(الصفحة 41)
عليها ، بحيث يكون الانطباق موجباً لعدم تحقّق العبادة واجدة لجميع الشرائط
المعتبرة فيها ; لأنّ من جملة الشرائط عدم انطباق مثل هذا العنوان ، أو أنّ الانطباق من جملة الموانع ، فلا تكون العبادة خالية عن المانع ، وأُخرى : يراد منها أنّ الانطباق وإن لم يكن وجوده أو عدمه دخيلا في العبادة شرطاً أو مانعاً ، إلاّ أ نّه ينافي ـ لأجل قبحه عند العقل ـ مع مقام العبوديّة وتحقّق الامتثال في خصوص الأمر العبادي .
فعلى الأوّل : فهو خارج عن النزاع في المسألة الأُصولية ; لما عرفت من كون المفروض فيها صورة اشتمال العبادة على جميع الخصوصيّات المعتبرة فيها ، وعدم كون الامتثال الإجمالي مانعاً عن رعايتها كذلك .
وعلى الثاني : فهو غير معقول ; لأ نّه بعد فرض مطابقة المأتيّ به لِما هو المأمور به بحسب الواقع وعدم وجود خلل فيه أصلا لا يعقل عدم الإجزاء ، ولا وجه للحكم بعدم الاكتفاء به في مقام الامتثال ، والمنافاة إن لم ترجع إلى الدخالة في العبادة
لا يتصوّر لها معنى أصلا ، كما هو أوضح من أن يخفى . فانقدح أنّ هذا الوجه أيضاً
لم ينهض دليلا على المنع في المسألة الأُصولية التي هي مسألة عقلية محضة ، كما عرفت .
رابعها : ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره) في رسالة الاشتغال ; من أ نّه قد يقال بعدم جواز الاحتياط للزوم التشريع ، وذلك لأنّ قصد القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ليقطع بإحرازه في الواجب الواقعي ، ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلّ من المحتملين بوصف أنّها عبادة مقرّبة يوجب التشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي فيكون محرّماً ، فالاحتياط غير ممكن في العبادات ، وإنّما يمكن في غيرها لعدم اعتبار قصد القربة فيها المستلزم لإتيان غير العبادة بوصف أنّها
(الصفحة 42)
عبادة ، كما عرفت(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم استلزام الاحتياط للتشريع ; لأنّ اعتبار قصد القربة في العبادة لا يقتضي لزوم رعايته في كلّ من المحتملين ، بل اللازم الإتيان بما هو الواجب في الواقع بوصف أنّها عبادة مقرّبة ، فيقصد في كلّ منهما حصول التقرّب به أو بصاحبه الذي يأتي به بعده أو أتى به قبله ، وإلى أ نّه على تقدير تسليم الاستلزام لا معنى لسراية الحكم عن عنوان التشريع على تقدير كونه من العناوين المعقولة الاختياريّة على خلاف ما قرّرنا في محلّه(2) ، وتعلّق النهي التحريمي به إلى عنوان الاحتياط المسلتزم له ـ : أ نّ البحث ليس في الجواز والتحريم بل في الاكتفاء في مقام الامتثال بالإجمالي منه ، ومن المعلوم أنّ قصد التقرّب في غير العبادة لايوجب بطلان العبادة المأتيّ بها مع جميع الخصوصيّات حتى القربة المعتبرة كما هو المفروض ، فتدبّر جيّداً .
ثمّ إنّ هنا روايتين قد استدلّ بهما على بطلان الاحتياط في العبادة :
إحداهما : ـ وهي التي حكي عن بعض المحقّقين(3) الاستدلال بها ـ صحيحة أبي أيّوب إبراهيم بن عثمان الخزاز ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث قال : إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله ، فلا تؤدّوا بالتظنّي(4) .
والاُخرى :ما رواه الصدوق في محكي العيون بإسناده عن الفضل بن شاذان ،
(1) فرائد الاُصول : 2/290 .
(2) سيرى كامل در اصول فقه: 10/208 ـ 209.
(3) الظاهر أنّه المحقّق محمد تقي الشيرازي في حاشيته على فرائد الاُصول، وهي مخطوطة .
(4) تهذيب الأحكام : 4 / 160 ح451 ، وعنه وسائل الشيعة : 10 / 256 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح16 .
(الصفحة 43)
عن الرضا(عليه السلام) في حديث ، أ نّه كتب إلى المأمون : وصيام شهر رمضان يصام للرؤية ويفطر للرؤية . ورواه في تحف العقول مرسلا نحوه ، وفي الخصال بإسناده عن الأعمش ، عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) في حديث شرائع الدين مثله(1) .
والجواب عن الاستدلال بهما ـ مضافاً إلى أنّ البحث كما عرفت إنّما هو في حكم العقل بجواز الاكتفاء بالاحتياط الذي هو عبارة عن الإتيان بالعبادة بجميع ما اعتبر فيها من الخصوصيّات لا في حكم الشرع بذلك ; لعدم كون النزاع في الجواز والحرمة كما مرّ مراراً ، وإلى أنّ مرجع مفاد الروايتين إلى اعتبار أمر آخر في فرائض الله غير الأُمور المعروفة ; وهو عدم جواز إتيانها مع التظنّي وعدم العلم ، ومرجعه إلى اعتبار التمييز الذي عرفت أنّ الإخلال به في مورد الاحتياط لا يستلزم الحكم بعدم الاجتزاء به فيما هو محلّ البحث والنزاع ـ : أنّ الروايتين ليس مفادهما ما توهّمه المستدلّ ، بل ظاهرهما عدم جواز الإتيان بفريضة من فرائض الله مع الشك والتظنّي بعنوان أنّها تلك الفريضة ، فلا يجوز الإتيان بالصوم في يوم الشك من شعبان بعنوان أ نّه صوم شهر رمضان والفريضة الإلهيّة في هذا الشهر .
