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوبا في نفسه مقهورا محكوما
لغيره.
و قوله: "فانتقمنا من الذين أجرموا" الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم و أجرم آخرون
فانتقمنا من المجرمين و كان حقا علينا نصر المؤمنين بإنجائهم من العذاب و إهلاك
مخالفيهم، و في الآية بعض الإشعار بأن الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنه
من النصر.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي
الناس" قال: في البر فساد الحيوان إذا لم يمطر و كذلك هلاك دواب البحر بذلك.
و قال الصادق (عليه السلام): حياة دواب البحر بالمطر فإذا كف المطر ظهر الفساد
في البر و البحر، و ذلك إذا كثرت الذنوب و المعاصي.
أقول: و هو من الجري.
و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن قول الله عز و جل: "قل سيروا في الأرض - فانظروا كيف كان عاقبة
الذين من قبل" فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الذين
من قبلكم".
و في المجمع،: في قوله: "و من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون": روى منصور بن حازم
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنة
فيمهد له كما يمهد لأحدهم خادمه فراشه.
و فيه، و جاءت الرواية عن أم الدرداء أنها قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) يقول: ما من امرىء يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه
نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ: "و كان حقا علينا نصر المؤمنين": أقول: و رواه في
الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء.
30 سورة الروم - 48 - 53
اللّهُ الّذِى يُرْسِلُ الرِّيَحَ فَتُثِيرُ سحَاباً فَيَبْسطهُ فى السمَاءِ
كَيْف يَشاءُ وَ يجْعَلُهُ كِسفاً فَترَى الْوَدْقَ يخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ
فَإِذَا أَصاب بِهِ مَن يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَستَبْشِرُونَ (48)
وَ إِن كانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنزّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ
(49) فَانظرْ إِلى ءَاثَرِ رَحْمَتِ اللّهِ كيْف يحْىِ الأَرْض بَعْدَ مَوْتهَا
إِنّ ذَلِك لَمُحْىِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (50) وَ لَئنْ
أَرْسلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصفَرّا لّظلّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
فَإِنّك لا تُسمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسمِعُ الصمّ الدّعَاءَ إِذَا وَلّوْا
مُدْبِرِينَ (52) وَ مَا أَنت بِهَدِ الْعُمْىِ عَن ضلَلَتِهِمْ إِن تُسمِعُ
إِلا مَن يُؤْمِنُ بِئَايَتِنَا فَهُم مّسلِمُونَ (53)
بيان
هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجة من طريق أفعاله تعالى و إن شئت فقل:
أسماء أفعاله و عمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، و لما كان عمدة إنكارهم و
جحودهم متوجها إلى المعاد و بإنكاره يلغو الأحكام و الشرائع فيلغو التوحيد عقب
الاحتجاج بإيئاس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمره بأن يشتغل بدعوة في
نفسه استعداد الإيمان و صلاحية الإسلام و التسليم للحق.
قوله تعالى: "الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء"
إلى آخر الآية، الإثارة التحريك و النشر و السحاب الغمام و السماء جهة العلو
فكل ما علاك و أظلك فهو سماء و الكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة و هي القطعة و
الودق القطر من المطر و الخلال جمع خلة و هي الفرجة.
و المعنى: الله الذي يرسل الرياح فتحرك و تنشر سحابا و يبسط ذلك السحاب في جهة
العلو من الجو كيف يشاء سبحانه و يجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر
يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنه مادة
حياتهم و حياة الحيوان و النبات.
قوله تعالى: "و إن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين" الإبلاس: اليأس
و القنوط.
و ضمير "ينزل" للمطر و كذا ضمير "من قبله" على ما قيل، و عليه يكون "من قبله"
تأكيدا لقوله: "من قبل أن ينزل عليهم" و فائدة التأكيد - على ما قيل - الإعلام
بسرعة تقلب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، و ذلك أن قوله: "من قبل أن ينزل
عليهم" يحتمل الفسحة في الزمان فجاء "من قبله" للدلالة على الاتصال و دفع ذلك
الاحتمال.
و في الكشاف، أن قوله: "من قبله" من باب التكرير و التوكيد كقوله تعالى: "فكان
عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها" و معنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم
بالمطر قد تطاول و بعد فاستحكم يأسهم و تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر
اغتمامهم بذلك.
انتهي.
و ربما قيل: إن ضمير "من قبله" لإرسال الرياح، و المعنى: و إن كانوا من قبل أن
ينزل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآيسين قانطين.
قوله تعالى: "فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي
الموتى و هو على كل شيء قدير" الآثار جمع الأثر و هو ما يبقى بعد الشيء فيدل
عليه كأثر القدم و أثر البناء و استعير لكل ما يتفرع على شيء، و المراد برحمة
الله المطر النازل من السحاب الذي بسطته الرياح، و آثارها ما يترتب على نزول
المطر من النبات و الأشجار و الأثمار و هي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها.
و لذا قال: "فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها" فجعل آثار
الرحمة التي هي المطر كيفية إحياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها من
آثار الرحمة و النبات و الأشجار و الأثمار من آثار حياتها و هي أيضا من آثار
الرحمة و التدبير تدبير إلهي يتفرع على خلقة الرياح و السحاب و المطر.
و قوله: "إن ذلك لمحيي الموتى" الإشارة بذلك إليه تعالى بما له من الرحمة التي
من آثارها إحياء الأرض بعد موتها، و في الإشارة البعيدة تعظيم، و المراد
بالموتى موتى الإنسان أو الإنسان و غيره من ذوي الحياة.
و المراد بقوله: "إن ذلك لمحيي الموتى" الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض
الميتة و إحياء الموتى إذ في كل منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شيء محفوظ و
حياة هي تجدد تلك الآثار بعد سقوطها، و قد تحقق الإحياء في الأرض و النبات و
حياة الإنسان و غيره من ذوي الحياة مثلها و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا
يجوز واحد، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال و هو الأرض و النبات فليجز في
البعض الآخر.
و قوله: "و هو على كل شيء قدير" تقرير للإحياء المذكور ببيان آخر و هو عموم
القدرة فإن القدرة غير محدودة و لا متناهية فيشمل الإحياء بعد الموت و إلا لزم
تقيدها و قد فرضت مطلقة غير محدودة.
قوله تعالى: "و لئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون" ضمير
"فرأوه" للنبات المفهوم من السياق، و قوله "لظلوا" جواب للقسم قائم مقام
الجزاء، و المعنى: و أقسم لئن أرسلنا ريحا باردة فضربت زروعهم و أشجارهم
بالصفار و رأوه لظلوا بعده كافرين بنعمه.
ففي الآية توبيخهم بالتقلب السريع في النعمة و النقمة، فإذا لاحت لهم النعمة
بادروا إلى الاستبشار، و إذا أخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن
يكفروا بالمسلمات من النعم.
و قيل: ضمير "فرأوه" للسحاب لأن السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، و قيل: للريح
فإنه يذكر و يؤنث، و القولان بعيدان.
قوله تعالى: "فإنك لا تسمع الموتى - إلى قوله - فهم مسلمون" تعليل لما يفهم من
السياق السابق كأنه قيل: لا تشتغل و لا تحزن بهؤلاء الذين تتبدل بهم الأحوال من
إبلاس و استبشار و كفر و من عدم الإيمان بآياتنا و عدم تعقلها فإنهم موتى و صم
و عمي و أنت لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم و إنما تسمع و تهدي من يؤمن بآياتنا
أي يعقل هذه الحجج و يصدقها فهم مسلمون.
و قد تقدم تفسير الآيتين في سورة النمل.
30 سورة الروم - 54 - 60
اللّهُ الّذِى خَلَقَكُم مِّن ضعْفٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضعْفٍ قُوّةً ثُمّ
جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوّةٍ ضعْفاً وَ شيْبَةً يخْلُقُ مَا يَشاءُ وَ هُوَ
الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَ يَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ يُقْسِمُ
الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيرَ ساعَةٍ كَذَلِك كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَ
قَالَ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الايمَنَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فى كِتَبِ
اللّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لَكِنّكمْ كُنتُمْ
لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئذٍ لا يَنفَعُ الّذِينَ ظلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ
وَ لا هُمْ يُستَعْتَبُونَ (57) وَ لَقَدْ ضرَبْنَا لِلنّاسِ فى هَذَا
الْقُرْءَانِ مِن كلِّ مَثَلٍ وَ لَئن جِئْتَهُم بِئَايَةٍ لّيَقُولَنّ
الّذِينَ كفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِك يَطبَعُ اللّهُ
عَلى قُلُوبِ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصبرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَ
لا يَستَخِفّنّك الّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
بيان
هذا هو الفصل الرابع من الآيات و هو كسابقه و فيها ختام السورة.
قوله تعالى: "الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة
ضعفا و شيبة" إلخ، الضعف و القوة متقابلان، و "من" في قوله: "من ضعف للابتداء
أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء، و مصداقه على ما تفيده المقابلة أول
الطفولية و إن أمكن صدقه على النطفة.
و المراد بالقوة بعد الضعف بلوغ الأشد و بالضعف بعد القوة الشيخوخة و لذا عطف
عليه "شيبة" عطف تفسير، و تنكير "ضعف" و "قوة" للدلالة على الإبهام و عدم تعين
المقدار لاختلاف الأفراد في ذلك.
و قوله: "يخلق ما يشاء" أي كما شاء الضعف فخلقه ثم القوة بعده فخلقها ثم الضعف
بعدها فخلقه و في ذلك أتم الإشارة إلى أن تتالي هذه الأحوال من الخلق و إذ كان
هذا النقل من حال إلى حال في عين أنه تدبير خلقا فهو لله الخالق للأشياء فليس
لقائل منهم أن يقول: إن ذلك من التدبير الراجع إلى إله الإنسان، مثلا كما يقوله
الوثنية.
ثم تمم الكلام بالعلم و القدرة فقال: "و هو العليم القدير".
قوله تعالى: "و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا
يؤفكون"، هذه الآيات كالذنابة للآيات السابقة العادة للآيات و الحجج على
وحدانيته تعالى و البعث، و كالتمهيد و التوطئة للآية التي تختتم بها السورة
فإنه لما عد شيئا من الآيات و الحجج و أشار إلى أنهم ليسوا ممن يترقب منهم
الإيمان أو يطمع في إيمانهم أراد أن يبين أنهم في جهل من الحق يتلقون الحديث
الحق باطلا و الآيات الصريحة الدلالة منعزلة عن دلالتها و كذلك يؤفكون و لا عذر
لهم يعتذرون به.
و هذا الإفك و التقلب من الحق إلى الباطل يدوم عليهم و يلازمهم حتى قيام الساعة
فيظنون أنهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت و البعث غير ساعة من نهار
فاشتبه عليهم أمر البعث كما اشتبه عليهم كل حق فظنوه باطلا.
فقوله: "و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة"، يحكي عنهم اشتباه
الأمر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا و يوم البعث حتى ظنوه ساعة من ساعات
الدنيا.
و قوله: "كذلك كانوا يؤفكون" أي يصرفون من الحق إلى الباطل فيدعون إلى الحق و
يقام عليه الحجج و الآيات فيظنونه باطلا من القول و خرافة من الرأي.
