(الصفحة341)
معنى وللإستقبال معنىً آخر ، فلا ارتباط لإحدى المسألتين بالاُخرى .
ومنه يظهر أنّ المصلّي مع وصف كونه مستقبلا حقيقة تارةً يكون بحيث لايلتفت أصلا ، واُخرى بحيث يلتفت قلباً فقط ، وثالثة بالقلب والعين ، ورابعة بالوجه أيضاً ، ولا يخرج عن الإستقبال بمجرّد إنصراف الوجه عن القبلة، لأنّه لايكون المعتبر في الصلاة هوالإستقبال بالوجه حتّى ينافيه الإلتفات والإنصراف به، وأمّا قوله تعالى :{فولّوا وجوهَكُم شَطرَهُ}(1) ، كنايةٌ عن التوجّه إلى الكعبة بجميع مقاديم البدن، لعدم انفكاك الإستقبال بالمقاديم عن التوجّه بالوجه غالباً ، وليس المراد به هو كفاية الإستقبال بالوجه فقط حتّى تتّحد المسألتان .
ثمّ إنّ المراد من الإلتفات الفاحش ليس الإلتفات الحقيقي ـ خلف الوجه ـ فإنّه مستحيل ، بل المراد به هو الإلتفات بحيث يرى خلفه ولو بأوّل مراتبه ، فإذا كان بحيث يصل إلى أوّل مراتب الخلف فيفسد الصلاة ، وإذا لم يصل إليه بأنّ نظر بالعين إلى اليمين أو اليسار فلا يوجب البطلان ، فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الإلتفات غير عدم الإستقبال .
ثمّ إنّ رواية عبدالملك المتقدّمة تدلّ بظاهرها على كراهية الإلتفات ، وهل المراد بالالتفات فيها هو الإلتفات بجميع مراتبه ، أو خصوص بعض المراتب نظراً إلى الجمع بينها وبين الروايات الاُخر؟ فيه وجهان :
و رواية أبي بصير ـ لأجل احتمال أن يكون المراد بالإنصراف المذكور فيها هو الإنصراف عن القبلة بجميع المقاديم فتكون مربوطة بباب القبلة ـ لا يمكن أن تجعل دليلا على بطلان الصلاة بالالتفات المبحوث عنه في المقام .
ورواية زرارة الدالة على كون الإلتفات قاطعاً إذا كان بكلّه ، فقد عرفت أنّ في
(1) البقرة : 144.
(الصفحة342)
معناها إحتمالين ، فعلى الإحتمال الأوّل الذي مرجعه إلى كون المراد هو الإلتفات بجميع البدن، تكون أجنبيةً عن المقام ، ومربوطةً بمسألة الإستقبال .
وأمّا على الإحتمال الثاني تكون متعرّضة لحكم المقام ، ولفظ الإلتفات المذكور فيها وإن كان يناسب الإحتمال الثاني إلاّ أن حمل قوله(عليه السلام) : «بكلّه» على مراتب الإلتفات بعيد ، لأنّ الظاهر منه هو كون المراد الإلتفات بجميع البدن .
وبالجملة: فالظاهر أنّ الضمير فيه يرجع إلى الملتفت والمصلّي دون الالتفات، وحينئذ فصدر الرواية باعتبار ذكر الالتفات مناسب للإحتمال الثاني وذيلها يناسب الإحتمال الأوّل .
ثمّ إنّه على فرض أن يكون المراد بقوله : «بكلّه» هو الإلتفات بكل المصلّي والملتفت بجميع بدنه ، فهل يكون مدلول الرواية عدم بطلان الصلاة إذا لم يكن الإلتفات بجميع البدن، فيتحقق التعارض بين مفهومها ومنطوق سائر الروايات الدالة على البطلان إذا كان الإلتفات فاحشاً، وإن لم يكن بجميع البدن ، أو أنّ الرواية لا تدلّ إلاّ على مجرّد بطلان الصلاة إذا التفت المصلّي بكلّه ولا تدلّ على عدم البطلان في غيره؟
وبعبارة أخرى : مفاد الرواية هو أنّ الإلتفات بمجرّده لا يكون قاطعاً للصلاة ، بل المتّصف بهذا الوصف هو الإلتفات مع أمر زائد ، فالموضوع للحكم بالقاطعية أمر مركّب من الإلتفات وشيء آخر، وأمّا كون الأمر الآخر الذي به يتحقق الموضوع فيترتّب عليه الحكم ، هو خصوص قيد «بكلّه» فلا يستفاد من الرواية أصلا وحينئذ فلا منافاة بينها وبين ما يدلّ على قاطعية الإلتفات إذا كان فاحشاً، نظير قوله(عليه السلام) : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(1) . فإنّ المستفاد منه أنّ تمام
(1) الوسائل 1 : 158 ـ 159. أبواب الماء المطلق ب9 ح1 ، 2 ، 5 ، 6.
(الصفحة343)
الموضوع للحكم بعدم التنجّس ليس الماء بإطلاقه ، بل هو مع خصوصية زائدة ، وأمّا كون الخصوصية الزائدة منحصرة في بلوغها قدر كرّ فلا يستفاد منه، فلا ينافي حينئذ قيام قيد آخر مقام الكرّية ، كالجريان ونحوه .