وأمّا الإتيان به بعنوان الاحتياط واحتمال كونه من رمضان ، فلا دلالة في الروايتين على عدم جواز هذا النحو من الإتيان ، فقوله(عليه السلام) : «لا تؤدّوا بالتظنّي» في الرواية الأُولى ، و«يصام للرؤية» في الرواية الثانية معناه عدم جواز الأداء مع الشك بعنوان تلك الفريضة، وعدم جواز الصيام قبل الرؤية بعنوان أ نّه من رمضان وفريضة من فرائض الله ، فهما أجنبيّان عمّا نحن بصدده من جواز الإتيان بعنوان الاحتياط .
(1) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) : 2 / 124 ح1 ، تحف العقول : 419 ، الخصال : 606 ح1 ، وعنها وسائل الشيعة : 10 / 259 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح26 .
(الصفحة 44)
وقد اُورد على الاستدلال بالروايتين بوجوه أُخَر من الإيراد أيضاً ، لكنّها غير مجدية أو خالية عن الخدشة ، فراجعها .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أ نّه لم يقم دليل على تأخّر رتبة الامتثال الإجمالي عن التفصيلي ، بل الظاهر حكم العقل بكونهما في رتبة واحدة .
في حكم صورة الشك
نقول : إنّ الشك المتصوّر تارة: في المسألة الفقهيّة ، وأنّ قصد الوجه مثلا مع فرض عدم إمكان رعايته في الامتثال الإجمالي هل يكون معتبراً في صحّة العبادة وتحقّق الطاعة أم لا؟ وأُخرى: في المسألة الأُصوليّة ، وهي تساوي مرتبتي الامتثالين أو تأخّر الإجمالي عن التفصيلي ، وثالثة: في صغرى المسألة الأُصولية ; مثل الشك في أنّ قصد الوجه المعتبر في العبادة هل يمكن رعايته في الامتثال الإجمالي، أم لا يمكن إلاّ في الامتثال التفصيلي؟
أمّا الشكّ في المسألة الفقهيّة : فمع عدم وجود إطلاق رافع له ، أو عدم جواز التمسّك بالإطلاق يرجع إلى أصالة البرائة لو كان الترديد بين الأقلّ والأكثر في متعلّق التكليف ، وإلى أصالة الاشتغال لو كان الترديد بينهما في الأسباب والمحصّلات على اختلاف فروضه وصوره ، والمحكي عن الشيخ الأعظم(قدس سره) أ نّه ذهب إلى عدم دخل قصد الوجه في الإطاعة بنظر العقلاء ، فيرجع في دفعه إلى إطلاقات أدلّة الإطاعة ، فتأمّل(1) .
وأمّا الشكّ في المسألة الأُصوليّة : فالذي صرّح به في تقريرات المحقّق النائيني(قدس سره)
(1) فرائد الاُصول : 1/417 ، رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 49 .
(الصفحة 45)
أ نّه يرجع فيه إلى أصالة الاشتغال ; لدوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، نظراً إلى أنّ الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع القدرة على التفصيلي منه مشكوك لدى العقل ; فيدور الأمر بين تعيّن الثاني والتخيير بينه وبين الأوّل ، والحكم فيه هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال(1) .
واُجيب عنه تارة : كما في المستمسك بأنّ مرجع الشك في المقام إلى الشكّ في اعتبار العلم بالأمر في تحقّق الإطاعة ، فيكون من قبيل الدوران بين الأقلّ والأكثر لا من قبيل الدروان بين التعيين والتخيير . نعم ، يتمّ ذلك بناءً على أنّ الباعث على العمل الاحتمال ; لتباين نحوي الامتثال ; إذ في أحدهما يكون الباعث الأمر، وفي الآخر الاحتمال ، فالشك في اعتبار الامتثال التفصيلي يكون من التردّد بين التعيين والتخيير(2) وأُخرى : كما في شرح بعض الأعلام بأنّ مرجع المقام إلى الشك في اعتبار أمر زائد في عبادية العبادة ; وهو لزوم الانبعاث عن بعث المولى مع الإمكان دون احتماله ، وفي مثله تجري البراءة على المختار(3) .
أقول : وفي الكلّ نظر :
أمّا ما أفاده المحقّق النائيني(قدس سره) ، ففيه : أ نّك عرفت أ نّه بعد اشتمال الامتثال الإجمالي على جميع الخصوصيّات المعتبرة في العبادة شرطاً وشطراً ، وعدم كون التكرار مستلزماً للإخلال بشيء من تلك الخصوصيّات لا يعقل أن لا يدرك العقل الاجتزاء والاكتفاء به ، وأن يبقى شاكّاً متردّداً بعد كون أجزاء المأتي به المطابق للواقع أمراً بديهيّاً لا يجري فيه الارتياب واحتمال الخلاف .
(1) فوائد الاُصول : 3 / 73 .
(2) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 8 ـ 9 .
(3) دروس في فقه الشيعة: 1/31 .