قوله تعالى: "و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى
يوم البعث فهذا يوم البعث" إلخ، رد منهم لقول المجرمين: "ما لبثوا غير ساعة"
فإن المجرمين لإخلادهم إلى الأرض و توغلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث و
الفصل بينه و بين الدنيا محكوما بنظام الدنيا فقدروا الفصل بساعة و هو مقدار
قليل من الزمان كأنهم ظنوا أنهم بعد في الدنيا لأنه مبلغ علمهم.
فرد عليهم أهل العلم و الإيمان أن اللبث مقدر بالفصل بين الدنيا و يوم البعث و
هو الفصل الذي يشير إليه قوله: "و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون": المؤمنون:
100.
فاستنتجوا منه أن اليوم يوم البعث و لكن المجرمين لما كانوا في ريب من البعث و
لم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنوا أنهم لم يمر بهم إلا ساعة من ساعات الدنيا و
هذا معنى قولهم: "لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم
كنتم لا تعلمون"، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم و لذلك اشتبه
عليكم أمر اللبث.
و من هنا يظهر أن المراد بقوله: "أوتوا العلم و الإيمان"، اليقين و الالتزام
بمقتضاه و أن العلم بمعنى اليقين بالله و بآياته و الإيمان بمعنى الالتزام
بمقتضى اليقين من الموهبة الإلهية، و من هنا يظهر أيضا أن المراد بكتاب الله
الكتب السماوية أو خصوص القرآن لا غيره و قول بعضهم: إن في الآية تقديما و
تأخيرا و التقدير و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان في كتاب الله لقد لبثتم
إلى يوم البعث لا يعتد به.
قوله تعالى: "فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم و لا هم يستعتبون" الاستعتاب
طلب العتبى، و العتبى إزالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم و لا يطلب
منهم أن يزيلوا العتاب عن أنفسهم.
قوله تعالى: "و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل" إلخ، إشارة إلى كونهم
مأفوكين مصروفين عن الحق حيث لا ينفعهم مثل يقرب الحق من قلوبهم لأنها مطبوع
عليها، و لذا عقبه بقوله: "و لئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا
مبطلون" أي جاءون بالباطل و هذا القول منهم لأنهم مصروفون عن الحق يرون كل حق
باطلا، و وضع الموصول و الصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول.
قوله تعالى: "كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون"، أي يجهلون بالله و
آياته و منها البعث و هم يصرون على جهلهم و ارتيابهم.
قوله تعالى: "فاصبر إن وعد الله حق و لا يستخفنك الذين لا يوقنون"، أي فاصبر
على ما يواجهونك به من قولهم: "إن أنتم إلا مبطلون" و سائر تهكماتهم، إن وعد
الله أنه ينصرك حق كما أومأ إليه بقوله: "و كان حقا علينا نصر المؤمنين"، و لا
يستخفنك الذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه.
و قول بعضهم: إن المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الآيات البينات بتكذيبهم
لها و إيذائهم لك بأباطيلهم، ليس بشيء و قد بدأت السورة بالوعد و ختمت بالوعد و
الوعدان جميعا بالنصرة.
31 سورة لقمان - 1 - 11
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الم (1) تِلْك ءَايَت الْكِتَبِ الحَْكِيمِ
(2) هُدًى وَ رَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3) الّذِينَ يُقِيمُونَ الصلَوةَ وَ
يُؤْتُونَ الزّكَوةَ وَ هُم بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئك عَلى
هُدًى مِّن رّبِّهِمْ وَ أُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَ مِنَ النّاسِ مَن
يَشترِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سبِيلِ اللّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ وَ
يَتّخِذَهَا هُزُواً أُولَئك لهَُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ (6) وَ إِذَا تُتْلى
عَلَيْهِ ءَايَتُنَا وَلى مُستَكبراً كَأَن لّمْ يَسمَعْهَا كَأَنّ فى
أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنّ الّذِينَ ءَامَنُوا
وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ لهَُمْ جَنّت النّعِيمِ (8) خَلِدِينَ فِيهَا وَعْدَ
اللّهِ حَقّا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الحَْكيمُ (9) خَلَقَ السمَوَتِ بِغَيرِ
عَمَدٍ تَرَوْنهَا وَ أَلْقَى فى الأَرْضِ رَوَسىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَث
فِيهَا مِن كلِّ دَابّةٍ وَ أَنزَلْنَا مِنَ السمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا
فِيهَا مِن كلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونى مَا ذَا
خَلَقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظلِمُونَ فى ضلَلٍ مّبِينٍ (11)
بيان
غرض السورة كما يومىء إليه فاتحتها و خاتمتها و يشير إليه سياق عامة آياتها
الدعوة إلى التوحيد و الإيقان بالمعاد و الأخذ بكليات شرائع الدين.
و يلوح من صدر السورة أنها نزلت في بعض المشركين حيث كان يصد الناس عن استماع
القرآن بنشر بعض أحاديث مزوقة ملهية كما ورد فيه الأثر في سبب نزول قوله: "و من
الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله" الآية، و سيوافي حديثه.
فنزلت السورة تبين أصول عقائد الدين و كليات شرائعه الحقة و قصت شيئا من خبر
لقمان الحكيم و مواعظه تجاه أحاديثهم الملهية.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
و من غرر الآيات فيها قوله تعالى: "ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه
الباطل" الآية.
قوله تعالى: "تلك آيات الكتاب الحكيم هدى و رحمة للمحسنين - إلى قوله - يوقنون"
تقدم تفسير مفردات هذه الآيات في السور السابقة.
و قد وصف الكتاب بالحكيم إشعارا بأنه ليس من لهو الحديث من شيء بل كتاب لا
انثلام فيه ليداخله لهو الحديث و باطل القول، و وصفه أيضا بأنه هدى و رحمة
للمحسنين تتميما لصفة حكمته فهو يهدي إلى الواقع الحق و يوصل إليه لا كاللهو
الشاغل للإنسان عما يهمه، و هو رحمة لا نقمة صارفة عن النعمة.
و وصف المحسنين بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة اللتين هما العمدتان في الأعمال و
بالإيقان بالآخرة و يستلزم التوحيد و الرسالة و عامة التقوى، كل ذلك مقابلة
الكتاب للهو الحديث المصغي إليه لمن يستمع لهو الحديث.
قوله تعالى: "و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم و
يتخذها هزوا" إلخ، اللهو ما يشغلك عما يهمك، و لهو الحديث: الحديث الذي يلهي عن
الحق بنفسه كالحكايات الخرافية و القصص الداعية إلى الفساد و الفجور، أو بما
يقارنه كالتغني بالشعر أو بالملاهي و المزامير و المعازف فكل ذلك يشمله لهو
الحديث.
و قوله: "ليضل عن سبيل الله بغير علم" مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله
القرآن الكريم بما فيه من المعارف الحقة الاعتقادية و العلمية و خاصة قصص
الأنبياء و أممهم الخالية فإن لهو الحديث و الأساطير المزوقة المختلقة تعارض
أولا هذه القصص ثم تهدم بنيان سائر المعارف الحقة و توهنها في أنظار الناس.
و يؤيد ذلك قوله بعد: "و يتخذها هزوا" فإن لهو الحديث بما أنه حديث كما سمعت
يعارض أولا الحديث و يتخذه سخريا.
فالمراد بسبيل الله القرآن بما فيه من القصص و المعارف و كأن مراد من كان يشتري
لهو الحديث أن يضل الناس بصرفهم عن القرآن و أن يتخذ القرآن هزوا بأنه حديث
مثله و أساطير كأساطيره.
و قوله: "بغير علم" متعلق بيضل و هو في الحقيقة وصف ضلال الضالين دون إضلال
المضلين و إن كانوا أيضا لا علم لهم ثم هددهم بقوله: "أولئك لهم عذاب مهين" أي
مذل يوهنهم و يذلهم حذاء استكبارهم في الدنيا.
قوله تعالى: "و إذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه
وقرا" إلخ، وصف لذاك الذي يشتري لهو الحديث ليضل الناس عن القرآن و يهزأ به و
الوقر الحمل الثقيل و المراد بكون الوقر على أذنيه أن يشد عليهما ما يمنع من
السمع و قيل: هو كناية عن الصمم.
و المعنى: و إذا تتلى على هذا المشتري لهو الحديث آياتنا أي القرآن ولى و أعرض
عنها و هو مستكبر كأن لم يسمعها قط كأنه أصم فبشره بعذاب أليم.
و قد أعيد إلى من يشتري ضمير الإفراد أولا كما في "يشتري" و "ليضل" و "يتخذها"
باعتبار اللفظ و الضمير الجمع، ثانيا باعتبار المعنى ثم ضمير الإفراد باعتبار
اللفظ كما في "عليه" و غيره كذا قيل، و من الممكن أن يكون ضمير "لهم" في الآية
السابقة راجعا إلى مجموع المضل و الضالين المدلول عليهم بالسياق فتكون الضمائر
الراجعة إلى "من" مفردة جميعا.
قوله تعالى: "إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم جنات النعيم - إلى قوله -
العزيز الحكيم" رجوع بعد إنذار ذاك المشتري و تهديده بالعذاب المهين ثم العذاب
الأليم إلى تبشير المحسنين و تطييب أنفسهم بجنة النعيم الخالدة الموعودة من
قبله تعالى و وعده الحق.
و لما كان غرض من اشترى لهو الحديث أن يلتبس الأمر على من يضله بغير علم فيحسب
القرآن من الأساطير الباطلة كأساطيره و يهين به و كان لا يعتني بما تتلى عليه
من الآيات مستكبرا و ذلك استهانة بالله سبحانه أكد أولا ما وعده للمحسنين
بقوله: "وعد الله حقا" ثم وصف ثانيا نفسه بالعزة المطلقة، فلا يطرأ عليه ذلة و
أهانه و الحكمة المطلقة فلا يداخل كلامه باطل و لا هزل و خرافة.
ثم وصفه ثالثا بأنه الذي يدبر أمر السماء و الأرض و النبات و الحيوان و الإنسان
لأنه خالقها فله أن يعد هؤلاء بالجنة و أولئك بالعذاب و هو قوله: "خلق السماوات
بغير عمد ترونها" إلخ.
قوله تعالى: "خلق السماوات بغير عمد ترونها" إلخ، تقدم في تفسير قوله تعالى:
"الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها": الرعد: 2، أن قوله: "ترونها" يحتمل
أن يكون قيدا توضيحيا، و المعنى أنكم ترونها و لا أعمدة لها، و أن يكون قيدا
احترازيا و المعنى خلقها بغير أعمدة مرئية إشعارا بأن هناك أعمدة غير مرئية.
و قوله: "و ألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم"، أي ألقى فيها جبالا شامخة لئلا
تضطرب بكم و فيه إشعار بأن بين الجبال و الزلازل رابطة مستقيمة.
و قوله: "و بث فيها من كل دابة" أي نشر في الأرض من كل حيوان يدب عليها.
و قوله: "و أنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم" أي و أنزلنا من
جهة العلو ماء و هو المطر و أنبتنا فيها شيئا من كل زوج نباتي شريف فيه منافع و
له فوائد، و فيه إشارة إلى تزوج النبات و قد تقدم الكلام فيه في نظيره.
و الالتفات فيها من الغيبة إلى التكلم مع الغير للإشارة إلى كمال العناية بأمره
كما قيل.
قوله تعالى: "هذا خلق الله فأروني ما ذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال
مبين"، لما أراهم خلقه و تدبيره تعالى للسماوات و الأرض و ما عليها فأثبت به
ربوبيته و ألوهيته تعالى كلفهم أن يروه شيئا من خلق آلهتهم إن كانوا آلهة و
أربابا فإن لم يقدروا على إراءة شيء ثبت بذلك وحدانيته تعالى في ألوهيته و
ربوبيته.