هذا ، ولا يخفى أنّ قوله(عليه السلام) : «لا» ، في رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة في مقام الجواب عن سؤاله «عن الرجل هل يلتفت في صلاته؟» يفيد بظاهره أنّ تمام الموضوع هو مجرّد الإلتفات، وحينئذ فيحصل التعارض بينها وبين رواية زرارة الدالة على عدم كون تمام الموضوع هو نفس الإلتفات . إلاّ أن يقال : إنّ قوله(عليه السلام) : «لا» ، لا ظهور له في بطلان الصلاة بالالتفات ، بل مفاده مجرّد الكراهة ، ويؤيّده قوله : «ولا ينقض أصابعه» كما لا يخفى، فلا تعارض بينهما .
وأمّا رواية الحلبي فتدلّ على بطلان الفريضة بالالتفات الفاحش ، ويساويها في هذاالمضمون حديث الأربعمائة، وكذا رواية محمّد بن إدريس من جهة الإشتمال على التخصيص بالفريضة، وأمّا من جهة خصوصية الإلتفات فهي تشتمل على التفصيل بين اليمين واليسار و بين الخلف; ويساويها في هذه الجهة رواية عليّ بن جعفر.
ومقتضى الجمع بينهما وبين رواية الحلبي والأربعمائة المشتملتين على تقييد الإلتفات بالفاحش أن يقال : إنّ المراد بالفاحش هو الإلتفات إلى الخلف ، فهاتان الروايتان مفسّرتان للمراد من الفاحش المذكور فيهما; فانقدح أنّ الإلتفات الفاحش أي الإلتفات إلى الخلف يوجب بطلان الصلاة ، والإلتفات غير الفاحش أي الإلتفات إلى اليمين أو اليسار لا يضرّ أصلا .
(الصفحة344)
القاطع الثالث :
التأمين بعد قراءَة الفاتحة
وقد وردت فيه روايات كثيرة :
فمنها : رواية جميل عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا كنت خلف إمام فقرأ الحمد وفرغ من قراءتها فقل أنت : الحمد لله ربّ العالمين ، ولا تقل: آمين»(1) .
ومنها : رواية معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : أقول: آمين إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالّين؟ قال : «هم اليهود والنصارى، ولم يجب في هذا»(2) .
ومنها : رواية محمّد الحلبي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) أقول إذا فرغت من فاتحة الكتاب : آمين؟ قال : «لا»(3) .
(1) الكافي3 : 313 ح5; التهذيب 2 : 74 ح 275، الاستبصار1 : 318 ح1185; الوسائل 6 : 67 . أبواب القراءة في الصلاة ب17 ح1.
(2) التهذيب 2 : 75 ح278; الاستبصار1 : 319 ح1188 ; الوسائل 6 : 67 . أبواب القراءة في الصلاة ب17 ح 2 .
(3) التهذيب 2 : 74 ح276; الاستبصار1 : 318 ح1186 ; الوسائل 6 : 67 . أبواب القراءة في الصلاة ب17 ح3.
(الصفحة345)
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) الواردة في كيفية الصلاة المشتملة على قوله(عليه السلام) : «ولا تقولنّ إذا فرغت من قراءتك: آمين ، فإن شئت قلت : الحمد لله ربّ العالمين»(1) .
ومنها : رواية جميل ، قال : سألت أباعبدالله(عليه السلام) عن قول النّاس في الصلاة جماعةً حين يقرأ فاتحة الكتاب : آمين؟ قال : «ما أحسنها! واخفض الصوت بها»(2) .
ثمّ إنّ المحقّق في المعتبر ذهب إلى تقديم رواية جميل هذه على رواية محمّد الحلبي لضعفها بمحمّد بن سنان ، وصحّة هذه الرواية ، فلذا أفتي بالكراهة(3) . ولا يخفى أنّه مع تسليم ما ذكره من تقديم رواية جميل على رواية الحلبي ، لا معنى للفتوى بالكراهة مع التعبير في رواية جميل بقوله(عليه السلام) : ما أحسنها .
نعم لو كانت كلمة «ما» فيها، نافية سواء كان الفعل المنفيّ من باب التفعيل أو من باب الإفعال مع كونه بصيغة المتكلّم وحده كما احتمل الأمرين في المصباح(4) ، لأمكن الفتوى بالكراهة استناداً إلى الرواية ، ولكنّه بعيد ، فإنّ معنى قول الرجل : إنّي ما أحسن ذلك نظير قوله : فلان يحسن الفاتحة أي يعرفها بالوجه الحسن ، وهذا لا يناسب شأن الإمام(عليه السلام); مضافاً إلى أنّ ذلك لا يلائم مع ذيل الرواية الدالّ على وجوب خفض الصوت بها كما لايخفى .
فالظاهر أنّ قوله : «ما أحسنها» إنّما هو بصيغة التعجّب وحينئذ فاللازم حمل الرواية على التقية ، لأنّها لا تقاوم سائر الروايات الدالة على تحريم التأمين ، مضافاً
(1) علل الشرائع : 358 ب74 ح1; الوسائل 5: 464. أبواب أفعال الصلاة ب1 ح6.
(2) التهذيب2 : 75 ح277; الإستبصار 1: 318 ح1187; الوسائل 6 : 68 . أبواب القراءة في الصلاة ب17 ح5 .