(الصفحة 46)
وأمّا ما أفاده الشارحان ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الشكّ في اعتبار العلم بالأمر في تحقّق الطاعة ، أو في اعتبار أمر زائد في عباديّة العبادة مرجعه إلى أنّ متعلّق التكليف هو عنوان الطاعة والعبادة بوصف أنّها عبادة ، والشكّ في مدخليّة شيء في هذا العنوان يكون المرجع فيه أصالة الاشتغال ; لعدم كون الترديد حينئذ بين الأقلّ والأكثر في متعلّق التكليف ، بل في السبب المحصّل للعنوان المأمور به كما هو غير خفيّ ـ : أ نّ هذا خروج عمّا هو المفروض من الشكّ في المسألة الأُصولية ; لأنّ المفروض هو صورة اشتمال الامتثال الإجمالي على جميع ما له دخل في صحّة العبادة واتّصاف المأتيّ به بكونه مطابقاً لما هو المأمور به ، ففرض الشكّ في اعتبار شيء آخر في تحقّق الطاعة أو في اتّصاف العبادة بالعبادية خارج عن محلّ الكلام ، فتدبّر جيّداً .
وأمّا الشكّ في صغرى المسألة الأُصوليّة : فالظاهر أنّ المرجع فيه هو أصالة الاشتغال ; للشكّ في تحقّق ما هو الدخيل في المأمور به قطعاً مع الاقتصار على الامتثال الإجمالي ; لأنّ المفروض الشكّ في إمكان رعاية مثل قصد الوجه المعتبر فرضاً في الاحتياط ، والمرجع في مثل هذا الشكّ أصالة الاشتغال بلا إشكال .
هذا تمام الكلام في الصورة الأُولى ; وهو الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي .
وأمّا الصورة الثانية : أي صورة عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي ، فالمصرّح بعدم جواز الاحتياط فيها هو الحلّي(قدس سره) على ما حكي عنه سابقاً(1) ; من حكمه بعدم جواز تكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين بالنجاسة ، وأنّه لابدّ من أن يصلّي عارياً ،
(1) في ص33 .
(الصفحة 47)
والحقّ أ نّه لا مجال بعد الحكم بالجواز في الصورة الأُولى للمناقشة في هذه الصورة أصلا ، فجواز الاحتياط في كلتا الصورتين بمعنى الاجتزاء والاكتفاء به في مقام الامتثال ، أو ترتّب الأثر المقصود واضح لا ينبغي أن يخفى .
بقي في باب الاحتياط أُمور ينبغي أو يجب التنبيه عليها :
الأوّل : فصّل الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في العبادات بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي بالاكتفاء في الأُولى بمجرّد قصد احتمال الأمر ; لأ نّه هو الذي يمكن في حقّه ، وبعدم الاكتفاء به في الثانية ، بل اللازم قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير .
قال : ولازمه أن يكون المكلّف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصداً للإتيان بالآخر ، إذ مع عدم ذلك لا يتحقّق قصد امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كلّ تقدير ، بل يكون قصد امتثال الأمر على تقدير تعلّقه بالمأتيّ به ، وهذا لا يكفي في تحقّق الامتثال مع العلم بالأمر(1) .
واعترض عليه المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ بأنّ العلم بالأمر لا يوجب فرقاً في كيفيّة النيّة ، فإنّ الطاعة في كلّ من المحتملين ليست إلاّ احتمالية كالشبهة البدوية ، إذ المكلّف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي عند الإتيان بكلّ من المحتملين ، وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الأجزاء حتى يقال : العلم بتعلّق التكليف بالفعل الواحد يقتضي قصد امتثال الأمر المعلوم ، فلو أتى المكلّف بأحد المحتملين من دون قصد الإتيان بالآخر يحصل الامتثال على
(1) فرائد الاُصول: 2/303 ـ 304، لكن ليس فيها بهذه العبارة، بل هذه العبارة بعينها محكيّة عنه(قدس سره) في فوائد الاُصول: 4/136 وتهذيب الاُصول: 2/373 ـ 374 .
(الصفحة 48)
تقدير تعلّق الأمر بالمأتيّ به ، وإن كان متجرّياً في عدم قصده الامتثال على كلّ تقدير(1) .
وأجاب عن هذا الاعتراض سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ بأنّ الفرق بين الصورتين من حيث الداعي واضح جدّاً ; لأنّ الداعي في الأُولى ليس إلاّ احتمال الأمر ، وفي الثانية له داعيان : داع إلى أصل الإتيان وهو الأمر المعلوم ، وداع إلى الإتيان بالمحتمل لأجل احتمال انطباق المعلوم عليه ، والانبعاث في كلّ من المحتملين إنّما هو عن هذين الداعيين . غاية الأمر أنّ الدّاعي الثاني ناشئ من الداعي الأوّل ، فالداعي الأوّل هو الأمر المعلوم تعلّقه بما ينطبق على أحد المحتملين لا احتمال الأمر . غاية الأمر أ نّه ينشأ من هذا الداعي إرادة الإتيان بكلّ من المحتملين ; لتوقّف الإتيان بالمأمور به عليه(2) .
