(الصفحة301)
ومنها : رواية ميسرة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «شيئان يفسد الناس بهما صلاتهم: قول الرجل : تبارك اسمك وتعالى جدّك، وإنما هو شيء قالته الجنّ بجهالة فحكى الله عنهم، وقول الرجل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»(1) .
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق(عليه السلام) : «أفسد ابن مسعود على الناس صلاتهم بشيئين: بقوله : تبارك اسم ربّك وتعالى جدّك ، وهذا شيء قالته الجنّ بجهالة ، فحكى الله عنها ، وبقوله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين يعني في التشهد الأول»(2) .
ومنها : ما في عيون الأخبار بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا(عليه السلام) في كتابه إلى المأمون قال : «ولا يجوز أن تقول في التشهد الأول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لأنّ تحليل الصلاة التسليم، فإذا قلت هذا فقد سلّمت»(3) .
ومنها : رواية أبي بصير الطويلة المشتملة على قوله(عليه السلام) : «ثم قل : السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام على أنبياء الله ورسله، السلام على جبرئيل وميكائيل والملائكة المقرّبين، السلام على محمّد بن عبدالله خاتم النبيّين لا نبيّ بعده، والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثم تسلّم»(4) .
ومنها : رواية اُخرى لأبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا نسي الرجل أن يسلّم فإذا ولّى وجهه عن القبلة وقال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فقد فرغ من صلاته»(5) .
ومنها : رواية ثالثة لأبي بصير أيضاً عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا كنت إماماً
(1) الخصال : 50 ح59; الوسائل 7 : 286. أبواب قواطع الصلاة ب29 ح1; وفي الوسائل «ثعلبة بن مُيَسَّر».
(2) الفقيه 1 : 261 ح1190; الوسائل 6 : 410. أبواب التشهد ب12 ح2 .
(3) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2 : 123; الوسائل 6 : 410. أبواب التشهد ب12 ح3 .
(4) الوسائل 6 : 393. أبواب التشهد ب3 ح2.
(5) التهذيب 2 : 159 ح626; الوسائل 6 : 423. أبواب التسليم ب3 ح1 .
(الصفحة302)
فإنّما التسليم أن تسلّم على النبي عليه وآله السلام، وتقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإذا قلت ذلك فقد انقطعت الصلاة، ثم تؤذن القوم وتقول وأنت مستقبل القبلة : السلام عليكم، وكذلك إذا كنت وحدك تقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، مثل ما سلّمت وأنت إمام، فإذا كنت في جماعة فقل مثل ما قلت، وسلّم على من على يمينك وشمالك، فإن لم يكن على شمالك أحد فسلّم على الذين على يمينك، ولا تدع التسليم على يمينك إن يكن على شمالك أحد»(1) .
وينبغي أولا بيان المراد ممّا ورد من أنّ تحريم الصلاة التكبير ، وتحليلها التسليم(2) ، فنقول : إنّه يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد بكون التسليم محلّلا ، إنّه حيث يكون الشروع في الصلاة موجباً لحرمة قطعها ، والإتيان بشيء ممّا ينافيها ، فالتسليم الذي هو آخر أفعال الصلاة ، يحلّل جميع ما حرّمته الصلاة بالحرمة التكليفيّة ، لحصول الفراغ به عنها .
ولا يخفى أنّ هذا الوجه لا يكاد يجري في الصلاة النافلة ، لأنّ قطعها والإتيان بالمنافيات في أثنائها ، لا يكون محرّماً إجماعاً(3) ، فلم يكن الشروع فيها موجباً للحرمة حتّى ترتفع بالتسليم .
ثانيهما : أن يكون المراد بتحليل التسليم هو التحليل الوضعي ، بمعنى أنّ الإتيان به يوجب أن لا يكون فعل المنافيات مضرّاً بصحة الصلاة ، ومانعاً عن انطباق عنوانها على المأتيّ به من الأفعال ، في مقابل ما إذا وقع شيء منها في
(1) التهذيب 2 : 93 ح349; الاستبصار1 : 347 ح1307; الوسائل 6 : 421. أبواب التسليم ب2 ح8 .
(2) الكافي 3: 69 ح2; الفقيه 1: 23 ح68 ; الوسائل 6: 415 و417. أبواب التسليم ب1 ح1 و 8 .
(3) نهاية الأحكام 1: 522; قواعد الأحكام 1: 281; جامع المقاصد 2: 358; كشف اللثام 4: 184; روض الجنان: 338.
(الصفحة303)
أثناء الصلاة .
وذلك إمّا لكون التسليم آخر أفعال الصلاة ، حيث إنّ العمل إذا تحقق الفراغ منه ، لا يكون الإتيان بما ينافيه حينئذ مضرّاً بتحققه ، فكونه محلّلا إنما هو لكونه آخر أفعال الصلاة ، وإمّا لكون التسليم نظير ما به يتحقق الاحلال في الاحرام في الحج ، أو العمرة .
فإنّ المصلّي بمجرّد دخوله في الصلاة يتحقق له الإحرام أيضاً ، لا لمجرّد حرمة الإتيان بالمنافيات عليه ، بل لكون نفس الاحرام الذي هو أمر اعتباري ، حاصلا له في مقام الخضوع والخشوع في مقابل الحقّ جل وعلا ، كالاحرام في باب الحج المنعقد بـ : «لبّيك . . .». .
وحينئذ فكما أنّ الحلق والتقصير اللّذين يتحقق بهما الاحلال ، مع كونهما منافيين لحقيقة الاحرام ، جعلا محلّلين له ، كذلك التسليم في آخر الصلاة يكون محللا للاحرام الصغير المبتحقق في الصلاة ، لا لكونه آخر أفعال الصلاة ، بل لكونه خارجاً عنها ، منافياً لها .