(3) المعتبرق2 : 186.
(4) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 312.
(الصفحة346)
إلى الإجماع على التحريم ، وبطلان الصلاة بسببه كما ادّعاه السيد والشيخ(قدس سرهما)(1).
ثمّ إنّه لو لا الإجماع المزبور فهل يمكن استفادة كون التأمين مبطلا من سائر الروايات الدالة على مجرّد النهي عنه أم لا؟ ذهب صاحب المدارك إلى العدم(2) ، ولابدّ من التأمّل في أنّ النهي الوارد في هذه الأخبار هل هو ناظر إلى عدم استحبابه ، وكونه محرّماً في قبال العامّة القائلين بالاستحباب ، أو أنّ النهي فيها نهي إرشاديّ ، ومرجعه إلى كونه منافياً للصلاة ، وموجباً لعدم انطباق عنوانها على المأتيّ به من الأفعال ، بترقّب أنّه صلاة ومنطبق عليه لهذا العنوان ، ويؤيّده أنّه لا شكّ في كونه محرّماً تشريعاً ، فيثبت به بطلان الصلاة بالتقريب المتقدّم في بطلان الصلاة بالتكفير .
ثمّ اعلم أنّ المسلمين اختلفوا في التأمين ، فالعامّة اتّفقوا على استحبابه بعد الفاتحة واختلفوا في الجهر به والإخفات(3) ، ومنشأ ذلك روايتان عن أبي هريرة وغيره(4) . والإمامية قد اتّفقوا على عدم استحبابه بعد الفاتحة وإن اختلفوا بين قائل بالكراهة كما عن ابن الجنيد وأبي الصلاح ، واحتمله المحقّق في المعتبر بل اختاره ، وبين من ذهب إلى أنّه محرّم بالحرمة التكليفية كما عن صاحب المدارك(5) ويحتمله ظواهر كلمات القائلين بالمنع . وبين قائل بالحرمة الوضعيّة الراجعة إلى بطلان الصلاة بسببه كما هو المشهور بينهم ، وقد ادّعى السيّد في الإنتصار والشيخ في
(1) الإنتصار : 144; المقنعة : 105; الخلاف1 : 332 و334 .
(2) مدارك الاحكام3 : 373.
(3) المجموع 3: 371 ـ 373; المغني لابن قدامة 1: 564; تذكرة الفقهاء 3: 162 مسألة 245.
(4) سنن الدارقطني1 : 263 ـ 264 ب34; صحيح البخاري 2: 213 ب111 ـ 113; سنن النسائي 2: 154 ـ 156 ب33 ـ 35.
(5) حكاه عن ابن الجنيد في الدروس 1 : 174; الكافي في الفقه : 125; المعتبر2 : 186; مدارك الاحكام3 : 274.
(الصفحة347)
الخلاف الإجماع عليه(1). ومنشأ ذلك هي الروايات المتقدّمة الناهية عن قول آمين بعد الفراغ من الفاتحة ، وهي رواية جميل الأولى ، ورواية محمّد الحلبي ، ورواية زرارة ، ومفادها يشعر باستمرار الإمامية على الترك كما لا يخفى .
وهنا وجه آخر استدلّ به الشيخ في الخلاف للقول بالبطلان ، وهو أنّ آمين من كلام الآدمي، فهو مبطل للصلاة(2)، وردّ عليه بأنّه ليس من كلام الآدمي ، لأنّه دعاء ، إذ معناه : اللّهمّ استجب ، فهو دعاء بالاستجابة .
وأجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أنّ أسماء الأفعال ليست موضوعة للمعاني بل للألفاظ ، فلا يكون آمين دعاء ، وانكر هذا المطلب الرضي(قدس سره)(3) نظراً إلى أنّه لا معنى لذلك إذ حين ما يقال : «صه» ، لا يستفاد منه لفظ «اُسكت» ، ثمّ المعنى لـ «صه» ، وهذا هو الحقّ، لأنّ إطلاق الإسم على أسماء الأفعال إنّما هو بملاحظة إجراء أحكام الأسماء عليها من التنوين وغيره ، وإطلاق الفعل عليها بملاحظة دلالتها على المعاني المربوطة بالأفعال ، فلا وجه للقول بكونها موضوعة للألفاظ دون المعاني .
ثانيهما : أنّه لم يعهد كون آمين من أسماء الأفعال عند العرب . وإن كان كذلك في سائر اللغات ، وجواب هذا الوجه واضح ، لأنّ ضبط سيبويه وغيره على خلافه .
وهنا ردّ ثالث، وهو أنّ آمين إنّما يكون دعاء إذا كان مسبوقاً بالدعاء ، لأنّه لا معنى له ابتداء ، والمفروض أنّ الفاتحة إنّما تقرأ بعنوان القرآنية ، وحكاية كلام الله المنزل ، لا بعنوان الدعاء، فلا يكون آمين دعاء .
وكيف كان، فالتحقيق أنّ النواهي الواردة في الروايات ظاهرها كونها إرشاداً
(1) الانتصار : 144; الخلاف 1 : 332; مسألة 84 .
(2) الخلاف 1 : 334 .
(3) شرح الكافية : 187 .