و إنما كلفهم بإراءة شيء من خلق آلهتهم - و هم يعترفون أن الخلق لله وحده و لا
يسندون إلى آلهتهم خلقا و إنما ينسبون إليهم التدبير فقط، لأنه نسب إلى الله
خلقا هو بعينه تدبير من غير انفكاك، فلو كان لآلهتهم تدبير في العالم كان لهم
خلق ما يدبرون أمره و إذ ليس لهم خلق فليس لهم تدبير فلا إله إلا الله و لا رب
غيره.
و قد سيقت الآية خطابا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن نوع هذا الخطاب
"فأروني ما ذا خلق الذين من دونه" لا يستقيم من غيره (صلى الله عليه وآله
وسلم).
بحث روائي
في المجمع،: نزل قوله تعالى: "و من الناس من يشتري لهو الحديث" في النضر بن
الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي بن كلاب كان يتجر فيخرج إلى فارس
فيشتري أخبار الأعاجم و يحدث بها قريشا و يقول لهم: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد
و ثمود و أنا أحدثكم بحديث رستم و إسفنديار و أخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه و
يتركون استماع القرآن: عن الكلبي.
أقول: و روى هذا المعنى في الدر المنثور، عن البيهقي عن ابن عباس، و لا يبعد أن
يكون ذلك سبب نزول تمام السورة كما تقدمت الإشارة إليه.
و في المعاني، بإسناده عن يحيى بن عبادة عن أبي عبد الله (عليه السلام): قلت:
قوله عز و جل: "و من الناس من يشتري لهو الحديث" قال: منه الغناء.
أقول: و روى هذا المعنى في الكافي، بإسناده عن مهران عنه (عليه السلام)، و
بإسناده عن الوشاء عن الرضا عنه (عليهما السلام)، و بإسناده عن الحسن بن هارون
عنه (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته
يقول: الغناء مما أوعد الله عليه النار و تلا هذه الآية: "و من الناس من يشتري
لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم و يتخذها هزوا - أولئك لهم عذاب مهين".
و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن كسب المغنيات
فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس و هو
قول الله عز و جل: "و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله". و في
المجمع، و روى أبو أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يحل تعليم
المغنيات و لا بيعهن و أثمانهن حرام و قد نزل تصديق ذلك في كتاب الله: "و من
الناس من يشتري لهو الحديث" الآية: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن جم غفير
من أصحاب الجوامع عن أبي أمامة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: هو الطعن في الحق و
الاستهزاء به و ما كان أبو جهل و أصحابه يجيئون به إذ قال: يا معاشر قريش أ لا
أطعمكم من الزقوم الذي يخوفكم به صاحبكم؟ ثم أرسل إلى زبد و تمر فقال: هذا هو
الزقوم الذي يخوفكم به. قال: و منه الغناء.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا عن علي بن الحسين قال: ما قدست أمة
فيها البربط.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله:
"و من الناس من يشتري لهو الحديث - ليضل عن سبيل الله بغير علم" فهو النضر بن
الحارث بن علقمة بن كلدة من بني عبد الدار بن قصي، و كان النضر ذا رواية
لأحاديث الناس و أشعارهم، يقول الله عز و جل: "و إذا تتلى عليه آياتنا ولى
مستكبرا" الآية.
و فيه، عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قلت
له: أخبرني عن قول الله تعالى: "و السماء ذات الحبك" قال: هي محبوكة إلى الأرض
و شبك بين أصابعه. فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض و الله يقول: "رفع السماوات
بغير عمد ترونها"؟ فقال: سبحان الله أ ليس يقول: "بغير عمد ترونها"؟ فقلت: بلى.
فقال: فثم عمد و لكن لا ترونها.
31 سورة لقمان - 12 - 19
وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَنَ الحِْكْمَةَ أَنِ اشكُرْ للّهِ وَ مَن يَشكرْ
فَإِنّمَا يَشكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنىّ حَمِيدٌ (12)
وَ إِذْ قَالَ لُقْمَنُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظهُ يَبُنىّ لا تُشرِك بِاللّهِ
إِنّ الشرْك لَظلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصيْنَا الانسنَ بِوَلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ
أُمّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصلُهُ فى عَامَينِ أَنِ اشكرْ لى وَ
لِوَلِدَيْك إِلىّ الْمَصِيرُ (14) وَ إِن جَهَدَاك عَلى أَن تُشرِك بى مَا
لَيْس لَك بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَ صاحِبْهُمَا فى الدّنْيَا
مَعْرُوفاً وَ اتّبِعْ سبِيلَ مَنْ أَنَاب إِلىّ ثُمّ إِلىّ مَرْجِعُكُمْ
فَأُنَبِّئُكم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَبُنىّ إِنهَا إِن تَك
مِثْقَالَ حَبّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فى صخْرَةٍ أَوْ فى السمَوَتِ أَوْ فى
الأَرْضِ يَأْتِ بهَا اللّهُ إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَبُنىّ أَقِمِ
الصلَوةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَ اصبرْ عَلى مَا
أَصابَك إِنّ ذَلِك مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17) وَ لا تُصعِّرْ خَدّك لِلنّاسِ
وَ لا تَمْشِ فى الأَرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لا يحِب كلّ مخْتَالٍ فَخُورٍ
(18) وَ اقْصِدْ فى مَشيِك وَ اغْضض مِن صوْتِك إِنّ أَنكَرَ الأَصوَتِ لَصوْت
الحَْمِيرِ (19)
بيان
في الآيات إشارة إلى إيتاء لقمان الحكمة و نبذة من حكمه و مواعظه لابنه و لم
يذكر في القرآن إلا في هذه السورة و يناسب المورد من حيث مقابلة قصته الممتلئة
حكمة و موعظة لما قص من حديث من كان يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير
علم و يتخذها هزوا.
قوله تعالى: "و لقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله" إلخ، الحكمة على ما يستفاد
من موارد استعمالها هي المعرفة العلمية النافعة و هي وسط الاعتدال بين الجهل و
الجربزة.
و قوله: "أن اشكر لي" قيل: هو بتقدير القول أي و قلنا: أن اشكر لي.
و الظاهر أنه تفسير إيتائه الحكمة من غير تقدير القول، و ذلك أن حقيقة الشكر هي
وضع النعم في موضعها الذي ينبغي له بحيث يشير إلى إنعام المنعم، و إيقاعه كما
هو حقه يتوقف على معرفة المنعم و معرفة نعمه بما هي نعمة و كيفية وضعها موضعه
بحيث يحكي عن إنعامه فإيتاؤه الحكمة بعث له إلى الشكر فإيتاء الحكمة أمر بالشكر
بالملازمة.
و في قوله: "أن اشكر لله" التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و ذلك أن
التكلم مع الغير من المتكلم إظهار للعظمة بالتكلم عن قبل نفسه و خدمه و قول أن
اشكر لنا على هذا لا يناسب التوحيد في الشكر و هو ظاهر.
و قوله: "و من يشكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن الله غني حميد" استغناء منه
تعالى أن نفع الشكر إنما يرجع إلى نفس الشاكر و الكفر لا يتضرر به إلا نفسه
دونه سبحانه و من يشكر فإنما يوقع الشكر لنفع نفسه و لا ينتفع به الله سبحانه
لغناه المطلق و من كفر فإنما يتضرر به نفسه إن الله غني لا يؤثر فيه الشكر نفعا
و لا ضرا حميد محمود على ما أنعم سواء شكر أو كفر.
و في التعبير عن الشكر بالمضارع الدال على الاستمرار و في الكفر بالماضي الدال
على المرة إشعار بأن الشكر إنما ينفع مع الاستمرار لكن الكفر يتضرر بالمرة منه.
قوله تعالى: "و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك
لظلم عظيم" عظمة كل عمل بعظمة أثره و عظمة المعصية بعظمة المعصي فإن مؤاخذة
العظيم عظيمة فأعظم المعاصي معصية الله لعظمته و كبريائه فوق كل عظمة و كبرياء
بأنه الله لا شريك له و أعظم معاصيه معصيته في أنه الله لا شريك له.
و قوله: "إن الشرك لظلم عظيم" حيث أطلق عظمته من غير تقييد بقياسه إلى سائر
المعاصي يدل على أن له من العظمة ما لا يقدر بقدر.
قوله تعالى: "و وصينا الإنسان بوالديه" إلى آخر الآية، اعتراض واقع بين الكلام
المنقول عن لقمان و ليس من كلام لقمان و إنما اطرد هاهنا للدلالة على وجوب شكر
الوالدين كوجوب الشكر لله بل هو من شكره تعالى لانتهائه إلى وصيته و أمره
تعالى، فشكرهما عبادة له تعالى و عبادته شكر.
و قوله: "حملته أمه وهنا على وهن و فصاله في عامين" ذكر بعض ما تحملته أمه من
المحنة و الأذى في حمله و تربيته ليكون داعيا له إلى شكرهما و خاصة الأم.
و الوهن الضعف و هو حال بمعنى ذات وهن أو مفعول مطلق و التقدير تهن وهنا على
وهن، و الفصال الفطم و ترك الإرضاع، و معنى كون الفصال في عامين تحققه بتحقق
العامين فيئول إلى كون الإرضاع عامين، و إذا ضم إلى قوله تعالى: "و حمله و
فصاله ثلاثون شهرا": الأحقاف: 15، بقي لأقل الحمل ستة أشهر، و ستكرر الإشارة
إليه فيما سيأتي.
و قوله: "أن اشكر لي و لوالديك إلي المصير" تفسير لقوله: "وصينا" إلخ، في أول
الآية أي كانت وصيتنا هو أمرنا بشكرهما كما أمرناه بشكر الله، و قوله: "إلي
المصير" إنذار و تأكيد للأمر بالشكر.
و القول في الالتفات الواقع في الآية في قوله: "أن اشكر لي و لوالديك إلي
المصير" إلخ، من سياق التكلم مع الغير إلى سياق التكلم وحده كالقول في الالتفات
في قوله السابق: "أن اشكر لله".
قوله تعالى: "و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما" إلى آخر
الآية.
أي إن ألحا عليك بالمجاهدة أن تجعل ما ليس لك علم به أو بحقيقته شريكا لي فلا
تطعهما و لا تشرك بي، و المراد بكون الشريك المفروض لا علم به كونه معدوما
مجهولا مطلقا لا يتعلق به علم فيئول المعنى: لا تشرك بي ما ليس بشيء، هذا محصل
ما ذكره في الكشاف، و ربما أيده قوله تعالى: "أ تنبئونه بما لا يعلم في
السماوات و لا في الأرض": يونس: 18.
و قيل: "تشرك" بمعنى تكفر و "ما" بمعنى الذي، و المعنى: و إن جاهداك أن تكفر بي
كفرا لا حجة لك به فلا تطعهما و يؤيده تكرار نفي السلطان على الشريك في كلامه
تعالى كقوله: "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل
الله بها من سلطان": يوسف: 40، إلى غير ذلك من الآيات.
و قوله: "و صاحبهما في الدنيا معروفا و اتبع سبيل من أناب إلي" الجملتان
كالتلخيص و التوضيح لما تقدم في الآيتين من الوصية بهما و النهي عن إطاعتهما إن
جاهدا على الشرك بالله.