وحينئذ فقد يكون المكلّف بمثابة ينبعث من الأمر المعلوم بحيث يحصل له الداعي إلى الإتيان بالمحتملين معاً ; لأ نّه لا يرضى إلاّ بالموافقة القطعيّة التي لا تحصل إلاّ بالإتيان بهما ، وقد يكون بحيث ينبعث من الأمر المعلوم بمقدار لا يحصل له إلاّ الداعي إلى الإتيان بأحد المحتملين ; لأ نّه يخاف من المخالفة القطعية الحاصلة بترك كلا المحتملين معاً ، وحينئذ فلو أتى بأحدهما وصادف الواقع يكون ممتثلا ; لأنّ الداعي له هو قصد الامتثال بالنسبة إلى الأمر المعلوم ، لا لأجل ما أفاده المحقّق النائيني من كفاية الإتيان باحتمال الأمر .
واستضعف ـ دام ظلّه ـ ما أفاده الشيخ(رحمه الله) بعدم الدليل على الجزم في النيّة ، بل
(1) فوائد الاُصول : 4 / 136 ـ 137 .
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 375 .
(الصفحة 49)
يكفي كون العمل مأتيّاً به لله تعالى ; وهو حاصل في إتيان كلّ واحد من المحتملين ، ولا يحتاج إلى الجزم بوجود الأمر في البين حتى لا تصحّ إطاعة المحتمل الأوّل إلاّ مع قصد الإتيان بالآخر .
وبالجملة : الداعي إلى الإتيان بأحد المحتملين ليس إلاّ إطاعة المولى ، فهو على فرض الانطباق مطيع لأمره، وقصدالإتيان بالآخرلاينفعوجودهولايقدح عدمه(1).
أقول : الظاهر أنّ مقصود الشيخ(رحمه الله) أ نّه يعتبر في باب العبادات أن يتحقّق عنوان الإطاعة والامتثال ، بخلاف سائر الواجبات التي يكتفى فيها بمجرّد تحقّق المأمور به في الخارج بأيّ نحو كان ، وتحقّق هذا العنوان فيما إذا لم يكن الأمر معلوماً للمكلّف لايتوقّف إلاّ على الإتيان بالعمل بداعي مجرّد احتمال الأمر ; لعدم إمكان الزائد على هذا المقدار في حقّه .
وأمّا إذا كان الأمر معلوماً للمكلّف ولو بالإجمال ، فتحقّق هذا العنوان يتوقّف على قصد رعاية الأمر وامتثاله مطلقاً ـ أي سواء كان المأمور به هو المحتمل الأوّل أو الثاني ـ وبدون ذلك لا مجال لتحقّق الامتثال ، فاللازم على المكلّف أن يكون حال الإتيان بالأوّل قاصداً للإتيان بالثاني ، وإلاّ لا يتحقّق الامتثال ولو انكشف كونه هو المأمور به .
ويمكن أن يقال عليه : إ نّه لا دليل على اعتبار هذا العنوان وتحقّقه في سقوط الأمر العبادي وحصول الغرض منه ، بل اللازم في باب العبادات مجرّد كون العمل صادراً لا عن داع دنيويّ ، والمفروض تحقّقه فيما نحن فيه ، فالظاهر بناءً على ما ذكرنا الاكتفاء بمجرّد الإتيان بداعي احتمال كون الأوّل هو المأمور به .
(1) تهذيب الاُصول : 2 / 374 .
(الصفحة 50)
ثمّ إنّه على مبنى الشيخ(رحمه الله) لو بدا له بعد الإتيان بالأوّل قاصداً لعدم الإتيان بالآخر أو غير قاصد للإتيان به أن يأتي بالثاني أيضاً ، فهل يكفي ذلك في تحقّق الامتثال أم لا؟
الظاهر هو التفصيل بين ما لو انكشف كون الأوّل هو المأمور به ، فلا يكتفى به لعدم تحقّق قصد الامتثال ، وبين ما لو انكشف كون الثاني كذلك فيجتزئ به ; لأنّ إتيانه بداعي احتمال الأمر كاف بعد كونه هو المقدار الممكن في حقّه ، فتأمّل .
الأمر الثاني : حكي عن المحقّق القمّي(قدس سره) التفصيل في وجوب الاحتياط في باب الشرائط والموانع، بين ما يستفاد من مثل قوله(عليه السلام) : لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه(1) ، وما يستفاد من مثل قوله(عليه السلام) : لا صلاة إلاّ بطهور(2) . فاختار وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعيّة في الثاني دون الأوّل(3) .
وهذا الكلام بظاهره ممّا لا يتمّ ، ولذا صار مورداً لاعتراض من تأخّر عنه ; بأ نّه لا فرق بمقتضى القاعدة العقليّة الحاكمة بوجوب الاحتياط بين الصورتين ، وأنّ حكم العقل بلزوم الإتيان بالأطراف أو الطرفين ثابت في البين ، ولكنّه وقع الإشكال في مبنى هذا التفصيل .
فالذي أفاده المحقّق النائيني ـ على ما في تقريراته ـ بعد استفادته من كلامه أنّ هذا التفصيل في باب الشرائط لا بينها وبين الموانع ، أنّ الوجه فيه قياس باب العلم
(1) وسائل الشيعة : 4 / 347 ، كتاب الصلاة ، أبواب لباس المصلّي ب2 ح6 ، و فيه : في وصيّة النبي(صلى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام) ، قال : يا عليّ لا تصلّ في جلد ما لا يشرب لبنه ولا يؤكل لحمه .
(2) تهذيب الأحكام : 1/49 ح144 وص209 ح605 و ج 2/140 ح545 ، وعنه وسائل الشيعة : 1/365 ، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب1 ح1 .