(الصفحة348)
إلى بطلان الصلاة بإتيان متعلّقها ، فما حكي عن المدارك من القول بالحرمة التكليفية(1) مخالف لظاهر الأخبار . وأمّا القول بالكراهة فيمكن أن يكون مستنده هو كون آمين دعاء ، والدعاء في نفسه مستحبّ في الصلاة ، فلا وجه لعدم الجواز .
وأمّا الكراهة فلأجل التشبّه بالنصارى أو لأجل رواية جميل الأخيرة(2) . ولايخفى أنّ هذا الوجه إنّما هو فرع الجمع العرفي بينها وبين الروايات الناهية ، مع أنّ الجمع بين الروايات مشكل، خصوصاً لو حمل النهي فيها على الكراهة ، إذ هي لايناسب مع التعبير بقوله : «ما أحسنها» الظاهر في كونه بصيغة التعجّب كما عرفت ، مضافاً إلى ما مرّ من أنّ التأمين لا يكون متمحضاً في الدعاء ، بل هو دعاء إذا كان مسبوقاً بالدعاء ، والمفروض عدم سبق الدعاء ، لأنّ قراءة الفاتحة إنّما تكون على سبيل الحكاية وقراءة القرآن ، لا على وجه الدعاء .
فالأقوى بطلان الصلاة بالتأمين للروايات، ولما أفاده الشيخ في الخلاف(3) ، وقد عرفت ضعف ما أورد عليه ، ولما ذكرناه في التكفير من استلزامه الحرمة التشريعية المحققة في المقام ، لصراحة الروايات في عدم ثبوت التأمين من النبي(صلى الله عليه وآله) للبطلان بالتقريب الذي ذكرنا هناك .
وأمّا الإجماع الذي ادّعاه السيّد والشيخ(قدس سرهما)(4) ، فليس دليلا مستقلا، لما مرّ غير مرّة من أنّ مرادهم بالإجماع هو قول المعصوم(عليه السلام) ، فمستنده إنّما هو الروايات المزبورة . ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصوص والفتاوى إطلاق الحكم بالنسبة إلى الإمام والمأموم والمنفرد بلا فرق بينهم أصلا .
(1) مدارك الاحكام3 : 373.
(2) الوسائل 6 : 68 . أبواب القراءة في الصلاة ب17 ح5.
(3) الخلاف 1 : 332 مسألة 84 .
(4) الانتصار : 144; الخلاف1 : 332.
(الصفحة349)
التأمين في القنوت
هل التأمين في القنوت مفسد للصلاة أم لا؟ مقتضى القاعدة العدم ، لعدم جريان الأدلة المتقدّمة في هذا المقام ، أمّا الروايات فواضح ، لأنّ موردها هو التأمين بعد الفراغ من الفاتحة ، وأمّا الوجه الذي حكي عن الخلاف فلأنّه إنّما هو فيما إذا لم يكن مسبوقاً بالدعاء ، وفي القنوت مسبوق به دائماً لأجله . وأمّا الوجه المتقدّم في التكفير فلأنّ مورده ما إذا كان محرّماً تشريعاً ، والتشريع غير متحقق في المقام كما هو واضح ، فمقتضى القاعدة عدم الإفساد، ولكن الأحوط تركه أيضاً .
(الصفحة350)
القاطع الرابع :
الضحك
وقد وردت فيه روايات كثيرة:
منها : رواية سماعة قال: سألته عن الضحك هل يقطع الصلاة؟ قال: «أمّا التبسّم فلا يقطع الصلاة، وأمّا القهقهة فهي تقطع الصلاة»(1) والرواية وإن كانت مضمرة إلاّ أنّ مضمرات سماعة لا إشكال فيها لأنّها في الحقيقة غير مضمرة.
وقد نشأ توهّم الإضمار من عدم التصريح بذكر الإمام الذي روى عنه، مع أنّه في أوّل كتابه روى عن أبي عبدالله(عليه السلام) ثم عبّر بعد ذلك بقوله: وسألته إلى آخر الكتاب; لعدم الافتقار إلى التصريح به ثانياً، فالإشكال فيها من جهة الإضمار ممّا لا يقبل.
هذا، ويظهر من الجواب أنّ الضحك له فردان: فرد يقطع الصلاة وهو القهقهة،
(1) الكافي3 : 364 ح1; التهذيب 2: 324 ح1325; الوسائل 7 : 250. أبواب قواطع الصلاة ب7 ح2.
(الصفحة351)
وفرد لا يكون كذلك وهو التبسّم، ويوافق هذه الرواية في خصوص البطلان بالقهقهة رواية زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة»(1).
ومنها : خبر ابن أبي عمير عن رهط سمعوه يقول: «إنّ التبسّم في الصلاة لاينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء، إنّما يقطع الضحك الذي فيه القهقهة»(2). وقوله: «إنّما يقطع» معناه إنّما يقطع الصلاة، لأنّها القدر المسلّم، لكنّ الرواية مضمرة ومجهولة لأجل الرهط.
ومنها : مرسلة الصدوق قال: قال الصادق(عليه السلام) : «لا يقطع التبسّم الصلاة وتقطعها القهقهة، ولا تنقض الوضوء»(3). واسناد الكلام إلى الإمام(عليه السلام) وحذف السند إنّما هو لأجل وثوقه بالصدور، ولذا فرق بين ما إذا عبّر بقوله : «قال» وبين ما إذا عبّر بقوله «روي» فيعتبر الأوّل دون الثاني، ولا يبعد أن يقال باتحادها مع رواية سماعة المتقدّمة.