يقول سبحانه: يجب على الإنسان أن يصاحبهما في الأمور الدنيوية غير الدين الذي
هو سبيل الله صحابا معروفا و معاشرة متعارفة غير منكرة من رعاية حالهما بالرفق
و اللين من غير جفاء و خشونة و تحمل المشاق التي تلحقه من جهتهما فليست الدنيا
إلا أياما معدودة متصرمة، و أما الوالدين فإن كانا ممن أناب إلى الله فلتتبع
سبيلهما و إلا فسبيل غيرهما ممن أناب إلى الله.
و من هنا يظهر أن في قوله: "و اتبع سبيل من أناب إلي" إيجازا لطيفا فهو يفيد
أنهما لو كانا من المنيبين إلى الله فلتتبع سبيلهما و إلا فلا يطاعا و لتتبع
سبيل غيرهما ممن أناب إلى الله.
و قوله: "ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون" أي هذا الذي ذكر، تكليفكم في
الدنيا ثم ترجعون إلي يوم القيامة فأظهر لكم حقيقة أعمالكم التي عملتموها في
الدنيا فأقضي بينكم على حسب ما تقتضيه أعمالكم من خير أو شر.
و بما مر يظهر أن قوله: "في الدنيا" يفيد أولا قصر المصاحبة بالمعروف في الأمور
الدنيوية دون الدينية، و ثانيا: تهوين أمر الصحبة و أنها ليست إلا في أيام
قلائل فلا كثير ضير في تحمل مشاق خدمتهما، و ثالثا المقابلة ليوم الرجوع إلى
الله المشار إليه بقوله: "ثم إلي مرجعكم" إلخ.
قوله تعالى: "يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات
أو في الأرض يأت بها الله" إلخ، ذكروا أن الضمير في "أنها" للخصلة من الخير و
الشر لدلالة السياق على ذلك و هو أيضا اسم كان و "مثقال حبة" خبره، و المراد
بكونها في صخرة اختفاؤها بالاستقرار في جوف الصخرة الصماء أو في السماوات أو في
الأرض، و المراد بالإتيان بها إحضارها للحساب و الجزاء.
كان الفصل السابق من كلامه المنقول راجعا إلى التوحيد و نفي الشريك و ما في هذه
الآية فصل ثان في المعاد و فيه حساب الأعمال، و المعنى: يا بني إن تكن الخصلة
التي عملت من خير أو شر أخف الأشياء و أدقها كمثقال حبة من خردل فتكن تلك
الخصلة الصغيرة مستقرة في جوف صخرة أو في أي مكان من السماوات و الأرض يأت بها
الله للحساب و الجزاء لأن الله لطيف ينفذ علمه في أعماق الأشياء و يصل إلى كل
خفي خبير يعلم كنه الموجودات.
قوله تعالى: "يا بني أقم الصلاة و أمر بالمعروف و انه عن المنكر و اصبر على ما
أصابك إن ذلك من عزم الأمور" الآية و ما بعدها من كلامه راجع إلى نبذة من
الأعمال و الأخلاق الفاضلة.
فمن الأعمال الصلاة التي هي عمود الدين و يتلوها الأمر بالمعروف و النهي عن
المنكر و من الأخلاق الصبر على ما يصيب من مصيبة.
و قوله: "إن ذلك من عزم الأمور" الإشارة إلى الصبر و الإشارة البعيدة للتعظيم و
الترفيع و قول بعضهم: إن الإشارة إلى جميع ما تقدم من الصلاة و الأمر بالمعروف
و النهي عن المنكر و الصبر ليس في محله لتكرر عد الصبر من عزم الأمور في كلامه
تعالى كقوله: "و لمن صبر و غفر إن ذلك من عزم الأمور": الشورى: 43، و قوله: "إن
تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور": آل عمران: 186.
و العزم - على ما ذكره الراغب - عقد القلب على إمضاء الأمر و كون الصبر - و هو
حبس النفس في الأمر - من العزم إنما هو من حيث إن العقد القلبي ما لم ينحل و
ينفصم ثبت الإنسان على الأمر الذي عقد عليه فالصبر لازم الجد في العقد و
المحافظة عليه و هو من قدرة النفس و شهامتها.
و قول بعضهم: إن المعنى أن ذلك من عزيمة الله و إيجابه في الأمور بعيد و كذا
قول بعضهم: إن العزم هو الجزم و هو لغة هذيل.
قوله تعالى: "و لا تصعر خدك للناس و لا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل
مختال فخور" قال الراغب: الصعر ميل في العنق و التصعير إمالته عن النظر كبرا
قال: "و لا تصعر خدك للناس" و قال: المرح شدة الفرح و التوسع فيه انتهى.
فالمعنى: لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا و لا تمش في الأرض مشية من اشتد فرحه إن
الله لا يحب كل من تأخذه الخيلاء - و هو التكبر بتخيل الفضيلة - و يكثر من
الفخر.
و قال بعضهم إن معنى: "لا تصعر خدك للناس" لا تلو عنقك لهم تذللا عند الحاجة و
فيه أنه لا يلائمه ذيل الآية.
قوله تعالى: "و اقصد في مشيك و اغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير"
القصد في الشيء الاعتدال فيه و الغض - على ما ذكره الراغب - النقصان من الطرف و
الصوت فغض الصوت النقص و القصر فيه.
و المعنى: و خذ بالاعتدال في مشيك و بالنقص و القصر في صوتك إن أنكر الأصوات
لصوت الحمير لمبالغتها في رفعه.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: إن من الكبائر عقوق الوالدين و اليأس من روح الله و الأمن من مكر الله و
قد روي: أكبر الكبائر الشرك بالله.
و في الفقيه، في الحقوق المروية عن سيد العابدين (عليه السلام): حق الله الأكبر
عليك أن تعبده و لا تشرك به شيئا فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن
يكفيك أمر الدنيا و الآخرة. قال: و أما حق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل
أحد أحدا و أعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحدا و وقتك بجميع جوارحها، و
لم تبال أن تجوع و تطعمك، و تعطش و تسقيك، و تعرى و تكسوك، و تضحى و تظلك، و
تهجر النوم لأجلك، و وقتك الحر و البرد لتكون لها فإنك لا تطيق شكرها إلا بعون
الله و توفيقه. و أما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك فإنك لولاه لم تكن فمهما رأيت
من نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله و اشكره على
قدر ذلك و لا قوة إلا بالله.
و في الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء
رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك.
و في المناقب،: مر الحسين بن علي (عليهما السلام) على عبد الرحمن بن عمرو بن
العاص. فقال عبد الله: من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر
إلى هذا المجتاز و ما كلمته منذ ليالي صفين. فأتى به أبو سعيد الخدري إلى
الحسين (عليه السلام) فقال له الحسين (عليه السلام): أ تعلم أني أحب أهل الأرض
إلى أهل السماء و تقاتلني و أبي يوم صفين؟ و الله إن أبي لخير مني. فاستعذر و
قال إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لي: أطع أباك. فقال له الحسين
(عليه السلام): أ ما سمعت قول الله عز و جل: "و إن جاهداك على أن تشرك بي ما
ليس لك به علم فلا تطعهما" و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما
الطاعة بالمعروف، و قوله: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
و في الفقيه،: في ألفاظه (صلى الله عليه وآله وسلم) الموجزة: لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول:
اتقوا المحقرات من الذنوب فإن لها طالبا، يقول أحدكم أذنب و أستغفر إن الله عز
و جل يقول: "و نكتب ما قدموا و آثارهم - و كل شيء أحصيناه في إمام مبين و قال
عز و جل: "إنها إن تك مثقال حبة من خردل - فتكن في صخرة أو في السماوات أو في
الأرض - يأت بها الله إن الله لطيف خبير".
و فيه، بإسناده إلى معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم و أحب ذلك إلى الله عز و جل فقال: ما أعلم
شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة.
الحديث.
و فيه، بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال:
الصلاة قربان كل تقي.
و في المجمع،: "و اصبر على ما أصابك" من المشقة و الأذى في الأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر: عن علي (عليه السلام). و فيه،: في قوله تعالى: "و لا تصعر خدك
للناس" أي و لا تمل وجهك من الناس بكل و لا تعرض عمن يكلمك استخفافا به،: و هذا
المعنى قول ابن عباس و أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن عدي و ابن مردويه عن أبي أيوب
الأنصاري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قول الله: "و لا تصعر
خدك للناس" قال: إلى الشدق.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "إن أنكر الأصوات لصوت الحمير": و روي عن أبي عبد
الله (عليه السلام) قال: هي العطسة المرتفعة القبيحة و الرجل يرفع صوته بالحديث
رفعا قبيحا إلا أن يكون داعيا أو يقرأ القرآن.
أقول: و في جميع هذه المعاني و خاصة في العقوق روايات كثيرة متظافرة.
كلام في قصة لقمان و نبذ من حكمه، في فصلين
1 - لم يرد اسم لقمان في كلامه تعالى إلا في سورة لقمان و لم يذكر من قصصه إلا
ما في قوله عز من قائل: "و لقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله" و قد وردت في
قصته و حكمه روايات كثيرة مختلفة و نحن نورد بعض ما كان منها أقرب إلى
الاعتبار.
ففي الكافي، عن بعض أصحابنا رفعه إلى هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى
بن جعفر (عليه السلام): يا هشام إن الله قال: "و لقد آتينا لقمان الحكمة" قال:
الفهم و العقل.
و في المجمع، روى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) يقول: حقا أقول لم يكن لقمان نبيا و لكن كان عبدا كثير التفكر حسن اليقين
أحب الله فأحبه و من عليه بالحكمة. كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا
لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت
إن خيرني ربي قبلت العافية و لم أقبل البلاء و إن هو عزم علي فسمعا و طاعة فإني
أعلم أنه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني. فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا
لقمان؟ قال: لأن الحكم أشد المنازل و آكدها يغشاه الظلم من كل مكان إن وفى
فبالحري أن ينجو، و إن أخطأ أخطأ طريق الجنة، و من يكن في الدنيا ذليلا و في
الآخرة شريفا خير من أن يكون في الدنيا شريفا و في الآخرة ذليلا و من تخير
الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه
فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها ثم كان يوازر داود بحكمته فقال له
داود: طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة و صرفت عنك البلوى.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): أ تدرون ما كان لقمان؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: كان
حبشيا.