ويؤيده أنّه من كلام الآدميّين ليس له مدخلية في حقيقة الصلاة الراجعة الى الخضوع والخشوع في مقابل الحقّ ، وحينئذ يكون الإتيان بالتسليم كالإتيان بالحدث قبل التسليم وبعد التشهد ، في منافاته لحقيقة الصلاة ، ومرجع هذا الاحتمال الأخير إلى أنّ التسليم لكونه كلاماً آدميّاً منافياً لحقيقة الصلاة ، ولذا لو سلّم في الأثناء تبطل صلاته ، لأنّه جعل التسليم محللا لها ، لا لكونه آخر أفعال الصلاة ، وبه يتحقق الفراغ منها ، فيجوز الإتيان بالمنافيات حينئذ .
وبالجملة: فالمشابهة التامّة المتحققة بين الاحرام الصغير ، الذي يتحقق بالشروع في الصلاة ، ويحصل التحلّل منه بالفراغ منها ، وبين الاحرام الكبير الموجود في الحجّ ، التي لا تكون بين الحج وسائر العبادات ، تقتضي أن يكون المحلل
(الصفحة304)
فيهما على نحو واحد ، وسنخ فارد .
فكما أنّ المحلّل في إحرام الحج مع كونه منافياً لحقيقة الاحرام جعل محلّلا له ، فكذلك المحلّل في الصلاة خصوصاً مع ما عرفت من عدم الملائمة بين الصلاة التي هي الخضوع والخشوع في مقابل المولى ، وبين السلام الذي هو من كلام الآدميّين ، وقد عرفت أنّه لا منافاة بين كونه آخر أفعال الصلاة ، وبين كونه كلام الآدميّين ، ومحلّلا لما حرّمه الدخول في الصلاة ، ويؤيد ما ذكرنا ، الأخبار الكثيرة الواردة في باب التسليم ، المذكورة في الوسائل ، وقد نقل أكثرها في الباب الأول من أبواب التسليم فراجع .
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ المراد بالتسليم الذي كان محلاًّ للنزاع بين القدماء من الأصحاب ، في أنّه هل يكون واجباً أو مستحبّاً ، هي الصيغة الأخيرة ، وهي «السلام عليكم» ، ولم يكن في كتبهم ذكر من تحقّقه بالصيغة الثانية ، وهي «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» أصلا .
ولكن للشيخ(قدس سره) في كتاب المبسوط عبارة ، ربما يظهر منها خلاف ذلك ، حيث قال : والسادس: التسليم ، ففي أصحابنا من جعله فرضاً ، وفيهم من جعله نفلا ، ثم قال : ومن قال من أصحابنا: إنّ التسليم سنّة، يقول إذا قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فقد خرج من الصلاة ، ولا يجوز التلفّظ بذلك في التشهد الأول ، ومن قال : إنّه فرض فبتسليمة واحدة يخرج من الصلاة ، وينبغي أن ينوي بها ذلك والثانية ينوي بها السلام على الملائكة ، أو على من في يساره(1) ، انتهى .
واستفاد المحقّق من هذه العبارة ، أنّ الشيخ قائل بوجوب السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، ويجعله آخر الصلاة ، ويشير بالاستحباب إلى قوله : السلام
(1) المبسوط 1 : 115 ، 116 .
(الصفحة305)
عليكم ورحمة الله وبركاته ، ولذا نسب إليه في المعتبر هذا القول(1) .
هذا ، ولكن يمكن أن يقال : بأنّه لا يستفاد هذا الفتوى من كلام أحد من قدماء الأصحاب ، لا من الذين كانوا متقدمين على الشيخ كالسيد المرتضى ، وأبي الصلاح ، وابن أبي عقيل(2) ، ولا من المتأخّرين عنه إلى زمان المحقّق(3) ، فكلام الشيخ ممّا لا شاهد له أصلا .
مضافاً إلى إمكان المناقشة في استفادة ذلك من كلامه كما صرّح به الشهيد في الذكرى ، حيث قال : إنّ هذا ـ يعني عبارة الشيخ ـ تصريح منه بما نقلناه عن المفيد ، من أنّ السلام علينا سنة ومخرج(4) .
هذا ، ولكن ظاهر العبارة يعطي ما استفاد منها المحقّق ، وأسنده إلى الشيخ من القول بوجوب «السلام علينا» ، لأنّ هذا القول لو كان مستحباً عند القائل باستحباب التسليم ، لكان اللازم عدم لزوم الإتيان به ، وحينئذ فقد يؤتى وقد يترك ، فيقع الإشكال في صورة الترك في المخرج عن الصلاة ، مع أنّ ظاهر العبارة أنّ المخرج عند هذا القائل ، هو «السلام علينا» دائماً ، وهو لا ينطبق إلاّ على القول بوجوبه كما لا يخفى .
وبالجملة : فما ذكره الشيخ على تقدير كون المراد به ما استفاد منه المحقّق ، ممّا لا شاهد له في كلمات الأصحاب المتقدّمين عليه ، والمتأخّرين عنه إلى زمان المحقّق ، حيث إنّه ذهب إلى أنّه لا يخرج من الصلاة إلاّ بأحد التسليمين ، إمّا السلام عليكم ، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وبأيّهما بدأ كان خارجاً من الصلاة ،
(1) المعتبر 2 : 234 .
(2) المسائل الناصريات : 212 مسألة 82 ; الكافي في الفقه : 119; وحكاه عن ابن أبي عقيل في مختلف الشيعة 2: 174.
(3) المراسم: 69; الغنية: 81 ; المهذّب 1 : 95; السرائر 1: 231; الوسيلة: 96.
(4) الذكرى 3: 427 .
(الصفحة306)
ويصير الآخر مندوباً .
وكيف كان ، فاللاّزم ملاحظة الأخبار المتقدمة الواردة في المقام فنقول : أربع منها تدلّ على تحقق الانصراف ، بقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، على اختلافها من حيث الاطلاق ، وعدم التعرّض لخصوص التشهد الأول أو الثاني ، أو التعرّض لخصوص التشهد الأول ، فثلاث منها مطلقة ، وهي رواية الحلبي ، ورواية ميسرة ، ومرسلة الصدوق ، وواحدة منها واردة في خصوص التشهد الأول ، وهي رواية أبي كهمس(1) .