ثمّ إنّ رواية سماعة ومرسلة الصدوق ظاهرتان في التعرّض لحكم فردين من الضحك:
أحدهما: القهقهة، وهي مصدر مأخوذ من الصوت المأخوذ على وجه خاصّ و«قه» إسم للصوت المزبور، وفعله: قهقه يقهقه، واللغويون وإن اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: إنّ المراد من القهقهة الصوت أو الضحك المشتمل على مدّ وترجيع(4)، وقال بعض آخر: إنّ المراد منها هو الضحك غير التبسّم(5) إلاّ أنّ الظاهر اختصاص
(1) الكافي3 : 364 ح6; التهذيب 2: 324 ح1324; الوسائل 7 : 250. أبواب قواطع الصلاة ب7 ح1.
(2) التهذيب 1: 12 ح24; الاستبصار 1: 86 ح274; الوسائل 7: 250. أبواب قواطع الصلاة ب7 ح3.
(3) الفقيه 1 : 240 ح1062; الوسائل7 : 251. أبواب قواطع الصلاة ب7 ح4.
(4) العين 3 : 341 .
(5) القاموس المحيط 4: 293، مقاييس اللغة 5 : 5 .
(الصفحة352)
القهقهة بالصوت المخصوص المشتمل على لفظ قه قه.
وثانيهما: التبسّم، وهو عبارة عمّا يحصل بتغيّر هيئة الوجه. هذا، ويقع الكلام حينئذ في وجود الواسطة وعدمها، وعلى الأوّل فهل هو ملحق بالتبسّم أو بالقهقهة، أو يجري فيه الأصل ويحكم بعدم كونه مانعاً للصلاة؟.
والتحقيق في هذا المقام أن يقال: إنّ في البين حالات ثلاثة:
1 ـ الإعجاب الذي هو مبدأ للقهقهة، بحيث لو لم يحفظ نفسه عن القهقهة لقهقه، ومن الواضح عدم صدق عنوان القهقهة على هذه الحالة.
2 ـ الصوت الإخفاتي، وهذا أيضاً لا يصدق عليه عنوان القهقهة، ولا تبطل الصلاة به.
3 ـ الصوت الإجهاري غير البالغ حدّ القهقهة، وفيه وجهان: من عدم صدق القهقهة عليه لأنّها مأخوذة من الصوت الخاصّ، ومن أنّ قه قه لا خصوصية فيه; فالصوت الإجهاري الضحكي مصداق للقهقهة حكماً، ولو شكّ في ذلك فالمرجع هو الأصل، أعني البراءة أو الاشتغال على القولين في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين، فيما إذا شكّ في مانعية شيء عن تحقق العمل.
وأمّا بالنظر إلى الروايات فنقول:
تارة يقال: بأنّ المقصود بالأصالة في الروايات هو بيان أنّ التبسّم غير قاطع للصلاة، وأُخرى يقال: بأنّ المقصود بالأصالة فيها هو بيان كون القهقهة قاطعة; فعلى الأوّل يكون مفهومه أنّ غير التبسم قاطع. غاية الأمر إنّه حيث يكون غالب أفراد غير التبسم هو الفرد المسمّى بالقهقهة، فحكم بكونها قاطعة لا لخصوصية فيها، بل لكونها من أفراد غير التبسم; وحينئذ فمقتضى المفهوم كون الصوت الإجهاري غير البالغ حدّ القهقهة قاطعاً أيضاً، كما أنّه على الثاني ينعكس الأمر، فتدلّ الرواية على عدم كونه قاطعاً لانحصار القاطع، بناءً على هذا الوجه في
(الصفحة353)
القهقهة، وهي لا تصدق عليه قطعاً.
ومجمل الكلام أنّه إمّا أن يقال: بانحصار الضحك في التبسّم والقهقهة قطعاً، ولايكون له فرد ثالثوإمّا أن يقال: بعدم معلومية الانحصار فيهما، فيحتمل أن يكون له فرد ثالث. وعلى الثاني تارة يقال: بكون الروايات بصدد بيان حكم جميع أفراد الضحك من التبسم والقهقهة وغيرهما لو كان له فرد آخر واُخرى يكون هذا أيضاً مشكوكاً، بمعنى أنّه لا نفهم منها ذلك، أي كونها بصدد بيان حكم جميع الأفراد.
فإن قلنا بعدم الواسطة وانحصارالضحك فيهما، فلابدّ من أن نقول في مثل رواية سماعة ممّا يكون فيه التعرّض لحكم كلا الفردين: بكون أحدهما أوسع من الآخر، ولأجل كون الأوسع مجهولاً لا يمكن لنا الحكم على المشكوك بكونه قاطعاً، أم لا.
وإن قلنا: بعدم معلومية الانحصار وكون الروايات بصدد بيان حكم جميع مصاديق الضحك، فيدور الكلام مدار ما ذكرناه آنفاً من ملاحظة ما هو المقصود بالأصالة فيها.