2 - و في تفسير القمي، بإسناده عن حماد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن لقمان و حكمته التي ذكرها الله عز و جل، فقال: أما و الله ما أوتي لقمان
الحكمة بحسب و لا مال و لا أهل و لا بسط في جسم و لا جمال. و لكنه كان رجلا
قويا في أمر الله متورعا في الله ساكتا مستكينا عميق النظر طويل الفكر حديد
النظر مستغن بالعبر لم ينم نهارا قط و لم يره أحد من الناس علي بول و لا غائط و
لا اغتسال لشدة تستره و عموق نظره و تحفظه في أمره، و لم يضحك من شيء قط مخافة
الإثم و لم يغضب قط، و لم يمازح إنسانا قط، و لم يفرح بشيء أتاه من أمر الدنيا
و لا حزن منها على شيء قط و قد نكح من النساء و ولد له من الأولاد الكثير و قدم
أكثرهم أفراطا فما بكى على موت أحد منهم. و لم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان
إلا أصلح بينهما و لم يمض عنهما حتى تحابا، و لم يسمع قولا قط من أحد استحسنه
إلا سأل عن تفسيره و عمن أخذه، و كان يكثر مجالسة الفقهاء و الحكماء، و كان
يغشى القضاة و الملوك و السلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، و يرحم الملوك و
السلاطين لغرتهم بالله و طمأنينتهم في ذلك، و يعتبر و يتعلم ما يغلب به نفسه و
يجاهد به هواه و يحترز به من الشيطان يداوي قلبه بالفكر و يداوي نفسه بالعبر، و
كان لا يظعن إلا فيما يعنيه فبذلك أوتي الحكمة و منح العصمة. و إن الله تبارك و
تعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار و هدأت العيون بالقائلة فنادوا
لقمان حيث يسمع و لا يراهم فقالوا: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في
الأرض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان: إن أمرني الله بذلك فالسمع و الطاعة لأنه إن
فعل ذلك أعانني عليه و علمني و عصمني و إن هو خيرني قبلت العافية. فقالت
الملائكة: يا لقمان لم؟ قال: لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل و أكثر فتنا و
بلاء يخذل و لا يعان و يغشاه الظلم من كل مكان و صاحبه فيه بين أمرين إن أصاب
فيه الحق فبالحري أن يسلم و إن أخطأ أخطأ طريق الجنة، و من يكن في الدنيا ذليلا
ضعيفا كان أهون عليه في المعاد من أن يكون حكما سريا شريفا، و من اختار الدنيا
على الآخرة يخسرهما كلتيهما تزول هذه و لا تدرك تلك. قال: فتعجب الملائكة من
حكمته و استحسن الرحمن منطقه فلما أمسى و أخذ مضجعه من الليل أنزل الله عليه
الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه و هو نائم و غطاه بالحكمة غطاء فاستيقظ و هو
أحكم الناس في زمانه، و خرج على الناس ينطق بالحكمة و يبثها فيها. قال: فلما
أوتي الحكم بالخلافة و لم يقبلها أمر الله عز و جل الملائكة فنادت داود
بالخلافة فقبلها و لم يشترط فيها بشرط لقمان فأعطاه الله عز و جل الخلافة في
الأرض و ابتلي بها غير مرة كل ذلك يهوي في الخطإ يقيله الله و يغفر له، و كان
لقمان يكثر زيارة داود (عليه السلام) و يعظه بمواعظه و حكمته و فضل علمه، و كان
داود يقول له: طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة و صرفت عنك البلية و أعطي داود
الخلافة و ابتلي بالحكم و الفتنة. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قول
الله عز و جل: "و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه - يا بني لا تشرك بالله إن
الشرك لظلم عظيم" قال: فوعظ لقمان ابنه باثار حتى تفطر و انشق. و كان فيما وعظه
به يا حماد أن قال: يا بني إنك منذ سقطت إلى الدنيا استدبرتها و استقبلت الآخرة
فدار أنت إليها تسير أقرب إليك من دار أنت عنها متباعد. يا بني جالس العلماء و
زاحمهم بركبتيك و لا تجادلهم فيمنعوك، و خذ من الدنيا بلاغا و لا ترفضها فتكون
عيالا على الناس، و لا تدخل فيها دخولا يضر بآخرتك، و صم صوما يقطع شهوتك و لا
تصم صياما يمنعك من الصلاة فإن الصلاة أحب إلى الله من الصيام. يا بني: إن
الدنيا بحر عميق قد هلك فيها عالم كثير فاجعل سفينتك فيها الإيمان و اجعل
شراعها التوكل، و اجعل زادك فيها تقوى الله فإن نجوت فبرحمة الله و إن هلكت
فبذنوبك. يا بني: إن تأدبت صغيرا انتفعت به كبيرا و من عنى بالأدب اهتم به، و
من اهتم به تكلف علمه و من تكلف علمه اشتد له طلبه و من اشتد له طلبه أدرك
منفعته فاتخذه عادة فإنك تخلف في سلفك و ينتفع به من خلفك و يرتجيك فيه راغب و
يخشى صولتك راهب، و إياك و الكسل عنه بالطلب لغيره فإن غلبت على الدنيا فلا
تغلبن على الآخرة و إذا فاتك طلب العلم في مظانه فقد غلبت على الآخرة و اجعل في
أيامك و لياليك و ساعاتك نصيبا في طلب العلم فإنك لن تجد له تضييعا أشد من تركه
و لا تمارين فيه لجوجا و لا تجادلن فقيها و لا تعادين سلطانا، و لا تماشين
ظلوما و لا تصادقنه و لا تؤاخين فاسقا و لا تصاحبن متهما و اخزن علمك كما تخزن
ورقك. يا بني: خف الله عز و جل خوفا لو أتيت القيامة ببر الثقلين خفت أن يعذبك
و ارج الله رجاء لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك. فقال له
ابنه: يا أبت كيف أطيق هذا و إنما لي قلب واحد؟ فقال له لقمان: يا بني: لو
استخرج قلب المؤمن يوجد فيه نوران نور للخوف و نور للرجاء لو وزنا لما رجح
أحدهما على الآخر بمثقال ذرة فمن يؤمن بالله يصدق ما قال الله عز و جل و من
يصدق ما قال الله يفعل ما أمر الله، و من لم يفعل ما أمر الله لم يصدق ما قال
الله فإن هذه الأخلاق يشهد بعضها لبعض. فمن يؤمن بالله إيمانا صادقا يعمل لله
خالصا ناصحا و من يعمل لله خالصا ناصحا فقد آمن بالله صادقا و من أطاع الله
خافه، و من خافه فقد أحبه، و من أحبه فقد اتبع أمره و من اتبع أمره استوجب جنته
و مرضاته، و من لم يتبع رضوان الله فقد هان عليه سخطه نعوذ بالله من سخط الله.
يا بني: لا تركن إلى الدنيا و لا تشغل قلبك بها فما خلق الله خلقا هو أهون عليه
منها أ لا ترى أنه لم يجعل نعيمها ثواب المطيعين و لم يجعل بلاءها عقوبة
للعاصين.
و في قرب الإسناد:، هارون عن ابن صدقة عن جعفر عن أبيه (عليه السلام): قيل
للقمان: ما الذي أجمعت عليه من حكمتك؟ قال: لا أتكلف ما قد كفيته و لا أضيع ما
وليته.
- و في البحار، عن قصص الأنبياء بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)
قال: كان فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال: يا بني: إن تك في شك من الموت فارفع
عن نفسك النوم و لن تستطيع ذلك و إن كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه
و لن تستطيع ذلك فإنك إذا فكرت في هذا علمت أن نفسك بيد غيرك و إنما النوم
بمنزلة الموت و إنما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت، و قال: قال
لقمان لابنه: يا بني لا تقترب فيكون أبعد لك و لا تبعد فتهان، كل دابة تحب
مثلها و ابن آدم لا يحب مثله. لا تنشر بزك إلا عند باغيه، و كما ليس بين الكبش
و الذئب خلة، كذلك ليس بين البار و الفاجر خلة، من يقترب من الزفت تعلق به بعضه
كذلك من يشارك الفاجر يتعلم من طرفه، من يحب المراء يشتم، و من يدخل مدخل السوء
يتهم، و من يقارن قرين السوء لا يسلم، و من لا يملك لسانه يندم. و قال يا بني
صاحب مائة و لا تعاد واحدا، يا بني إنما هو خلاقك و خلقك فخلاقك دينك و خلقك
بينك و بين الناس فلا تبغضن إليهم و تعلم محاسن الأخلاق. يا بني كن عبدا
للأخيار و لا تكن ولدا للأشرار. يا بني أد الأمانة تسلم دنياك و آخرتك و كن
أمينا فإن الله لا يحب الخائنين. يا بني لا تر الناس أنك تخشى الله و قلبك
فاجر.
و في الكافي، بإسناده عن يحيى بن عقبة الأزدي عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: كان فيما وعظ به لقمان لابنه يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم
يبق ما جمعوا و لم يبق من جمعوا له، و إنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل و وعدت
عليه أجرا فأوف عملك و استوف أجرك، و لا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في
زرع أخضر فأكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها، و لكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة
على نهر جزت عليها فتركتها و لم ترجع إليها آخر الدهر أخربها و لا تعمرها فإنك
لم تؤمر بعمارتها. و اعلم أنك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز و جل عن
أربع: شبابك فيما أبليته، و عمرك فيما أفنيته، و مالك مما اكتسبته و فيما
أنفقته، فتأهب لذلك و أعد له جوابا و لا تأس على ما فاتك من الدنيا فإن قليل
الدنيا لا يدوم بقاؤه و كثيرها لا يؤمن بلاؤه فخذ حذرك، و جد في أمرك، و اكشف
الغطاء عن وجهك، و تعرض لمعروف ربك، و جدد التوبة في قلبك، و أكمش في فراقك قبل
أن يقصد قصدك، و يقضى قضاؤك، و يحال بينك و بين ما تريد.
و في البحار، عن القصص بإسناده عن حماد عن الصادق (عليه السلام) قال: قال
لقمان: يا بني إياك و الضجر و سوء الخلق و قلة الصبر فلا يستقيم على هذه الخصال
صاحب، و ألزم نفسك التؤدة في أمورك و صبر على مئونات الإخوان نفسك، و حسن مع
جميع الناس خلقك. يا بني إن عدمك ما تصل به قرابتك و تتفضل به على إخوانك فلا
يعدمنك حسن الخلق و بسط البشر فإن من أحسن خلقه أحبه الأخيار و جانبه الفجار، و
اقنع بقسم الله ليصفو عيشك فإن أردت أن تجمع عز الدنيا فاقطع طمعك مما في أيدي
الناس فإنما بلغ الأنبياء و الصديقون ما بلغوا بقطع طمعهم.
أقول: و الأخبار في مواعظه كثيرة اكتفينا منها بما أوردناه إيثارا للاختصار.