ولا يخفى أنّ تحقق الانصراف بهذا القول لا يدلّ على كونه محلّلا ، كصيغة السلام عليكم ، لأنّ حصول الانصراف به إنما هو لكونه من كلام الآدميّين ، ومنافياً للصلاة ، ومن الواضح أنّه لو وقع في أثناء الصلاة شيء من المنافيات ، تبطل الصلاة ، ويتحقق الانصراف منها ، وهذا لا يلازم اتصافها بالمحلليّة لو وقعت في آخر الصلاة .
وبالجملة: فحصول الانصراف الراجع إلى بطلان الصلاة أمر ، وكونه محلّلا أمر آخر ، فإنّ إيجاد ما به يتحقق الانصراف ، يوجب بطلان الصلاة ، فتجب إعادتها بعد ذلك ، والمحلّل ما يوجب تحليل ما حرّمه الدخول في الصلاة ، مع فرض صحتها ، والذي يستفاد من هذه الروايات الأربع ، هو الأمر الأول لا الثاني ، والمقصود هو العكس كما هو غير خفيّ .
وأمّا رواية الفضل بن شاذان(2) ، فظاهرها باعتبار تعليل النهي عن قول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين بقوله : تحليل الصلاة التسليم ، وإن كان ربما
(1) الوسائل 6: 426. أبواب التسليم ب4 ح1 و 2; وص410. أبواب التشهد ب12 ح2; وج7: 286. أبواب قواطع الصلاة ب29 ح1.
(2) الوسائل 6: 410. أبواب التشهد ب12 ح3 .
(الصفحة307)
يعطي أنّ هذا القول أيضاً من التسليم المحلّل ، فيكون مفادها كونه محلّلا كصيغة السلام عليكم ، إذا وقع في آخر الصلاة ، إلاّ أنّه باعتبار تحقق الانصراف بهذا القول إذا وقع في الأثناء ، وحصول البطلان به ولو لم يكن محلّلا ، لما عرفت من كونه من كلام الآدميّين ، ومنافياً للصلاة .
يمكن أن يقال : بأنّه لا يكون المقصود من الرواية بيان أنّه أيضاً محلّل كالتسليم المحلّل ، بل المقصود التشبيه بالتسليم المحلّل ، فإنّه أيضاً إذا وقع في أثناء الصلاة ، يتحقق بسببه الانصراف منها ، لكونه منافياً لها ، ومن هذه الجهة جعل محلّلا كما عرفت . وحينئذ فلا يستفاد من الرواية كونه أيضاً تسليماً محلّلا فتدبّر .
وأمّا روايات أبي بصير(1) ، فالأولى منها ظاهرة في أنّ السلام علينا لا يكون تسليماً أصلا ، كما أشرنا إليه سابقاً ، فهي من أدلة القول بالخلاف .
وأمّا الثانية منها فهي مضطربة ، من جهة أنّ ظاهرها أنّه مع نسيان السلام إذا ولّى وجهه عن القبلة تتمّ صلاته ، فمفادها أنّ هذا القول إنما يفيد إذا ولّى وجهه عن القبلة بعد التذكّر ، وهو كما ترى .
وأمّا الثالثة منها : فتشتمل على بيان أحكام جميع المكلّفين ، من الإمام ، والمأموم ، والمنفرد . أمّا الإمام ، فتسليمه أن يسلّم على النبي(صلى الله عليه وآله) ، ويقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وينصرف بذلك من الصلاة ، ثم يعلم القوم بذلك ، بقوله : السلام عليكم . فالغرض منه إنما هو إيذان المأمومين بتمامية الصلاة ، وحصول الفراغ منها .
وأمّا المصلّي المنفرد ، فسلامه إنما هو مثل سلام الإمام ، غاية الأمر أنّه حيث يكون منفرداً لا معنى للايذان له بقوله : السلام عليكم .
(1) الوسائل 6: 393. أبواب التشهد ب3 ح2 وص423 و421. أبواب التسليم ب3 ح1 وب2 ح 8 .
(الصفحة308)
وأمّا المأموم المقتدي ، فهو أيضاً يسلّم مثل ما يسلّم لو كان إماماً ، ثم يسلّم على من على يمينه وشماله بقوله : السلام عليكم ، لو كان على شماله أحد ، سواء كان على يمينه أحد أم لم يكن ، أو على خصوص من على يمينه ، لو لم يكن على شماله أحد .
وحينئذ فيستفاد من الرواية أنّ قول : السلام عليكم لا يكون محلّلا وتسليماً أصلا ، بل إنما يقع مطلقاً خارجاً من الصلاة ، ولا ارتباط له بها ، غاية الأمر أنّه لو كان واجباً يكون واجباً مستقلاً ، ولو كان مستحباً يكون مستحباً كذلك ، ويمكن أن يستفاد من الثاني التعبير عنه بالايذان كما لا يخفى .
وبالجملة: فمفاد الرواية أنّ السلام المحلّل إمّا خصوص السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، ويكون السلام على النبي(صلى الله عليه وآله) مقدّمة له ، وإمّا مجموع هذين التسليمين ، أمّا «السلام عليكم» فلا يكون محلّلا بوجه ، وهذا كما ترى ممّا لم يقل به الإمامية ، فالرواية معرض عنها ، فلا يجوز الاستدلال بها .