وإن قلنا: بعدم معلومية كون الروايات بصدد بيان جميع الأفراد أيضاً، فحكم الواسطة يستفاد حينئذ من الأصول العملية، والأصل الجاري في المقام عندنا هو البراءة كما حقّقناه في محلّه.
ثمّ إنّ رواية ابن أبي عمير المتقدّمة تدلّ بظاهرها على انحصار الضحك القاطع بالضحك الذي فيه القهقهة، وحينئذ فلو كان في البين واسطة يظهر من الرواية حكمها، بأنّها ملحقة بالتبسّم، لانحصار القاطع بالقهقهة فتدبّر.
ثمّ إنّه من جملة الأقوال في الأعصار السابقة هو التفصيل في الضحك بين ما لو أوجد حرفاً أو حرفين ، أو كان ممتداً فيقطع الصلاة، وبين غيره فلا يقطع(1).
(1) نهاية الأحكام 1: 519; المنتهى 5: 292; روض الجنان: 333; الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 85 ; مفتاح الكرامة 3: 31.
(الصفحة354)
ولايخفى أنّ ذلك بعيد، لأنّ الظاهر من روايات الباب كون الضحك بعنوانه موضوعاً للحكم فتتبع.
ثمّ إنّه حكي عن بعض الفقهاء القول بأنّه لو اضطرّ المصلّي إلى القهقهة لايوجب بطلان صلاته(1)، لحديث الرفع المشتمل على رفع ما اضطرّوا إليه(2). ولايخفى ما فيه من النظر، لأنّ الضحك دائماً يحصل إضطراراً بعد تحقق مقدّماته، وليس كالأفعال الاختيارية التي قد يعرض لها الإضطرار، فلا يجري فيه حديث الرفع فتدبّر.
(1) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3 : 34.
(2) الخصال : 417. باب التسعة ح9.
(الصفحة355)
القاطع الخامس:
البكاء
وقد وردت في هذا الباب أربعة روايات: ثلاث منها تدلّ على حسن البكاء في الصلاة، ومن الواضح أنّ المراد منه هو البكاء المناسب لها كالبكاء من خشية الله أو لذكر الجنّة والنار، وواحدة منها تدلّ على فساد الصلاة بسببه، وهي ما رواه أبو حنيفة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن البكاء في الصلاة أيقطع الصلاة؟ فقال: «إن بكى لذكر جنّة أو نار فذلك هو أفضل الأعمال في الصلاة وإن كان ذكر ميتاً له فصلاته فاسدة»(1). والظاهر اتّحاد هذه الرواية مع مرسلة الصدوق حيث قال: وروي: «أنّ البكاء على الميّت يقطع الصلاة، والبكاء لذكر الجنّة والنار من أفضل الأعمال في الصلاة»(2). واشتهار الحكم بالبطلان فيما إذا كان البكاء للأمور الدنيوية يجبر ضعف سند الرواية.
(1) التهذيب 2: 317 ح1295; الاستبصار 1: 408 ح1558; الوسائل 7: 247. أبواب قواطع الصلاة ب5 ح4.
(2) الفقيه 1 : 208 ح941; الوسائل 7 : 247. أبواب قواطع الصلاة ب5 ح2.
(الصفحة356)
ثمّ إنّ البكاء المبطل هل يختصّ بالبكاء مع الصوت أو يعمّه وما ليس فيه صوت؟ وجهان، والمحكيّ عن عدّة من اللغويّين أنّ البكاء ممدوداً عبارة عمّا فيه الصوت، ومقصوراً عمّا فيه خروج الدمع فقط، فقد صرّح الجوهري بأنّ الأوّل أي المقصور موضوع لخروج الدمع فقط، والثاني يعني الممدود، لخروج الدمع المقرون بالصوت(1). ومقتضى هذا الكلام أن تكون المشتقّات منهما موضوعة لمعنيين، وهذا بعيد جدّاً، بل يمكن دعوى القطع بخلافه، فالحقّ أنّ البكاء مقصوراً وممدوداً موضوع لمعنى واحد.
نعم، يظهر من عبارة بعض القدماء من اللغويّين أنّ العمل المزبور من جهة اشتماله على الحزن مصدره بكى على وزن فعل تشبيهاً بحزن يحزن، ومصدره حزن، ولأجل اشتماله على الصوت مصدره بكاء; وهذا لا يفيد، لأنّ البكاء على قسمين، وأنّ كلّ واحد من المصدرين موضوع لكلّ من المعنيين، كما عليه أكثر المتأخرين من الفقهاء(2)، وحينئذ قوله : سألته عن البكاء في الصلاة أيقطع الصلاة؟ على ما هو مضبوط في الكتب بالمدّ سؤال عن البكاء مع الصوت. بناء على قول الجوهري وغيره، إلاّ أنّ قوله(عليه السلام): «ان بكى» يحتمل الأمرين وهذا بعيد في الغاية، ووجهه أنّ الاشتراك المزبور ليس كاشتراك لفظ واحد بين معنيين، بل كاشتراك لفظ بين الأخذ عن المقصور تارةً وعن الممدود أُخرى، وهذا في غاية البعد كما لايخفى.