(3) لم نعثر عليه في كتبه التي لدينا. نعم، حكى عنه المحقّق النائيني في فوائد الاُصول : 4/134 .
(الصفحة 51)
والجهل بالموضوع بباب القدرة والعجز ، فكما أنّ القدرة من شرائط الفعليّة لا التنجيز فكذا العلم . ثمّ أورد عليه بالفرق بين القدرة والعلم ; فإنّ القدرة من شرائط ثبوت التكليف وفعليّته والعلم من شرائط التنجيز(1) .
والذي اختاره سيدنا العلاّمة الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ أنّ هذاالكلام من المحقّق القمّي(قدس سره) مبنيّ على ما هو المعروف منه من عدم كون العلم الإجمالي منجّزاً أصلا ، وأنّ الشبهة المقرونة لاتكون إلاّ كالشبهة البدويّة(2)، وحينئذفاللازم الرجوع إلى الأصل، وحيث إنّ المستفاد من العبارة الأُولى المانعية ومن الثانية الشرطية ، فالواجب في الصورة الاُولى هو الرجوع إلى البراءة لانحلال الحكم حسب أفراد المانع ، فيؤخذ في المعلوم ويجري في المشكوك الأصل ، والواجب في الصورة الثانية هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال لوجوب إحراز الشرط ، ولا يحصل إلاّ بالصلاة في الثوبين مثلا .
ثمّ أورد ـ دام ظلّه ـ على ما أفاده المحقّق المتقدّم في مبنى التفصيل المذكور أوّلا :بأنّ القياس المذكور لا يصحّح التفصيل ; لعدم الفرق بين العجز عن الشرط والعجز عن المانع ، فلو كان مفاد الدليل هو الشرطيّة المطلقة والمانعيّة كذلك فلازمه سقوط الأمر بسبب عدم التمكّن ، وإن لم يكن كذلك فلازمه سقوط الشرط والمانع عن وصفهما ، كما لا يخفى .
وثانياً : بأنّ العلم والقدرة كلاهما من شرائط التنجيز ; لأنّ الأحكام الشرعيّة أحكام قانونيّة مطلقة ، وليست القدرة من شرائطها ، وإلاّ لكان الأصل الجاري مع الشك فيها هو أصل البراءة ، مع أنّ بناءهم على الاحتياط ، مضافاً إلى أ نّه من
(1) فوائد الاُصول : 4 / 135 .
(2) راجع قوانين الاُصول: 2/26 ـ 28; وحكى عنه في فوائد الاُصول: 4/124 ـ 125.
(الصفحة 52)
البعيد أن يكون المستفاد من العبارة الاُولى بنظر المحقّق القمّي(رحمه الله) هو الشرطية بعد
كون جمهور الأصحاب(1) قائلا بالمانعية(2) .
ويمكن أن يقال : إنّ ما أفاده المحقّق القمي(رحمه الله) ليس مبنيّاً على ما هو المعروف منه من عدم ثبوت وصف التنجيز للعلم الإجمالي ، بل على أنّ الدليل المتضمّن لإفادة الشرعية أو المانعية لو كان بصورة الخطاب وبيان التكليف تقتصر في مفاده على خصوص المورد ، الذي يمكن أن يكون التكليف باعثاً إليه أو زاجراً عنه ، فإنّ التكليف في مثل المقام وإن لم يكن تكليفاً نفسياً بل يكون غيريّاً ، إلاّ أ نّه مع ذلك لايفيد الشرطية أو المانعية إلاّ بالمقدار الذي يمكن سعة دائرة التكليف .
ومن الواضح أنّ مثل قوله(عليه السلام) : لا تصلّ فيما لايؤكل لحمه(3) لا يمكن أن يكون زاجراً عن الفرد الذي يشكّ في كونه من مصاديق غير المأكول ، وهذا بخلاف
ما لو كان الدليل مثل قوله(عليه السلام) : لا صلاة إلاّ بطهور(4) الظاهر في عدم تحقّق الماهيّة
بدونه ، كما لا يخفى .
وهذا الذي ذكرناه وإن لم يكن خالياً عن النظر بل المنع ، إلاّ أ نّه يمكن أن يكون وجهاً لما أفاده القمّي(رحمه الله) ، فتأمّل(5) .
(1) المبسوط: 1/82، جامع المقاصد: 2/81، مفتاح الكرامة: 5/466 وما بعده، جواهر الكلام: 8/75 وما بعده .
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 372 ـ 373 .
(3 ، 4) تقدّما في ص50 .
(5) إشارة إلى أنّ هذا الوجه إنّما يصحّح التفصيل في خصوص الشبهات البدوية . وأمّا الشبهات المقرونة ، فعلى تقدير كون العلم الإجمالي منجّزاً ـ كما هو المفروض ـ لا يبقى فيها فرق ، كما أ نّه على هذا التقدير يلزم أن لا يكون الاجتناب فى التكاليف النفسية ـ مثل قوله : لا تشرب الخمر ـ في الشبهات المقرونة منها بالعلم الإجمالى لازماً أيضاً ، كما لا يخفى .
نعم ، يمكن أن يقال بأنّ هذا التفصيل من القمّي(رحمه الله) إنّما هو في خصوص الشبهة البدوية لا الأعمّ منها ومن المقرونة ، فلابدّ من المراجعة إلى كلامه ليظهر الحال ، المؤلّف دام ظلّه .