مضافاً إلى أنّ الرواية تدلّ على أنّ السلام عليكم لا يكون من وظيفة المنفرد أصلا ، مع أنّه خلاف ما صرّح به الأصحاب(1) ، حتى القائلين بالاستحباب كالشيخ(قدس سره) ، فلا مجال للاعتماد على الرواية ، ويمكن أن يقال : بأنّها لا تكون بصدد بيان كيفية التسليم ، والفرق بين الإمام والمأموم والمنفرد من هذه الجهة ، بل هي بصدد بيان التسليم من حيث الوحدة والتعدد ، فيكون غرضها الفرق بين الإمام والمنفرد ، وبين المأموم ، بأنّهما يسلّمان تسليمة واحدة دونه ، فإنّه يسلّم تسليمتين إن كان على شماله أحد ، وتسليمة واحدة إن لم يكن على شماله أحد .
ولا ينافي ذلك ما في الرواية ، من انقطاع الصلاة بعد السلام على النبي ، و«السلام علينا» الظاهر في تماميتها ، لما عرفت من أنّ السلام حيث كان مغائراً
(1) راجع مستند الشيعة 5 : 351 المسألة الثالثة; وكشف اللثام 4 : 130 .
(الصفحة309)
لحقيقة الصلاة ، جعل محلّلا لها، فلا منافاة بين توقّف التحلّل عليه، وبين كونه خارجاً عن حقيقة الصلاة، ولا يخفى أنّ الرواية أيضاً غير خالية عن الاضطراب وسوء التعبير ، من حيث التعبير بكلمة الانقطاع وغيرها .
ثم إنّ هنا رواية اُخرى ، وهي رواية أبي بكر الحضرمي قال : قلت له : إنّي اُصلّي بقوم، فقال : سلّم واحدة ولا تلتفت . قل : السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم»(1) . ولا يخفى أنّ السؤال في غاية الاجمال ، ولا يعلم المراد منه إلاّ بقرينة الجواب .
فالمقصود منه هو السؤال عن تسليم الإمام الذي يصلّي بقوم ، فأجابه(عليه السلام)بقوله : سلّم واحدة ، وظاهره أنّه تجب تسليمة واحدة ، خلافاً لمن يقول من العامة بوجوب تسليمتين(2) ، كما أنّ المراد بقوله : «لا تلتفت» هو النهي عن الالتفات إلى اليمين واليسار ، كما يقولون به أيضاً(3) ، والتعرّض لكيفية التسليم في الذيل قرينة على أنّ مراد السائل هو السؤال عن التسليم كمّاً وكيفاً .
وكيف كان ، فالرواية تدلّ بظاهرها على أنّ السلام إنما هو قول السلام عليك . . . ، والسلام عليكم ، ولكن قد عرفت أنّ السلام على النبي(صلى الله عليه وآله) لا يكون سلاماً ولا جزءً له ، فهذه الرواية أيضاً لا تطابق الفتاوى .
وقد ظهر لك سابقاً أنّ صيغة التسليم عند العامة كانت منحصرة في الصيغة الأخيرة ، وأمّا الصيغتان الأوليان فقد كانتا عندهم من تحيات التشهد ، وكانوا يقولون باستحبابهما قبل الشهادتين ، نعم ذهب الشافعي إلى وجوبهما قبلهما(4) ،
(1) التهذيب 3 : 48 ح168; الوسائل 6 : 421. أبواب التسليم ب2 ح9 .
(2) المجموع 3: 482; تذكرة الفقهاء 3: 244 مسألة 300.
(3) المغني لابن قدامة 1: 624; الشرح الكبير 1: 624; المجموع 3: 482.
(4) راجع 2 : 286 .
(الصفحة310)
ولم يكن فرق عندهم في ذلك بين التشهد الأول والأخير .
وحينئذ فيظهر أنّ المقصود من الأخبار المتقدمة هو الردّ عليهم ، بأنّ السلام علينا . . . ، يوجب الانصراف في التشهد الأول ، وكذا في التشهد الأخير إذا وقع قبل الشهادتين ، كما كان ذلك مستمرّاً بينهم ، فلا يكون المقصود منها كونه أيضاً تسليماً محلّلا ، إذا وقع في آخر الصلاة .
ومقتضى الاحتياط في المقام هو العمل بما دلّ عليه خبر أبي بكر الحضرمي ، من الجمع بين السلام على النبي وبين السلام عليكم ، ولو فصّل بينهما بالسلام علينا . . . ، جاز ، ولكن الأخذ بالاحتياط يقتضي خلافه .
الجهة الثالثة : حكم التسليم من حيث الوجوب والاستحباب
إعلم أنّ ذلك كان محلّ الخلاف بين العامة ، فذهب الشافعي إلى أنّه ركن ، ولايخرج من الصلاة إلاّ به ، ووافقه على ذلك الثوري ، وقال أبو حنيفة : الذي يخرج به من الصلاة أمر غير معيّن ، لأنّه يخرج به منها بأمر يحدثه ، وهو ما ينافيها من سلام ، أو كلام ، أو حدث من ريح ، أو بول ، ولكنّ السنّة أن يسلّم ، لأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) كان يخرج به منها(1) .
وأمّا عند أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم ، فالمسألة أيضاً محلّ خلاف ، فالمحكيّ عن السيد المرتضى في المسائل الناصرية ، وفي المسائل المحمدية ، القول بوجوب التسليم ، يعني السلام عليكم ، وبه قال أبو الصلاح ، وسلاّر ، وابن أبي
(1) المجموع 3: 481; المحلّى 3: 277; المغني لابن قدامة 1: 551; الخلاف 1: 376 مسألة 134; المعتبر 2: 233; المنتهى 1: 295 ـ 296.