وبالجملة: صدور القول المزبور من مثل الجوهري بعيد، وحيث أنّ أصل العبارة في ذلك من الخليل(3)، فبعد التأمّل فيما ذكره يستفاد أنّ «بكى» له معنى واحد
(1) لسان العرب 1 : 475; مجمع البحرين 1 : 235 ; الصحاح 6 : 2284 مادّة «بكى»; المصباح المنير 1 ، 2 : 59; المفردات: 58 مادّة «بكي»; العين 5: 417.
(2) كصاحب الروضة البهيّة 1 : 233; وروض الجنان: 333; ومستند الشيعة 7 :53; ومدارك الأحكام 3: 466; وكشف اللثام 4: 178; وذخيرة المعاد: 357; وجواهر الكلام 11: 74 ـ 75; والحدائق 9: 50 ـ 51.
(3) العين 5 : 417 .
(الصفحة357)
وله مصدران باعتبارين، وعليه لا يكون البكاء على قسمين، بل البكاء في كلّ مورد قسم واحد ذو جهتين. قال في الصحاح : بكى، البكاء يمدّ ويقصر إذا مددت أردت الصوت الذي يكون في البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها، شعر:
بكت عيني وحقّ لها بكاها | وما يغني البكاء ولا العويل(1) |
ولا يخفى أنّ ظاهر قوله: إذا مددت ...، إطلاق البكاء على نفس الدمع، لأنّه قال: أردت الصوت الذي يكون مع البكاء مع أنّه بصدد تعريف البكاء الممدود، وإطلاقه على الصوت الذي يكون مع البكاء، فعبارته مخدوشة من هذه الجهة، كما أنّ استشهاده بالبيت المزبور في غير محلّه، لأنّ المصرع الثاني ظاهر بمقتضى العطف في افتراق البكاء الممدود عن العويل الذي هو بمعنى الصوت، فالاستشهاد به لما ذكره من كون البكاء الممدود بمعنى الصوت الذي يكون في البكاء ممّا لا يستقيم.
هذا، ولكن مع ذلك كلّه فلا خفاء في ظهور عبارته في أنّ البكاء الممدود والمقصور متباينان من حيث المعنى، ولو اتّفقا في مصداق واحد، وهذا بخلاف ما يستفاد من عبارة الخليل، فإنّك عرفت أنّ التأمّل فيها يقضي بكون مراده هو وجود مصدرين باعتبارين مختلفين.
ولا يخفى أنّ العرب لما يطلق فعل أو فعل على الداء القلبي بلا محبوبية ولا مبغوضية وما على وزن فعال على ما له صوت أراد الخليل أن يبيّن وجه كون البكاء بالمدّ والقصر، وأنّ البكاء بالقصر لأجل اشتماله على الداء القلبي الباعث لخروج الدمع جعل مصدراً لمادّة (ب ك ى)، وأنّ البكاء بالمدّ أيضاً جعل مصدراً له
(1) صحاح اللغة 6 : 84 22; ونقله عنه في «مفتاح الكرامة 3 : 30».
(الصفحة358)
لأجل اشتماله على الصوت، ففي الحقيقة كلام الخليل يكون تعليلاً لوجود مصدرين مختلفين.
وكيف كان، فلو قلنا بأنّ الأصل في الاشتقاق هو المصدر، فإمّا أن يقال: بأنّ المشتقّات كلّها مشتقّة من أحد المصدرين دون الآخر، وإمّا أن يقال: باشتقاق كلّها من المصدرين، فعلى الأوّل يحتاج إلى دليل معيّن لذلك، مع أنّ من الواضح عدم وجوده، وعلى الثاني يلزم الاشتراك بحسب اللفظ، بناءً على تباين المصدرين بحسب المعنى، كما عرفت من الجوهري.
وحينئذ فقولنا: بكى يبكي محتمل لكلّ من المعنيين، فلابدّ من وجود قرينة على إرادة كلّ منهما نظير باب المشترك، وإن كان بين المقام وباب المشترك فرق، من جهة أنّ اللفظ هناك واحد والمعنى متعدّد لأجل الأوضاع المتعدّدة، وأمّا هنا فالمفروض أنّ اللفظ متعدّد كالمعنى، ومن هنا يظهر أنّ الاحتياج إلى القرينة هناك إنّما هو لتعيين المستعمل فيه وهنا لتعيين المستعمل، وأنّ لفظ «بكى» مثلاً هل يكون مأخوذاً من المصدر المقصور أو الممدود، فيحتاج إلى قرينة معيّنة، وحينئذ فهل المخصّص والمعيّن قصد المتكلّم، وإرادته كون لفظ «بكى» المستعمل مأخوذاً من المقصور أو الممدود أو غيره؟ أمّا الأوّل فليس كذلك، وأمّا الثاني فليس بثابت، وحينئذ فلابدّ من القول بوحدة المشتقّات من حيث المعنى، ومن وحدتها يستكشف وحدة المشتقّ منه، كما عليه الخليل.
نعم، لو قلنا: بأنّ الأصل في الاشتقاق هو الفعل، فيمكن القول بمقالة الجوهري، نظراً إلى أنّ الفعل وإن كان واحداً من حيث اللفظ والمعنى إلاّ أنّه اشتقّ منه مصدران مختلفان من حيث المعنى، وكذا يمكن الالتزام بذلك لو قلنا: بأنّ الأصل في الاشتقاق هي طبيعة (ب ك ى) لا الفعل ولا المصدر.