31 سورة لقمان - 20 - 34
أَ لَمْ تَرَوْا أَنّ اللّهَ سخّرَ لَكُم مّا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ
وَ أَسبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظهِرَةً وَ بَاطِنَةً وَ مِنَ النّاسِ مَن
يجَدِلُ فى اللّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ وَ لا هُدًى وَ لا كِتَبٍ مّنِيرٍ (20) وَ
إِذَا قِيلَ لهَُمُ اتّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتّبِعُ مَا
وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَ وَ لَوْ كانَ الشيْطنُ يَدْعُوهُمْ إِلى
عَذَابِ السعِيرِ (21) وَ مَن يُسلِمْ وَجْهَهُ إِلى اللّهِ وَ هُوَ محْسِنٌ
فَقَدِ استَمْسك بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَ إِلى اللّهِ عَقِبَةُ الأُمُورِ
(22) وَ مَن كَفَرَ فَلا يحْزُنك كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ
فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنّ اللّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ (23)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثمّ نَضطرّهُمْ إِلى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَ لَئن
سأَلْتَهُم مّنْ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلِ
الحَْمْدُ للّهِ بَلْ أَكثرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) للّهِ مَا فى السمَوَتِ
وَ الأَرْضِ إِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنىّ الحَْمِيدُ (26) وَ لَوْ أَنّمَا فى
الأَرْضِ مِن شجَرَةٍ أَقْلَمٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدّهُ مِن بَعْدِهِ سبْعَةُ
أَبحُرٍ مّا نَفِدَت كلِمَت اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مّا
خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلا كنَفْسٍ وَحِدَةٍ إِنّ اللّهَ سمِيعُ بَصِيرٌ
(28) أَ لَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ الّيْلَ فى النّهَارِ وَ يُولِجُ
النّهَارَ فى الّيْلِ وَ سخّرَ الشمْس وَ الْقَمَرَ كلّ يجْرِى إِلى أَجَلٍ
مّسمّى وَ أَنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِك بِأَنّ اللّهَ
هُوَ الْحَقّ وَ أَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَطِلُ وَ أَنّ اللّهَ هُوَ
الْعَلىّ الْكبِيرُ (30) أَ لَمْ تَرَ أَنّ الْفُلْك تجْرِى فى الْبَحْرِ
بِنِعْمَتِ اللّهِ لِيرِيَكم مِّنْ ءَايَتِهِ إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ لِّكلِّ
صبّارٍ شكُورٍ (31) وَ إِذَا غَشِيهُم مّوْجٌ كالظلَلِ دَعَوُا اللّهَ
مخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نجّاهُمْ إِلى الْبرِّ فَمِنْهُم مّقْتَصِدٌ
وَ مَا يجْحَدُ بِئَايَتِنَا إِلا كلّ خَتّارٍ كَفُورٍ (32) يَأَيهَا النّاس
اتّقُوا رَبّكُمْ وَ اخْشوْا يَوْماً لا يجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَ لا
مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلا
تَغُرّنّكمُ الْحَيَوةُ الدّنْيَا وَ لا يَغُرّنّكم بِاللّهِ الْغَرُورُ (33)
إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ الساعَةِ وَ يُنزِّلُ الْغَيْث وَ يَعْلَمُ مَا فى
الأَرْحَامِ وَ مَا تَدْرِى نَفْسٌ مّا ذَا تَكسِب غَدًا وَ مَا تَدْرِى نَفْس
بِأَى أَرْضٍ تَمُوت إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُ (34)
بيان
رجوع إلى ما قبل القصة من آيات الوحدانية و نفي الشريك و أدلتها المنتهية إلى
قوله: "هذا خلق الله فأروني ما ذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال
مبين".
قوله تعالى: "أ لم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض و أسبغ
عليكم نعمه ظاهرة و باطنة" رجوع إلى ما قبل قصة لقمان و هو الدليل على أن
الخطاب للمشركين و إن كان ذيل الآية يشعر بعموم الخطاب.
و عليه فصدر الآية من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يتصل بقوله:
"هذا خلق الله فأروني ما ذا خلق الذين من دونه" و لا التفات في قوله: "أ لم
تروا".
و على تقدير كونه من كلامه تعالى ففي قوله: "أ لم تروا" التفات من سياق الغيبة
الذي في قوله: "بل الظالمون في ضلال مبين" إلى الخطاب، و الالتفات في مثل هذه
الموارد يكون لاشتداد وجد المتكلم و تأكد غيظه من جهل المخاطبين و تماديهم في
غيهم بحيث لا ينفعهم دلالة و لا ينجح فيهم إشارة فيواجهون بذكر ما هو بمرأى
منهم و مسمع لعلهم يتنبهوا عن نومتهم و ينتزعوا عن غفلتهم.
و كيف كان فالمراد بتسخير السماوات و الأرض للإنسان و هم يرون ذلك ما نشاهده من
ارتباط أجزاء الكون بعضها ببعض في نظام عام يدبر أمر العالم عامة و الإنسان
خاصة لكونه أشرف أجزاء هذا العالم المحسوس بما فيه من الشعور و الإرادة فقد سخر
الله الكون لأجله.
و التسخير قهر الفاعل في فعله بحيث يفعله على ما يستدعيه القاهر و يريده كتسخير
الكاتب القلم للكتابة و كما يسخر المولى عبده و المخدوم خادمه في أن يفعل
باختياره و إرادته ما يختاره و يريده المولى و المخدوم و الأسباب الكونية كائنة
ما كانت تفعل بسببيتها الخاصة ما يريده الله من نظام يدبر به العالم الإنساني.
و مما مر يظهر أن اللام في "لكم" للتعليل الغائي و المعنى لأجلكم و المسخر
بالكسر هو الله تعالى دون الإنسان، و ربما احتمل كون اللام للملك و المسخر
بالكسر هو الإنسان بمشية من الله تعالى كما يشاهد من تقدم الإنسان بمرور الزمان
في تسخير أجزاء الكون و استخدامه لها في سبيل مقاصده لكن لا يلائمه تصدير
الكلام بقوله: "أ لم تروا".
و قوله: "و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة" الإسباغ الإتمام و الإيساع أي أتم و
أوسع عليكم نعمه، و النعم جمع نعمة و هو في الأصل بناء النوع و غلب عليه
استعماله في ما يلائم الإنسان فيستلذ منه، و المراد بالنعم الظاهرة و الباطنة
بناء على كون الخطاب للمشركين النعم الظاهرة للحس كالسمع و البصر و سائر
الجوارح و الصحة و العافية و الطيبات من الرزق و النعم الغائبة عن الحس كالشعور
و الإرادة و العقل.
و بناء على عموم الخطاب لجميع الناس الظاهرة من النعم هي ما ظهر للحس كما تقدم
و كالدين الذي به ينتظم أمور دنياهم و آخرتهم و الباطنة منها كما تقدم و
كالمقامات المعنوية التي تنال بإخلاص العمل.
و قوله: "و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير" رجوع
الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما كان في السياق السابق، و
المجادلة المخاصمة النظرية بطريق المغالبة، و المقابلة بين العلم و الهدى و
الكتاب تلوح بأن المراد بالعلم ما هو مكتسب من حجة عقلية، و بالهدى ما يفيضه
الله بالوحي أو الإلهام، و بالكتاب الكتاب السماوي المنتهي إليه تعالى بالوحي
النبوي و لذلك وصفه بالمنير فهذه طرق ثلاث من العلم لا رابع لها.
فمعنى قوله: يجادل في الله بغير كذا و كذا أنه يجادل في وحدانيته تعالى في
الربوبية و الألوهية بغير حجة يصح الركون إليها بل عن تقليد.
قوله تعالى: "و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه
آباءنا" إلخ، ضمائر الجمع راجعة إلى "من" باعتبار المعنى كما أن ضمير الإفراد
في الآية السابقة راجع إليه باعتبار اللفظ.
و قوله: "و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله" في التعبير بما أنزل الله من غير
أن يقال: اتبعوا الكتاب أو القرآن إشارة إلى كون الدعوة دعوة ذات حجة لا تحكم
فيها لأن نزول الكتاب مؤيد بحجة النبوة فكأنه قيل: و إذا دعوا إلى دين التوحيد
الذي يدل عليه الكتاب المقطوع بنزوله من عند الله سبحانه، و بعبارة أخرى إذا
ألقى إليهم القول مع الحجة قابلوه بالتحكم من غير حجة فقالوا نتبع ما وجدنا
عليه آباءنا.
و قوله: "أ و لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير" أي أ يتبعون آباءهم و لو
كان الشيطان يدعوهم بهذا الاتباع إلى عذاب السعير؟ فالاستفهام للإنكار و لو
وصلية معطوفة على محذوف مثلها و التقدير أ يتبعونهم لو لم يدعهم الشيطان و لو
دعاهم.
و محصل الكلام: أن الاتباع إنما يحسن إذا كانوا على الحق و أما لو كانوا على
الباطل و كان اتباعا يدعوهم به إلى الشقاء و عذاب السعير و هو كذلك فإنه اتباع
في عبادة غير الله و لا معبود غيره.
قوله تعالى: "و من يسلم وجهه إلى الله و هو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى و
إلى الله عاقبة الأمور" استئناف و يحتمل أن يكون حالا من مفعول "يدعوهم" و في
معنى الجملة الحالية ضمير عائد إليهم، و المعنى: أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى
كذا و الحال أن من أسلم وجهه إلى الله كذا فقد نجا و أفلح و الحال أن عاقبة
الأمور ترجع إلى الله فيجب أن يكون هو المعبود.
و إسلام الوجه إلى الله تسليمه له و هو إقبال الإنسان بكليته عليه بالعبادة و
إعراضه عمن سواه.
و الإحسان الإتيان بالأعمال الصالحة عن إيقان بالآخرة كما فسره به في أول
السورة "هدى و رحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم بالآخرة
هم يوقنون" و العروة الوثقى المستمسك الذي لا انفصام له.
و المعنى: و من وحد الله و عمل صالحا مع اليقين بالمعاد فهو ناج غير هالك البتة
في عاقبة أمره لأنها إلى الله و هو الذي يعده بالنجاة و الفلاح.
و من هنا يظهر أن قوله: "و إلى الله عاقبة الأمور" في مقام التعليل لقوله: "فقد
استمسك بالعروة الوثقى" بما أنه استعارة تمثيلية عن النجاة و الفلاح.
قوله تعالى: "و من كفر فلا يحزنك كفره - إلى قوله - إلى عذاب غليظ" تسلية للنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب لنفسه أن لا يغلبه الحزن و هم بالآخرة
راجعون إليه تعالى فينبؤهم بما عملوا أي يظهر لهم حقيقة أعمالهم و تبعاتها و هي
النار.
و قوله: "نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ" كشف عن حقيقة حالهم ببيان آخر
فإن البيان السابق "إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا" ربما أوهم أنهم ما داموا
متنعمين في الدنيا خارجون من قدرة الله ثم إذا ماتوا أو بعثوا دخلوا فيما خرجوا
منه فانتقم منهم بالعذاب جيء بهذا البيان للدلالة على أنهم غير خارجين من
التدبير قط و إنما يمتعهم في الدنيا قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ فهم مغلوبون
مقهورون على كل حال و أمرهم إلى الله دائما لن يعجزوا الله في حال التنعم و لا
غيرها.
قوله تعالى: "و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله قل الحمد لله
بل أكثرهم لا يعلمون" إشارة إلى أنهم مفطورون على التوحيد معترفون به من حيث لا
يشعرون، فإنهم إن سئلوا عمن خلق السماوات و الأرض اعترفوا بأنه الله عز اسمه و
إذا كان الخالق هو هو فالمدبر لها هو هو لأن التدبير لا ينفك عن الخلق، و إذا
كان مدبر الأمر و المنعم الذي يبسط و يقبض و يرجى و يخاف هو فالمعبود هو هو
وحده لا شريك له فقد اعترفوا بالوحدة من حيث لا يعلمون.
و لذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحمد الله على اعترافهم من حيث لا
يشعرون فقال: "قل الحمد لله" ثم أشار إلى أن كون أكثرهم لا يعلمون معنى
اعترافهم أن الله هو الخالق و ما يستلزمه فقال: "بل أكثرهم لا يعلمون" نعم قليل
منهم يعلمون ذلك و لكنهم لا يطاوعون الحق بل يجحدونه و قد أيقنوا به كما قال
تعالى: "و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم": النمل: 14.
قوله تعالى: "لله ما في السماوات و الأرض إن الله هو الغني الحميد" لما كان
اعترافهم بأن الخالق هو الله سبحانه إنما يثبت التوحد بالربوبية و الألوهية إذا
كان التدبير و التصرف إليه تعالى و كان نفس الخلق كافيا في استلزامه اكتفى به
في تمام الحجة و استحمد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و استجهل القوم
لغفلتهم.