(الصفحة311)
عقيل ، وابن زهرة(1) ، وعن الشيخ في التهذيب ، والاستبصار ، والمبسوط ، والمفيد في بعض كلماته ، القول باستحبابه(2) ، مع سبق السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وصرّح العلاّمة في التذكرة والمختلف ، بعدم وجوب التسليم مطلقاً(3) ، ولم نجد مصرّحاً بذلك غيره ، واستدلّ عليه فيهما بأمور :
الأول : أصالة براءة الذمة عن الوجوب ، ولا يخفى أنّه لا مجال للتشبّث بالأصل ، فيما ثبت استقرار عمل النبي(صلى الله عليه وآله) على الإتيان به في الصلاة ، كما نبّهنا على ذلك مراراً ، لأنّ رفع اليد عن مثل ذلك تمسّكاً بقبح العقاب من غير بيان ممّا لا وجه له ، بعد كون عمله(صلى الله عليه وآله) بياناً واضحاً ، خصوصاً مع قوله(صلى الله عليه وآله) : «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(4) ، على ما رواه الجمهور .
وبالجملة : لو ثبت استقرار عمل النبي(صلى الله عليه وآله) على شيء كما في المقام ، مع عدم الدليل على الاستحباب ، لا يجوز نفي وجوبه بالأصل ، إذ لا يحكم العقل بذلك أصلا .
الثاني : إنّ النبي(صلى الله عليه وآله) لم يعلّم الأعرابيّ التسليم(5) ، ولو كان واجباً لبيّنه ، لأنّه لايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
هذا ، ولا يخفى أنّ الأعرابيّ لم يكن جاهلا بكيفيّة الصلاة رأساً حتى كان محتاجاً إلى بيانها عليه ، بل الظاهر أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) علّمه منها ما لم يكن يعلّمه ، فلعلّه كان عالماً بوجوب التسليم ، فلم يعلّمه النبي(صلى الله عليه وآله) لذلك .
(1) المسائل الناصريات: 209; ونقله عن المحمدية وابن أبي عقيل في مختلف الشيعة 2: 174; الكافي في الفقه: 119; المراسم : 69; الغنية: 81 .
(2) التهذيب 2: 320 ح1306; الإستبصار 1: 346; المبسوط 1: 115 ـ 116; المقنعة: 139.
(3) تذكرة الفقهاء 3: 243 مسألة 299; مختلف الشيعة 2: 175 .
(4) سنن البيهقي 2: 345 .
(5) صحيح البخاري 1 : 216 باب 122 ، ح793; سنن البيهقي 2 : 372 .
(الصفحة312)
الثالث : قوله(عليه السلام) «إنما صلاتنا هذه تكبير وقراءة وركوع وسجود» ولم يذكر التسليم ، ولو كان واجباً لكان داخلا في الصلاة ، ولأنّ المأمور به إنما هو الصلاة ، فالإتيان بمسمّاها يخرج المكلّف عن العهدة(1) .
وفيه : أنّ التسليم على ما عرفت عبارة عمّا يكون منافياً لحقيقة الصلاة ، غاية الأمر أنّه جعل محلّلا كالحلق والتقصير في الاحرام وحينئذ فلا منافاة بين أن لايكون من سنخ الصلاة التي حقيقتها الخضوع والخشوع في مقابل المعبود جلّ شأنه ، وبين أن يكون واجباً ومخرجاً عنها كما هو واضح .
الرابع : إنّ أحد التسليمين ليس بواجب ، فكذا الآخر . وفساد هذا الدليل على طريقة الإمامية واضح .
الخامس : إنّه لو وجب التسليم لبطلت الصلاة بتخلّل الحدث الناقض للطهارة بين الصلاة على النبي وآله وبينه ، والتالي باطل فالمقدّم مثله ، أمّا الشرطية فظاهرة ، لأنّ الحدث إذا وقع في الصلاة أبطلها إجماعاً ، وأمّا بطلان التالي فللرواية(2) .
أقول : ما يدلّ على عدم بطلان الصلاة بتخلّل الحدث ووقوعه قبل التسليم روايتان :
الأولى : ما رواه أبان بن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يصلّي ثم يجلس فيحدث قبل أن يسلّم؟ قال : «تمّت صلاته»(3) .
الثانية : ما رواه عمر بن اُذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) في الرجل يحدث بعد أن يرفع رأسه في السجدة الأخيرة وقبل أن يتشهد. قال : ينصرف فليتوضّأ فإن شاء رجع إلى المسجد وإن شاء ففي بيته وإن شاء حيث شاء قعد فيتشهد ثم
(1 و 2) مختلف الشيعة 2 : 175 ; عوالي اللآلي1 : 421 ح97 .
(3) التهذيب 2 : 320 ح1306; الاستبصار1 : 345 ح1301; الوسائل 6 : 424. أبواب التسليم ب3 ح2 .
(الصفحة313)
يسلّم، وإن كان الحدث بعد الشهادتين فقد مضت صلاته» . ورواه في الكافي باسناده عن عمر بن اُذينة مثله، إلاّ أنّه قال : «وإن كان الحدث بعد التشهد»(1) .
هذا ، ولا يخفى أنّ المراد بالتسليم الذي أحدث الرجل قبله ـ كما في الرواية الأولى ـ هو «السلام عليكم» ، لأنّه الظاهر من اطلاقه ، خصوصاً بملاحظة ما عرفت منّا من تعيّنه له ، وأنّ الصيغة الثانية كالصيغة الأولى من تحيّات التشهد ، وحينئذ فلا يستفاد من الرواية استحباب السلام مطلقاً ، كما هو مراد المستدلّ ، وكذا الرواية الثانية ، فإنّها أيضاً لا تدلّ على ذلك ، إذ لم يحرز كون الصادر هو كلمة بعد الشهادتين ، حتّى تدلّ على عدم كون وقوع الحدث قبل التسليم مطلقاً مضرّاً بصحة الصلاة ، بل يحتمل أن يكون الصادر هو كلمة «بعد التشهد» ، كما في الطريق الآخر .
وحينئذ يكون المراد وقوع الحدث قبل الصيغة الأخيرة ، لأنّ غيرها من تحيّات التشهد ، كما كان المعروف بينهم ، فلا دلالة لها أيضاً على استحباب التسليم مطلقاً .