وكيف كان، فما ذكره الجوهري غير ثابت، مع انّه على الظاهر أخذ ذلك من
(الصفحة359)
الخليل، وقد عرفت عدم دلالة كلامه عليه.
ويؤيّد ما ذكرنا أنّه ورد في الحديث: «ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»(1) فإنّ الظاهر أنّ البكاء فيه بمعنى خروج الدمع، وإلاّ فلو كان البكاء الممدود عبارة عن خروج الدمع مع الصوت فالتباكي حاصل قهراً، ويؤيّده أيضاً إسناد البكاء في كلمات العرب نثراً ونظماً إلى العين، ولو كان البكاء الممدود عبارة عمّا فيه الصوت، لكان الأنسب إسناده إلى الفم لأجل الصوت، لا إلى العين لأجل خروج الدمع.
ومنه ينقدح أنّ الأظهر بعد عدم ثبوت ما ذكره الجوهري من الفرق بين الممدود والمقصور. هو كون البكاء مطلقاً بمعنى خروج الدمع فقط الناشئ عن الحزن الحاصل للقلب من غير اعتبار الصوت فيه أصلاً، لما عرفت من الإسناد إلى العين، ومن الحديث الآمر بالتباكي إذا لم يجد البكاء، وبعض الروايات الواردة في أنّ البكّائين خمسة كما عن الخصال(2); وفي أنّ اليتيم إذا بكى اهتزّ له العرش(3).
وما في البحار في قضية فوت إبراهيم بن النبي(صلى الله عليه وآله) وأنّه لمّا مات بكى النبي(صلى الله عليه وآله) (4)، لا يدلّ على أنّ المراد بالبكاء ما هو المشتمل على الصوت كما في مورد الروايات المزبورة، لأنّ خصوصية المورد في كلّ منها قد اقتضت ذلك، وامّا معنى البكاء من حيث هو فليس إلاّ خروج الدمع فقط. قارنه الصوت أم لا. هذا كلّه فيما يتعلّق بمفهوم البكاء.
وأمّا حكمه إذا وقع في الصلاة فحكى في مفتاح الكرامة عن جمع من المحقّقين كالأردبيلي والخراساني والسيّد في المدارك، التوقّف في مبطلية البكاء للصلاة(5).
(1) سنن ابن ماجة 2: 1403 ح4196; بحار الانوار 89 : 191 ح 2.
(2) الخصال : 272. باب الخمسة ح15.
(3) بحار الانوار 72 : 5 ح 12 نقلا عن ثواب الاعمال : 237 ح1.
(4) بحار الانوار 22 : 157 ح16; وفيه: «ثمّ قال النبي(صلى الله عليه وآله)
: تدمع العين ويحزن القلب».
(5) مجمع الفائدة والبرهان 3: 73 ـ 74; ذخيرة المعاد: 357; مدارك الأحكام 3: 466.
(الصفحة360)
ونقل عن الذكرى والمفاتيح أنّه إنّما يكون مبطلاً إذا كان من الفعل الكثير(1)، فيرجع إلى عدم مبطليّة البكاء بما هو هو، وعن الموجز الحاوي وحاشية الإرشاد وكشف اللثام والميسية، أنّ المبطل ما اشتمل على النحيب، وإن خفي لاُفيض الدمع بلا صوت(2).
وعن إرشاد الجعفرية، وفوائد الشرائع، والروض، والروضة، والمقاصد العلية، والمدارك، أنّ المبطل منه ما اشتمل على صوت لا مجرّد خروج الدمع(3); وجعله في الحدائق مشهوراً استناداً إلى هؤلاء الأعاظم(4)، وعن الروض والروضة والمقاصد، احتمال الاكتفاء في الإبطال بخروج الدمع، لاحتمال القصر في البكاء الوارد في النصوص، وعن المسالك فيه نظر(5)،(6) انتهى. ولعلّ وجه النظر التأمّل في الفرق بين المقصور والممدود، أو اشتراك الفعل الواقع في الجواب; وكلام المفتاح ظاهر في أنّ الباقين لم يتعرّضوا للتفصيل وحينئذ فالإطلاق والتقييد من الفقهاء يبتني على اعتقادهم في معنى البكاء، فلو ثبت أنّ معتقدهم في البكاء كان مطلق خروج الدمع، تثبت الشهرة بالنسبة إليه، ولكن ذلك غير معلوم.
وقال المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك: أنّ القدماء لو كان نظرهم ـ مثل الجوهري ـ التفصيل بين المقصور والممدود كان عليهم التعرّض، فعدم تعرّضهم يكشف عن عدم اعتقادهم ذلك. وهذا الكلام ـ بضميمة ما عرفت منّا من ضعف القول بالتفصيل وأنّ اسناد البكاء إلى العين يدلّ على كون المراد به هو خروج
(1) الذكرى 4 : 10; مفاتيح الشرائع 1: 173 .
(2) كشف اللثام 4 : 178; الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 85 .
(3) الروضة البهيّة 1 : 233; روض الجنان : 333; مدارك الأحكام 3: 466.
(4) الحدائق 9 : 50 .
(5) مسالك الأفهام 1: 228.
(6) مفتاح الكرامة 3 : 31.
|