(الصفحة 53)
الأمر الثالث : إذا كان المعلوم بالإجمال أمرين مترتّبين شرعاً كالظهرين ، واشتبه بعض شرائطهما كالقبلة والستر ، فلا إشكال في جواز الشروع في محتملات الواجب الثاني بعد استيفاء محتملات الأوّل ; سواء كان الشروع في الثاني على طبق الشروع في الأوّل أم لا ، ولا في عدم جواز استيفاء محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل ، ولا في عدم جواز الشروع في محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل على نحو يغاير الشروع في الأوّل كما هو ظاهر ، إنّما الإشكال في جواز الإتيان بهما مترتّباً ، كما إذا صلّى الظهر إلى جهة والعصر إلى تلك الجهة ، ثمّ صلّى الظهر إلى جهة أُخرى والعصر إليها ، وهكذا ، أو صلّى الظهرين قصراً ثمّ تماماً ، أو بالعكس .
والذي اختاره المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ هو عدم الجواز ، بناءً على ما اختاره سابقاً من ترتّب الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي وتأخّره عنه(1) ، نظراً إلى أنّ في المقام جهتين :
إحداهما : إحراز القبلة في فرض اشتباهها ، وهو لا يمكن بنحو التفصيل
على ما هو المفروض ، فيجتزئ من جهته بالامتثال الإجمالي .
والأُخرى : إحراز الترتيب بين الصلاتين وهو بمكان من الإمكان ; لجواز الإتيان بجميع محتملات الواجب الأوّل ثمّ الشروع في الثاني . وعليه : يعلم حين الاشتغال بمحتملات العصر بوقوع الظهر قطعاً وحصول الترتيب جزماً ، وعدم العلم بأنّ العصر الواقعي هل هو المحتمل الأوّل أو الوسط أو الأخير إنّما هو للجهل بالقبلة لاالجهل بالترتيب ، وسقوط اعتبار الامتثال التفصيلي بالإضافه إلى شرط ـ لعدم الإمكان ـ لا يوجب سقوط اعتباره بالنسبة إلى ما يمكن من الشرائط كالترتيب في
(1) تقدّم في ص37 .
(الصفحة 54)
المقام ، فلا وجه لرفع اليد عن هذه الجهة الدخيلة في الامتثال(1) ، انتهى ملخّص ما أفاده(قدس سره) .
وأورد عليه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ دام ظلّه ـ مضافاً إلى منع المبنى ، نظراً إلى ما عرفت من كون الامتثالين في رتبة واحدة وعدم تأخّر الإجمالي عن التفصيلي ـ بمنع البناء ، نظراً إلى عدم الفرق بين هذه الصورة وبين ما إذا شرع في محتملات الثاني بعد استيفاء الأوّل ، وعدم كون الأمر في المقام دائراً بين الموافقة الإجمالية والتفصيليّة ، وذلك لأنّ كلّ واحد من محتملات العصر لو صادف القبلة فقد أتى قبله بالظهر ويحصل الترتيب واقعاً ، وغير المصادف منها عمل لا طائل تحته كغير المصادف من الآخر ولا ترتيب بينهما .
وبالجملة : الترتيب أمر إضافي يتقوّم بثلاثة أُمور : وجود الظهر ، ووجود العصر ، وتأخّر الثاني عن الأوّل ، ولا مجال لحصول العلم التفصيلي بتحقّق هذا الأمر الإضافي بعد عدم كون العصر معلوماً إلاّ بالإجمال ، فلا فرق بين الصورتين(2) .
وربما يقال : بأنّ الوجه في عدم جواز الشروع في العصر قبل استيفاء محتملات الأوّل ، هو أ نّه قد علم من الشرع بمقتضى الأدلّة(3) أنّ الاشتغال بالعصر إنّما يجوز بعد العلم بالفراغ عن الظهر ، فمع الشك في الفراغ عنه لا يجوز الاشتغال بالأمر المترتّب عليه .
ودعوى أنّ الاشتغال غير الجائز إنّما هو الاشتغال بالعصر الواقعي ، وفي هذه
(1) فوائد الاُصول : 4 / 138 .
(2) تهذيب الاُصول : 2 / 375 ـ 377 .
(3) وسائل الشيعة: 4/125 ـ 131 و 156 ـ 162 و 290 ـ 293، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت: ب4 و 10 و 63 .
(الصفحة 55)
الصورة لا يعلم كونه هو العصر الواقعي ، بل كونه عصراً يلازم كون السابق ظهراً ، فلا وجه لعدم جواز الاشتغال به .
مدفوعة بأنّ المستفاد من الأدلّة ـ مثل دليل العدول ونحوه(1) ـ أنّ الشارع لم يرض بالاشتغال بصلاة بعنوان أنّها الصلاة اللاحقة إلاّ بعد العلم بفراغ الذمّة عن التكليف بالصلاة السابقة ، فمع الشكّ في الفراغ عن عهدة تكليف الظهر كيف يجوز الشروع في صلاة بعنوان أنّها صلاة العصر ؟ فتدبّر .
الأمر الرابع : قال صاحب العروة بعد حكمه بجواز العمل بالاحتياط ولو كان مستلزماً للتكرار : لكن يجب أن يكون عارفاً بكيفيّة الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد(2) . وفي المستمسك : هذا شرط للاكتفاء بالاحتياط في نظر العقل ، بل لعلّ عدم المعرفة مانع من حصول الاحتياط فلا يحصل الأمن(3) .