ويمكن أن يجاب عمّا ذكرنا: بأنّ صيغة السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا تخلو من أحد أمرين : إمّا أن تكون من تحيات التشهد وآدابه ، ولا تكون محللة ومخرجة ، وإمّا أن تكون إحدى صيغتي التسليم ، كصيغة «السلام عليكم» ، فعلى الأول يصحّ ما ذكره العلاّمة من استحباب التسليم مطلقاً ، لأنّ «السلام عليكم» يستفاد استحبابه من الرواية الدالة على عدم كون الحدث بعد التشهد وقبل التسليم مضراً بصحة الصلاة ، وأمّا صيغة «السلام علينا» ، فالمفروض إنّه من تحيات التشهد وآدابه ، ومنه يظهر صحة ما ذكره العلاّمة بناءً على الوجه الثاني أيضاً ، فإنّ
(1) التهذيب 2: 318 ح1301; الاستبصار 1: 402 ح1535; الكافي 3 : 347 ح2; الوسائل 6: 410. أبواب التشهد ب13 ح1.
(الصفحة314)
مفروض الرواية وقوع الحدث بعد التشهد ، وقبل التسليم ، فتدلّ على استحباب السلام بكلتا صيغتيه ، فالرواية تدلّ على مطلوبه مطلقاً .
ثم إنّ بعض الأعاظم من المعاصرين ـ بعد حكمه بأنّ حمل الأخبار الدالة على عدم بطلان الصلاة ، بوقوع الحدث بعد التشهد وقبل التسليم على وقوع الحدث بعد السلام الأول ، وقبل السلام الأخير بعيد جدّاً ـ أفاد في وجه الجمع بين الأخبار الواردة في الباب التي بعضها يدلّ على وجوب التسليم ، وبعضها على كونه محلّلا ، ومنها ما يدلّ على أنّه إذا فرغ من التشهد الأخير تمّت صلاته ، ومنها ما يدلّ على أنّ الحدث بعد التشهد ليس مبطلا للصلاة ، ما ملخّصه :
إنّ الذي يقوى في النظر في مقام الجمع ، هو القول بوجوب السلام ، وكونه محلّلا ، لكنّه خارج من أجزاء الصلاة ، وجزء للمركّب المأمور به ، وبعبارة اُخرى ، المأمور به مركّب من الصلاة وما هو خارج عنها ، فلو لم يأت به عمداً لم يأت بالمأمور به ، وإن جاء بتمام أجزاء الصلاة ، وقبل التسليم لا يجوز له ارتكاب المحرّمات التي حرّمت على المصلّي عمداً ، فإنّه مقتضى كونه محلّلا .
وأمّا ارتكاب بعضها من غير اختيار فليس بمبطل من جهة الأدلة ، وبعضها الآخر مبطل ، وإن كان من غير عمد كزيادة ركعة ، أو ركوع ، أو سجدتين ، كما أنّه قبل تمامية التشهد الأخير يكون بعض المنافيات مبطلا مطلقاً كالحدث ، وبعضها يكون مبطلا إذا صدر عن عمد كالتكلّم .
ومن الجائز أن تكون مانعية الحدث بنحو الإطلاق ، إذا وقع في أثناء الصلاة لا بعدها ، وقبل وجود المحلّل ، وأمّا لو وقع بعد الصلاة من غير عمد فلا يكون مبطلا ، وإن كان قبل التسليم المحلّل ، وبهذا يحصل الجمع بين الأخبار .
إن قلت : إنّ ما ذكرت لا يلائم ما يدلّ على أنّ آخر الصلاة التسليم ، فإنّ الظاهر منه أنّه الجزء الأخير للصلاة ، كما أنّ التكبير جزؤها الأول .
(الصفحة315)
قلت : إطلاق آخر الشيء على ما ليس جزءً له بل هو خارج عنه اطلاق شائع ، وإن كان الظاهر من الأخبار المذكورة كونه جزءً أخيراً من الصلاة ، لكنّه لو جمع بينها وبين الأخبار الاُخر ، بالتصرّف في هذا الظاهر بنحو ما قلنا ، ليس ذلك خارجاً عن الجمع العرفي(1) ، انتهى .
ويرد على ما ذكره ، من أنّ الصلاة أحد جزئي المأمور به ، والجزء الآخر التسليم ، إنّه لو كان المراد أنّ هنا أمراً واحداً ، تكون الصلاة بعض متعلّقه ، ولا تكون الصلاة بنفسها متعلّقة للأمر مستقلّة ، بل كانت متعلّقة لبعض الأمر الذي ينبسط على أجزاء متعلّقه .
فيردّه وضوح خلافه عند المتشرّعة ، ضرورة أنّ الصلاة عندهم تكون مأموراً بها مستقلّة ، فلابدّ من أن يكون المراد أنّ هنا أمرين : أحدهما تعلّق بنفس الصلاة ، وتكون هي تمام متعلّقه ، والآخر تعلّق بالمركّب منها ومن السلام ، فيتعلّق بعضه بالصلاة لانبساطه على أجزائه .
وحينئذ نقول : إنّ الأخبار الواردة في الباب ليست على أربع طوائف كما أفاده ، بل هي على طائفتين : الاُولى : ما يدلّ على أنّ التسليم محلّل للصلاة ، والثانية : ما يدلّ على عدم بطلانها بوقوع الحدث قبل التسليم ، لأنّ ما يدلّ على وجوبه لا يكون مغائراً لما يدلّ على كونه محلّلا ، كما أنّ ما يدلّ على تمامية الصلاة بالتشهد ليس مغائراً لما يدلّ على عدم بطلانها بوقوع الحدث قبل التسليم كما لايخفى .
ثم إنّ الجمع بين الأخبار بالنحو الذي أفاده لا يستقيم ، فإنّ القول بكون الحدث قبل التسليم غير مضرّ بالصلاة ، لعدم وقوعه في أثنائها لتماميتها بالتشهد ،
(1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله) : 278 ـ 279 .