ثم احتج عليه ثانيا من طريق انحصار الملك الحقيقي فيه تعالى لكونه غنيا محمودا
مطلقا و تقريره أنه تعالى مبدىء كل خلق و معطي كل كمال فهو واجد لكل ما يحتاج
إليه الأشياء فهو غني على الإطلاق إذ لو لم يكن غنيا من جهة من الجهات لم يكن
مبدئا له معطيا لكماله هذا خلف، و إذا كان غنيا على الإطلاق كان له ما في
السماوات و الأرض فهو المالك لكل شيء على الإطلاق فله أن يتصرف فيها كيف شاء
فكل تدبير و تصرف يقع في العالم فهو له إذ لو كان شيء من التدبير لغيره لا له
كان مالكه ذلك الغير دونه و إذا كان التدبير و التصرف له تعالى فهو رب العالمين
و الإله الذي يعبد و يشكر إنعامه و إحسانه.
و هذا هو الذي يشير إليه قوله: "لله ما في السماوات و الأرض إن الله هو الغني"
فقوله: "لله ما في" إلخ، حجة على وحدانيته و قوله: "إن الله هو الغني" تعليل
للملك.
و أما قوله: "الحميد" أي المحمود في أفعاله فهو مبدأ آخر للحجة و ذلك أن الحمد
هو الثناء على الجميل الاختياري و كل جميل في العالم فهو له سبحانه فإليه يعود
الثناء فيه فهو حميد على الإطلاق و لو كان شيء من هذا التدبير المتقن الجميل من
غيره تعالى من غير انتساب إليه لكان الحمد و الثناء لغيره تعالى لا له فلا يكون
حميدا على الإطلاق و بالنسبة إلى كل شيء و قد فرض أنه حميد على الإطلاق هذا
خلف.
قوله تعالى: "و لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة
أبحر ما نفدت كلمات الله" إلخ، "من شجرة" بيان للموصول و الشجرة واحد الشجر و
تفيد في المقام - و هي في سياق "لو" الاستغراق أي كل شجرة في الأرض، و المراد
بالبحر مطلق البحر، و قوله: "يمده من بعده سبعة أبحر" أي يعينه بالانضياف إليه
سبعة أمثاله و الظاهر أن المراد بالسبعة التكثير دون خصوص هذا العدد و الكلمة
هي اللفظ الدال على معنى، و قد أطلق في كلامه تعالى على الوجود المفاض بأمره
تعالى، و قد قال: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون": يس: 82، و قد
أطلق على المسيح (عليه السلام) الكلمة في قوله: "و كلمته ألقاها إلى مريم":
النساء: 171.
فالمعنى: و لو جعل أشجار الأرض أقلاما و أخذ البحر و أضيف إليه سبعة أمثاله و
جعل المجموع مدادا فكتب كلمات الله - بتبديلها ألفاظا دالة عليها - بتلك
الأقلام من ذلك المداد لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله لكونها غير متناهية.
و من هنا يظهر أن في الكلام إيجازا بالحذف و أن قوله: "إن الله عزيز حكيم" في
مقام التعليل، و المعنى: لأنه تعالى عزيز لا يعزه و لا يقهره شيء فهذه الكتابة
لا ينفد بها ما هو من عنده حكيم لا يفوض التدبير إلى غيره.
و الآية متصلة بما قبلها من حيث دلالته على كون تدبير الخلق له سبحانه لا لغيره
فسيقت هذه الآية للدلالة على سعة تدبيره و كثرة أوامره التكوينية في الخلق و
التدبير إلى حيث ينفد البحر الممدود بسبعة أمثاله لو جعل مدادا و كتبت به أشجار
الأرض المجعولة أقلاما قبل أن ينفد أوامره و كلماته.
قوله تعالى: "ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير" سوق
للكلام إلى إمكان الحشر و خاصة من جهة استبعادهم المعاد لكثرة عدد الموتى و
اختلاطهم بالأرض من غير تميز بعضهم من بعض.
فقال تعالى: "ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة" في الإمكان و التأتي فإنه
تعالى لا يشغله شأن عن شأن و لا يعجزه كثرة و لا يتفاوت بالنسبة إليه الواحد و
الجمع، و ذكر الخلق مع البعث للدلالة على عدم الفرق بين البدء و العود من حيث
السهولة و الصعوبة بل لا يتصف فعله بالسهولة و الصعوبة.
و يشهد لما ذكر إضافة الخلق و البعث إلى ضمير الجمع المخاطب و المراد به الناس
ثم تنظيره بالنفس الواحدة، و المعنى: ليس خلقكم معاشر الناس على كثرتكم و لا
بعثكم إلا كخلق نفس واحدة و بعثها فأنتم على كثرتكم و النفس الواحدة سواء لأنه
لو أشكل عليه بعث الجميع على كثرتهم و البعث لجزاء الأعمال فإنما يشكل من جهة
الجهل بمختلف أعمالكم على كثرتها و اختلاط بعضها ببعض لكنه ليس يجهل شيئا منها
لأنه سميع لأقوالكم بصير بأعمالكم و بعبارة أخرى عليم بأعمالكم من طريق
المشاهدة.
و بما مر يندفع الاعتراض على الآية بأن المناسب لتعليل كون خلق الكثير و بعثهم
كنفس واحدة أن يعلل بمثل قولنا: إن الله على كل شيء قدير أو قوي عزيز أو ما
يشبه ذلك لا بمثل السميع البصير الذي لا ارتباط له بالخلق و البعث.
و ذلك أن الإشكال الذي تعرضت الآية لدفعه هو أن البعث لجزاء الأعمال و هي على
كثرتها و اندماج بعضها في بعض كيف تتميز حتى تجزى عليها فالإشكال متوجه إلى ما
ذكره قبل ثلاث آيات بقوله: "فننبئهم بما عملوا" و قد أجيب بأنه كيف يخفى عليه
شيء من الأقوال و الأعمال و هو سميع بصير لا يشذ عن مشاهدته قول و لا فعل.
و قد كان ذيل قوله السابق: "فننبئهم بما عملوا" بقوله: "إن الله عليم بذات
الصدور" و هو مبني على أن الجزاء على حسب ما يحمله القلب من الحسنة و السيئة
كما يشير إليه قوله: "و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله":
البقرة: 284، و جواب عن هذا الإشكال لو وجه إلى ما تحمله القلوب على كثرته
فيجاب عنه أن الله عليم بذات الصدور و لو وجه إلى نفس الأعمال الخارجية من
الأقوال و الأفعال فالجواب عنه بما في هذه الآية التي نحن فيها: "إن الله سميع
بصير"، فالإشكال و الجواب بوجه نظير ما وقع في قوله تعالى: "قال فما بال القرون
الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى": طه: 52، فافهم.
و قد أجابوا عن الاعتراض بأجوبة أخرى غير تامة من أراد الوقوف عليها فليراجع
المطولات.
قوله تعالى: "أ لم تر أن الله يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و
سخر الشمس و القمر كل يجري إلى أجل مسمى" إلخ، استشهاد لما تقدم في الآية
السابقة من علمه بالأعمال بأن التدبير الجاري في نظام الليل و النهار حيث يزيد
هذا و ينقض ذاك و بالعكس بحسب الفصول المختلفة و بقاع الأرض المتفرقة في نظم
ثابت جار على اختلافه، و كذا التدبير الجاري في الشمس و القمر على اختلاف
طلوعهما و غروبهما و اختلاف جريانهما و مسيرهما بحسب الحس و كل منهما يجري لأجل
مسمى و لا اختلاف و لا تشوش في النظام الدقيق الذي لهما فهذا كله مما يمتنع من
غير علم و خبرة من مدبرها.
فالمراد بإيلاج الليل في النهار أخذ الليل في الطول و إشغاله بعض ساعات النهار
من قبل و بإيلاج النهار في الليل عكس ذلك، و المراد بجريان الشمس و القمر
المسخرين إلى أجل مسمى انتهاء كل وضع من أوضاعهما إلى وقت محدود مقدر ثم عودهما
إلى بدء فمن شاهد هذا النظام الدقيق الجاري و أمعن فيه لم يشك في أن مدبره إنما
يدبره عن علم لا يخالطه جهل و ليس ذلك عن صدفة و اتفاق.
و قوله: "و أن الله بما تعملون خبير" عطف على موضع "أن الله يولج" و التقدير أ
لم تر أن الله بما تعملون خبير و ذلك لأن من شاهد نظام الليل و النهار و الشمس
و القمر لم يكد يغفل عن كون صانعه عليما بجلائل أعماله و دقائقها، كذا قيل.
و فيه أن استنتاج العلم بالأعمال من العلم بالنظام الجاري في الليل و النهار و
الشمس و القمر و إن صح في نفسه فهو علم حدسي لا مصحح لتسميتها رؤية و هو ظاهر.
و لعل المراد من مشاهدة خبرته تعالى بالأعمال أن الإنسان لو أمعن في النظام
الجاري في أعمال نفسه بما أنها صادرة عن العالم الإنساني موزعة من جهة إلى
الأعمال الصادرة عن القوى الظاهرة من سمع و بصر و شم و ذوق و لمس و الصادرة عن
القوى الباطنة المدركة أو الفعالة أو من جهة إلى بعض القوى و الأدوات أو كلها و
من جهة إلى جاذبة و دافعة و من جهة إلى سني العمر من طفولية و رهاق و شباب و
شيب إلى غير ذلك.
ثم في ارتباط بعضها ببعض و استخدام بعضها لبعض و اهتداء النفس إلى وضع كل في
موضعه الذي يليق به و حركته بهذه القافلة من القوى و الأعمال نحو غايتها من
الكمال و سعادتها في المال و تورطها في ورطات عالم المادة و موطن الزينة و
الفتنة فمن ناج أو هالك.
فإذا أمعن في هذا النظام المحير للأحلام لم يرتب أنه تقدير قدره ربه و نظام
نظمه صانعه العليم القدير و مشاهدة هذا النظام العلمي العجيب مشاهدة أنه بما
يعملون خبير، و الله العالم.
قوله تعالى: "ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه الباطل و أن الله هو
العلي الكبير" لما ذكر سبحانه أن منه بدء كل شيء فيستند إليه في وجوده و تدبير
أمره و أن إليه عود كل شيء من غير فرق بين الواحد و الكثير و أنه ليس إلى من
يدعون من دونه خلق و لا أمر جمع الجميع تحت بيان واحد جامع فقال مشيرا إلى ما
تقدم: "ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه الباطل" إلخ.
توضيحه أن الحق هو الثابت من جهة ثبوته و الباطل يقابل الحق فهو اللاثابت من
جهة عدم ثبوته، و قوله: "إن الله هو الحق" بما فيه من ضمير الفصل و تعريف الخبر
باللام يفيد القصر أعني حصر المبتدإ في الخبر.
فقوله: "بأن الله هو الحق" قصر له تعالى في الثبوت، أي هو ثابت لا يشوب ثبوته
بطلان و بعبارة أخرى هو ثابت من جميع الجهات و بعبارة ثالثة هو موجود على كل
تقدير فوجوده مطلق غير مقيد بقيد و لا مشروط بشرط فوجوده ضروري و عدمه ممتنع و
غيره من الموجودات الممكنة موجود على تقدير و هو تقدير وجود سببه و هو الوجود
المقيد الذي يوجد بغيره من غير ضرورة في ذاته.
و إذا كان حقية الشيء هو ثبوته فهو تعالى حق بذاته و غيره إنما يحق و يتحقق به.