أقول :يرد على المتن أ نّه بعد وضوح عدم كون هذا الوجوب إلاّ وجوباً عقليّاً إرشادياً لا دليل على لزوم المعرفة بكيفيّة الاحتياط من طريق التقليد أو الاجتهاد ، بل اللازم بعد ترك الطريقين هو التوسّل إلى الاحتياط ولو لم يكن عارفاً بكفيّـته ، بل احتاط في الكيفيّة أيضاً .
ألا ترى أ نّه في مثل اشتباه القبلة إذا كان الواجب أمرين مترتّبين شرعاً كالظهرين مثلا ، إذا أراد المصلّي الاحتياط بالصلاة إلى أربع جهات .
فتارة: يعرف من طريق الاجتهاد أو التقليد أنّ اللازم مثلا هو تقديم محتملات الظهر بجميعها ; بأن يأتي بها أوّلا ثمّ يأتي بمحتملات العصر ثانياً .
(1) وسائل الشيعة: 4/290، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت: ب63 ، وص125 ب4 ، و ص156 ب10 .
(2) العروة الوثقى : 1/6 مسألة 2 .
(3) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 7 .
(الصفحة 56)
وأُخرى: يشكّ في أ نّه هل يلزم عليه ذلك ، أو يجوز له الإتيان بمحتمل العصر عقيب محتمل الظهر بالنسبة إلى كلّ جهة من الجهات؟ فإذا احتاط في هذه الصورة لأجل تركه الطريقين وأتى بالكيفيّة الأُولى الموافقة للاحتياط لا مجال لدعوى عدم الاجتزاء به ، مستندة إلى عدم كون الكيفيّة معروفة عنده بالاجتهاد أو التقليد .
ضرورة عدم الفرق ـ في كفاية الاحتياط ـ بين الاحتياط في أصل العمل ، وبين الاحتياط في كيفيّته كما هو ظاهر . نعم ، يختصّ ذلك بما إذا كانت الكيفيّة جارياً فيها الاحتياط كما في المثال المفروض ، وإلاّ فلا محيص عن التوسّل بأحد الطريقين .
ويرد على الشرح ـ مضافاً إلى أنّ ظاهر صدر العبارة أنّ الاحتياط من دون معرفة الكيفيّة بأحد الطريقين لا يجوز الاكتفاء به في نظر العقل ، ولو مع العلم بإحراز الاحتياط وتحقّقه ، ونحن لا نتصوّر وجهاً لذلك ـ أ نّه لم يفهم وجه للترقي إلى أنّ عدم المعرفة مانع من حصول الاحتياط ; فإنّ عدم المعرفة مانع عن حصول العلم بالاحتياط لا عن حصول أصله ; لعدم كون العلم بالكيفيّة دخيلا في الذات بوجه .
الأمر الخامس : قال في العروة أيضاً : قد يكون الاحتياط في الفعل ، كما إذا احتمل كون الفعل واجباً وكان قاطعاً بعدم حرمته ، وقد يكون في الترك ، كما إذا احتمل حرمة فعل وكان قاطعاً بعدم وجوبه ، وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار ، كما إذا لم يعلم أنّ وظيفته القصر أو التمام(1) .
وفي شرح بعض الأعلام : لا يخفى أنّ حصر المصنّف(رحمه الله) كيفيّة الاحتياط في الصورة المذكورة لا يكون حاصراً لجميع الأقسام ، وذلك لأنّ متعلّق الشكّ
(1) العروة الوثقى : 1/6 مسألة 3 .
(الصفحة 57)
قد يكون واقعة واحدة ، وقد يكون واقعتين ، فإذا كانت الواقعة واحدة فقد يحتمل وجوبها مع القطع بعدم حرمتها ; لئلاّ يكون من دوران الأمر بين المحذورين ، فالاحتياط حينئذ يكون في الفعل ; سواء كان الوجوب المحتمل استقلاليّاً أم ضمنيّاً ، وقد يحتمل حرمته مع القطع بعدم وجوبه ، فالاحتياط حينئذ في الترك .
وإذا تعدّدت الواقعة فقد يكون الاحتياط في الجمع بين الفعلين من دون تكرار لأصل الواجب ، كما إذا تردّد أمر القراءة في صلاة بين الجهر والإخفات ، فالاحتياط حينئذ يتحقّق بالقراءة مرّتين في صلاة واحدة ، إحداهما جهرية والأُخرى مع الخفوت ; بأن يقصد بذلك تحقّق الواجب بإحداهما ، وأن تكون الاُخرى مستحبّة ; فإنّها من قراءة القرآن في الصلاة ، أو مع التكرار في أصل الواجب ; كما إذا علم إجمالا بوجوب أحدالفعلين; كالقصر والإتمام. وقد يكون الاحتياط في ترك الفعلين معاً ; كما إذا علم بحرمة أحدهما لا بعينه مع العلم بعدم وجوب الآخر ، وقد يكون في فعل أحدالفعلين وترك الآخر ; كما إذا علم إجمالا بوجوب الأوّل أو حرمة الثاني(1).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أ نّه مع إسقاط قيد التكرار يدخل جميع الفروض في العبارة ، ولعلّ ذكره كان للتوضيح بالإضافة إلى بعض الفروض لا للاحتراز ، فتدبّر . وإلى إمكان المناقشة في بعض الأمثلة المذكورة كالقصر والإتمام ، نظراً إلى إمكان دعوى كون الإتمام والإتيان بالصلاة أربع ركعات يوجب تحقّق ما هو المأمور به واقعاً ; سواء كان قصراً أو تماماً ، وذلك لأ نّه على تقدير كونه قصراً لامانع من صحّته تماماً إلاّ إضافة ركعتين وعدم وقوع التسليم في محلّه .