(الصفحة316)
وإن كان موافقاً للأخبار الدالة على هذا المضمون ، إلاّ أنّه لا يلائم مع ما يدلّ على كون التسليم محلّلا ، لأنّ ظاهره باعتبار إضافة التحليل إلى الصلاة أنّه ما لم يسلّم يكون الإتيان بشيء من المنافيات مضرّاً بالصلاة ، وموجباً لبطلانها ، فكيف يلائم ذلك مع القول بعدم كون الحدث قبل وجود المحلّل مبطلا كما هو ظاهر ؟!
والحقّ في مقام الجمع بين الأخبار أن يقال : إنّك عرفت أنّ اعتبار كون التسليم محلّلا إنما هو لعدم كونه من سنخ الصلاة التي هي عبارة عن سنخ القراءة ، والركوع ، والسجود ، كما عرفت في بعض الأخبار المتقدمة(1) ، لأنّه من كلام الآدميّين ، ولا مناسبة بينه وبين التوجه إلى الخالق .
وبعبارة اُخرى التسليم ـ باعتبار كونه منافياً لحقيقة الصلاة ، ولذا تبطل لو وقع في أثنائها ـ جعل محلّلا من الاحرام الصغير المبتحقق بتكبيرة الاحرام الباقي إلى آخر الصلاة ، ففي الحقيقة لايكون من أجزاء الصلاة ، لعدم كونه من سنخها ، كما أنّه ليس بخارج منها، لعدم وقوع التحلّل بغيره .
وحينئذ فلا بأس في التعبير بتمامية الصلاة بعد التشهد ، كما أنّه يمكن أن لايكون الحدث غير العمدي مضرّاً بصحتها إذا وقع قبل التسليم ، لبتحقق الفراغ من أجزاء الصلاة حقيقة ، وإن توقّف التحلّل على التسليم ، لكونه مقتضى اتصافه بوصف المحلّلية للصلاة كما لايخفى .
وربما يستدلّ على وجوب التسليم بما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم»(2) . والإشكال فيه من جهة الارسال لا يوجب القدح ، بعد كون رواته من العامة مورداً للوثاقة ، وبعد اشتهار الاستدلال به ، حتى ممّن لا يعمل بخبر الواحد ، ولو
(1) الوسائل 6: 417. أبواب التسليم ب1 ح10 .
(2) سنن ابن ماجة1 : 101 ح 275 و 276 .
(الصفحة317)
كان مسنداً .
مضافاً إلى أنّه مرويّ مسنداً من طريق الإمامية أيضاً(1) ، كما أنّ الإشكال فيه من حيث الدلالة مندفع بظهور الرواية في انحصار التحليل في التسليم ، كما هو المتفاهم منها بنظر العرف ، والوجه فيه إمّا أنّ التسليم حيث وقع خبراً فلا يجوز أن يكون أخصّ ، فلابدّ من أن يكون مساوياً أو أعمّ ، وإمّا أنّه مبتدأ مؤخّر ، والتسليم خبر مقدّم، لأنّه عارض للتسليم لاالعكس، ومن المعلوم أنّ تقديم الخبر يفيد الحصر.
وبالجملة: لا مجال للمناقشة فيها; لا من حيث السند ، ولا من حيث الدلالة .
ثم إنّه ذكر السيد المرتضى(قدس سره) في الناصريّات في جملة الأدلة على وجوب السلام وردّ من يقول بعدم الوجوب كلاماً هذا لفظه :
وممّا يجوز الاستدلال به على من خالف من أصحابنا في وجوب التسليم ، أن يقال : قد ثبت بلا خلاف وجوب الخروج من الصلاة ، كما ثبت وجوب الدخول فيها ، فإن لم يقف الخروج هاهنا على السلام دون غيره ، جاز أن يخرج بغيره من الأفعال المنافية للصلاة كما يقول أبو حنيفة ، وأصحابنا لا يجوّزون ذلك ، فثبت وجوب السلام(2) ، انتهى .
أقول : لا يخفى أنّ المركب مادام لم يتحقق أجزاؤه بأجمعها ، لا يكون متحققاً أصلا ، وإذا حصلت يوجد ثم ينعدم ، ولا يتوقّف انعدامه على الخروج منه بشيء آخر ، بل يكفي في ذلك مجرّد الفراغ من أجزائه، وحينئذ فما ذكره من أنّ الخروج من الصلاة واجب كالدخول فيها، لا يتم لو كانت الصلاة عبارة عن نفس الأقوال
(1) الكافي 3 : 69 ح2 ، وفيه : «عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
: افتتاح الصلاة الوضوء و . . .»; والفقيه 1 : 23 ح68 ، وفيه : «قال : قال أمير المؤمنين(عليه السلام) : «افتتاح الصلاة الوضوء ، و . . .» ; الوسائل 6: 415 و 417. أبواب التسليم ب1 ح1 و 8 .
(2) المسائل الناصريات : 213 مسألة 82 .
(الصفحة318)
والأفعال المعهودة المعلومة ، إذ مادام لم تبتحقق تلك الأفعال والأقوال لا تبتحقق الصلاة ، فلا يصدق الدخول فيها ، كما أنّه إذا تحقّقت بأجمعها تحصل ثم تنعدم ، فلا يتوقّف الخروج منها على شيء .
وبالجملة: فالتعبير بالدخول والخروج والتكليف بهما لا يصح ، لو كانت الصلاة عبارة عمّا ذكرنا ، نعم يتمّ ذلك لو كانت عبارة عن التوجه إلى الخالق ، والخضوع ، والخشوع ، في مقابله الذي هو أمر يتحقق بمجرّد التكبير الذي هو إحرام للصلاة ، ويستمرّ إلى أن يتحقق الفراغ منها بالتسليم الذي به يحصل التحلّل من إحرامها ، كحصوله في إحرام الحجّ والعمرة بالحلق أو التقصير .