و إذا تأملت هذا المعنى حق تأمله وجدت أولا: أن الأشياء بأجمعها تستند في
وجودها إليه تعالى و أيضا تستند في النظام الجاري فيها عامة و في النظامات
الجزئية الجارية في كل نوع من أنواعها و كل فرد من أفرادها إليه تعالى.
و ثانيا: أن الكمالات الوجودية التي هي صفات الوجود كالعلم و القدرة و الحياة و
السمع و البصر و الوحدة و الخلق و الملك و الغنى و الحمد و الخبرة - مما عد في
الآيات السابقة أو لم يعد - صفات قائمة به تعالى على حسب ما يليق بساحة كبريائه
و عز قدسه لأنها صفات وجودية و الوجود قائم به تعالى فهي إما عين ذاته كالعلم و
القدرة و إما صفات خارجة عن ذاته منتزعة عن فعله كالخلق و الرزق و الرحمة.
و ثالثا: أن قبول الشريك في ذاته أو في تدبيره و كل ما يحمل معنى الفقد و النقص
مسلوب عنه تعالى و هذه هي الصفات السلبية كنفي الشريك و نفي التعدد و نفي الجسم
و المكان و الزمان و الجهل و العجز و البطلان و الزوال إلى غيرها.
فإن إطلاق وجوده و عدم تقيده بقيد ينفي عنه كل معنى عدمي أي إثبات الوجود مطلقا
فإن مرجع نفي النفي إلى الإثبات.
و لعل قوله: "و أن الله هو العلي الكبير" يفيد ثبوت الصفات له بكلتا مرحلتيها
بناء على أن اسم "العلي" يفيد معنى تنزهه عن ما لا يليق بساحته فهو مجمع الصفات
السلبية و الكبير يفيد سعته لكل كمال وجودي فهو مجمع الصفات الثبوتية.
و أن صدر الآية برهان على ذيلها و ذيلها برهان على استجماعه تعالى الصفات
الثبوتية و السلبية جميعا على ما تقدم تقريره فهو الذات المستجمع لجميع صفات
الكمال فهو الله عز اسمه.
و قوله: "و أن ما يدعون من دونه الباطل" يجري فيه ما جرى في قوله: "ذلك بأن
الله هو الحق" فالذي يدعونه من الآلهة ليس لهم من الحقيقة شيء و لا إليهم من
الخلق و التدبير شيء لأن الشريك في الألوهية و الربوبية باطلا لا حق فيه و إذ
كان باطلا على كل تقدير فلا يستند إليه خلق و لا تدبير مطلقا.
و الحق و العلي و الكبير ثلاثة من الأسماء الحسنى و قد تحقق مما تقدم أن الحق
في معنى الواجب الوجود و أن العلي من الصفات السلبية و الكبير من الصفات
الثبوتية قريب المعنى من قولنا: المستجمع لصفات الكمال.
قوله تعالى: "أ لم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته" إلخ،
الباء في "بنعمة الله" للسببية و ذكر النعمة كالتوطئة لآخر الآية و فيه تلويح
إلى وجوب شكره على نعمته لأن شكر المنعم واجب.
و المعنى: أ لم تر أن الفلك تجري و تسير في البحر بسبب نعمة الله و هي أسباب
جريانها من الريح و رطوبة الماء و غير ذلك.
و احتمل بعضهم أن الباء للتعدية أو المعية و المراد بالنعمة ما تحمله السفن من
الطعام و سائر أمتعة الحياة.
و قد تمم الآية بقوله: "إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" و الصبار الشكور أي
كثير الصبر عند الضراء و كثير الشكر عند النعماء كناية عن المؤمن على ما قيل.
قوله تعالى: "و إذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين" إلخ، قال
الراغب: الظلة سحابة تظل و أكثر ما يقال فيما يستوخم و يكره، قال: "كأنه ظلة"
"عذاب يوم الظلة" انتهى.
و المعنى: و إذا غشيهم و أحاط بهم في البحر موج كقطع السحاب انقطعوا إلى الله و
دعوه للنجاة حال كونهم مخلصين له الدين أي و في ذلك دليل على أن فطرتهم على
التوحيد.
و قوله: "فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد" المقتصد سالك القصد أي الطريق
المستقيم و المراد به التوحيد الذي دلتهم عليه فطرتهم إذ ذلك، و في التعبير بمن
التبعيضية استقلال عدتهم أي فلما نجا الله سبحانه هؤلاء الداعين بالإخلاص إلى
البر فقليل منهم المقتصدون.
و قوله: "و ما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور" الختار مبالغة من الختر و هو شدة
الغدر و في السياق دليل على الاستكثار و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم" لما ساق الحجج و المواعظ الشافية
الوافية جمعهم في خاتمتها في خطاب عام يدعوهم إلى التقوى و ينذرهم بيوم القيامة
الذي لا يغني فيه مغن إلا الإيمان و التقوى.
قال الراغب: الجزاء الغنى و الكفاية، و قال: يقال: غررت فلانا أصبت غرته و نلت
منه ما أريد و الغرة غفلة في اليقظة و الغرار غفلة مع غفوة، إلى أن قال:
فالغرور كل ما يغر الإنسان من مال و جاه و شهوة و شيطان و قد فسر بالشيطان إذ
هو أخبث الغارين و بالدنيا لما قيل: الدنيا تغر و تضر و تمر انتهى.
فمعنى الآية: "يا أيها الناس اتقوا ربكم" و هو الله سبحانه "و اخشوا يوما" و هو
يوم القيامة "لا يجزى" لا يغني "والد عن ولده و لا مولود هو جاز" مغن كاف "عن
والده" شيئا "إن وعد الله" بالبعث "حق" ثابت لا يخلف "فلا تغرنكم الحياة
الدنيا" بزينتها الغارة "و لا يغرنكم بالله الغرور" أي جنس ما يغر الإنسان من
شئون الحياة الدنيا أو خصوص الشيطان.
قوله تعالى: "إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما
تدري نفس ما ذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير" الغيث
المطر و معنى جمل الآية ظاهر.
و قد عد سبحانه أمورا ثلاثة مما تعلق به علمه و هي العلم بالساعة و هو مما
استأثر الله علمه لنفسه لا يعلمه إلا هو و يدل على القصر قوله: "إن الله عنده
علم الساعة" و تنزيل الغيث و علم ما في الأرحام و يختصان به تعالى إلا أن يعلمه
غيره.
و عد أمرين آخرين يجهل بهما الإنسان و بذلك يجهل كل ما سيجري عليه من الحوادث و
هو قوله: "و ما تدري نفس ما ذا تكسب غدا" و قوله: "و ما تدري نفس بأي أرض
تموت".
و كان المراد تذكرة أن الله يعلم كل ما دق و جل حتى مثل الساعة التي لا يتيسر
علمها للخلق و أنتم تجهلون أهم ما يهمكم من العلم فالله يعلم و أنتم لا تعلمون
فإياكم أن تشركوا به و تتمردوا عن أمره و تعرضوا عن دعوته فتهلكوا بجهلكم.
بحث روائي
في كمال الدين، بإسناده إلى حماد بن أبي زياد قال: سألت سيدي موسى بن جعفر
(عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة" فقال:
النعمة الظاهرة الإمام الظاهر، و الباطنة الإمام الغائب.
أقول: هو من الجري و الآية أعم مدلولا.
و في تفسير القمي، بإسناده عن جابر قال: قال رجل عند أبي جعفر (عليه السلام):
"و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة" قال: أما النعمة الظاهرة فالنبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) و ما جاء به من معرفة الله عز و جل و توحيده و أما النعمة
الباطنة فولايتنا أهل البيت و عقد مودتنا. الحديث.
أقول: هو كسابقه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "و أسبغ عليكم" الآية،: و في رواية الضحاك عن ابن
عباس قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه فقال: يا ابن عباس أما ما
ظهر فالإسلام و ما سوى الله من خلقك و ما أفاض عليك من الرزق و أما ما بطن فستر
مساوي عملك و لم يفضحك به، يا ابن عباس إن الله تعالى يقول: ثلاثة جعلتهن
للمؤمن و لم يكن له: صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله، و جعلت له ثلث
ماله أكفر به عنه خطاياه، و الثالث سترت مساوي عمله و لم أفضحه بشيء منه و لو
أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم. أقول: روى ما يقرب منه في الدر المنثور،
بطرق عن ابن عباس، و الحديث كسابقيه من الجري.
و في التوحيد، بإسناده عن عمر بن أذينة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث: و
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مولود يولد على الفطرة يعني على
المعرفة بأن الله خالقه فذلك قوله عز و جل: "و لئن سألتهم من خلق السماوات و
الأرض ليقولن الله".
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "أ لم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة
الله" قال: السفن تجري في البحر بقدرة الله.
و فيه،: في قوله: "إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" قال: الذي يصبر على الفقر و
الفاقة و يشكر الله عز و جل على جميع أحواله.
و في المجمع،: في الآية و في الحديث: الإيمان نصفان: نصف صبر و نصف شكر.
أقول: و هو مأخوذ من الآية فقد مر أنه كناية عن المؤمن.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إلا كل ختار كفور" قال: الختار الخداع و في
قوله: "إن وعد الله حق" قال: ذلك القيامة.
و في إرشاد المفيد،: من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لرجل سمعه يذم الدنيا
من غير معرفة بما يجب أن يقول في معناها: الدنيا دار صدق لمن صدقها، و دار
عافية لمن فهم عنها، و دار غنى لمن تزود منها، مسجد أنبياء الله و مهبط وحيه، و
مصلى ملائكته و متجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، و ربحوا فيها الجنة فمن ذا
يذمها؟ و قد آذنت ببينها، و نادت بفراقها، و نعت نفسها، فشوقت بسرورها إلى
السرور، و حذرت ببلائها البلاء تخويفا و تحذيرا و ترغيبا و ترهيبا. فيا أيها
الذام للدنيا و المغتر بتغريرها متى غرتك؟ أ بمصارع آبائك في البلى أم بمصارع
أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك و مرضت بيديك تبتغي لهم الشفاء و استوصفت لهم
الأطباء، و تلتمس لهم الدواء، لم تنفعهم بطلبك و لم تشفعهم بشفاعتك مثلت بهم
الدنيا مصرعك و مضجعك حيث لا ينفعك بكاؤك و لا تغني عنك أحباؤك.
و في الخصال، عن أبي أسامة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: أ لا
أخبركم بخمسة لم يطلع الله عليها أحدا من خلقه؟ قال: قلت: بلى قال: "إن الله
عنده علم الساعة و ينزل الغيث - و يعلم ما في الأرحام و ما تدري نفس ما ذا تكسب
غدا - و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير".
أقول: هناك روايات كثيرة جدا عن النبي و الأئمة (عليهم السلام) تخبر عن مستقبل
حالهم و عن زمان موتهم و مكانه و هي تقيد هذه الرواية و ما في معناها من
الروايات بالتعليم الإلهي لكن بعض الروايات يأبى التقييد و لا يعبأ بأمرها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة: أن رجلا يقال له الوراث من بني
مازن بن حفصة بن قيس غيلان جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا
محمد، متى تقوم الساعة؟ و قد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ و قد تركت امرأتي حبلى
فمتى تلد؟ و قد علمت ما كسبت اليوم فما ذا أكسب غدا؟ و قد علمت بأي أرض ولدت
فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية.
أقول: الحديث لا يخلو من شيء لعدم انطباق الآية على فقرات السؤال.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: لم يعم على نبيكم (صلى الله
عليه وآله وسلم) إلا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان إلى آخر
السورة.
|