فإذا فرضنا أنّ التسليم ليس من أجزاء الصلاة وكونه مخرجاً والمخرج ليس من
(1) دروس في فقه الشيعة: 1/32 .
(الصفحة 58)
أجزاء المخرج عنه ، وفرضنا أيضاً أنّ وقوع المنافي قبل التسليم وبعد التشهّد لا يضرّ بصحّة الصلاة كما ربما يحتمل ، فحينئذ يتحقّق المأمور به بالإتيان به تماماً ولو كان في الواقع قصراً ـ : أ نّ حصره أيضاً لا يكون حاصراً لجميع الأقسام ; لأ نّه قد يكون الاحتياط في اختيار أحد الفعلين ، كما في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، الذي يحكم العقل فيه بالاحتياط والأخذ بالمعيّن ; فإنّ الاحتياط هنا ليس في أصل الفعل بل في اختيار الفعل المعيّن ، كما هو واضح .
وأمّا ما في المستمسك من أنّ الجمع يمكن أن يكون داخلا في الأوّل ، فتأمّل(1) .
ففيه : أنّ المراد بالأمرين في عبارة المتن ليس خصوص الفعلين حتى يكون الجمع داخلا في الأوّل ، بل المراد هو الأعمّ منه ومن التركين ومن فعل وترك كما عرفت ، ولعلّه لأجل هذا أمر بالتأمّل .
(1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 8 .
(الصفحة 59)
[معنى التقليد]
مسألة 2 : التقليد هو العمل مستنداً إلى فتوى فقيه معيّن; وهو الموضوع للمسألتين الآتيتين. نعم، ما يكون مصحّحاً للعمل هو صدوره عن حجّة ـ كفتوى الفقيه ـ وإن لم يصدق عليه عنوان التقليد، وسيأتي أنّ مجرّد انطباقه عليه
مصحّح له 1
1 ـ في هذه المسألة جهات من البحث :
الجهة الأُولى : في معنى التقليد بحسب اللغة .
الظاهر أنّ معناه جعل القلادة في الجِيد(1) والعنق ـ أي عنق الغير ـ ويتعدّى إلى مفعولين، وفيه استعمالات مجازية، مثل حديث الخلافة: قلّدها رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليّاً(عليه السلام)(2)، وفي تطبيق هذا المعنى اللغوي على المعنى الاصطلاحي خلاف ينشأ من الاختلاف في المعنى الاصطلاحي، وسيأتي توضيحه بعد بيان ذلك المعنى إن شاء الله تعالى .
الجهة الثانية : في تفسير التقليد وبيان معناه الاصطلاحي .
فنقول : قد اختلف ظاهر كلماتهم في تعريفه ، والمتحصّل من مجموعها أربعة :
أحدها : ما حكي عن العلاّمة(قدس سره) في النهاية من أ نّه هو العمل بقول الغير من غير حجّة معلومة(3) ، وإليه يرجع تفسيره إلى العمل عن استناد ، أو الاستناد إلى الغير
(1) الجِيد : العنق ، وقيل : مقلَّده ، لسان العرب مادّة «جيد» .
(2) الكافي : 1 / 199 ح1 .
(3) وحكى عنه في الفصول الغروية : 411 .
(الصفحة 60)
في العمل .
ثانيها: ما حكي عن جامع المقاصد من أنّه عبارة عن قبول قول الغير من غير حجّة(1).
ثالثها: ماحكي عن العضدي من أ نّه الأخذ بقول الغير من غير حجّة(2) . واختاره المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية ، حيث قال : إنّه أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيّات ، أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبّداً بلا مطالبة دليل على رأيه(3) .
رابعها : التفسير بالالتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن، كما اختاره صاحب العروة(4)ونسب إلى ظاهر الفصول(5) .
إذا عرفت ذلك يقع الكلام في أمرين :
الأمر الأوّل : أ نّه هل الاختلاف الذي عرفته في معنى التقليد اختلاف حقيقي في معناه ومفهومه ، أو أ نّه اختلاف بحسب العبارة والنزاع في الحقيقة لفظي؟
ربما يقال بالثاني ، نظراً إلى أنّ عدم تعرّضهم للخلاف في ذلك مع تعرّضهم لكثير من الجهات غير المهمّة يدلّ على عدم تحقّق الاختلاف واقعاً ، وأنّ مراد الجميع واحد(6) ، ويؤيّده ما عن القوانين(7) من نسبة التعريف بالعمل بقول الغير من غير
(1) جامع المقاصد: 2/69، وفيه: «أنّ التقليد هو قبول قول الغير المستند إلى الاجتهاد» و قال في رسائله ج 3/175 : «المقلِّد في اصطلاحهم هو الآخذ بقول الغير من غير حجّة ملزمة» .
(2) شرح العضدي لمختصر المنتهى : 2 / 305 .
(3) كفاية الاُصول : 539 .
(4) العروة الوثقى: 1/ 7 مسألة 8.
(5) الفصول الغرويّة : 411 .
(6) مستمسك العروة الوثقى: 1/11.
(7) قوانين الاُصول : 2 / 160 .
|