وحينئذ فيصحّ التكليف بالخروج منها ، إذ هي باقية مادام لم يحصل التحلّل منها بالإتيان بشيء من المنافيات ، فما أفاده السيد(قدس سره) يؤيد ما ذكرنا في معنى كون السلام محلِّلا كما عرفت .
فروعٌ
الفرع الأوّل : نسيان التسليم
إذانسي التسليم ، فذكر بعد الإتيان بشيء من المنافيات مطلقاً عمداً أو سهواً ، أوبعد فوت الموالاةولولم يأت بشيءمن المنافيات ، فهل تصحّ صلاته أم لا؟ وجهان.
من أنّ مقتضى حديث «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة . . .»(1) ، عدم بطلانها إلاّ من ناحية الاخلال بشيء من الاُمور الخمسة المذكورة فيه ، والتسليم ليس منها ، فلا تجب إعادتها من جهة الاخلال به .
(1) الفقيه1 : 181 ح857; التهذيب 2: 152 ح597; الوسائل 4 : 312. أبواب القبلة ، ب9 ح1 .
(الصفحة319)
ومن أنّ بطلان الصلاة ليس من جهة ترك التسليم ، بل من جهة الاتيان بالمنافي في أثناء الصلاة ، والمفروض كونه منافياً مطلقاً ولو صدر سهواً .
هذا ، ولا يخفى أنّ وقوعه في أثناء الصلاة متوقّف على عدم سقوط السلام عن الجزئية ، وإلاّ فالمنافي قد وقع بعد الصلاة ، لا في أثنائها ، فالاستدلال لعدم السقوط بوقوع المنافي في الأثناء إنما يصير على وجه دائر .
والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ للمسألة صورتين :
الصورة الأولى : ما إذا سهى عن التسليم ، واستمرّ سهوه إلى أن فات بسببه الموالاة ، بحيث لا يمكن إلحاق السلام الذي هو الجزء الآخر للصلاة بباقي الأجزاء ، فعدم صلاحية اللحوق بها ليس لوقوع مثل الحدث بينه وبينها ، بل لأجل فوات الموالات المعتبرة عرفاً في الصلاة بالنسبة إلى أجزائها .
الصورة الثانية : ما إذا سهى عن التسليم ، وأتى بشيء من المنافيات كالاستدبار ونحوه ، بحيث لا يمكن إلحاق السلام بباقي الأجزاء ، لوقوع المنافي بينهما لا لفوات الموالات .
ففي الصورة الأولى: لاينبغي الإشكال في صحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها، لأنّ المفروض أنّ ما صار سبباً لعدم إمكان إلحاق السلام بباقي الأجزاء ، هو السهو عن التسليم فقط ، لا هو مع أمر آخر ، وحديث «لا تعاد» يدلّ على عدم وجوب الإعادة ، من جهة الاخلال بشيء من أجزاء الصلاة ، أو شرائطها ، غير الخمسة المذكورة فيه ، إذا كان ذلك سهواً ، فيدلّ على عدم وجوب الإعادة في المقام.
وأمّا الصورة الثانية: فيشكل الحكم بالصحة فيها ، لأنّ الاخلال بالتسليم لم يكن مسبّباً عن السهو عنه فقط ، بل عنه وعن الإتيان بالمنافي ، لأنّه صار سبباً لعدم إمكان لحوقه بباقي الأجزاء ، وإلاّ فلو فرض عدم كونه منافياً لم يكن هنا ما يمنع عن لحوقه واتصافه بجزئيته للصلاة ، لعدم استمرار سهوه إلى حدّ فوت
(الصفحة320)
الموالات كما هو المفروض .
وحينئذ فليس هنا ما يدلّ على سقوط التسليم عن الجزئية حتّى يقال بأنّ مقتضاه وقوع المنافي بعد الصلاة ، لا في أثنائها ، فالظاهر البطلان ووجوب الإعادة .
ثم إنّه قد يقال في وجه البطلان في هذه الصورة : إنّه لا إشكال في أنّ جزئيّة السلام إنما ترتفع بعد فعل المنافي ، إذ قبل وقوعه يجب عليه التسليم قطعاً ، ولازم ذلك وقوع المنافي في أثناء الصلاة ، فتبطل الصلاة من جهته ، لأنّ المفروض إنّه مناف مطلقاً عمداً وسهواً .
وأجاب عنه بعض الأعاظم من المعاصرين في كتاب صلاته بما هذا لفظه :
لا معنى لإسقاط الجزئية بعد عدم إمكان التدارك ، نعم يمكن العفو والاغماض ، وتقبل الناقص مكان التام ، ولو فرضنا أنّ مقتضى قولهم : «لا تعاد» ، جعل المركب الناقص في حق الساهي كما هو الظاهر منه ، وفرغنا عن إمكان ذلك عقلا ، كما قرّر في الاُصول ، فاللاّزم أنّ الجزئية تكون ساقطة في حق من يسهو عنه ، ويستمرّ سهوه في علم الله تعالى إلى مضيّ محلّ التدارك ، فوقوع الحدث بعد سهوه عن التسليم كاشف عن عدم كونه جزءً من أوّل الأمر .
نعم لو قلنا بعدم إمكان تخصيص الساهي بتكليف ، وحملنا قولهم(عليهم السلام) : «لاتعاد» على العفو عمّا هو عليه ، يمكن أن يقال : إنّ العفو إنما ثبت هنا من حيث ترك التسليم ، وأمّا من حيث وقوع المنافي المطلق في الأثناء فلا يدلّ على العفو ، ولعل هذا هو منشأ الاحتياط بل الفتوى لسيّد مشايخنا الميرزا الشيرازي(قدس سره) في حاشية نجاة العباد(1)، انتهى موضع الحاجة .
وأنت خبير بأنّ السهو المقارن لإيقاع المنافي والسهو غير المقارن له ، لا
(1) نجاة العباد (مع تعليقة المجدّد الشيرازي): 150; كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله) : 283 .
|